بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الناشر
الحمدُ لله ربٍّ العالمينَ، حَمْدًا دائمًا أبدًا، الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وأقسم بالقلم فقال ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ …﴾ وذلك لِعِظَم شَأنِ العِلْم، وعظم مَرتبتِهِ، وقد كانَ ذلك شأن دين الإِسلام، إذْ استفتح الوحي على نبي الإِسلام محمَّد ﷺ بقوله تعالى ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ..﴾.
لذا فالكتابة والقراءَةُ وما دُوِّنَ من كراريس ودفاتر هي ذخر وفخرٌ لدين الله، وميسمٌ يوسم بِهِ دِينُنَا، وما جاءَنا عن أسلافنا من كُتُبٍ هي مَشَاعِلُ نورٍ، لذا تسارعت دُوُر النَّشْر بكلِّ طاقَاتِهَا وما لديها من قدرات علميةٍ، وحضاريَّة إلى إخراج مخطوطات تراثنا العظيم من دَيَاجِير الظَّلام إلى رُبُوع النُّورِ ليستَهْدِىَ بها في عصرنا الحاضر عصر العلم والآفاق والنَّشْرِ والإعلامِ حتى لما هو خبيثٌ خسيسٌ، فحَقِيقٌ بدور النَّشْرِ أن تبادِرَ إلى إخراج نفيس العلم، وبثِّه بين النَّاس، ومخطوطاتُنَا هي ذاكرة أمتنا الحيَّةِ، فهي حاويةٌ لمجدها وتاريخها ومبادئ دينها وصفوة فِكْرِ عُلَمَائِهَا، على مدار تاريخها التَّالِدِ الشامخ لذا خِدْمَةُ المَخْطُوطَاتِ تُعَدُّ من الوَاجِباتِ المقدَّمَةِ المقدَّسَة علينا، لذا تَتَشَرَّفُ المكتبة التجارية بمكة المكرمة بأن تساهم بيدٍ بيضاء وجهدٍ وضاء في إثراء المكتبة الإِسلاميةِ بإخراج هذا الكتاب القيم بهذه الحلة القشيبة وهو رسالة الدكتوراه للدكتور حميش عبد الحق من جامعة أم القرى وهو كتاب المعونة على مذهب عالم المدينة الإِمام مالك بن أنس للقاضي عبد الوهاب.
1 / 5
فنسأل الله العلي القدير أن يقبل هذا الجهد قبولا حسنًا، وأن ينفع به المسلمين، وأنْ ينالنا الرِّضا من الجميع، وأن يعيننا على تواصل إخراج المفيد للأمة الإِسلاميَّةِ خدمةً لدين الله وللثقافة العربية جمعاء.
والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل
المكتبة التجارية
1 / 6
بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
تحتوي خزانة التراث الفقهي على كتب هامة من تراثنا الإِسلامي الخالد، الذي ألفه سلف هذه الأُمة عبر القرون الماضية، وهذه الكنوز ادخرت لهذه الأُمة لتستفيد منها ولتعمل بما فيها.
لهذا اتجه العلماء، وطلاب الدراسات العليا نحو تحقيق الكتب القديمة من أجل إحياء التراث الإسلامي النافع الذي يستفيد منه الناس وينفعهم في دينهم ودنياهم.
لكن هذا الاتجاه تحقيق التراث نراه يسير سيرًا بطيئًا، فإن عددًا ضخمًا من المخطوطات لا يزال غير منشور على أهميته وبعضه أصل في الفن الذي يتناوله.
لهذا صار لزامًا على المعنيين بهذا الأمر تشجيع تحقيق المخطوطات وتذييل الصعوبات التي يواجهها طلاب العلم الذين يقبلون بحماسة على العمل، ولا يجدون ما يحققونه، فيتولون وقلوبهم تفيض بالأسى حزنًا ألا يجدوا ما يحققون.
ولما كانت كتب المالكية خالية من ذكر الدليل ليس فيها إلا الفقه المحض والآراء المجردة، وما كان هذا ليليق بمذهب إمام اعترف له الجميع بالتقدم في السنة، وسلموا له الإمامة في علم الحديث، وكان الإِمام الشافعي يفاخر به،
1 / 7
نعم ما كان يليق بمذهب الإِمام مالك أن تكون كتب فقهه مجردة عن الدليل خالية من ذكر الاستنباط والتعليل، ولعل عذر المالكية في ذلك اعتمادهم على أن مُتقدميهم تكفلوا بذلك فسلموا لهم ذلك، ولم يوجد لهم معارض فأخذ الناس الفقه بهذه الطريقة.
ومع الصحوة الإِسلامية المنتشرة حديثًا والدعوة القائمة بالرجوع إلى الكتاب والسُّنَّة. وللفرق بين من يأتي بالعبادة تقليدًا لإمامه بمعقوله، ومن غير معرفة الدليل وبين من يأتي بها، وقد ثلج صدره بعد ما عرفه من دليل الكتاب أو السُّنَّة بحثت في بطون المكتبات الإِسلامية -التي تحفظ لنا مخطوطات تراثنا الإِسلامي- عن كتاب يجمع بين الفقه والدليل، فوقع نظري على كتاب "المعونة على مذهب عالم المدينة" -للقاضي عبد الوهاب البغدادي- فوجدته كتابًا ليس كالكتب بل هو كتاب عظيم، ينافح عن المذهب المالكي بالحُجَّة والدليل والبرهان مؤلفه فقيه مالكي أصولي ضليع بلغ درجة الاجتهاد المذهبي، بل الاجتهاد المطلق -كما صرح بذلك السيوطي-.
ومساهمة متواضعة مني في إحياء التراث الفقهي النافع، وتلبية للحاجة الماسة في إخراج وتحقيق هذا الكتاب، فقد اخترته موضوعًا لرسالة الدكتوراة للاعتبارات التالية:
• أسباب اختيار الموضوع:
١ - يعد كتاب "المعونة" كتابًا جامعًا لأبواب الفقه كلها على مذهب الإمام مالك بن أنس، وفق منهج العراقيين الذي يتميز بسلاسة أسلوبه وسهولة عباراته، وهو مع صغر حجمه غزير العلم، يحتوي على عدد كبير من القواعد والضوابط الفقهية التي تغني عن سرد كثير من الفروع والمسائل الفقهية.
٢ - رجوع الكتاب عصر متقدم -القرن الرابع الهجري- وقيام مؤلفه -القاضي عبد الوهاب- بتحرير فروع المذهب وتوثيق آراء كبار فقهاء المالمكية ابتداء بإمام المذهب الإِمام مالك وأصحابه ابن القاسم، وأشهب ومحمد بن عبد الحكم وغيرهم.
1 / 8
٣ - احتواؤه على الأدلة الثابتة الصحيحة لجميع المسائل والفروع الفقهية، فهو يحتوي على أزيد من ألف ومائتي حديث وأثر، وعلى كثير من الاستنباطات والتعليلات والقواعد الفقهية وعلى أقوال أئمة المذهب المالكي وغيرهم.
٤ - يعد الكتاب مرجعًا هامًّا، حيث اتخذه الفقهاء الذين جاءوا من بعده مصدرًا لكتبهم ولآرائهم، واعتنوا بتدريسه ونقله جيلًا عن جيل، فهم يرجعون إليه عندما يذكرون أقوال الفقهاء وآرائهم؛ لأن القاضي عبد الوهاب له قدم راسخة في الفقه والأصول واللغة والعلوم الأخرى، ويعد عالمًا من كبار العلماء وفقيهًا من أشهر الفقهاء، فكانوا يثقون به وبكتبه وخاصة منها "المعونة"، وإن كتب فقهاء المالكية المتأخرين مليئة بالاستدلال بأقواله ﵀.
٥ - كما أنه يشير إلى أقوال المذاهب الفقهية الأخرى في المسائل الفقهية، ويذكر المسائل المجمع عليها.
وكتاب "المعونة" لا يزال مخطوطًا حيث بدأ يتعرض للتلف، فصفحاته الأولى والأخيرة تآكلت وانعدمت حتى أصبح من العسير قراءتها.
وبتحقيق هذا الكتاب ونشره تضاف لبنة جديدة إلى بناء الفقه الإِسلامي عمومًا، والفقه المالكي بخاصة، نظرًا للأهمية الكبيرة التي يتميز بها هذا الكتاب والتي ذكرناها فيما سبق.
وقد قسمت البحث إلى قسمين:
قسم دراسي، وقسم تحقيق النص.
ففي القسم الأول، قسم الدراسة والذي جعلته إلى فصلين:
في الفصل الأول: تحدثت عن القاضي عبد الوهاب، وجعلت هذا الفصل في مبحثين:
في المبحث الأول تحدثت عن عصر المؤلف:
عن الحالة السياسية، الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والدينية.
1 / 9
وفي المبحث الثاني تحدثت عن القاضي عبد الوهاب:
اسمه ونسبه، ومولده ونشأته، شيوخه، خروجه من العراق ورحلته إلى مصر، فضائله ومكانته العلمية وأقوال العلماء فيه، توليه القضاء، وتلاميذه، وآثاره العلمية، شعره، عقيدته ووفاته.
أما الفصل الثاني فخصصته لدراسة الكتاب:
* فبدأت بلمحة عن تاريخ المذهب المالكي في العراق، ومميزات هذه المدرسة، وعلاقة المالكية بالعراق بنظرائهم في المغرب والأندلس.
* توثيق كتاب "المعونة"، سبب تأليفه، وقيمته العلمية.
* مكانة الكتاب ومصادره ومحتوياته.
* أسلوب ومنهج كتاب "المعونة"، وطريقته في الاستدلال.
* شروح كتاب "المعونة".
* نقد كتاب "المعونة".
وجعلت في الأخير مبحثًا خاصًّا يشمل:
أولًا: المسائل التي استدل لها القاضي عبد الوهاب بعمل أهل المدينة.
ثانيًا: القواعد الأصولية، والفقهية التي ذكرها القاضي عبد الوهاب في كتابه.
والقسم الثاني - قسم التحقيق:
ولقد كان منهجي في تحقيق الكتاب على النحو التالي:
١ - نسخ الكتاب وإخراج نصه سليمًا بالرسم الإملائي الحديث.
٢ - إثبات فروق النسخ المختلفة بالهامش.
٣ - ترقيم الآيات القرآنية وبيان مكانها من سور القرآن الكريم.
٤ - تخريج الأحاديث والآثار.
1 / 10
٥ - توثيق النقول والمسائل الفقهية.
٦ - شرح الألفاظ الغريبة والمصطلحات الفقهية.
٧ - التعليق على بعض المسائل الفقهية التي تحتاج إلى ذلك.
٨ - ترقيم الفصول ترقيمًا تسلسليًّا.
٩ - وضع العناوين اللازمة.
١٠ - التعريف بالأعلام الوارد ذكرهم في نص الكتاب.
وحتى يستكمل التحقيق جوانبه الفنية ألحقت الكتاب بفهارس وتشمل:
فهارس للآيات القرآنية الكريمة، فهرس للأحاديث، وفهرس للآثار، وفهرس للأعلام، وفهرس للكتب، وفهرس للأشعار، وفهرس للمصطلحات، وفهرس للأُمم والأماكن والبلدان، وأخيرًا فهرس تفصيلي للموضوعات.
ويعلم الله أني بذلت جهودًا مضنية من أجل إخراج الكتاب في صورته القريبة من الكمال، ومن أجل توضيح غوامضه وفتح مغاليقه.
وهذا لا يعني أنني قد قمت بكل ما يجب، لكني أعلم أنني قصرت في بعض الأُمور التي كان يجب الوقوف عندها طويلًا، لكن كما يقال: ما لا يدرك كله لا يترك جله، فحسبي أنني قمت بإيصال هذا الكتاب المهم إلى القاريء في هذه الحلة المناسبة، ليستفاد منه ويطلع عليه بيسر وسهولة، وقمت بذلك على قدر استطاعتي تاركًا الباب لأرباب الكفاءة الصحيحة لتتميم ما نقص وإصلاح ما اعوج وتصويب ما وقع فيه الخطأ.
وأسأل الله تعالى العفو عن السهو والتقصير أنه سميع مجيب وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..
حميش عبد الحق
***
1 / 11
القسم الأول الدارسة
1 / 13
الفصل الأول القاضي عبد الوهاب
1 / 15
الفصل الأول
المبحث الأول: عصر المؤلف:
أولًا: الحالة السياسية.
ثانيًا: الحالة الاجتماعية والاقتصادية.
ثالثًا: الحالة الثقافية.
رابعا: الحالة الدينية.
المبحث الثاني: القاضي عبد الوهاب:
أولًا: اسمه ونسبه.
ثانيًا: مولده.
ثالثًا: نشأته.
رابعًا: شيوخه.
خامسًا: خروجه من العراق ورحلته إلى مصر.
سادسًا: فضائله ومكانته العلمية وأقوال العلماء فيه.
سابعًا: القاضي عبد الوهاب فقيهًا وأصوليًّا.
ثامنًا: توليه القضاء.
تاسعًا: تلاميذه.
عاشرًا: آثاره العلمية - مؤلفاته.
الحادي عشر: شعره.
الثاني عشر: عقيدته.
الثالث عشر: وفاته.
1 / 17
المبحث الأول: عصر المؤلف
• الحالة السياسية (^١) - (٣٠٤ - ٤٦٧ هـ):
ونعني بالحالة السياسية هنا هي دراسة الظروف التي تعاقبت على بغداد وغيرها من بلاد المسلمين في الفترة التي عاشها القاضي عبد الوهاب وهي التي تمتد من عام ٣٦٢ هـ سنة ميلاد القاضي إلى سنة ٤٢٢ هـ، وهي سنة وفاته.
والسمة البارزة للحالة السياسية التي كان يوصف بها الحكم خلال هذه الفترة هو ضعف الخلافة العباسية في بغداد في هذه الفترة، وذلك لاستبداد البويهيين (^٢) بأمور الدولة، حيث لم يبق للخليفة آية سلطة إلا الاسم حتى أصبح كدمية توضع وتحرك بأيديهم، فكان الأمير البويهي هو الذي يصدر الأوامر وعلى الخليفة توقيعها لتكتسب الشرعية أمام الناس.
ونتيجة لهذا الاستبداد عاشت بغداد أسوأ الظروف، فقد ضعف الخليفة عن القيام بأعباء الخلافة في وسط المؤامرات والدسائس، وساءت الحالة الاجتماعية والاقتصادية.
وقد تعاقب على الخلافة في هذه الفترة من الزمن خليفتان: الطائع لله، وهو
_________
(^١) انظر: الكامل في التاريخ -لابن الأثير: ٧/ ٥٣ - ٣٥٤، البداية والنهاية لابن كثير: ١١/ ٢٩٣ - ٣٨٠، تاريخ الأمم الإِسلامية: الدولة العباسية للخضري ص ٣٧١ - ٤١٠.
(^٢) البويهيون: المنتسبون إلى بني بوية، وهي أسرة تتكون من ثلاثة رجال ظهر أمرهم وهم عليّ والحسن وأحمد، أبناء بوية، كانوا أسرة فقيرة ببلاد الديلم، وكان أبوهم أحمد ابن بويه رجلًا من عامة الناس يتعيش من صيد السمك، وقد كان أحمد بويه بعد أن ملك البلاد وتولى إمرة الأمراء ببغداد يتحدث بنعمة الله فيقول: كنت أحتطب الحطب على رأسي (انظر وفيات الأعيان- لابن خلكان: ١/ ١٧٦).
1 / 18
أبو بكر عبد الكريم بن المطيع لله الفضل بن المقتدر جعفر بن المعتضد العباسي البغدادي (^١)، ولقد كان رجلًا صالحًا عالمًا، وكانت مدة خلافته ثلاثين عامًا، حيث تولى الحكم عام ٣٦٣ هـ، أي بعد ميلاد القاضي عبد الوهاب بعام واحد واستمر حكمه إلى عام ٣٩٣ هـ.
وبعده حكم القادر بالله: وهو أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر جعفر ابن المعتضد العباسي البغدادي (^٢) الذي عرف بالزهد والعلم، ولكنه كان ضعيفًا ليس بيده من الأمر شيء، وكانت مدة خلافته إحدى وأربعين سنة، أي أنه حكم إلى أن مات سنة ٤٢٢ هـ، وهو نفس العام الذي توفي فيه القاضي عبد الوهاب.
وكان في مصر الحاكم بأمر الله الفاطمي (٤١١ هـ)، والذي تمكنت في أيامه الباطنية، وهو الذي أسس المكتبة الشهيرة بمصر دعاها دار العلم (^٣).
وكان في الأندلس آخر الدولة الأموية سليمان المستعين (٤٠٧ هـ)، حيث الدولة الأموية في النزع في آخر رمق بعد تغلب الدولة العامرية، كما فعل الديلم في بغداد (^٤).
…
_________
(^١) راجع: ترجمته في شذرات الذهب: ٣/ ١٤٣، سير أعلام النبلاء: ١٥/ ١١٨ - ١٢٦.
(^٢) راجع ترجمته في شذرات الذهب: ٣/ ٣٢٦، وسير أعلام النبلاء: ١٥/ ١٣٨ - ١٥١.
(^٣) انظر الكامل في التاريخ: ٧/ ٣٠٤، البداية والنهاية: ١٢/ ٩.
(^٤) انظر الكامل في التاريخ: ٧/ ٢٨٤، البداية والنهاية: ١٢/ ٥.
1 / 19
• الحالة الاجتماعية والاقتصادية (^١):
لا شك أن الاضطراب السياسي يظهر أثره على الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فقد ظهرت في هذه الفترة في المجتمع الإِسلامي بوادر الانفصام والتفكك، وذلك لكثرة المفارقات التي اعترته من عصبيات جنسية واختلافات عقدية ومذهبية، وفوارق مادية جعلت المجتمع ينقسم من حيث الثراء والموارد الاقتصادية إلى ثلاث طبقات:
طبقة عليا تضم الملوك والأمراء والوزراء والولاة استأثرت بالجزء الأكبر من الموارد والثروات.
وطبقة وسطى مستورة الحال من التجار والحرفيين والفلاحين.
وطبقة دنيا فيها سواد الشعب من الفقراء والضعاف، وكان من هذه الطبقة معظم الفقهاء، ومنهم القاضي عبد الوهاب الذي لم يكن يستطيع ضمان رغيف يومه كما سنعرفه فيما يأتي:
فنتيجة لهذه المفارقات حل الظلم والفساد محل العدل والصلاح، وحل النزاع والقتال محل التكافل والأمن، فاختل الأمن وعمت المصائب وأنواع النبلاء، أما الحالة الاقتصادية فقد تأثرت هي الأخرى بالاضطرابات السياسية والاجتماعية التي حلت بالدولة الإِسلامية، إلا أن هذا التأثير كان بتدرج بطيء، فبعد أن امتاز الاقتصاد في بداية القرن الرابع بالازدهار، وتقدم العلوم والفنون بدأ يضعف شيئًا فشيئًا.
…
• الحالة الثقافية (^٢):
على العكس من الحالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فبالرغم من الضعف والفوضى والفرقة التي سادت، فإن الثقافة والمعرفة والحالة الفكرية قد
_________
(^١) انظر المراجع السابقة.
(^٢) انظر المصادر السابقة، وتاريخ التشريع الإِسلامي -للخضري بك- ص ٢٧٥، تاريخ الخلفاء- للسيوطي ص ٤٠٥ - ٤١٩، الفتح المبين -للمراغي: ١/ ٢١٥ - ٢١٨.
1 / 20
نمت وانتشرت انتشارًا واسعًا وازدهر الفكر ازدهارًا كبيرًا، فتعددت الدراسات الإِسلامية في مختلف الفنون مما حدى بكثير من المؤرخين بوصف هذه الفترة من التاريخ الإِسلامي بالعصر الذهبي بالنسبة للثقافة الإِسلامية، وأسباب هذا الازدهار تقريب الملوك والأمراء لبعض العلماء والأدباء وتنافسهم في إكرامهم وضمهم إلى بلاطهم، وكذلك انتشار المكتبات العامة، وإنشاء المدارس الخاصة والعامة، ومما شارك وساهم في هذه النهضة الفكرية كذلك انفتاح الحضارة الإِسلامية على الحضارات اليونانية والرومانية والفارسية والهندية التي بدأت من عصر المأمون، وقد اشتغل بها عدد كبير من المثقفين حيث وجدت قبولًا بل وامتزاجًا ببعض فروع الثقافة الإِسلامية -على الرغم مما صاحب ذلك من مصائب وأخطار- وشيوع المناظرة والجدل.
فلقد كانت بغداد -وهي موطن ومنشأ القاضي عبد الوهاب- من أكبر المراكز الثقافية والفكرية سواء من نجب فيها من العلماء الأعلام، أو لجأ إليها من طلاب العلم الذين جاءوا ينهلون من علومها ومواردها وليستفيدوا من تراثها الثقافي بمختلف فروعه.
لقد حظيت هذه الفترة بحركة علمية واسعة شملت كل العلوم: الفقه وعلوم القرآن والحديث واللغة والأدب والفلسفة والكلام والفلك والرياضيات والطب والصيدلة والجراحة والفيزياء والجغرافيا.
فلا غرابة - إذن أن تنعكس هذه النهضة الفكرية الشاملة على نفسي القاضي عبد الوهاب الذي كان يلم بشتى أنواع العلوم والفنون كما سنعرف ذلك في ترجمته إن شاء الله.
…
• الحالة الدينية (^١):
في هذه الفترة تميزت الحياة الدينية بتوسع الحركة العقدية، وتعدد الفرق واشتداد التنافس والنزاع بينها، وكانت الدولة تتدخل في الشؤون العقائدية،
_________
(^١) انظر الكامل: ٧/ ٣٥٥، البداية والنهاية: ١١/ ٣٨٠، ١٢/ ٣٣٠٣.
1 / 21
ومثال ذلك مسائل الخلاف بين أهل السُّنَّة والمعتزلة، كما كانت تقوم بتولية القضاه وغير ذلك، كما قام أساتذة المدارس الفقهية بوضع أسسها وتدوين فقه أئمتها إلا أنه بنهاية القرن الرابع ركدت حركة الاجتهاد حتى أصبح الفقيه لا يستطيع الاجتهاد إلا في المسائل الفرعية، كما كثرت المناظرات والردود بين أرباب المذاهب وأصحابها.
ويلخص لنا شيخ الإِسلام ابن تيمية الوضع الإجمالي في هذه الفترة تلخيصًا دقيقًا بقوله:
" … وفي دولة "بني بويه" ونحوهم الأمر بالعكس، فإنهم كان فيهم أصناف المذاهب المذمومة: قوم منهم زنادقة، وفيهم قرامطة كثيرة ومتفلسفة ومعتزلة ورافضة، وهذه الأشياء كثيرة فيهم غالبة عليهم، فحصل في أهل الإِسلام والسُّنَّة في أيامهم من الوهن ما لم يعرف حتى استولى النصارى على ثغور الإِسلام، وانتشرت القرامطة في أرض مصر والمغرب والمشرق وغير ذلك، وجرت حوادث كثير .. " (^١).
…
_________
(^١) مجموع الفتاوي - لابن تيمية: ٤/ ٢٢.
1 / 22
المبحث الثاني: القاضي عبد الوهاب (^١)
• اسمه ونسبه:
هو أبو محمَّد عبد الوهاب بن عليّ بن نصر بن أحمد بن الحسين بن هارون ابن أمير العرب مالك بن طرق التغلبي البغدادي العراقي المالكي.
_________
(^١) مصادر ترجمته:
ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك - للقاضي عياض: ٧/ ٢٢٠.
الديباج المذهب- لابن فرحون: ٢/ ٢٦.
شجرة النور الزكية- للمخلوف ص ١٠٣.
تاريخ بغداد- للخطيب البغدادى: ١١/ ٣١.
تاريخ قضاه الأندلس- للنباهي ص ٤٠.
تبيين كذب المفترى- لابن عساكر: ص ٢٤٩.
البداية والنهاية- لابن كثير: ١٣/ ٣٣.
الذخيرة في محاسن الجزيرة- لابن بسام: ٤/ ٥١٥.
سير أعلام النبلاء- للذهبي: ١٧/ ٤٢٩.
العبر- للذهبي: ٣/ ١٤٠.
شذرات الذهب- لابن العماد: ٣/ ٢٢٣.
طبقات الفقهاء- للشيرازي ص ١٦٨.
وفيات الأعيان- لابن خلكان: ٣/ ٢٢٠.
فوات الوفيات- لابن شاكر الكبتي: ٢/ ٤١٩.
النجوم الزاهرة- للأتابكي: ٤/ ٢٧٦.
مرآة الجنان- لليافعي: ٣/ ٤١.
معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان- للدباغ: ٣/ ١٣٤.
حسن الحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة- للسيوطى: ١/ ٣١٤.
1 / 23
• مولده:
ولد ببغداد سنة ٣٦٢ هـ.
قال ابن العماد: " .. كانت ولادته ببغداد يوم الخميس سابع شوال سنة اثنتين وستين وثلثمائة" (^١).
…
• نشأته:
نشأ القاضي عبد الوهاب في دار علم وفقه وأدب وفضل، فإن أباه عليّ بن نصر (ت ٣٩١ هـ) من أعيان الشهود المُعدِّلين ببغداد.
وكان أخوه أبو الحسن محمَّد بن عليّ بن نصر (ت ٤٣٢ هـ) أديبًا فاضلًا، صنَّف كتاب "المفاوضة" للملك العزيز جلال الدولة أبي منصور بن أبي طاهر بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بوية (ت ٤٣٧ هـ)، وجمع في هذا الكتاب ما شاهده، وهو من الكتب الممتعة في ثلاثين كراسة، وله رسائل (^٢).
ولم نظفر بشيء عن نشأته وتربيته وتعلمه -فيما اطلعنا عليه من مصادر- وأصحاب التراجم يغفلون هذا الجانب وعذرهم في ذلك: إن نشاة العلماء تتلخص في أخذ العلم وتحصيله كغيره من أترابهم ثم لا يظهر تمايزهم إلا عند مبلغهم مبلغ الرجال.
وما نعرفه عن القاضي عبد الوهاب أنه نشأ وعاش عيشة صعبة، فقد عزَّ قوته وضاق به الحال، ولقد ضن بدينه ومرؤته أن يمتهن ويبيع ذلك في أسواق الخلفاء وبلاط الأمراء، كما كان يفعل ذلك بعض العلماء ..؟!
…
_________
(^١) انظر: شذرات الذهب: ٣/ ٢٢٣، الوفيات: ٣/ ٢٢٢.
(^٢) انظر الوفيات: ٣/ ٢٢٢.
1 / 24
• شيوخه:
قيل للقاضي عبد الوهاب: مع من تفقهت؟، قال: صحبت الأبهري وتفقهت مع أبي الحسن بن القصار وأبي القاسم بن الجلاب، والذي فتح أفواهنا وجعلنا نتكلم القاضي أبو بكر بن الطيب (^١)، يقصد الباقلاني.
فقد أخذ عن هؤلاء وغيرهم من العلماء والشيوخ وفيما يلي تعريف لكل منهم:
١ - أبو بكر الأبهري (^٢):
محمَّد بن عبد الله بن محمَّد بن صالح التميمي الأبهري، شيخ المالكية، نزيل بغداد وعالمها، ازداد وانتشار المذهب عنه في البلاد، كان ثقة مأمونًا زاهدًا ورعًا، انتهت إليه رئاسة المذهب المالكي، أخذ عنه القاضي عبد الوهاب فقه المذهب، ومن شيوخه أبو القاسم البغوي والباغندي وعبد الله بن زيدان البجلي -ومن تلاميذه الدارقطني وابن الجلاب وأبو بكر البرقاني (ت ٣٧٥ هـ).
٢ - العسكري (^٣):
أبو عبد الله الحسين بن محمَّد بن عبيد بن مخلد العسكري البغدادي الدقاق: كان ثقة أمينًا، حدث عن محمَّد بن يحيى المروزي، وأبي العباس بن مسروق ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة وجماعة، وروى عنه: أبو القاسم الأزهري، والحسن بن الخلال وغيرهما. (ت ٣٧٥ هـ).
٣ - ابن سبنك (^٤):
القاضي أبو القاسم عمر بن محمَّد بن إبراهيم بن محمَّد بن خالد بن سبنك البجلي البغدادي: من ذرية جرير بن عبد الله. قال الخطيب: كان ثقة، سمع
_________
(^١) الديباج المذهب: ٢/ ٢٦.
(^٢) الديباج المذهب: ٢/ ٢٠٦، شذرات الذهب: ٣٤/ ٨٥، تاريخ بغداد: ٥/ ٤٦١.
(^٣) شذرات الذهب: ٣/ ٨٥، سير أعلام النبلاء: ١٦/ ٣١٧.
(^٤) سير أعلام النبلاء: ١٦/ ٣٧٨، شذرات الذهب: ٣/ ٨٧.
1 / 25
محمَّد بن حبان والباغندي، وأخذ عنه القاضي عبد الوهاب وأبو القاسم التنوخي وآخرون. (ت ٣٧٦ هـ).
٤ - ابن الجلاب (^١):
أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله بن الجلاب: شيخ المالكية، كان أفقه المالكية في زمانه، له كتاب "التفريع" مشهور، أخذ عن الأبهري وأخذ عنه العلم القاضي عبد الوهاب، وأبو الحسن الطائفي البصري وغالب المحاربي من أهل غرناطة (ت ٣٧٨ هـ).
٥ - ابن شاهين (^٢):
عمر بن أحمد بن عثمان بن أحمد بن أزداذ البغدادي: الواعظ، كان ثقة مأمونًا، صنَّف ما لم يصنفه أحد، سمع أبا بكر الباغندي، وأبا القاسم البغوي وأبا بكر بن أبي داود وغيرهم، وحدث عنه أبو بكر الوراق وأبو أحمد الجوهري والخلال وغيرهم (ت ٣٨٥ هـ).
٦ - مخلص (^٣):
أبو ظاهر محمَّد بن عبد الرحمن بن العباس بن عبد الرحمن بن زكريا البغدادي: المخلص، كان ثقة، سمع من أبي القاسم البغوي، وأحمد بن سليمان الطوسي، وأبي عمر محمَّد بن يوسف القاضي، وأخذ عنه أبو محمَّد الخلال، وأبو سعد السمان، وعبد العزيز القطان وغيرهم (ت ٣٩٣ هـ).
٧ - ابن القصار (^٤):
أبو الحسن عليّ بن عمر بن أحمد بن القصار البغدادي: شيخ المالكية، كان أصوليًّا نظَّارًا، له كتاب في مسائل الخلاف لا يعرف أحسن منه، اختصره
_________
(^١) الديباج المذهب: ١/ ٤٦١، سير أعلام النبلاء: ١٦/ ٣٨٣.
(^٢) تاريخ بغداد: ١١/ ٢٦٥، شذرات الذهب: ٣/ ١١٧.
(^٣) سير أعلام النبلاء: ١٦/ ٤٧٨، شذرات الذهب: ٣/ ١٤٤.
(^٤) الديباج المذهب: ٢/ ١٠٠، سير أعلام النبلاء: ١٧/ ١٠٧.
1 / 26
القاضي عبد الوهاب، ولقد كان ابن القصار قرينًا للقاضي عبد الوهاب يأخذ هذا عن ذاك، حدَّث عن عليّ بن الفضل التسوري وغيرهما، روي عنه: أبو ذر الحافظ، وأبو الحسن بن المهتدى بالله (ت ٣٩٨ هـ).
٨ - الباقلاني (^١):
أبو بكر محمَّد بن الطيب بن محمَّد بن جعفر بن قاسم: مقدم الأصوليين، كان إمامًا بارعًا، صنَّف في الرّد على الرافضة والمعتزلة وغيرهما من الطوائف، إليه انتهت رئاسة المالكية في وقته، سمع من القطيعي وابن ماشا وغيرهما، حدَّث عنه أبو ذر، وأخذ عنه القاضي عبد الوهاب كثيرًا في فن الأصول وعلم الكلام -وهو الذي فتح أفواههم وجعلهم يتكلمون كما قال القاضي عبد الوهاب (ت ٤٠٣ هـ).
٩ - ابن الصلت المجبر (^٢):
أبو الحسن أحمد بن موسى بن القاسم بن الصلت المُجبر العبدري البغدادي: سمع من أبي إسحاق بن عبد الصمد الهاشمي، وأحمد بن عبد الله وكيل أبي صحرة، والقاضي المحاملي، وحدَّث عنه عبيد الله الأزهري، وعبد الباقي الأنصاري وغيرهما (ت ٤٠٥ هـ).
١٠ - ابن شاذان (^٣):
أبو عليّ الحسن بن أبي بكر بن إبراهيم بن شاذان البغدادي البزاز الأصولي: كان ثقة، صحيح السماع، صدوقًا. (٤٢٥ هـ).
…
_________
(^١) الديباج المذهب: ٢/ ٢٢٨، تاريخ بغداد: ٥/ ٣٧٩، شذرات الذهب: ٣/ ١٦٨.
(^٢) سير أعلام النبلاء: ١٧/ ١٨٦، شذرات الذهب: ٣/ ١٧٤.
(^٣) شذرات الذهب: ٣/ ٢٢٩، تاريخ بغداد: ٧/ ٢٧٩.
1 / 27