যুক্তিসঙ্গত ও অযৌক্তিক আমাদের চিন্তাশীল ঐতিহ্যে
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
জনগুলি
فسررت به، وقلت: أيها الحكيم! هل أسألك؟ - سل. - ما الحسن؟ - هو ما حسن في «العقل». - ثم ماذا؟ - ما حسن في «الشرع». - ثم ماذا؟ - ما حسن عند الجمهور. - ثم ماذا؟ - ثم لا ثم!
يقول صاحب «الفهرست»: فكان هذا المنام من أوكد الأسباب في إخراج الكتب؛ فقد كانت بين المأمون وملك الروم مراسلات، فأرسل إليه يستأذنه في مجموعة مختارة من العلوم القديمة المخزونة المدخرة ببلد الروم، فأجابه ملك الروم إلى طلبه بعد امتناع، فأخرج المأمون جماعة، منهم الحجاج بن مطر، وابن البطريق، وسلما صاحب بيت الحكمة، فأخذوا مما وجدوا ما اختاروه، فلما حملوه إلى المأمون أمرهم بنقله، فنقل، وكانت هذه الكتب المختارة في الفلسفة والهندسة والموسيقى والحساب والطب.
إنك لتعرف اهتمام القوم يومئذ باستخراج ما حوت كتب القدماء في بطونها من شتى صنوف العلم، إذا عرفت كم أخذت تشيع الأساطير بين الناس عن الكتب، أين توجد، وكيف يمكن الحصول عليها، كأنما هم يبحثون عن مناجم الذهب ليستخرجوه من مكامنه، فتقرأ - مثلا - لابن النديم في «الفهرست» رواية ينقلها فلان عن فلان أنه كان يحكي في مجلس عام (ولا يفوتنك هنا أن الحديث كان في مجلس عام مما يدل على اتساع مجال الاهتمام بين الناس) فيقول: إنه وجد ببلد الروم هيكلا قديم البناء، عليه باب بمصراعين من حديد، والباب قد بلغ من العظم حدا يجعله فريد نوعه فيما عرف الناس جميعا، وكان اليونانيون - فيما روى هذا الرحالة الذي يقص على الناس حكايته - إذا ما أرادوا أداء الشعائر الدينية في عبادتهم للكواكب والأصنام، يعظمون ذلك البناء، ويبتهلون فيه إلى معبوداتهم بالدعاء، ويذبحون فيه الذبائح ، ويقول الراوي: فسألت ملك الروم أن يفتحه لي، فامتنع من ذلك، فلم أزل به حتى فتحه، فإذا ذلك البيت قد أقيم من المرمر الجميل ومن أنفس الحجر، وعليه من الكتابات والنقوش ما لم أر ولم أسمع بمثله كثرة وحسنا، ومن هذا الهيكل من الكتب ما يحمل على ألف جمل، وكان بعض تلك الكتب قد أخلق، وبعضها أكلته الأرضة وبعضها لم يزل على حالة جيدة، قال الراوي: ورأيت في الهيكل آلات للقرابين صنعت من ذهب، وغير ذلك من النفائس، فلما فرغت من رؤية المكان، أغلق ملك الروم باب الهيكل بعد خروجي، وامتن علي بما فعل ... فإذا كانت حكايات كهذه هي التي يتفتق عنها خيال القاص ويستمع إليها جمهور الناس، فلا بد أن يكون «الكتاب» وما يرتبط بالكتب من معرفة، هو الذي ملك على القوم عقولهم وقلوبهم معا، ولا فرق في هذه الحالة بين أن تكون رواية الراوي من واقع الأحداث أو من خلق الخيال؛ لأن ما يهمنا نحن في أي الحالتين هو ما هفت إليه النفوس في الفترة التي اتخذنا فيها موقفنا لنلقي البصر والسمع إلى أهلها: بماذا ينشطون وفيم يفكرون.
ولو دخلنا «بيت الحكمة» هذا الذي أقيم ليكون مقرا لنقل الكتب المحمولة من هنا وهناك إلى اللغة العربية، لوجدناه يرفع أمام أبصارنا على الفور دليله الصارخ بما ساد المكان من إجلال للعلم ومكانته؛ إذ يكفي أن نرى بلمحة واحدة رجالا اختلفت عقائدهم الدينية، واختلفت أوطانهم ولغاتهم ومذاهبهم لكنهم اتفقوا جميعا على هدف واحد، هو الاشتغال بنقل هذه العلوم التي طويت في الكتب أمامهم لتصبح بعدئذ علوما تجري في لغة عربية؛ تمهيدا لها أن تتحول على الزمن ثقافة عربية بعد تهذيبها بالحذف هنا وبالإضافة هنا وبالشرح والتأويل هناك؛ حتى تلائم روح العربي بصفة عامة، والعربي المسلم بصفة خاصة، ولعلنا حين يمتد بنا طريق رحلتنا الثقافية هذه مع تراثنا الفكري وهو لم يزل في منابعه وأصوله، أن نرى إلى أي حد استطاع العلم المنقول أن يسري في العقل العربي سريان الزيت في الزيتونة، أم ترى يصدق قول من قال عن الثقافة اليونانية وما تركته من أثر حين نقلت إلى العرب، بالقياس إلى أثرها حين نقلت بعدئذ إلى أوروبا، من أنها وهي في أوروبا صادفت ناسا من جنس أهلها، فكأنها أضافت عددا إلى أصحابها، وأما وهي بين أيدي العرب فقد صادفت أناسا اختلفوا عن أهلها، وثقافة تباينت معها أصولا وفروعا، ومن ثم كانت كالجسم الغريب يدخل المعدة فلا تهضمه، وتنبذه نبذا، أو يفنيها ويهلكها، وحسبنا في هذا الموضع من مراحل السفر أن نلاحظ وأن نسجل بأننا أمام بوتقة وضعت فيها مختلف الثقافات القديمة مما جاء من اليونان ومن الهند ومن فارس ومن غيرها؛ لعلها أن تنصهر جميعا في مزيج واحد، قد يضاف إلى الثقافة العربية الأصيلة فينتج لهم هذا الذي أصبحنا نتلقاه عنهم ونسميه تراثا عربيا.
خطوة واحدة نخطوها داخل «بيت الحكمة» لنلمح قبسا مما تختلج به تلك الدار من ضروب النشاط، كافية لنبصر ثلاثة رجال من أسرة واحدة مسيحية، منكبين على الترجمة، هم حنين بن إسحاق وابنه إسحاق بن حنين، وابن أخيه حبيش بن الحسن، ولا شك أن الوالد كان صاحب المكانة العليا في ترجمة المؤلفات العلمية من اليونانية إلى العربية، ولقد ترك لنا سيرة حياته مكتوبة بقلمه، يكشف فيها عن مراحل نموه وأحداث دنياه، فلقد جاء حنين من الحيرة، كان أبوه صانع عقاقير، نسطوري المذهب في عقيدته المسيحية، ولم يتعلم حنين اللغة العربية إلا في أواخر سنيه، فبعد أن انتقل من موطنه وقصد إلى جنديسابور - وكان فيها مدرسة طبية واسعة الشهرة - حيث استمع إلى دروس الطبيب العالم ابن ماسويه، حدث خلاف بين التلميذ وأستاذه، ترك حنين على أثره مدينة جنديسابور، وذهب إلى بلاد اليونان، وهناك تعلم لغة اليونان وأجادها، وعاد من أرض اليونان إلى البصرة حيث تعلم اللغة العربية على يدي الخليل بن أحمد، ومن البصرة ذهب إلى بغداد، حيث كانت الخلافة عندئذ قد آلت إلى المأمون منذ عدة أعوام.
فما أن أقيمت دار الحكمة لتكون مركزا لنقل علوم الأوائل، وخصوصا علوم اليونان، حتى وضع حنين في أنسب مكان يوضع فيه؛ ليعمل أحب عمل إليه ، فانكب الرجل على ترجمة المؤلفات اليونانية انكبابا، حتى إنه في فترة وجيزة كانت العربية قد ظفرت على يديه بالجزء الأكبر من مؤلفات جالينوس، وهيبوقراطس، وبطليموس، وإقليدس، وأرسطو، وغيرهم.
إن رجلا واحدا فيه الإخلاص للعلم، ولديه المقدرة على تحصيله أو على نقله، قد يكون نقطة تحول ثقافي لأمة بأسرها، وأحسب أن لو أردنا شبيها لحنين بن إسحاق في ثقافتنا العربية الحديثة، من حيث الدور الذي أداه كلا الشبيهين، لقلنا: إنه رفاعة رافع الطهطاوي، فإذا كانت بغداد قد شهدت «بيت الحكمة» مكانا للنشاط الفكري في عملية الترجمة، فالقاهرة قد شهدت «مدرسة الألسن» في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وإذا كان حنين بن إسحاق هناك قد تسلح بمعرفة اللغة اليونانية المنقول عنها ثقافة الآخرين، فقد أتيح للطهطاوي أن يتزود باللغة الفرنسية في باريس، وكانت ترجمات «بيت الحكمة» بمثابة نقطة تحول من ثقافة عربية خالصة، إلى ثقافة مزجت بها ألوان يونانية (برغم أنه كان قد سبق ذلك بدايات للترجمة قبل عصر المأمون وقبل بيت الحكمة وقبل حنين بن إسحاق) كذلك كانت ترجمات «مدرسة الألسن» نقطة تحول من حالة فكرية راكدة، إلى حياة فكرية دب فيها نشاط لم يفتر منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا.
على أن الذي يدعونا إلى التساؤل - ونحن ما نزال في «بيت الحكمة» نلقي نظرة عابرة إلى جماعة المترجمين ينقلون التراث الإغريقي إلى اللغة العربية - أقول: إن الذي يدعونا إلى التساؤل والنظر المتمهل هو: إلى أي حد تسربت هذه المادة العلمية في شرايين الثقافة العربية بعد ذلك؟ ثم ما الذي دفع المأمون إلى حركة النقل الواسعة هذه؟ أليس مما يبعث الحيرة في نفوسنا أن نرى عهدا من الحكم وثيق الصلة بالفرس، من حيث نشأته أولا، وحفظه وإدارته ثانيا، وفي الوقت نفسه الذي شاع فيه بين هؤلاء الفرس رجوع إلى ديانات لهم قديمة ليس فيها من النظرة العقلية إلا قليل، أن نراه قد ساير تلك الحركة الراجعة بحركة أخرى تباينها أشد ما يكون التباين، وهي أن تنقل إلى العربية ثقافة اليونان بما فيها من فلسفة وعلوم قوامها عقل صرف ومنطق خالص؟
أما عن السؤال الأول: إلى اي حد تسربت هذه المادة العلمية المنقولة في كيان الثقافة العربية، فقد تختلف الإجابة اختلاف الضدين؛ إذ قد نقرأ لفئة تذهب إلى أن الثقافة العربية بأسرها - من الشعر عن يمينك إلى الفلسفة عن يسارك - قد تغلغل فيها أثر الفكر اليوناني تغلغل السدى من اللحمة في نسج القماش، وقد نقرأ كذلك لفئة أخرى تنكر أن يكون لهذه الثقافة اليونانية أثر في العقل العربي الخالص، الذي يظهر فيما يسمى «بعلوم العرب»، ولعلي أسبق خطوات رحلتي الثقافية التي أتابعها بفصول هذا الكتاب، إذا دخلت برأسي في النزاع لأدلي برأي ربما كان بعيدا عن الصواب بعدي عن التخصص الدقيق الكامل في تراثنا العربي، وأما الرأي الذي أدلي به فهو أننا نخطئ الحكم الصواب في الأمر إذا نحن لم نفرق بين مجموعتين من أبناء الأمة العربية في هذا الصدد؛ إحداهما مجموعة قليلة العدد، هي الصفوة الممتازة في ميدان الفكر، والأخرى مجموعة ضخمة هي «جماهير الشعب» - كما اعتاد الكاتبون أن يقولوا هذه الأيام - فأما القلة القليلة من الصفوة فقد غاصت في الثقافة اليونانية المنقولة إلى رءوسها - فلا أكتفي بأن يكون الغوص إلى الأذقان ولا إلى الآذان - حتى لكثيرا جدا ما تحس وأنت تتابع ما كتبه هؤلاء أنك إنما تقرأ وتتابع فكرا يونانيا جرى بأحرف عربية، وأما المجموعة الضخمة من الناس - التي هي الجمهور الواسع - فلا أظنه قد تأثر بأي شيء مما نقله المترجمون عن اليونان؛ ولذلك رأينا في وضوح كيف أن المفكر العربي أو الكاتب العربي الذي يتنصل عمدا وعلنا من آثار اليونان، سرعان ما يكون له من الأتباع ما لا يحلم بمثله واحد من الصفوة الأولى، وعلى كل حال فيجمل بنا أن نرجئ القول في هذا إلى مرحلة تالية من مراحل الطريق.
وأما عن السؤال الثاني، وهو: هل هنالك دوافع حقيقية دفعت خلفاء العباسيين إلى تشجيع الترجمة عن اليونان؟ وذلك لأنه يتعذر علينا أن نوفق بين خطين متوازيين بينهما كل هذه الشقة البعيدة من التباين؛ فهنا جماعات بعد جماعات من الفرس تتعصب إلى حد القتال لأوهام عجيبة من الشعوذة والتخريف، وهناك تحمس شديد لنماذج من التفكير العقلي اليوناني، ولا نستطيع أن نقول: وما لخلفاء العباسيين وجماعات المشعوذين التي أشرت إليها؟ فيكون الجواب: لأن هؤلاء الخلفاء هم صنائع أولئك، أو على الأقل صنائع القادة من أولئك، ويكفي أن نذكر مثلا واحدا، هو أبو مسلم الخراساني، الذي صنع ما صنعه في إقامة الدولة العباسية، ثم تربص به الخليفة المنصور حتى قتله على صورة هي أقرب إلى الغدر، فكيف - وهذا هو السؤال - اجتمع في صدر واحد هاتان النزعتان؛ الثقة في أبي مسلم إلى درجة الارتكاز عليه في حرب كانت هي الفاصلة بين أن يحكم البيت العباسي أو لا يحكم، وكراهيته إلى درجة الغدر به؟ أيكون ذلك من قبيل ما تشير إليه الحكمة القائلة: «اتق شر من أحسنت إليه»، بمعنى أن الفطرة البشرية لو تركت على سجيتها بغير قيد يقيدها، فإنها تدفع الإنسان إلى الفتك بمن أحسن إليه حتى لا يظل هذا المحسن شاهدا محسوسا على ما كان قد اعتور ذلك الإنسان من حاجة ومن ضعف استوجب أن يستعين بهذا الذي أحسن إليه؟ أم يكون ذلك من قبيل «الازدواج الوجداني» الذي يتحدث عنه علماء النفس المعاصرون، وهو أن يجتمع لدى الفرد الواحد تجاه شخص ما - حتى ولو كان أحد والديه - مزيج من حب ومن كراهية، ويستحيل في رأيهم أن يكون الحب خالصا، ولا أن تكون الكراهية خالصة.
অজানা পৃষ্ঠা