آثار الإمام ابن القيم الجوزية وما لحقها من أعمال (٣١)
مدارج السالكين في منازل السائرين
تأليف
الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية
(٦٩١ هـ - ٧٥١ هـ)
دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
1 / 1
راجع هذا الجزء
سليمان بن عبد الله العمير
عبد الرحمن بن صالح السديس
1 / 3
مقدمة التحقيق
الحمد لله، والصلاة والسلام على أفضل الخلق سيدنا محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فضمن مشروع «آثار الإمام ابن قيِّم الجوزية وما لحقها من أعمال» الذي شارف على التمام بحمد الله تعالى، يأتي إخراجنا لهذا الكتاب المهم في موضوعه، حيث يبحث في طريق السلوك إلى الله، ومنازل العبد التي يسير فيها في الطريق إليه ... مستجلاةً من الكتاب العزيز، من فاتحة الكتاب الكريم التي هي لبّ القرآن وخلاصته، ومن قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ التي هي خلاصة الفاتحة ولبها. ومستجلاةً من سنة النبي ﷺ وسيرته العطرة، ومن طريق سلف الأمة؛ علمائها وصالحيها وزهّادِها.
ورغم أن هذا الكتاب لقي عناية من جهات متعددة تولت إخراجه، في رسائل جامعية أو في مراكز بحثية أو أعمال فردية، وبعضها اعتمد على أصول خطية، إلا أنه لم يلق العناية التي تستكمل شرائط الإخراج العلمي والاطّراد المنهجي، فأكثر الأصول الخطية التي اعتمدها محققو الطبعات السابقة كانت نُسَخًا متأخرة، كثير منها بعد ١٣٠٠ هـ، وفاتتهم نسخ مهمة للكتاب، منها النسخة التي كتبت في حياة المؤلف وقرئت عليه، وفاتت نسخٌ عديدة قريبة العهد بالمؤلف. ومعلوم أن الاعتماد على النسخ الخطية النفيسة من ركائز العمل العلمي الصحيح لإخراج نص تراثيّ، ما دام بالإمكان تحصيلها والوقوف عليها. وسيأتي الحديث عن طبعات الكتاب في موضعه من هذه التقدمة.
1 / 5
ولا تقتصر جوانب النقص في التحقيقات السابقة على قضية النُّسخ الخطية ــ على أهميتها ــ فحسب، بل تتعدى إلى سقوط نصوص كثيرة من عامة الطبعات، ومن هذه المواضع سقوط «منازل» بتمامها أو صفحات بكاملها، فقد سقط من طبعة رشيد رضا ومن طبعة الفقي (٢/ ٣١٤) مبحثٌ كامل في خمس صفحات، من قوله: «على قطع أصول ...» إلى «بطريق الرياضات ..»، وسقط من طبعة دار الصميعي ــ وهي رسائل جامعية ــ (٣/ ٢٣٠٠) منزلة كاملة، وهي منزلة البسطة أو الانبساط نحو ستّ صفحات، وسقطت عدة صفحات من طبعة دار ابن خزيمة تحقيق عامر علي ياسين (٢/ ٣٦٢) بسبب سقوط ورقة مِن مصوّرة نسخته الخطية الوحيدة!
إلى ملاحظات أخرى، سيأتي طائفة منها عند الكلام على طبعات الكتاب.
وقد عملنا على إخراج الكتاب على عشر نسخ خطية، وهو في عامة نُسَخه مكوّن من مجلدين، فُقِد المجلد الثاني في غالبها، فصار لدينا نسخ وفيرة عالية للمجلد الأول (يمثل المجلدين الأول والثاني من المطبوع)، وشح في النسخ القديمة للمجلد الثاني (يمثل الثالث والرابع) مما دعانا للنزول إلى بعض النسخ المتأخرة للاستعانة بها والاستئناس في قراءة نص المجلدين الأخيرين كما سنشرح ذلك فيما سيأتي من هذا التقديم.
وقد قدمنا عدة مباحث للكلام على الكتاب ومتعلقاته، وهي:
- تحرير عنوان الكتاب
- توثيق نسبة الكتاب للمؤلف
- تاريخ تأليفه
1 / 6
- موضوع الكتاب وترتيب مباحثه
- منهج المؤلف فيه
- «منازل السائرين» وشروحه
- مقارنة الكتاب بأهم شروح «المنازل»
- تعقبات ابن القيم على الهروي
- موارد الكتاب
- أثره في الكتب اللاحقة
- مختصرات ودراسات عن الكتاب
- نسخ الكتاب الخطية
- طبعات الكتاب
- منهج التحقيق
ثم صنعنا فهارس لفظية متعددة للكتاب، وفهارس علمية كاشفة لعلومه وفوائده.
ونرجو بهذا العمل أن نكون قد خدمنا الكتاب خدمة تليق به، مع أملنا في الحصول مستقبلًا على نسخ أخرى أكثر جودة للنصف الثاني من الكتاب، آملين من القرّاء الكرام تزويدنا بملاحظاتهم ومقترحاتهم على الإيميل أدناه، ليصل العمل إلى ما يرجونه ونرجوه جميعًا إن شاء الله تعالى.
علي بن محمد العمران
[email protected]
1 / 7
تحرير عنوان الكتاب
لم يسمِّ المؤلف ﵀ كتابه في مقدمته، ولا سمَّاه في كتبه الأخرى التي وصلت إلينا إلا في موضع واحد، ولم تتفق النسخ الخطية أيضا على عنوان الكتاب، غير أن السيد رشيد رضا ﵀ لما طبع الجزء الأول من الكتاب سنة ١٣٣١ سماه «مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين» تبعًا للنسخة الخطية التي اعتمد عليها في الجزء المذكور، وكانت نسخة كويتية متأخرة كتبت سنة ١٣١٦، أي قبل طبع الكتاب بخمس عشرة سنة. ومنذ ذلك الحين اشتهر الكتاب بهذا الاسم، ولكن الغريب أنه لم يرد في شيء من النسخ النفيسة القديمة التي بين أيدينا.
وقد ظهرت بعد الطبعة السابقة نشرة الشيخ محمد حامد الفقي ﵀ الذي صرَّح بأنه راجعها على أربع نسخ محفوظة في دار الكتب، ومنها «نسخة قيمة جدًّا كتبت في سنة ٨٢٣»، وكانت تحمل عنوان «مدارج السالكين في منازل السائرين»، وقد وضع الشيخ صورة صفحة العنوان منها في أول الكتاب، ومع ذلك قلَّد في تسميته نشرة السيد رشيد رضا.
وإليكم ما وقفنا عليه من عناوين الكتاب في مخطوطاته وكتب المؤلف وكتب التراجم وما إليها:
١) مراحل السائرين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين
بهذا العنوان ذكره المؤلف في «مسألة السماع» (ص ١٠٠). وهو الذي ذكره ابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة» (٥/ ١٧٥). ومنه نقله العليمي في «المنهج الأحمد» (٥/ ٩٤)، والداودي في «طبقات المفسرين» (٢/ ٩٢)، وابن العماد في «شذرات الذهب» (٨/ ٢٨٩).
1 / 8
٢) مدارج السالكين في منازل السائرين
اتفقت عليها نسخة قيون المقروءة على المؤلف، ونسخة حلب المقابلة على النسخة السابقة سنة ٧٧٣، ونسخة جامعة الإمام ٨٨٦٠ ج ١ (القرن الثامن)، ونسخة دار الكتب ١٠٣ تصوف قوله (سنة ٩٣٦) ونسخة التيمورية ١٥٥ تصوف ج ٢ المنقولة من نسخة مكتوبة سنة ٧٦٥.
٣) مدارج السالكين في شرح منازل السائرين
اتفقت عليها نسخة ولي الدين ١٧٣٢ (سنة ٧٨٧) ونسخة شستربيتي (الثامن تقديرا) ونسخة دار الكتب طلعت ١٥٢٢ (سنة ٨٢٣).
٤) إرشاد السالكين إلى شرح منازل السائرين
انفردت به نسخة قره جلبي زاده (سنة ٧٨٠). وتبعتها نسخة ولي الدين ١٧٣٠ (سنة ٧٨٤) المنقولة منها.
٥) شرح منازل السائرين
ذكره بهذا العنوان الحافظ ابن حجر في «الدرر الكامنة» (٥/ ١٣٩) ومن تابعه كالشوكاني، والسيوطي في «الحاوي للفتاوي» (٢/ ١٣٦)، وغيره. والظاهر من صنيعه أنه ليس من غرضه النص على اسم الكتاب، وإنما أراد الإشارة إليه.
٦) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين
وقع هذا العنوان في النسخ المتأخرة النجدية ونحوها مثل نسخة الغاط (سنة ١٣١٧) ونسخة حائل (سنة ١٣١٨) ونسخة دارالكتب ٨٧٤ تصوف (سنة ١٣٢٠).
1 / 9
ومعلوم أن قطعة من الكتاب قد طبعت في الهند سنة ١٨٩٤ م (١٣١١/ ١٣١٢ هـ) ــ وكانت هي أول طبعة للكتاب ــ باسم «مدارج السالكين شرح منازل السائرين من منازل إياك نعبد وإياك نستعين» ولا شك أنه عنوان ملفَّق، زيد فيه «من منازل ...» إلخ.
أما العنوان المشهور «مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين»، فهوعنوان جميل رائق عُرف به الكتاب منذ قرن من الزمن، إذ طبعه السيد رشيد رضا بهذا العنوان وتَبِعه الناشرون الذين جاؤوا من بعده جميعًا، ولكنه كما قلنا لم يرد في شيء من الأصول النفيسة القديمة، وإنما نراه في النسخ المتأخرة التي كتب معظمها في القرن الماضي! ونخشى ــ إن لم يكن هذا العنوان منقولا من النسخ القديمة ــ أن يكون ملفقًا أيضًا، فأُخِذ الجزء الأول «مدارج السالكين» من العنوانين الثالث والرابع، والجزء الثاني «بين منازل ...» إلخ من العنوان الأول الذي ذكره المؤلف وتلميذه ابن رجب. ويرشحه أن المؤلف استهلَّ كثيرًا من أبواب الكتاب بقوله: «ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين».
وإذا صرفنا النظر عن العنوان الرابع الذي انفردت به إحدى النسخ (وتابعتها أخرى منقولة منها) بقيت ثلاثة عناوين، وأقواها في الظاهر أولها، وهو «مراحل السائرين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين»، فإن المؤلف نفسه أحال عليه بهذا العنوان، ثم ذكره تلميذه ابن رجب في ثبت مؤلفاته. ولكن يُضعفه أنه لم يرد أيضًا فيما وصل إلينا من نسخ الكتاب قديمة كانت أو متأخرة. أما النسخة المحفوظة في جامعة الإمام برقم ٨٩٦٣ المكتوبة سنة ١٢٦٧ (في بطاقة النسخة: ١٢٧٨، خطأ) المخرومة من أولها، فإن ناسخها
1 / 10
هو الذي سماها: «مراحل السائرين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين الشرح (بشرح؟) منازل السالكين (كذا) للشيخ شمس الدين ...». وهي الجزء الثاني من الكتاب، أما الجزء الأول منها برقم ٨٩٩١ فعنوان الكتاب فيه: «مدارج السالكين في شرح منازل السائرين».
أما العنوان الثاني، وهو «مدارج السالكين في منازل السائرين»، فسمي به الكتاب في عدة نسخ نفيسة أحسنُها نسخة قيون أوغلو، ولم يصل إلينا منها إلا المجلد الأول. هذه النسخة مقروءة على المؤلف، ولكن العنوان المذكور الوارد في أول النسخة وآخرها كتب بعد وفاة المؤلف. وفي أسفل صفحة العنوان عشرة أبيات في مدح الكتاب لابن أبي العِزّ الحنفي (ت ٧٩٢) كتبها بخطه، أولها:
صاحِ هذي مدارجُ السالكينا ... قد بدت في منازل السائرينا
وقد نظم فيه ــ كماترى ــ العنوان الوارد في النسخة. وهذه الأبيات واردة بخطه في أول نسخة حلب أيضًا. وفي آخر جزئيها أنها قوبلت على أصل مقابل بأصل مؤلفه مقروء عليه سنة ٧٧٣. والظاهر أن ابن أبي العز هو الذي قابلها بنسخة قيون السابقة.
أما العنوان الثالث، فإنه أيضًا ورد في نسخ قديمة، والغالب أنه من وضع المصنف. ولا غرو، فإن الكتاب شرح لمنازل السائرين للهروي، ومن ثم يسميه الحافظ ابن حجر وغيره اختصارًا: «شرح منازل السائرين».
وبالتأمل في العناوين الثلاثة يبدو لنا أن العنوان الأول أقدمها، وهو يدل على أن الكتاب تأليف مستقلّ يدور حول منازل إياك نعبد وإياك نستعين
1 / 11
ويشرح مراحل السائرين بين هذه المنازل، وليس في العنوان إشارة من قريب أو بعيد إلى أنه شرح لكتاب منازل السائرين للهروي. وإذا نظرنا إلى قول المؤلف في مقدمة الكتاب: «ونحن ننبه على هذا بالكلام على فاتحة الكتاب وأم القرآن وما تضمنته من الرد ... وما تضمنته من منازل السائرين ومقامات العارفين ...»، ثم إلى الفصل الذي عقده «في منازل (إياك نعبد) التي ينتقل فيها القلب منزلة منزلة في حال سيره إلى الله»، وشروعه بعد ذلك في الكلام على المنازل ونَقْل كلام الهروي وشرحه وتعقبه، ثم إلى افتتاحه أكثر المنازل بقوله: «ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين ...» = إذا نظرنا إلى كل ذلك رأينا العنوان مطابقًا لمنهج الكتاب، ومحتواه، وسياسة المؤلف في تأليفه. فإن الغرض من إنشاء الكتاب: بيان المنهج الصحيح لتزكية النفس، وإصلاح التصوف من خلال الكلام على منازل السائرين للهروي بالإضافة إلى تبرئته مما يزعمه أصحاب وحدة الوجود أنه منهم؛ فلم يَعْقِد المؤلفُ كتابَه ابتداءً على شرحِ كتابِ المنازلِ أو انتقاده.
ولكن يبدو أنه خشي فيما بعد أن هذا العنوان الذي يطابق بناء الكتاب قد يضر بغرض تأليفه، إذ ليس في ألفاظ العنوان ما يجذب طلاب التزكية والراغبين في كتب المتصوفة إلى قراءة هذا الكتاب، فأحبَّ أن يصرّح في العنوان بأنه في شرح «منازل السائرين» ليقبلوا عليه، ويحصل المقصود، فاختار «مدارج السالكين في شرح منازل السائرين».
ولا شك أن الكتاب شرح «منازل السائرين»، ولكنه ليس شرحًا كالشروح المعروفة، ولم يتَّبع فيه المنهج المألوف في شرح الكتب كما سيأتي، ثم هذا العنوان لا ينبئ بأن الكتاب في مادته ومنهجه يختلف عن شرح
1 / 12
كتاب معين. فكأن المؤلف ﵀ رأى قصورًا في العنوانين، فإن أحدهما يزري باستقلال الكتاب، والآخر يضرّ بغرض تأليفه، فكأنه لاح له عنوان ثالث بحذف كلمة «شرح»، وهو: «مدارج السالكين في منازل السائرين».
ولما كان هذا العنوان هو الثابت في أصح أصولنا وأقدمها رجَّحناه على العنوان المشهور الذي لم نره إلا في النسخ المتأخرة.
هذا العنوان الجديد يفهم منه أنه كتاب مستقل غرضُه بيان مدارج السالكين ومراتبهم في منازل السلوك، فحرف الجر «في» متعلق هنا بلفظ المدارج، وفي الوقت نفسه فيه تلميح إلى كتاب «منازل السائرين» أيضًا، فجاء هذا العنوان بتصريحه وتلميحه وافيًا بالغرضَين. والله أعلم.
ونشير في آخر هذا المبحث إلى وهم البغدادي في «هدية العارفين» (٢/ ١٥٨)، إذ عدَّ «مراحل السائرين» و«مدارج السالكين في شرح منازل السائرين» كتابين اثنين!
* * *
1 / 13
توثيق نسبة الكتاب للمؤلف
كتابنا ثابت النسبة إلى مؤلفه ابن قيم الجوزية ﵀، ولم يشك في صحتها أحد فيما نعلم. وقد ذكر صاحب «كشف الظنون» (٢/ ١٦٤٠) كتابًا لابن الجوزي باسم «مدارج السالكين»، ولا ندري ما مصدره، وهو أيضًا لم يقف على نسخة منه ليذكر أولها. وقد رأينا أنه يحدث الخلط أحيانًا بين ابن الجوزي وابن قيم الجوزية، ولكن حاجي خليفة لم يخلط بين الكتاب الذي نسبه إلى ابن الجوزي وبين كتابنا الذي سمَّاه «مدارج السالكين في شرح منازل السائرين»، فذكرهما كتابين مستقلين. هذا في حرف الميم، ثم ذكره مرة أخرى ضمن شروح «منازل السائرين». والدلائل على صحة نسبة الكتاب إلى ابن القيم متوافرة متظافرة، نذكر هنا جملة منها:
١) فأولها ذكرُه في ثبت مؤلفاته في كتب التراجم، وأهمُّ هذه الكتب: «ذيل طبقات الحنابلة» لتلميذه الحافظ ابن رجب الحنبلي، ذكره أولًا في ترجمة شيخ الإسلام الهروي (١/ ١٥٠)، ثم في ترجمة شيخه ابن القيم (٥/ ١٣٥). وذكره الحافظ ابن حجر في «الدرر الكامنة» (٥/ ١٣٩). وعلى كتابَي ابن رجب وابن حجر اعتمدت الكتب الأخرى في ذكر كتاب المدارج ضمن مؤلفات ابن القيم.
٢) ومن الدلائل: إجماع نُسَخ الكتاب الخطية، القديمة منها والمتأخرة، على نسبته إلى ابن القيم.
٣) ومنها ما اقتبسه العلماء من كتابنا مع الإحالة الصريحة عليه، وسيأتي ذكر هذه النقول في مبحث الصادرين عن الكتاب.
1 / 14
٤) ومنها أن المؤلف نفسه أحال عليه في كتابه «مسألة السماع» (ص ١٠٠) وسمَّاه «مراحل السائرين بين إياك نعبد وإياك نستعين». وقد أشار إليه أيضًا في «زاد المعاد» (٤/ ٢٥٣) في الظاهر، وقد نبهنا في التعليق على هذا الموضع من «الزاد» أن الشيخ الفقي ﵀ قد زاد في المتن هنا: «مدارج السالكين» بين شرطتين من عنده خلافًا للنسخ، وتبعته طبعة الرسالة.
٥) وكذلك أحال ﵀ في هذا الكتاب على كتب أخرى من تأليفه، منها ما وصل إلينا وطبع وهي خمسة كتب:
- مفتاح دار السعادة ومطلب أهل العلم والإرادة (١/ ١٤٠، ٤/ ٥١٠)
- الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (٤/ ٣٠٦)
- سفرالهجرتين وطريق السعادتين (١/ ١٤٠، ٢/ ٣، ١٣٠، ٢٨٨)
- إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان (٤/ ٢٣٤)
- الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب (٣/ ٢١٩)
والمسائل التي أحال لبحثها على هذه الكتب كلها مبحوث فيها، كما سترى في تعليقاتنا على المواضع المذكورة.
ومن مؤلفاته التي أحال عليها وهي لا تزال في عداد المفقود كتابان:
- قرة عيون المحبين وروضة قلوب العارفين
- تحفة النازلين بجوار رب العالمين
أما الكتاب الأول فقال في «المدارج» (١/ ١٤١): «وقد بينا فساد قولهم
1 / 15
وإنكارهم محبة الله من أكثرمن ثمانين وجهًا في كتابنا المسمى (قرة عيون المحبين وروضة قلوب العارفين)، وذكرنا فيه وجوب تعلق المحبة بالحبيب الأول من جميع طرق الأدلة النقلية والعقلية والذوقية والفطرية ...».
ثم قال في المجلد الثاني (ص ٢٨٧) بعد بحث مسألة: هل يبقى الاشتياق عند لقاء المحبوب أو يزول: «وقد ذكرنا هذه المسألة مستقصاةً وتوابعَها في كتابنا الكبير في المحبَّة ...». وبمثله وصفه في المجلد الثالث (ص ٣٨٤) بعد ما ذكر أن جميع طرق الأدلة تدل على إثبات محبة العبد لربه والرب لعبده، فقال: «وقد ذكرنا لذلك قريبا من مائة طريق في كتابنا الكبير في المحبة، وذكرنا فيه فوائد المحبة وما تثمر لصاحبها من الكمالات وأسبابها وموجباتها والرد على من أنكرها ...».
نضم إلى ما سبق قوله في طريق الهجرتين (ص ١٢٤): «قد ذكرنا مجموع هذه الطرق فى كتابنا الكبير فى المحبة الذي سميناه «المورد الصافي، والظل الضافي» في المحبة وأَقسامها وأَنواعها وأَحكامها وبيان تعلقها بالإله الحق دون ما سواه، وذكرنا من ذلك ما يزيد على مائة وجه».
هذه النصوص مع دلالتها على أنها صدرت جميعًا عن قلم واحد وتأكيد نسبتها إلى مؤلفها، تفيد أيضًا أن الكتاب الذي أشار إليه في موضعين بقوله: «كتابنا الكبير في المحبة» هو «قرة عيون الموحدين وروضة قلوب العارفين»، وأن «المورد الصافي والظل الضافي» المذكور في طريق الهجرتين عنوان آخر للكتاب نفسه.
أما كتاب «تحفة النازلين بجوار رب العالمين»، فأحال عليه المؤلف في مسألة التحسين والتقبيح العقليين والرد على نفاته فقال: «وقد بينا بطلان
1 / 16
هذاالمذهب من ستين وجها في كتابنا المسمى (تحفة النازلين بجوار رب العالمين) وأشبعنا الكلام في هذه المسألة هناك، وذكرنا جميع ما احتج به أرباب هذا المذهب وبطلانه». هذا ما قاله في (١/ ٣٦٠)، ولكن أحال من قبل (١/ ١٤٠) ومن بعد (٤/ ٥١٠) لهذه المسألة نفسها على كتاب «مفتاح دار السعادة»، فقال في الموضع الأول: «ولهذ الأصل لوازم وفروع كثيرة فاسدة، وقد ذكرناها في كتابنا الكبير المسمى (مفتاح دار السعادة ...) وبينا فساد هذا الأصل من نحو ستين وجها».ومثله في الموضع الآخر. فيحتمل أن يكون كتاب «تحفة النازلين» مثل كتاب «التحفة المكية» مجموعا مستقلا قيَّد فيه فوائد ثم نقلها إلى كتبه الأخرى، أو عنوانًا آخر للتحفة المكية نفسها.
٦) ومنها ما نثره المؤلف ﵀ في فصول كثيرة من الكتاب من أقوال شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ وآرائه وترجيحاته، ينقل بعضها من كتبه، ويروي بعضها عنه شفاها.
٧) ومنها مناقشات المؤلف واحتجاجاته وترجيحاته في مباحث عديدة اشترك فيهاهذا الكتاب وغيره من كتب المؤلف، ومنها ما أحال لها على كتبه الأخرى التي أشرنا إليها آنفا، نحو مسألة التحسين والتقبيح، ومسألة حب الله لخلقه، وغيرهما. ثم أسلوب المؤلف ونفَسه ومنهجه في الكلام على المسائل الخلافية وغير ذلك من خصائص كتبه=كلُّ ذلك مستعلن في كتابنا هذا أيضا، بحيث لو حذف عنوان الكتاب واسم مؤلفه لم يشكّ قارئه في كونه من تأليف ابن القيم ﵀.
* * * *
1 / 17
تاريخ تأليفه
لم ينصَّ المؤلف على زمن تأليف الكتاب، إلا أنه أحال عليه في كتاب آخر له في مسألة السماع (ص ١٠٠) كما سبق، وقد استفتي في المسألة المذكورة هو وغيره من العلماء سنة ٧٤٠، وذلك يقتضي أن يكون كتاب «مدارج السالكين» قد أُلِّف قبل هذه السنة.
ومن الكتب التي أحال عليها المؤلف في المدارج مرتين: «مفتاح دار السعادة»، وفي المفتاح ذكر كتابه «تهذيب السنن»، وقد ألف الكتاب الأخير سنة ٧٣٢، وذلك يقتضي أن يكون زمن تأليف المفتاح والمدارج كليهما بعد سنة ٧٣٢. إذن يمكن أن يقال إن مدارج السالكين أُلِّف فيما بين سنتي ٧٣٢ و٧٤٠.
وهذا أمر تقريبي، إذ يجوز أن يكون المؤلف زاد بعض الإحالات فيما بعد، أو نقل مادة بما فيها من الإحالات من كتاب قديم له إلى كتاب آخر حديث أو بالعكس.
فإن قيل: إن نسخة حلب من كتاب المدارج كتبت سنة ٧٣١ حسب تصريح الناسخ في خاتمة المجلد الثاني، فتاريخ هذه النسخة قاطع بأن الكتاب ألف قبل السنة المذكورة.
قلنا: هذا التاريخ مقطوع ببطلانه، فإنه ليس بخط ناسخ الأصل، وقد ألحقَتْ العبارة: «وبه تمَّ الكتاب نسأل الله تعالى ... في سنة ٧٣١» بخط آخر بعد كشط وإخفاء ما كان مكتوبًا على طرة النسخة. وفي العبارة خطأ آخر، وهو زعم الكاتب أن الكتاب قد تم بهذا المجلد، مع أن كلام المؤلف على منزلة المحبة لم يتمَّ بعد، وبقي منه ثلاثة فصول في شرح كلام الهروي، فلم يتمَّ هذا المجلد فضلا عن تمام الكتاب!
1 / 18
موضوع الكتاب وترتيب مباحثه
الكتاب معقود على بيان أصول تزكية النفس التي هي أهم مقاصد بعثة النبي ﷺ، والكلام على أعمال القلوب ومنازل السلوك التي يتنقل بينها القلب في السير إلى الله، والتنبيه على ما طرأ من الزيغ والانحراف في وصفها وتحديدها عند المتصوفة.
وهو في ذلك صنو كتابه الآخر «طريق الهجرتين وباب السعادتين». وكما اختار فيه ابن القيم للوصول إلى غرضه كتاب «محاسن المجالس» لابن العريف ــ وهو مبني على كتاب «علل المقامات» لأبي إسماعيل الهروي ــ اختار لكتابنا هذا كتاب «منازل السائرين» لأبي إسماعيل نفسه، لكونه كتابا مشهورًا بين السالكين من أهل السنة وغيرهم.
واختار إلى ذلك شرحًا واحدًا من شروحه، وهو شرح العفيف التلمساني لأنه صيَّر أبا أسماعيل بشرح كلامه من القائلين بوحدة الوجود. وقد ذكر الذهبي في «تاريخ الإسلام» (١٠/ ٤٨٩) أنه رأى الاتحاديةَ تعظِّم «كتاب المنازل» وتنتحله وتزعم أنه على تصوفهم الفلسفي. واشتهر شرح التلمساني، وأقبل عليه طلاب السلوك، فاشتد البلاء، وتفاقم الخطر، فانبرى ابن القيم لشرح «كتاب المنازل» وبيان ما له وما عليه، مع الرد على عقيدة وحدة الوجود والانحرافات الأخرى من خلال نقده لكلام التلمساني، وتبرئة شيخ الإسلام الهروي من هذه العقيدة الباطلة.
ولكن قارئ الكتاب يستغرب أن ابن القيم لم يشر في أوله من قريب أو بعيد إلى أنه قصد به إلى شرح «كتاب منازل السائرين» لأبي إسماعيل
1 / 19
الهروي، بل الاسم الذي اختاره لكتابه في أول الأمر ــ وهو: «مراحل السائرين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين» ــ لم يكن يدل أيضًا على أن الكتاب في شرح «منازل السائرين». فهل غيَّر ابن القيم خطة الكتاب في أثناء تأليفه؟ لننظر أولا في البناء العام للكتاب.
يمكن أن نقسم الكتاب لفهم تأليفه إلى الأقسام الآتية:
١) خطبة الكتاب (١/ ١ - ٩)
الخطبة كلها تدور حول فضل القرآن ومنزلته في حياة المسلمين، فهو الصراط المستقيم الذي لا تزيغ به الآراء والأهواء، وهو الهدى والنور، وحياة القلوب وشفاء الصُّدور، والعروة الوثقى التي لا انفصام لها. وهو الكفيل بمصالح العباد في المعاش والمعاد. ولكن طوائف كثيرة من عامة المسلمين وخاصتهم هجروه، وعزلوه عن منصبه بطرق مختلفة من التأويل وغيره، واستفزَّتهم آراء الرجال وأنواع الجدل وضروب الأقيسة والإشارات والشطحات. وختم المصنف هذه الخطبة بأنه سينبه على ذلك بالكلام على سورة الفاتحة وعلى بعض ما تضمنته من الرد على جميع طوائف أهل البدع والضلال، وكذلك ما تضمنته من منازل السائرين ومقامات العارفين، والفرق بين وسائلها وغاياتها، ومواهبها وكسبياتها.
٢) تفسير سورة الفاتحة (١/ ١٠ - ١٧١)
ومن المباحث التي يشتمل عليها:
- إثبات السورة للنبوة من ثماني جهات.
- فصول في تفسير الصراط المستقيم وسؤال الهداية.
1 / 20
- فصول في اشتمال السورة على أنواع التوحيد الثلاثة.
- مراتب الهداية العامة والخاصة، وهي عشر مراتب، منها مرتبة الإلهام. وهي من منازل كتاب الهروي أيضًا، فنقل ابن القيم كلامه وشرحه وعلق عليه حسب طريقته. وهذا أول موضع ذكر فيه «صاحب المنازل». وقال ابن القيم في آخر شرحه للدرجة الثالثة من منزلة الإلهام: «وأما الاتحادية القائلون بوحدة الوجود فإنهم يجعلون ذلك اضمحلالًا وعدمًا في الوجود، ويجعلون صاحب المنازل منهم، وهو بريء منهم عقلًا ودينًا وحالًا ومعرفة».
- فصل في بيان اشتمال الفاتحة على الشفاءين: شفاء القلوب وشفاء الأبدان. ومن ذلك اشتمالها على الرد على جميع المبطلين من أهل الملل والنحل، وعلى أهل البدع والضلال من هذه الأمة كالملاحدة القائلين بوحدة الوجود والفلاسفة والجهمية والقدرية والجبرية وغيرهم (٨٤ - ١٠٥).
- فصول في الكلام على ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ وبيان أن سر الكتب والأمر والنهي والشرائع والثواب والعقاب انتهى إلى هاتين الكلمتين، وعليهما مدار العبودية والتوحيد.
- الناس في الأصلين العبادة والاستعانة أربعة أقسام.- لا يكون العبدُ متحققًا بـ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ إلا بالإخلاص والمتابعة، والناس في ذلك أربعة أقسام.
- أهل مقام ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ لهم في أفضل العبادة وأنفعها أربعة طرق، فهم في ذلك أربعة أقسام.
1 / 21
- الناس في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها أربعة أصناف، ومنهم الفلاسفة والصوفية المتفلسفة.
- بناء ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ على أربع قواعد، ولزوم العبودية لكل عبد إلى الموت، وانقسامها إلى عامة وخاصة (١٤١ - ١٥١).
- مراتب ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ علمًا وعملًا، ودوران رحى العبودية على خمس عشرة قاعدة من كمّلها كمّل مراتب العبودية (١٥١ - ١٧١).
هذه الفصول المهمة النفيسة التي اشتمل عليها تفسير المؤلف لسورة الفاتحة هي في الحقيقة بمنزلة القواعد والأسس التي يقوم عليها نظام تزكية النفس والسلوك في الإسلام. ثم هي تسدُّ جميع المنافذ التي يسعى الطوائف المنحرفة للدخول منها. وقد مهد المصنف بهذه الفصول لكلامه على منازل السالكين في الفصل الآتي.
٣) فصل في منازل إياك نعبد (١/ ١٧٢ - ٣٧٨)
- أشار المصنف في أوله إلى تأليف الناس في المنازل واختلافهم في عددها ووصفها بحسب سلوكهم، ثم قال: «وسأذكر فيها أمرًا مختصرًا جامعًا نافعًا إن شاء الله». ثم تكلم على تسعة منازل هي مع ترتيبها عند الهروي: اليقظة (١)، البصيرة (٥٤)، القصد (٤١)، العزم (٤٢)، الفكرة (٥)، الفناء (٩٢)، المحاسبة (٣)، التوبة (٢)، الإنابة (٤). ولننظر كيف جاء كلامه عليها.
- ذكر أن أول المنازل: «اليقظة» وعرَّفها، وأن اليقظة توجب «الفكرة» وعرَّفها أيضًا، فلم يشرح مراتب المَنْزِلَين. فإذا صحّت الفكرة أوجبت «البصيرة». وتوقف عند «البصيرة»، فعرّف بها وذكر لها ثلاث مراتب
1 / 22