যুক্তিসঙ্গত ও অযৌক্তিক আমাদের চিন্তাশীল ঐতিহ্যে

জাকি নাজিব মাহমুদ d. 1414 AH
102

যুক্তিসঙ্গত ও অযৌক্তিক আমাদের চিন্তাশীল ঐতিহ্যে

المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

জনগুলি

فها هنا صور يلاحق بعضها بعضا ليقوي بعضها بعضا ، حتى لكأنما هي صورة واحدة؛ باك ينوح وإلى جواره شاد يترنم، نعي ينقل الخبر المشئوم وإلى جواره بشير يهتف بالبشرى، حمامة تغمغم على غصن مياد فلا ندري أهو بكاء منها أم غناء؛ فهل يراد لنا أن نقف إزاء هذه الصور في ذاتها، لا نجاوز حدودها؟ كلا، بل المراد أن نتأمل الصور لتحدث النقلة منها إلى أشباهها مما قد خبرناه في حياتنا الماضية، فقد يعود إلى خاطري - بسبب حضور هذه الصور في ذهني - أمثلة خبرتها بنفسي وعشتها، إذ كنت أذوق من الشيء الواحد حلوه ومره معا، إنه لا جدوى من هذه الصورة التي رسمها الشاعر لحمامة تغمغم فلا ندري أبكاء هو أم غناء، ما لم تكن هذه الصورة مثيرة في نفسي لهذا السؤال الذي ما ينفك يعاودنا إزاء مئات المواقف وألوفها؛ ترى أيكون هذا الأمر خيرا أم يكون شرا؟ ولكن ماذا بعد أن يثير الشاعر من نفسي كوامنها؟ إنه بذلك يهيئ السبيل إلى المرحلة الثالثة والأخيرة، وهي أن تتبلور عندي في النهاية وجهة معينة للنظر؛ ففي حالة هذه الأبيات المذكورة، لا بد أن ينتهي بي الأمر إلى وقفة من يعلو على الحوادث، بحيث ينظر إليها فإذا هي عند العقل سواء، وإنها لنظرة من شأنها أن تشكل سلوكي في مواقف الحياة العملية، وهنا ننتقل إلى الجزء الثالث من عبارة الفارابي. (3)

ففي الجزء الثالث من النص الذي نعرضه، فنعرض به مذهبا متكاملا في طبيعة الشعر؛ يقول الفارابي: «إننا نفعل فيما تخيله لنا الأقاويل الشعرية ... كفعلنا فيها لو أن الأمر كما خيله لنا ذلك القول، وإن علمنا أن الأمر ليس كذلك، فإن الإنسان كثيرا ما تتبع أفعاله تخيلاته أكثر مما تتبع ظنه أو علمه؛ فإنه كثيرا ما يكون ظنه أو علمه مضادا لتخيله، فيكون فعله بحسب تخيله لا بحسب ظنه أو علمه.»

في هذا الجزء من عبارة الفارابي وصف لتأثر الإنسان بما يرتسم له في ذهنه من خيال، حتى وإن علم أن واقع الأمر لا يطابق هذا الخيال المرتسم، وهو جزء مليء باللفتات النفسية النافذة، فعلى الرغم من أن قارئ الشعر حين يجد نفسه إزاء صورة لا يشك في أنها نسج من وهم الشاعر، إلا أنه - من عجب - يصدر في سلوكه عما خيله له الشاعر، لا عن علمه هو بالواقع علما قد يضاد هذا الخيال! ولا يفوت الفارابي أن يلاحظ هذه الملاحظة العامة عن الطبيعة الإنسانية، وهي أنه إذا ما تعارض وهم الإنسان مع علمه بالواقع، فالأغلب جدا أن يميل الإنسان نحو التصرف وفق وهمه، غاضا نظره عن معرفته العقلية، مما حدا بفلاسفة المنهج العلمي جميعا ألا يدخروا من وسعهم وسعا ليلفتوا أنظار العلماء - ودع عنك عامة الناس - إلى هذه الحقيقة العجيبة من طبيعة الإنسان، وهي أنه يتأثر بأوهامه إلى الحد الذي يعميه عن رؤية الواقع كما هو، وحتى إن رأى الواقع رؤية واضحة، ولبثت أوهامه قائمة، كان الأرجح - إذا لم يلجم طبيعته الجامحة بالشكائم - أن يلبي نداء الوهم قبل أن يصغي إلى صوت الحقيقة الواقعة.

وعلى هذا الجانب من الفطرة البشرية يبني الفارابي خطوته الثالثة في مذهبه عن الفن الشعري؛ إذ يركن ركون الواثق أو يكاد، إلى أن الشعر إذا أجيد فيه التصوير كان قمينا أن يفتن القارئ فتنة تلهيه عن ذات نفسه، أي إنها تصرفه عن إدراكه الواعي، بحيث يواجه الصورة الخيالية، وكأنما هو يواجه أمرا واقعا، بل ما هو أقوى أثرا من الأمر الواقع.

والحق أن هذا موضع من مواضع السر في الفنون كلها، فمن ذا ينظر إلى المسرحية الجيدة ولا ينسى أنه إزاء عالم من خلق الفنان، فيكاد يضحك مع من يضحك على خشبة المسرح، ويبكي مع من يبكي، متوهما أنه إزاء عالم الحوادث الجارية؟

ونعود إلى عبارة الفارابي لنتتبع قوله عن أثر الشعر في استثارة قارئه إلى وقفة سلوكية؛ إذ يقول: «وإنما تستعمل الأقاويل الشعرية في مخاطبة إنسان يستنهض لفعل شيء ما، باستقرار إليه واستدراج نحوه:

وذلك إما أن يكون الإنسان المستدرج لا روية له ترشده فينهض نحو الفعل الذي يلتمس منه بالتخييل، فيقوم التخييل مقام الروية، وإما أن يكون إنسانا له روية في الذي يلتمس منه ولا يؤمن إذا روى فيه أن يمتنع، فيعاجل بالأقاويل الكاذبة؛ ليسبق بالتخييل رويته حتى يبادر إلى ذلك الفعل.»

وواضح من هذه الفقرة أن الناس من حيث الروية العقلية صنفان؛ فصنف منهما لا يصدر في أفعاله عن روية وتدبر، وإذن فالشعر أصلح ما يكون لهذه الطائفة من الناس؛ لأن الصور الخيالية التي يقدمها لهم الشاعر لن تجد في أنفسهم علما آخر يناقضها فيعوق فعلها، ولا غرابة إذن أن تزداد أهمية الشعر - من حيث هو حافز إلى السلوك - في أولى مراحل التاريخ، وفي الإنسان الفرد وهو في سورة شبابه، وأما الصنف الثاني من الناس، وهم أولئك الذين أخذ المنطق العقلي بزمامهم، فتراهم يقلبون الأمور على وجوهها قبل أن يأخذوا في العمل، كما راح هاملت يقلب الأمر على وجهيه: أبقاء أم فناء؟ قبل أن يهم بفعل معين في موقفه الذي كان فيه، فمهمة الشاعر إزاء هؤلاء أن يقطع عليهم تفكيرهم المنطقي الهادئ؛ ليدس في أنفسهم حافزا يحفزهم إلى سلوك معين قبل أن يحول تفكيرهم في العواقب دون التصرف على النحو المراد لهم أن يتصرفوا به؛ لهذا كله كان لا بد للأقاويل الشعرية - كما يقول الفارابي في جملته الختامية - «أن تجمل وتزين وتفخم ويجعل لها رونق وبهاء.» •••

تلك هي نظرية الفارابي في المضمون الشعري ماذا عساه أن يكون، وهي نظرية أوجزها وركزها في صفحة واحدة من كتاب، ولكنها جديرة منا بدرس وتحليل وتطبيق، يبرز منها جوانب قوتها ويظهر نواحي ضعفها، ومن النتائج القوية التي تتفرع عنها، حلها لإشكال ما ينفك قائما بين النقاد، وهو: هل يخضع الفن للأخلاق، أو أن القيمة الجمالية في الفنون مستقلة عن معايير الفضيلة؟ أو بعبارة تلوكها ألسنة النقاد اليوم؛ أيكون الفن هادفا أم لا يكون؟

إنني لو كنت لأختار لنفسي جوابا عن هذا السؤال، لما ترددت لحظة في التفرقة الفاصلة الحاسمة بين مجال الفن من ناحية ومجال الأخلاق من ناحية أخرى؛ فلكل من المجالين معياره، فلا فرق عند الفن بين أن يصور الفنان فضيلة أو أن يصور رذيلة، ما دام قد أجاد التصوير في كلتا الحالتين، وهذا هو «ملتن» يصور الله ويصور الشيطان فيجيد في الصورتين معا، بل لعله في تصوير الشيطان أجود وأقوى، وإذن فهو فنان بهذه كما هو فنان بتلك.

অজানা পৃষ্ঠা