যুক্তিসঙ্গত ও অযৌক্তিক আমাদের চিন্তাশীল ঐতিহ্যে

জাকি নাজিব মাহমুদ d. 1414 AH
104

যুক্তিসঙ্গত ও অযৌক্তিক আমাদের চিন্তাশীল ঐতিহ্যে

المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

জনগুলি

ولقد أشار الشيخ في حواره مع الغرائز إلى ما أسماه «علم الفراسة قاصدا به «علم المنطق»، وإنما أسماه بالفراسة لأن المنطق من شأنه أن» يتأمل الظاهر ليستخرج منه ما قد بطن واستخفى، بمعنى أنه قد ينظر إلى «المقدمات» ليخلص منها إلى «النتائج» المضمرة فيها، وأما الدوافع اللامنطقية من طبيعة الإنسان، فهي رفقة سوء، ولك أن تضيف إليها قوة التخيل التي يصفها الشيخ بأنها «شاهد الزور» لأن سبيلها هو أن تشبه شيئا بشيء زورا بغية إيقاع الإنسان في السوء، ومثل هذا التشبيه المضلل لا يقره عقل يحتكم إلى مبادئ المنطق في خطاه.

وليس أشيع من وصف الطبيعة البشرية بأن قوامها قوى ثلاث: العقل ثم قوتان أخريان يطمع الإنسان الكامل في إخضاعهما لأحكام العقل، وهما «القوة الغضبية» (أي الدوافع الانفعالية التي من أهمها الغضب وما يتبعه من شجاعة، وعضوها هو القلب) و«القوة الشهوانية» (أي كل ما يتصل بالبطن من رغبات، وعضوها أسفل الجذع من جهاز هضمي وجهاز جنسي)، ولعل هذه القسمة الشائعة للقوى الرئيسية في طبيعة الإنسان راجعة إلى الصورة التي تركها أفلاطون قديما حين صور الموقف بعربة يجرها حصانان؛ فسائق العربة - واللجام في يده - هو العقل، وأحد الحصانين هو القوة الغضبية، والحصان الآخر هو القوة الشهوانية، وحالة الكمال هي أن يسيطر العقل على الحصانين لتتزن حركاتهما فتأمن العربة خطر الجموح هنا أو هناك.

وذلك هو ما قصد إليه الشيخ في قصة ابن سينا حين قال: إن هذا الذي عن يمينك أهوج، والذي عن يسارك قذر شره شبق، لا يملأ بطنه إلا التراب، فالرمز هنا بالذي عن اليمين هو إلى القوة الغضبية، وبالذي عن اليسار إلى القوة الشهوانية، ولما أراد الشيخ أن يقرر بأن هاتين القوتين الجامحتين إنما هما من صميم الفطرة البشرية لا ينفصلان عنها إلا بالموت، عبر عن ذلك بقوله: «إن هذه القوة ملتصقة بالإنسان التصاقا كبيرا، ولا يبرئ الإنسان منها إلا غربة تأخذها إلى بلاد لم يطأها من قبل أمثاله»؛ قاصدا بذلك إلى القول بأنه لا منجاة للإنسان من انفعالاته وشهواته إلا بمفارقة البدن، وذلك لا يكون إلا بالموت. واستطرد الشيخ في حديثه عن وجوب امتلاك «العقل» لزمام هاتين القوتين، فقال محذرا: «وإياك أن تقبضهم زمامك، أو تسهل لهم قيادك، بل استظهر عليهم بحسن الإيالة، وسمهم سوم الاعتدال؛ فإنك إن متنت لهم سخرتهم ولم يسخروك، وركبتهم ولم يركبوك.»

وبعد أن فرغ الشيخ من حديثه عن الشهوات والغرائز والانفعالات ... إلخ، وكيف أنها عثرات على طريق الهدى، وأنها لا تقتلع إلا بالموت، وإذن فأقصى ما يستطيعه الإنسان حيالها هو أن يحكم فيها سلطان العقل ليرغمها على السبيل السوي المستقيم، انتقل الشيخ إلى حديث آخر يرشد به من أراد الجولان بعقله في رحاب الكون الفسيح، فقال ما معناه: إن للطريق ثلاثة حدود؛ «حد منها يحوزه الخافقان» وهو إنما يقصد بذلك الأشياء المدركة بالحواس في جنبات الأرض والسماء، وأما الحدان الآخران فهما «حد المغرب وحد المشرق، ولكل واحد منهما صقع قد ضرب بينهما وبين عالم البشر بسور لن يعدوه إلا الخواص الذين منحوا قوة لم يمنحها البشر بالفطرة»، والرمز «بحد المغرب وحد المشرق» إنما هو إلى «الهيولى» و«الصورة»، فكلنا يعرف كيف أدار أرسطو (ومن بعده أتباعه، وعلى رأس هؤلاء الأتباع من الفلاسفة المسلمين ابن سينا) فلسفته حول تفسير الكون كله، بكل ما فيه ومن فيه، بمبدأ «الهيولى والصورة»، أعني المادة التي صيغت والإطار الذي صيغت فيه، وهما بمثابة الأداة ووظيفتها، وها هو ذا «الشيخ» - أي «العقل» - في قصة ابن سينا يرسم لسامعيه طريق ارتيادهم للعالمين، فيقول إنه في التماس الهيولى والصورة لكل شيء تقع عليه الحواس في أرض أو سماء، على أن هذين المبدأين المغروزين في الكائنات ليسا، كظاهر تلك الكائنات، مما يدرك بالحواس، بل «قد ضرب بينهما وبين عالم البشر بسور، لن يعدوه إلا الخواص الذين منحوا قوة لم يمنحها البشر بالفطرة» ومعنى ذلك أنهما ينالان بالتأمل النظري، فلا بد من بذل الجهد ومن كسب العلم ليتمكن الإنسان من اجتياز السور المحيط بهما، ثم أضاف الشيخ إلى ذلك قوله: «إن تخطي هذا السور لا يتأتى للبشر بالفطرة، وإنما يتأتى بالاغتسال في عين فوارة إذا هدي إليها السائح فتطهر بها، وشرب من فورانها»، وهو يريد بهذه «العين» التي يغتسل بمائها من أراد كسب العلم الصحيح «المنطق» الذي هو طريق السير العقلي المؤدي بالسالك إلى الصواب.

وتمضي القصة موغلة في الرمز، لتحدد العلاقة بين البشر وعالمي النبات والحيوان، ثم بينهم وبين الأفلاك السماوية التي كان قد جرى عرف فلسفي بقسمتها تسعة أفلاك وراءها عاشر هو علة العلل، وهو الله سبحانه، وكثيرا ما يطلق على تلك الأفلاك التسعة ومعها العلة الأولى «بالعقول العشرة»، وهكذا دارت القصة كلها على إعلاء شأن العقل، وعلى قدرته على إدراك الكون وخالق الكون، إذا هو استطاع التحكم في الجوانب اللاعاقلة من الإنسان.

وبعد هذه الخلاصة الموجزة لقصة «حي بن يقظان» لابن سينا، أود أن أطلعك على أسطر منها كما وردت بنصها في مستهل القصة لتذوق الأدب السيني ذوقا مباشرا، فقد بدأت القصة بحديث يلقيه إنسان مزود بكل ما تزود به الطبيعة البشرية من قوى، فيقول: «إنه قد تيسرت لي حين مقامي ببلادي «برزة» برفقائي إلى بعض المتنزهات (لاحظ: الرفقاء: القوى اللاعاقلة؛ والبرزة: يقظة تتنبه إلى أن وراء البدن قوة أخرى؛ متنزهات: حقائق العقل) المكتنفة لتلك البقعة، فبينا نحن نتطاوف إذ عن لنا شيخ بهي قد أوغل في السن، وأخنت عليه السنون وهو في طراءة العز، لم يهن منه عظم ولا تضعضع له ركن، وما عليه من المشيب إلا رواء من يشيب، فنزعت إلى مخاطبته، وانبعثت من ذات نفسي لمداخلته ومجاورته، فملت برفقائي إليه، فلما دنونا منه، بدأنا هو بالتحية والسلام، وافتر عن لهجة مقبولة، وتنازعنا الحديث حتى أفضى بنا إلى مساءلته عن كنه أحواله، واستعلامه سنه وصناعته، بل اسمه ونسبه وبلده، فقال: أما اسمي ونسبي فحي بن يقظان، وأما بلدي فمدينة بيت المقدس، وأما حرفتي فالسياحة في أقطار العوالم حتى أحطت بها خبرا، ووجهي إلى أبي وهو حي، وقد عطوت منه مفاتيح العلوم كلها، فهداني الطريق السالكة إلى نواحي العالم حتى زويت بسياحتي آفاق الأقاليم، فما زلنا نطارحه المسائل في العلوم، ونستفهمه غوامضها حتى تخلصنا إلى علم الفراسة (= المنطق) فرأيت من إصابته فيه ما قضيت له آخر العجب ...» (حي بن يقظان عند ابن سينا،

الفصل السابع

الشجرة المباركة

51

في هذه المرحلة من خطوات الطريق، يصل مسافرنا إلى ذروة صعوده، فلقد اجتاز من تراثنا الفكري درجات تتابعت فيها خصائص الإدراك والوعي؛ فمن درجة كان نور الوعي فيها كالمشكاة، إلى درجة ثانية أصبح فيها كالمصباح، ثم اشتد وهج المصباح في درجة ثالثة، حتى إذا ما كانت الرابعة وجد نفسه أمام الزجاجة التي تحيط بالمصباح، والتي ازدادت سطوعا حتى كانت أمام عينيه كالكوكب الدري، وها هو ذا قد بلغ في رحلته غاية الصعود، إذ بلغ المصدر الذي منه يستمد الكوكب الدري وقوده، ألا وهو الشجرة المباركة، التي هي زيتونة يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، أي إن الإدراك هنا يستمد شعلته من نبع باطني ذاتي، يكفي صاحب الإدراك فيه أن يخلص النظر إلى قلبه فإذا هو مهتد إلى الحق ... وتلك هي نظرة المتصوفة.

অজানা পৃষ্ঠা