[مدح السعي لابن كمال]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي علمنا وجوه المكاسب، وألهمنا دقائق الصنائع، والصلاة والسلام على محمد خاتم أصحاب الشرائع عليهم السلام، وعلى آله الكرام وصحبه العظام.
وبعد:
فهذه رسالة معمولة في ((مدح السعي وذم البطالة))
قال الله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}.
وقال صاحب ((التيسير))(1) في تفسير قوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}: أي طالبين المعاش الذي فيه قوامكم، وفضل الله رزق الله تفضل به على عباده، وأباحه بالبيع والتجارات المشروعة.
وعن سعيد بن جبير(2) - رضي الله عنه -، قال: إذا انصرفت من الجمعة فاخرج من المسجد فساوم شيئا بالشيء، وإن لم تشتره.
ونحن نقول: لا خلاف في أن طلب الرزق مشروع، قال عليه السلام: ((اطلبوا الرزق في خبايا الأرض))، إنما الكلام في أن بعض الطلب هل يدخل في حد الفرض أم لا؟
পৃষ্ঠা ৬
قال الإمام الراغب(1) في ((الذريعة)): التكسب في الدنيا وإن كان معدودا من المباحات من وجه، فإنه من الواجبات من وجه، وذلك أنه إذا لم يكن للإنسان الاستقلال بالعبادة إلا بإزالة ضروريات حياته فإزالتها واجبة؛ لأن كل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كوجوبه، فإذا لم يكن له إلى إزالة ضرورياته سبيل إلا بأخذ تعب من الناس، فلا بد أن يعوضهم تعبا له، وإلا كان ظالما فمن توسع في تناول(2) عمل غيره في مأكله، وملبسه، ومسكنه، وغير ذلك، فلا بد أن يعمل لهم عملا بقدر ما يتناوله منهم، وإلا كان ظالما لهم، قصدوا إفادته، أو لم يقصدوا.
ومن أخذ منهم المنافع ولم يعطهم نفعا، فإنه لم يأتمر لله تعالى في قوله عز وجل: {تعاونوا على البر والتقوى}، ولم يدخل في عموم قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}، ولهذا ذم من يدعي التصوف، فيتعطل عن المكاسب، ولا يكون له علم يؤخذ منه، ولا عمل صالح في الدين يقتدى به، بل يجعل همه عادية(3) بطنه وفرجه، فإنه يأخذ منافع الناس، ويضيق عليهم معاشهم، ولا يرد إليهم نفعا، فلا طائل في أمثالهم إلا أن يكدروا الماء، ويغلوا الأسعار. انتهى.
পৃষ্ঠা ৭
وقال الجنيد(1) رحمه الله: إذا رأيت الفقير يطلب السماع، فاعلم أن فيه بقية من البطالة، والله لا يحب(2) الرجل البطال، فإن من تعطل وتبطل فقد انسلخ من الإنسانية، بل من الحيوانية، وصار من جنس الموتى، وذلك أنه خص الإنسان بالقوى الثلاث؛ ليسعى في فضيلتها.
فإن فضيلة القوة الشهوانية تطالبه بالمكاسب التي تمنيه.
وفضيلة القوة الغضبية تطالبه بالمجاهدات(3) التي تحميه.
وفضيلة القوة الفكرية تطالبه بالعلوم التي تهديه.
فحقه أن يتأمل قوته ويسير قدر ما يطيقه، فيسعى بحسبه لما يفيده السعادة، ويتحقق أن اضطرابه سبب وصوله من الذل إلى العز، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الضعة إلى الرفعة، ومن الخمول إلى النباهة.
قال بزر جمهر: من تخلق بالكسل، فلينسل عن سعادة الدارين.
((وكان النبي عليه السلام يتعوذ بالله من الكسل، ويقول رحم الله امرءا رأى(4) من نفسه جلدا(5) )).
পৃষ্ঠা ৮
وكان أبو مسلم الخراساني(1) في مبادئ خروجه ينشد هذا البيت:
فلا أؤخر ...(2) شغل اليوم عن كسل
إلى غد إن يوم العاجزين غد
ومما أدركته أبصار البصائر، وأهدته ألسنة الأوائل إلى أسماع الأواخر، وحملته بطون الدفاتر من نطف مياه المحابر: أنه لم يكن في ملوك الأمم ومقدميها من ملأ القلوب لرعيته فرقا ووجلا، وكشف عن وجه ولايته ضد الغفلة وجلا مثل أردشير بن بابك الساساني الذي كان ممن يضرب به المثل، ومن كلامه المنظوم على أحسن نظام، المناسب لهذا المقام: شهد الجهد أحلى من عسل الكسل.
يعني أن الشهد الحاصل بالجهد أحلى من الكسل الشبيه بالعسل في ميل النفس إليه وإلتذاذه به.
فالأول: [في المآل](3)، وإضافته لملابسة(4) السببية.
والثاني: في الحال، وإضافته من قبيل إضافة المشبه به إلى المشبه: كلجين(5)(6) الماء.
ومما نسج(7) على هذا المنوال من أحاسن المقال: قول من قال راحتي في جراحة راحتي.
পৃষ্ঠা ৯
واعلم أن البطالة تبطل الهيئات الإنسانية، فإن كل هيئة، بل كل عضو يترك(1) استعماله يبطل(2): كالعين إذا غمضت(3)، واليد إذا عطلت؛ ولذلك وضعت الرياضيات(4) في كل شيء.
ولما جعل الله تعالى للحيوان قوة التحرك، لم يجعل له رزقا إلا بسعي ما منه؛ لئلا يتعطل فائدة ما جعل له من قوة التحرك.
ولما جعل للإنسان الفكرة، ترك من كل نعمة أنعمها عليه جانبا يصلحه هو بفكرته؛ لئلا يتعطل(5) فائدة الفكرة، فيكون وجودها عبثا، وتأمل حال مريم عليها السلام، وقد جعل لها من الرطب ما كفاها مؤنة الطلب، وفيه أعظم معجزة، فإنه لم يخلها(6) من أن أمرها بهزها، فقال تعالى: {وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا}.
وقد أخذ بعضهم منه إشارة إلى أن الرزق من الله تعالى، ولكنه مسبب تسببا عاديا بالطلب من العبد، ومباشرة(7) أسبابه، فقال: ألم تر أن الله تعالى قال لمريم عليها السلام: وهزي إليك الجذع تساقط الرطب، ولو شاء أجنى الجذع من غير هزه إليها، ولكن كل شيء له سبب.
وعن أبي الأسود الدؤلي(8): وليس الرزق عن طلب حثيث، ولكن ألق دلوك في الدلاء تجيء(9) بملئها(10) طورا، وطورا(11) تجيء(12) بحمأة وقليل ماء.
পৃষ্ঠা ১০
وقد ورد في الخبر عن خير البشر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله تعالى يقول: يا عبدي حرك يدك، أنزل عليك الرزق))، وكون حركة العبد من الله تعالى لا ينافي طلبها منه، كيف وهو مأمور بها، وحقيقة الأمر الطلب على ما حقق في موضعه.
ومن هنا اتضح وجه الإشكال في جواب المسألة القائلة: لو قال رجل: الرزق من الله تعالى، ولكن از بنده جنبش خواهد، وهذا(1) شرك.
وتعليله الذي ذكره صاحب ((الخلاصة))(2): بقوله؛ لأن حركة العبد أيضا من الله تعالى لا يقال: إنما قال: هذا شرك؛ لأن القول باستعانة الله بالعبد المفهوم من الكلام المرقوم تشريكه(3) لله في الخلق؛ لأنا نقول: قد عرفت فيما سبق أن له محملا آخر لا خلل فيه أصلا، والأصل فيما له وجوه: أحدها إلى الصواب: [أن](4) لا يقدم على التخطئة فضلا عن التكفير، ثم إن التعليل موجبه الخطأ، لا الشرك.
وإياك أن تتوهم أن الأمر الوارد في قوله تعالى: {فتوكلوا على الله} بالتوكل الذي مرجعه إلى كلة(5) الأمر كله إلى مالكه، والتعويل على وكالته يستلزم النهي عن التوسل بالكسب وأسبابه؛ لأن التوكل إسقاط الأسباب عن حيز الاعتداد بها والاعتماد عليها، والاستظهار بادخار الذخائر لا إسقاطها عن حيز الإمداد على الوجه المعتاد.
পৃষ্ঠা ১১
وقد أشار النبي عليه السلام: إلى أن التوكل ليس التعطل، بل لا بد فيه من التوسل بنوع من السبب حيث قال: ((لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقتم كما ترزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا))، فإن الطير ترزق بالطلب والسعي.
فإن قلت: ما تقول في قول من قال: الرزق مقسوم فلا ترحل(1) له، والموت(2) مختوم فلا توجل به.
ومن قال رزق بو برتو زتو عاشق تراست(3) رو(4) توكل كن ملرزان يا ودست كرتو نشتابي بيايد بردرت ور تو يشتابي دهد درد سرت.
ومن قال: نصيبك يصيبك.
[ومن قال:](5) در بي آن غله كه بيموده كشت رنجه مشو جون قلم آسوده كشت.
قلت: القول ما قالت حذام(6)، والكلام المنقول عن فحول الأعلام لا يعارض الخبر المروي عن خير الأنام: ((إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل)).
وإذ قد فرغنا عما شرعنا فيه، فلنختم المقالة في هذه الرسالة بتفسير ما تقدم ذكره في مقام الاستدلال من قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}(7) [الآية](8) على وجه يقتضيه الدراية، ويمضيه الرواية، وتحرير(9) ما ينحل به الإشكال، ويضمحل القيل والقال.
পৃষ্ঠা ১২
ولنقدم أمام الكلام مقدمة لا بد من تقديمها على الشروع في تحقيق المقال في هذا المقام، وهو(1) أنه يجوز للمؤمن أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة كان، أو صياما، أو حجا، أو صدقة، أو قراءة، أو غير ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله وأصحابه، وأحمد بن حنبل، ومن تابعهم من الأئمة المجتهدين.
وقد روي في صحيحي ((البخاري)) و((مسلم)): ((أن النبي عليه السلام ضحى بكبشين أمحين أحدهما عن نفسه، والآخر عن أمته)): أي جعل ثوابه لهم.
وذكر عبد الحق(2) صاحب ((الأحكام)) في ((العاقبة)): روي عن(3) النبي عليه السلام أنه(4) قال: ((الميت في قبره كالغريق ينتظر دعوة تلحقه(5) من ابنه، أو أخيه، أو صديق له، فإذا لحقته(6) كان أحب إليه من الدنيا وما فيها)).
পৃষ্ঠা ১৩
وروى الدارقطني(1) عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ...(2) أن النبي عليه السلام، قال: ((من مر على المقابر، فقرأ: [{قل هو الله أحد}](3) أحد عشر مرة، ثم وهب أجرها للأموات أعطي من الأجر بعدد الأموات)).
وروى الحافظ(4) في ((شرح السنة)) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: يموت الرجل ويدع له(5)، فترفع له درجته(6)، فيقول: يا رب ما هذا فيقول: استغفار ولدك لك.
وقال الله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين}، ويفهم من هذا أن استغفارهم للمؤمنين مفيد.
وقوله تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم يقول ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} دل على أن هذا الدعاء ينفعهم.
وأن النبي عليه السلام شفيع مشفع يوم الحشر(7)، ينتفع بشفاعته عصاة المؤمنين.
পৃষ্ঠা ১৪
وأن العلماء [قد](1) أجمعوا على أن المسلم يؤجر على الأمراض والأعراض حتى الشوكة يشاكها يرفع له بها درجته(2) ويحط بها عنه خطيئته(3).
وإذا تقرر هذا، فنقول: لا يجوز أن يكون معنى القول المذكور ما هو [الظاهر](4) المتبادر إلى الفهم من أنه لا ينفع الإنسان إلا عمله كما لا يضره إلا عمله؛ لأنه منقوض من
وجوه، وقد نبهت عليها آنفا، بل المعنى والله أعلم: لا أجر للإنسان إلا أجر عمله كما لا وزر له إلا وزر عمله، على تقدير المضاف، أو على طريقة المجاز، وما يصل إلى الإنسان في الصورة المذكورة، فليس من قبيل الأجر على العمل، فلا يرد النقض بها.
وأما الذي ذكره الإمام البيضاوي(5) في تفسيره بقوله: [أي](6) كما لا يؤخذ بذنب الغير لا يثاب بفعله. و[ما جاء](7) في الأخبار أن الصدقة والحج ينفعان الميت، فلكون الناوي له(8) كالنائب(9) عنه(10).
পৃষ্ঠা ১৫
فمع ما في تعليله(1) من الضعف الظاهر لا يندفع به الإشكال(2) بحذافيره كما لا يخفى.
[تم الرسالة بعون ولي العناية](3).
পৃষ্ঠা ১৬