ما نصه: «والذي ذكره من اختلاف الناس في أمر النفس والعقل، وتبلدهم فيه، لا سيما البله النصارى من أهل مدينة السلام.» ومدينة السلام هي بغداد. ثم تكلم بعد ذلك عن خلاصة رأيه في النفس والعقل وغير ذلك من المسائل، وقال إن كتابه الشفاء قضى على تلك الشكوك والتوصل إلى حلها، وإنه كان قد صنف كتابا اسمه «الإنصاف» قسم فيه العلماء إلى مشرقيين - أي علماء فارس - وإلى مغربيين - يريد علماء الشام وبغداد - وتقدم بالإنصاف بين الخلاف بينهما. وتكلم في ذلك الكتاب عن «أثولوجيا» أرسطو، وعن سهو المفسرين، ولكن ذلك الكتاب فقد في بعض الهزائم، وكان كما يقول: «يشتمل على تلخيص ضعف البغدادية وتقصيرهم وجهلهم.» ولكنه استثنى المعلم الثاني من البلاهة والجهل.
وتحدث عن الفارابي وأعلن رأيه فيه، على الرغم من أنه حلقة في سلسلة المدرسة البغدادية، كما رأينا من قبل. قال ابن سينا: «وأما أبو نصر الفارابي، فيجب أن يعظم فيه الاعتقاد، ولا يجري مع القوم في ميدان، فيكاد أن يكون أفضل من سلف من السلف.»
وقد خلف لنا ابن سينا سيرة حياته بقلمه، ثم أكملها تلميذه، أبو عبيد الجوزجاني، فتيسر بذلك معرفة كثير من دقائق حياته العلمية، وطريقته في التدريس، وكيف كان ينصب مجلس التعليم. وهو الشيخ الرئيس، أبو علي، الحسين بن عبد الله بن الحسين بن علي بن سينا، ولد 370ه، وتوفي 428ه. والشيخ تدل على الأستاذية، والرئيس إما لأنه تولى رئاسة الوزارة، والأغلب أنه لقب يدل على أنه رئيس الفلاسفة. أبوه من بلخ، وانتقل إلى بخارى في أيام الأمير نوح بن منصور، وتعلم في بخارى وهو صبي النحو والعربية والقرآن والأدب. وكان أبوه يجتمع في داره بداعي الإسماعيلية، فسمع منه حديث النفس والعقل والفلسفة والهندسة، ثم تعلم حساب الهند من رجل يبيع البقل. وقرأ على الناتلي المتفلسف المنطق والهندسة والفلك، وتعلم الطب بنفسه، ورجع إلى العلوم الفلسفية فقرأها على نفسه، وانتهى إلى كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو، فلم يفهم منه شيئا حتى اشترى كتاب الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة؛ فانفتح له مغاليق ذلك الكتاب. وعالج نوح بن منصور فأعجب به، وأدخله مكتبته فاطلع على نفائسها وحفظ ما فيها عن ظهر قلب. وتنقل في مدن فارس حتى بلغ جرجان حيث قصده الجوزجاني، الذي ألح عليه أن يهتم بالتصنيف، ويشتغل الجوزجاني بالضبط.
وفي جرجان اشترى له أبو محمد الشيرازي دارا، وأنزله فيها، وكان الجوزجاني يختلف إليه فيها، ولعله كان يستقبل غيره من الطلبة، وهناك أملى على الجوزجاني كتاب المبدأ والمعاد، وأول القانون، وكثيرا من الرسائل. وانتقل إلى الري واتصل بخدمة مجد الدولة، ثم خرج إلى قزوين ومنها إلى همدان، واتصل بشمس الدولة، وتقلد له الوزارة.
في هذه الفترة التي تولى فيها الوزارة، ألف كتابيه العظيمين وهما؛ الشفاء في الفلسفة، والقانون في الطب. قال الجوزجاني يصف مجلسه: «فكان يجتمع كل ليلة في داره طلبة العلم، وكنت أقرأ من الشفاء نوبة، وكان غيري يقرأ من القانون نوبة. فإذا فرغنا حضر المغنون على اختلاف طبقاتهم، وهيئ مجلس الشراب بآلاته. وكان التدريس بالليل لعدم الفراغ بالنهار خدمة للأمير.» وكان من عادة ابن سينا الإملاء في الأغلب، وفي بعض الأحيان كان يكتب نسخة في الموضوع الذي يلتمسه السائل.
ولما كثر تلاميذه، وذاع صيته ، «رسم الأمير علاء الدولة ليالي الجمعات مجلس النظر بين يديه، فحضره سائر العلماء على اختلاف طبقاتهم، والشيخ في جملتهم، فما كان يطاق في شيء من العلوم.»
ولم يذكر الجوزجاني وهو يدون سيرته أي اسم من تلاميذه، وبخاصة تلميذه أبو الحسن بهمنيار الذي لازم الشيخ الرئيس في مجلس تدريسه أثناء توليه الوزارة لشمس الدولة. وقد وصف لنا مجلسه وصفا أدق، قال: «حضرت أنا وجماعة من تلامذة شيخنا الرئيس بكرة سبت مجلس درسه الشريف، فاتفق أن ظهر منا في ذلك اليوم فتور عن إدراك ما كان يحققه الشيخ، فقال لنا: كأنكم صرفتم بارحتكم في التعطيل! فقلنا: نعم. كنا أمس مع جمع من الرفقة في نزهة، فلم يتيسر لنا مطالعة الدرس، ومراجعة ما كنا فيه. فلما سمع ذلك الشيخ تنفس الصعداء وفاضت عيناه بالدموع، وقال: إنما أسفي على أن اللاعب بالحبال قد يبلغ أمره في لعبه الذي هو من الملكات الجسمانية إلى حيث تتحير في غرابة علمه عقول ألف ألف عاقل. ولكنكم لما لم يكن عندكم للحكم والمعارف الحقة مقدار ومنزلة؛ آثرتم البطالة واللهو على اكتساب العلم والفضيلة، فلم تقدروا على أن تنزلوا الملكة الروحانية من أنفسكم منزلة يتحير فيها جهلة الزمان.» وتوفي بهمنيار سنة 458 هجرية، وأهم ما ألفه من الكتب «التحصيل» يشرح فيه فلسفة ابن سينا.
ومن تلامذة بهمنيار، أبو العباس اللوكري، كان عالما بأجزاء علوم الحكمة، دقيقها وجليلها، وعنه انتشرت علوم الحكمة في خراسان. ثم تتلمذ له أفضل الدين الغيلاني، وأخذ عن الغيلاني صدر الدين السرسخي، توفي 545 هجرية، وأخذ عن السرسخي فريد الدين داماد النيسابوري، وهذا الأخير أستاذ نصير الدين الطوسي، آخر تلاميذ هذه المدرسة السينوية، وشارح كتاب الإشارات للشيخ الرئيس، ومجدد التعليم الفلسفي والرياضي، وصاحب حلقة جمعت كثيرا من طلبة الفلسفة والعلوم الهندسية والعقلية، توفي 672 هجرية . وتمتد مدرسة الطوسي حتى تبلغ ذروتها عند ميرادماد (1041ه) في أصفهان وتلامذته.
فما هي تعاليم المدرسة السينوية؟
الحق أنها امتداد لآراء الفارابي، إلا أن ابن سينا كان أوسع عبارة وأكثر شرحا. ولقد كان طبيبا أكثر منه فيلسوفا، وكان كتابه القانون في الطب المرجع في أوروبا اللاتينية حتى أوائل القرن الثامن عشر. وقد تأثرت فلسفته بطبه في اصطناع المنهج التجريبي الدقيق. أما في الفلسفة، فإن الشفاء يعد موسوعة فلسفية تشمل المنطق، والطبيعيات، والرياضيات، والإلهيات، بحسب ما رتبه أرسطو، أو بحسب الفلسفة المشائية، فهو يحذو حذو المعلم الأول وشراحه مع التأليف بين الآراء المختلفة، والتوفيق بينها. وأثره في المنطق لا ينكر، ولا شك أنه مسئول عن إذاعة المنطق بحالته الراهنة في العالم العربي، حتى إن كتاب البصائر النصيرية في علم المنطق، والذي حققه ونشره الأستاذ الإمام محمد عبده، وكان يقوم بتدريسه، يعد تلخيصا أمينا لآراء الشيخ الرئيس.
অজানা পৃষ্ঠা