شباك وفيقة (1)
شباك وفيقة (2)
حدائق وفيقة
أم البروم
أمام باب الله
الغيمة الغريبة
دار جدي
حنين في روما
الأم والطفلة الضائعة
النبوءة الزائفة
مدينة السراب
نبوءة ورؤيا
ذهبت
يا نهر
صياح البط البري
المعبد الغريق
أفياء جيكور
الشاعر الرجيم
لأني غريب
ابن الشهيد
فرار عام 1953
جيكور شابت
احتراق
سهر
الوصية
شباك وفيقة (1)
شباك وفيقة (2)
حدائق وفيقة
أم البروم
أمام باب الله
الغيمة الغريبة
دار جدي
حنين في روما
الأم والطفلة الضائعة
النبوءة الزائفة
مدينة السراب
نبوءة ورؤيا
ذهبت
يا نهر
صياح البط البري
المعبد الغريق
أفياء جيكور
الشاعر الرجيم
لأني غريب
ابن الشهيد
فرار عام 1953
جيكور شابت
احتراق
سهر
الوصية
المعبد الغريق
المعبد الغريق
تأليف
بدر شاكر السياب
شباك وفيقة (1)
شباك وفيقة في القرية،
نشوان يطل على الساحة (كجليل تنتظر المشية
ويسوع) وينشر ألواحه.
إيكار يمسح بالشمس
ريشات النسر وينطلق.
إيكار تلقفه الأفق،
ورماه إلى اللجج الرمس.
شباك وفيقة يا شجرة
تتنفس في الغبش الصاحي.
الأعين عندك منتظرة. •••
تترقب زهرة تفاح،
وبويب نشيد،
والريح تعيد
أنغام الماء على السعف، •••
ووفيقة تنظر في أسف
من قاع القبر وتنتظر؛
سيمر فيهمسه النهر،
ظلا يتماوج كالجرس،
في ضحوة عيد،
ويهف كحبات النفس،
والريح تعيد
أنغام الماء (هو المطر)،
والشمس تكركر في السعف:
شباك يضحك في الألق؟
أم باب يفتح في السور،
فتفر بأجنحة العبق
روح تتلهف للنور؟ •••
يا صخرة معراج القلب،
يا «صور» الألفة والحب،
يا دربا يصعد للرب،
لولاك لما ضحكت للأنسام القرية،
في الريح عبير
من طوق النهر يهدهدنا ويغنينا (عوليس
1
مع الأمواج يسير،
والريح تذكره بجزائر منسية: «شبنا يا ريح فخلينا»). •••
العالم يفتح شباكه،
من ذاك الشباك الأزرق
يتوحد، يجعل أشواكه
أزهارا في دعة تعبق. •••
شباك مثلك في لبنان،
شباك مثلك في الهند،
وفتاة تحلم في اليابان،
كوفيقة تحلم في اللحد
بالبرق الأخضر والرعد. •••
شباك وفيقة في القرية
نشوان يطل على الساحة، (كجليل تحلم بالمشية
ويسوع)
ويحرق ألواحه.
شباك وفيقة (2)
أطلي فشباكك الأزرق
سماء تجوع،
تبينته من خلال الدموع،
كأني بي ارتجف الزورق.
إذا انشق عن وجهك الأسمر،
كما انشق عن عشتروت المحار،
وسارت من الرغو في مئزر.
ففي الشاطئين اخضرار،
وفي المرفأ المغلق
تصلي البحار.
كأني طائر بحر غريب،
طوى البحر عند المغيب،
وطاف بشباكك الأزرق،
يريد التجاء إليه،
من الليل يربد عن جانبيه؛
فلم تفتحي،
ولو كان ما بيننا محض باب،
لألقيت نفسي لديك،
وحدقت في ناظريك.
هو الموت والعالم الأسفل،
هو المستحيل الذي يذهل.
تمثلت عينيك يا حفرتين،
تطلان سخرا على العالم،
على ضفة الموت بوابتين
تلوحان للقادم.
وشباكك الأزرق
على ظلمة مطبق،
تبدى كحبل يشد الحياة
إلى الموت كيلا تموت.
شفاهك عندي ألذ الشفاه،
وبيتك عندي أحب البيوت.
وماضيك من حاضري أجمل،
هو المستحيل الذي يذهل،
هو الكامل المنتهي لا يريد،
ولا يشتهى أنه الأكمل؛
ففي خاطري منه ظل مديد،
وفي حاضري منه مستقبل. •••
ترى جاءك الطائر الزنبقي؛
فحلقت في ذات فجر معه.
وألقى نعاس الصباح النقي
على حسك المشتكي برقعه.
وفتحت عينيك عند الأصيل
على مدرج أخضر.
وكان انكسار الشعاع الدليل
إلى التل والمنزل المرمر.
هناك المساء اخضرار نحيل
من التوت والظل والساقية.
وفي الباب مد الأمير الجميل
ذراعيه يستقبل الآتية: «أميرتي الغالية،
لقد طال منذ الشتاء انتظاري،
ففيم التأني وفيم الصدود؟» •••
وهيهات أن ترجعي من سفار،
وهل ميت من سفار يعود؟
جيكور، 29 / 4 / 1961
حدائق وفيقة
لوفيقة
في ظلام العالم السفلي حقل،
فيه مما يزرع الموتى حديقة.
يلتقي في جوها صبح وليل،
وخيال وحقيقة.
تنعس الأنهار فيها وهي تجري،
مثقلات بالظلال،
كسلال من ثمار كدوال،
سرحت دون حبال.
كل نهر
شرفة خضراء في دنيا سحيقة،
ووفيقة
تتمطى في سرير من شعاع القمر،
زنبقي أخضر.
في شحوب دامع فيه ابتسام،
مثل أفق من ضياء وظلام،
وخيال وحقيقة.
أي عطر من عطور الثلج وان،
صعدته الشفتان،
بين أفياء الحديقة.
يا وفيقة؟
والحمام الأسود،
يا له شلال نور منطفي!
يا له نهر ثمار مثلها لم يقطف!
يا له نافورة من قبر تموز المدمى تصعد!
والأزاهير الطوال، الشاحبات، الناعسة
في فتور عصرت أفريقيا فيه شذاها
ونداها.
تعزف النايات في أظلالها السكرى عذارى لا نراها.
روحت عنها غصون هامسة،
ووفيقة
لم تزل تثقل جيكور رؤاها.
آه لو روى نخيلات الحديقة
من بويب كركرات! لو سقاها
منه ماء المد في صبح الخريف!
لم تزل ترقب بابا عند أطراف الحديقة،
ترهف السمع إلى كل حفيف.
ويحها ... ترجو ولا ترجو وتبكيها مناها:
لو أتاها ...
لو أطال المكث في دنياه عاما بعد عام،
دون أن يهبط في سلم ثلج وظلام.
ووفيقة
تبعث الأشذاء في أعماقها ذكرى طويلة،
لعشيش بين أوراق الخميلة،
فيه من بيضاته الزرق اتقاد أخضر. (أي أمواج من الذكرى رفيقة.)
كلما رف جناح أسمر
فوقها، والتم صدر لامعات فيه ريشات جميلة،
أشعل الجو الخريفي الحنان،
واستعاد الضمة الأولى وحواء الزمان.
تسأل الأموات من جيكور عن أخبارها،
عن رباها الربد، عن أنهارها.
آه، والموتى صموت كالظلام،
أعرضوا عنها ومروا في سلام.
وهي كالبرعم تلتف على أسرارها.
والحديقة
سقسق الليل عليها في اكتئاب،
مثل نافورة عطر وشراب.
وخيال وحقيقة
بين نهديك ارتعاش يا وفيقة.
فيه برد الموت باك.
واشرأبت شفتاك.
تهمسان العطر في ليل الحديقة.
12 / 8 / 1961
أم البروم
المقبرة التي أصبحت جزءا من المدينة
رأيت قوافل الأحياء ترحل عن مغانيها،
تطاردها وراء الليل أشباح الفوانيس.
سمعت نشيج باكيها،
وصرخة طفلها وثغاء صاد من مواشيها.
وفي وهج الظهيرة صارخا «يا حادي العيس.»
على ألم مغنيها.
ولكن لم أر الأموات يطردهن حفار
من الحفر العتاق وينزع الأكفان عنها أو يغطيها.
ولكن لم أر الأموات قبل ثراك يجليها
مجون مدينة وغناء راقصة وخمار.
يقول رفيقي السكران: «دعها تأكل الموتى
مدينتنا لتكبر، تحضن الأحياء، تسقينا
شرابا من حدائق برسفون،
1
تعلنا حتى
تدور جماجم الأموات من سكر مشى فينا!»
مدينتنا منازلها رحى ودروبها نار.
لها من لحمنا المعروك خبز فهو يكفيها ...
علام تمد للأموات أيديها، وتختار،
تلوك ضلوعها وتقيئها للريح تسفيها؟
تسلل ظلها الناري من سجن ومستشفى
ومن مبغى ومن خمارة ... من كل ما فيها،
وسار على سلالم نومنا زحفا،
ليهبط في سكينة روحنا ألما فيبكيها.
وكانت إذ يطل الفجر تأتيك العصافير
تساقط، كالثمار على القبور، تنقر الصمتا،
فتحلم أعين الموتى
بكركرة الضياء وبالتلال يرشها النور،
وتسمع ضجة الأطفال أم ثلاثة ضاعوا،
يتامى في رحاب الأرض: إن عطشوا وإن جاعوا،
فلا ساق ولا من مطعم في الكوخ ظلوا واعتلى النعش
رءوس القوم والأكتاف ... أفئدة وأسماع،
ولا عين ترى الأم التي منها خلا العش.
وفي الليل
إذا ما ذرذر الأنوار في أبد من الظلمة،
ودبت طفلة الكفين، عارية الخطى نسمة،
تلم من المدينة، كالمحار وكالحصى من شاطئ رمل،
نثار غنائها وبكائها لم تترك العتمة،
سوى زبد من الأضواء منثور،
يذوب على القبور كأنه اللبنات في سور،
يباعد عالم الأموات عن دنيا من الذل،
من الأغلال والبوقات والآهات والزحمة،
وأوقدت المدينة نارها في ظلة الموت،
تقلع أعين الأموات ثم تدس في الحفر
بذور شقائق النعمان، تزرع حبة الصمت؛
لتثمر بالرنين من النقود، وضجة السفر،
وقهقهة البغايا والسكارى في ملاهيها.
وعصرت الدفين من النهود بكل أيديها،
تمزقهن بالعجلات والرقصات والزمر،
وتركلهن كالأكر،
تفجرها الرياح على المدارج في حواشيها.
وحيث تلاشت الرعشات والأشواق والوجد،
وعاد الحب ملمس دودة وأنين إعصار،
تثاءبت المدينة عن هوى كتوقد النار.
تموت بحرها ورمادها ودخانها الهاري،
ويا لغة على الأموات أخفى من دجى الغابة،
ترددها المقاهي: «ذلك الدلال جاء يريد أتعابه.»
إذا سمعوك رن كأنه الجرس الجديد يرن في السحر.
صدى من غمغمات الريف حول مواقد السمر: «إذا ما هزت الأنسام مهد السنبل الغافي،
وسال أنين مجداف
كأن الزورق الأسيان منه يسيل في حلم،
عصرت يدي من ألم.»
فأين زوارق العشاق من سيارة تعدو
ببنت هوى؟ وأين موائد الخمار من سهل يمد موائد القمر؟
على أمواتك المتناثرين بكل منحدر
سلام جال فيه الدمع والآهات والوجد،
على المتبدلات لحودهم والغاديات قبورهم طرقا،
وطيب رقادهم أرقا،
يحن إلى النشور ويحسب العجلات في الدرب،
ويرقب موعد الرب.
21 / 7 / 1961
أمام باب الله
منطرحا أمام بابك الكبير
أصرخ في الظلام أستجير:
يا راعي النمال في الرمال ،
وسامع الحصاة في قرارة الغدير،
أصيح كالرعود في مغاور الجبال،
كآهة الهجير.
أتسمع النداء يا بوركت تسمع.
وهل تجيب إن سمعت؟
صائد الرجال
وساحق النساء، أنت يا مفجع.
يا مهلك العباد بالرجوم والزلازل،
يا موحش المنازل،
منطرحا أمام بابك الكبير
أحس بانكسارة الظنون في الضمير.
أثور؟ أغضب؟
وهل يثور في حماك مذنب؟! •••
لا أبتغي من الحياة غير ما لدي:
الهري بالغلال يزحم الظلام في مداه،
وحقلي الحصيد نام في ضحاه،
نفضت من ترابه يدي.
ليأت في الغداة،
سواي زارعون أو سواي حاصدون!
لتنثر القبور والسنابل السنون!
أريد أن أعيش في سلام،
كشمعة تذوب في الظلام،
بدمعة أموت وابتسام.
تعبت من توقد الهجير،
أصارع العباب فيه والضمير،
ومن ليالي مع النخيل والسراج والظنون.
أتابع القوافي
في ظلمة البحار والفيافي،
وفي متاهة الشكوك والجنون.
تعبت من صراعي الكبير،
أشق قلبي أطعم الفقير،
أضيء كوخه بشمعة العيون،
أكسوه بالبيارق القديمة،
تنث من رائحة الهزيمة.
تعبت من ربيعي الأخير،
أراه في اللقاح والأقاح والورود،
أراه في كل ربيع يعبر الحدود.
تعبت من تصنع الحياة،
أعيش بالأمس، وأدعو أمسي الغدا.
كأنني ممثل من عالم الردى،
تصطاده الأقدار من دجاه،
وتوقد الشموع في مسرحه الكبير،
يضحك للفجر وملء قلبه الهجير.
تعبت كالطفل إذا أتعبه بكاه! •••
أود لو أنام في حماك،
دثاري الآثام والخطايا،
ومهدي اختلاجة البغايا،
تأنف أن تمسني يداك.
أود لو أراك ... من يراك؟
أسعى إلى سدتك الكبيرة
في موكب الخطاة والمعذبين،
صارخة أصواتنا الكسيرة
خناجرا تمزق الهواء بالأنين: «وجوهنا اليباب
كأنها ما يرسم الأطفال في التراب،
لم تعرف الجمال والوسامة.
تقضت الطفولة. انطفا سنا الشباب
وذاب كالغمامة،
ونحن نحمل الوجوه ذاتها،
لا تلفت العيون إذ تلوح للعيون
ولا تشف عن نفوسنا، وليس تعكس التفاتها.
إليك يا مفجر الجمال، تائهون
نحن، نهيم في حدائق الوجوه. آه
من عالم يرى زنابق الماء على المياه
ولا يرى المحار في القرار،
واللؤلؤ الفريد في المحار!» •••
منطرحا أصيح، أنهش الحجار: «أريد أن أموت يا إله!»
26 / 8 / 1961
الغيمة الغريبة
المومس الأجيرة الحقيرة
أكثر من حبيبتي سخاء.
أتيتها مساء
معانقا ... أعانق الهواء،
هب من القطب على الظهيرة،
مقبلا عيونها الخواء،
كأنني كيشوت في الأصيل
يركض خلف ظله الطويل،
ويطعن السنابل الكسيرة،
يظنها الأعداء.
ضممت منها جثة بيضاء،
تكفنت من داخل، وقبرها
في جوفها تناءى.
حملت منها صخرة صماء
تشدني إلى الثرى،
أرفعها لتلثم الجوزاء.
الحب أن تبذل أن تنال ما تريد
كالنبع إذ يدفق، لا كالبئر،
كالنار تطوي نحوك السماء،
لا شرر الزناد.
أستزيد
فألتقي دمي، كغيمة تعيد نفسها للبحر.
أتعلم السحابة المرعدة المبرقة المجلجلة،
بأن ماءها سيستحيل غيمة إليها مقبلة،
تبذله في الفجر
وتلتقي به قبيل العصر؟
أريد أن أضم، أن أقبل.
الدم الذي ينبض في الشفاه
كأنما القلب الذي يقبل.
الجسد الموات لا يحس شهقة الأله.
تغور كالمدية حين تقتل،
فتبعث الحياة في القتيل.
أريد أن أحرق كالحريق من أخيل:
في القلب واليدين والكعبين،
ويأكل النار لظى في عيني.
لو كان ما تحسه الحبيبة
الألم، الدوار ... لا الخواء،
ما كنت مثل غيمة غريبة،
ترعد حتى تشعل الهواء
رعدا،
وتأبى الأرض أن تجيبه!
البصرة، 22 / 12 / 1961
دار جدي
مطفأة هي النوافذ الكثار،
وباب جدي موصد وبيته انتظار،
وأطرق الباب فمن يجيب، يفتح؟
تجيبني الطفولة، الشباب منذ صار،
تجيبني الجرار جف ماؤها، فليس تنضح: «بويب»، غير أنها تذرذر الغبار.
مطفأة هي الشموس فيه والنجوم.
الحقب الثلاث منذ أن خفقت للحياة
في بيت جدي، ازدحمن فيه - كالغيوم
تختصر البحار في خدودهن والمياه.
فنحن لا نلم بالردى من القبور،
فأوجه العجائز
أفصح في الحديث عن مناجل العصور
من القبور فيه والجنائز.
وحين تقفز البيوت من بناتها
وساكنيها، من أغانيها ومن شكاتها،
نحس كيف يسحق الزمان إذ يدور. •••
أأشتهيك يا حجارة الجدار، يا بلاط، يا حديد، يا طلاء؟
أأشتهي التقاءكن مثلما انتهى إلي فيه؟
أم الصبا صباي والطفولة اللعوب والهناء؟
وهل بكيت أن تضعضع البناء
وأقفر الفناء أم بكيت ساكنيه؟
أم أنني رأيت في خرابك الفناء
محدقا إلي منك، من دمي
مكشرا من الحجار؟ آه، أي برعم
يرب فيك؟ برعم الردى! غدا أموت،
ولن يظل من قواي ما يظل من خرائب البيوت.
لا أنشق الضياء، لا أعضعض الهواء،
لا أعصر النهار أو يمصني المساء. •••
كأن مقلتي، بل كأنني انبعثت (أورفيوس)،
تمصه الخرائب الهوى إلى الجحيم،
فيلتقي بمقلتيه، يلتقي بها، بيورديس: «آه يا عروس
يا توءم الشباب، يا زنبقة النعيم!»
طريقه ابتناه بالحنين والغناء:
براعم الخلود فتحت له مغالق الفناء.
وبالغناء، يا صباي، يا عظام، يا رميم،
كسوتك الرواء والضياء. •••
طفولتي، صباي، أين ... أين كل ذاك؟
أين حياة لا يحد من طريقها الطويل سور
كشر عن بوابة كأعين الشباك
تفضي إلى القبور؟
والكون بالحياة ينبض: المياه والصخور
وذرة الغبار والنمال والحديد.
وكل لحن، كل موسم، جديد:
الحرث والبذار والزهور.
وكل ضاحك فمن فؤاده، وكل ناطق فمن فؤاده،
وكل نائح فمن فؤاده. والأرض لا تدور،
والشمس، إذ تغيب، تستريح كالصغير في رقاده.
والمرء لا يموت إن لم يفترسه في الظلام ذيب،
أو يختطفه مارد، والمرء لا يشيب (فهكذا الشيوخ منذ يولدون؛
الشعر الأبيض والعصي والذقون). •••
وفي ليالي الصيف حين ينعس القمر
وتذبل النجوم في أوائل السحر،
أفيق أجمع الندى من الشجر
في قدح، ليقتل السعال والهزال.
وفي المساء كنت أستحم بالنجوم،
عيناي تلقطانهن نجمة فنجمة، وراكب الهلال
سفينة ... كأن سندباد في ارتحال:
شراعي الغيوم
ومرفئي المحال،
وأبصر الله على هيئة نخلة، كتاج نخلة يبيض في الظلام،
أحسه يقول: «يا بني، يا غلام،
وهبتك الحياة والحنان، والنجوم
وهبتها لمقلتيك، والمطر
للقدمين الغضتين، فاشرب الحياة
وعبها، يحبك الإله.» •••
أهكذا السنون تذهب؟
أهكذا الحياة تنضب؟
أحس أنني أذوب، أتعب،
أموت كالشجر.
حنين في روما
يتثاءب جسمك في خلدي
فتجن عروق،
عريان تزلق في أبد
تنهيه الرعشة، فهي شروق
في ليل الشهوة. كل دمي
يتحرق، يلهث، ينفجر،
ويقبل ثغرك ألف فم،
في جسمي تنبتها سقر،
وأحن، أتوق. •••
وأحس عبيرك في نفسي
ينهد، يدندن كالجرس. •••
ووليمة جسمك يا واها،
ما أشهاها! •••
يا فجر الصيف إذا بردا،
يا دفء شتائي، يا قبلا أتمناها،
أحيا منها ، وأموت بها، وأضم الأمس
أمس غدا. •••
وتعود اللحظة لي أبدا.
ما أنأى بيتك ما أنأى عينك بحار،
وجبال دم: زمن جمدا
ليعود مدى. وأجن، أثار،
فأحس عبيرك في نفسي
ينهد، يدندن كالجرس.
ما أسعدها، ما أشقاها؟!
أرضي، آسية العريانة،
أنا في روما أبكيها وأعيش بذكراها،
ألأنك فيها أهواها؟ •••
من جوع صغارك يا وطني، أشبعت الغرب وغربانه.
صحراء من الدم تعوي، ترجف مقروره،
ومرابط خيل مهجورة،
ومنازل تلهث أوها،
ومقابر ينشج موتاها. •••
وأحس عبيرك في نفسي
ينهد، يدندن كالجرس،
لو شئت لطيفك أوروبا
وطنا، لحملت معي زادي،
وعبرت مرافئها، وطويت شوارعها دربا دربا،
أسقيه الشمس وأطعمه قبلا وبراعم أوراد.
لكنك أثبت في الشرق ...
سأعود فأقطع سلمنا وثبا؛
لأضمك يا أبد الشوق.
يا نور المرفأ يهدي القلب إذا تاها،
يا قصة عنتر إذ تروى حول التنور فأحياها،
سأحس عبيرك في نفسي،
ينثال ويقرع كالجرس.
روما، 19 / 10 / 1961
الأم والطفلة الضائعة
قفي، لا تغربي، يا شمس، ما يأتي مع الليل
سوى الموتى. فمن ذا يرجع الغائب للأهل،
إذا ما سدت الظلماء
دروبا أثمرت بالبيت بعد تطاول المحل؟
وأن الليل ترجف أكبد الأطفال من أشباحه السوداء،
من الشهب اللوامح، فيه مما لاذ بالظل
من الهمسات والأصداء.
شعاعك مثل خيط اللابرنث، يشده الحب
إلى قلب ابنتي من باب داري، من جراحاتي،
وآهاتي.
مضى أزل من الأعوام: آلاف من الأقمار، والقلب.
يعد خوافق الأنسام، يحسب أنجم الليل،
يعد حقائب الأطفال، يبكي كلما عادوا
من الكتاب والحقل.
ويا مصباح قلبي، يا عزائي في الملمات،
منى روحي، ابنتي: عودي إلي فها هو الزاد.
وهذا الماء. جوعى؟ هاك من لحمي.
طعاما. آه! عطشى أنت يا أمي؟
فعبي من دمي ماء وعودي ... كلهم عادوا.
كأنك برسفون تخطفتها قبضة الوحش.
وكانت أمها الولهى أقل ضنى وأوهاما
من الأم التي لم تدر أين مضيت!
في نعش؟
على جبل؟ بكيت؟ ضحكت؟ هب الوحش أم ناما؟
وحين تموت نار الليل، حين يعسعس الوسن
على الأجفان، حين يفتش القصاص في النار؛
ليلمح من سفينة سندباد ذوائب الصاري ،
ويخفت صوته الوهن،
يجن دمي إليك، يحن، يعصرني أسى ضار.
مضت عشر من السنوات، عشرة أدهر سود.
مضى أزل من السنوات، منذ وقفت في الباب
أنادي، لا يرد علي إلا الريح في الغاب،
تمزق صيحتي وتعيدها ... والدرب مسدود.
بما تتنفس الظلماء من سمر وأعناب.
وأنت كما يذوب النور في دوامة الليل،
كأنك قطرة الطل
تشربها التراب ... أكاد من فرق وأوصاب
أسائل كل ما في الليل من شبح ومن ظل،
أسائل كل ما طفل: «أأبصرت ابنتي؟ أرأيتها؟ أسمعت ممشاها؟»
وحين أسير في الزحمة
أصغر كل وجه في خيالي: كان جفناها
كغمغمة الشروق على الجداول تشرب الظلمة،
وكان جبينها ... وأراك في أبد من الناس
موزعة، فآه لو أراك وأنت ملتمة.
وأنت الآن في سحر الشباب، عصيره القاسي
يغلغل في عروقك، ينهش النهدين والثغرا.
وينشر حولك العطرا،
فيحلم قلبك المسكين بين النور والعتمة،
بشيء لو تجسد كان فيه الموت والنشوة!
وأذكر أن هذا العالم المنكود تملأ كأسه الشقوة،
وفيه الجوع والآلام فيه الفقر والداء.
أأنت فقيرة تتضرع الأجيال في عينيك، فهي فم
يريد الزاد، يبحث عنه والطرقات ظلماء؟
أحدق في وجوه السائلات أحالها السقم،
ولونها الطوى، فأراك فيها أبصر الأيدي
تمد، أحس أن يدي ... يدي معهن تعرض زرقة البرد.
على الأبصار وهي كأنهن أدارها صنم،
تجمد في مدى عينيه أدعية وسال دم،
فأصرخ «في سبيل الله» تخنق صوتي الدمعة
بخيط الملح والماء.
وأنت على فمي لوعة.
وفي قلبي، وضوء شع ثم خبا بلا رجعة.
وخلفني أفتش عنه بين دجى وأصداء.
البصرة، 6 / 10 / 1961
النبوءة الزائفة
وكانت تجمع في خاطري
خيوط ضبابية قاتمة،
نهاياتها في المدى عائمة،
وأعراقها السود في ناظري.
ودارت خيوط ولفت سواها،
فعانقن أفقا،
ووسوسن غيما على الريح ملقى،
تجمع من كل صوب، ورعدا وبرقا:
لقد أغضب الآثمون الإلها،
وحق العقاب!
يا أفراس الله استبقي،
يا خيلا من نار وسحاب،
من وقع سنابك الرعد،
والبرق الأزرق في الأفق.
وصهيلك صور لظى وعذاب،
الوعد! لقد أزف الوعد.
فيا قبضة الله، يا عاصفات،
ويا قاصفات ، ويا صاعقة،
ألا زلزلي ما بناه الطغاة
بنيرانك الماحقة!
وتلتم في خاطري
خيوط السحاب،
وتلقى على الأفق الدائر
وراء القباب:
وأحسست أن الغيوم انتظار،
وأن انتظارا يشد التراب،
وأصدى ... بماذا؟
بصوت انفجار.
على الشط واد وزم الشرار.
ورقعت بالنظرة الشامتة
ثقوب الكوى الصامتة:
سيندك سور، ستنصب نار.
وكان انتظار.
وجمعت الأرض أطباقها:
سيندك سور، ستنصب نار،
وعصرت السحب أعراقها
فبل الثرى عاصف ممطر!
جيكور، 3 / 11 / 1961
مدينة السراب
عبرت أوروبا إلى آسية،
وما انطوى النهار.
كأنما الجبال والبحار
ربى وأطراف من الساقية
يطفرها الصغار.
بين شروق الشمس والغروب
تعانق الشمال والجنوب،
ونامت المروج في القفار.
وأنت يا ضجيعتي، كأنك الكواكب البعيدة،
كأن بيننا من الكرى جدار.
تضمك اليدان تعصران جثة بليدة،
كأنني معانق دمي على حجار
في منزل لصوصه الرياح والهجير والغيوم،
مساؤه السكون والنجوم
وصبحه انتظار.
ترامت السنون بيننا: دما ونار،
أمدها جسور
فتستحيل سور،
وأنت في القرار من بحارك العميقة.
أغوص لا أمسها، تصكني الصخور،
تقطع العروق في يدي، أستغيث: «آه يا وفيقة!
يا أقرب الورى إلي أنت يا وفيقة
للدود والظلام».
عشر سنين سرتها إليك، يا ضجيعة تنام
معي وراء سورها، تنام في سرير ذاتها،
وما انتهى السفار
إليك يا مدينة السراب، يا ردى حياتها.
عبرت أوروبا إلى آسية
وما انطوى النهار،
وأنت يا ضجيعتي، مدينة نائية،
مسدودة أبوابها وخلفها وقفت في انتظار.
البصرة، 2 / 11 / 1961
نبوءة ورؤيا
(تنبأ عراف هندي بأن الحياة على الأرض ستنتهي يوم 2 شباط سنة 1962.)
نبوءتك المريرة عذبتني، مزقت روحي؛
نبوءتك الرهيبة، أيها العراف تبكيني؛
رأيت مسالك الأفلاك تهرع بالملايين.
قرأت خواطر الريح
ووسوسة الظلام كأن حقلا بات ينتحب: «ستنطفئ الحياة»، ورحت ترسم موعد القدر.
إذا حدجتني الشهب
هتفت بها: «غدا سنموت. فانهمري على البشر:
لأهون أن أموت لديك وحدي دون حشرجة ولا أنة
من القدر المروع يجرف الأحياء بالآلاف.»
ولكني أصيخ إلى النهار فأسمع العراف
يهدد: «سوف يهلك من عليها، سوف تلتهب.»
وتسرب في دمي جنه.
وحين رقدت أمس رأيت في ظلموت أحلامي.
رؤى تتلاحق الأنفاس منها ثم تنقطع.
أفقت وما تزال تضيء في خلدي وتندلع.
كما يتفجر البركان في ظلمات ليل دون أنسام،
بلا قمر وإن يك في المحاق أكاد أقتلع.
أكاد أمزق الدم في عروقي بارتعادة روحي الحيرى ...
أكاد أعانق القبرا.
أرى أفقا وليلا يطبقان علي من شرفة.
ولي ولزوجتي، في الصمت، عند حدودها وقفة.
نحدق في السماء ونمنع الطفلين من نظر
إلى ما في دجاها الراعب المأخوذ من سقر،
تطفأت الكواكب وهي تسقط فيه كالشرر
تطفأ تحت ذيل الريح وهي تسفه سفا،
كأن عصا تسوق مواكب الأفلاك في صحراء من ظلم،
ويلهث تحتنا الآجر، يزحف تحتنا زحفا ...
تضعضع فهو يمسك نفسه ويئن من ألم،
ليهوي حين يغفل، حين يعجز ثم ينهار:
دجى نثرت بها نار.
بني إليك صدري، فيه فادفن وجهك الطفلا.
بني صه أقص عليك ... أية قصة عندي؟
تفجرت الفقاعة وانتهى أبد إلى حد:
علام أتيت للدنيا؟
ليدرك عمرك الليلا؟
لتحيا أربع السنوات، ثم لتبصر الساعة
تقوم ولست تدرك ما تراه؟ تريد أن تحيا
وتجهل أن موتك فيه بعثك، أن للدنيا
نهاية سلم يفضي إلى أبد من الملكوت.
قلبك؟ آه ... من راعه؟
بكاؤك وارتعابك فيهما لله إحراج.
وباسمهما أسائله الحساب: أتصرع الأطفال
لتشهد لوعة الآباء؟ تسعد قلبك الآمال
تخيب!
يكاد يهوي من صراخي عنده التاج،
ويهدم عرشه ويخر، تطفأ حوله الآباد والآزال.
ويقطر لابن آدم قلبه ألما وينفطر.
بغداد، 26 / 11 / 1961
ذهبت
ذهبت فاستحال بعدك النهار
كأنه الغروب،
كأنما سحبت من خيوطه النضار.
وظلل المدارج انكسار.
ومثلها انكسرت، غام في خيالي الجنوب.
ينوء بالخريف.
تعرت الكروم والجداول انطفأن، والحفيف
يموت في ذرى النخيل، والدروب،
بصمتها، انتظار.
كحل عينيك سواد نار.
تشب من قلبك، من براعم النهود،
يهتف بي إذا نظرت: أنت في استعار.
يا أيها البركان من ورود.
أواه لو أشد عينيك إلى النهار،
إلى غد فوق دمي يحوم.
أي سماء أشعلتها رعشة النجوم.
وأثقل الظلام فيها من ندى المطر.
نظرت من قرارها إلي كالغيوم
تكن في اربدادها الزهر!
يا نظرة تخطفتني ريحها السموم
إلى الضفاف الخضر من نهر.
غرقت فيه أشعليني! أطفئي اللهيب.
يا نظرة يشد قلبي بالسما وتر.
يعزف مرها عليه غنوة القمر.
20 / 1 / 1962
يا نهر
يا نهر عاد إليك من أبد اللحود ومن خواء الهالكين
راعيك في الزمن البعيد، يسرح البصر الحزين
في ضفتيك، ويسأل الأشجار عندك عن هواه.
أوراقها سقطت وعادت، ثم أذبلها الخريف.
وتبدلت عشرين مرة.
هيهات يسمع إذ توسوس في الدجى أصداء آه.
بالأمس أطلقها لديك ترن في جرس الحفيف.
كم قبلة عادت دوائر في مياهك مستسرة.
دنياه كانت أمس فيك، فهل تعود إلى الحياة؟
ليود من شغف بمائك لو غدا.
ظلا يداعب فيه جنياته
متعلقا بشراع كل سفينة؛
ليجاذب الملاح أغنياته،
وتلوذ أنوار النجوم بصدره،
وتراقص الأمواج من ضحكاته.
ما أخيب الموتى إذا رجعوا إلى الدنيا القديمة.
وتلصصوا يتطلعون كما تطلع من كوى دار شريد.
ورأى ثمار الجمر سار عصيرها دفئا وجال عبيرها المهدود،
ما أخيب الموتى تكاد تحيل موتهم الهزيمة
شيئا أمر من الحياة.
ما أخيب الموتى! تغير كل شيء كل باق
مما أطل على الحياة لأنهم كانوا كواه،
أم مات ما عرفوه إذ ماتوا فليس سوى رؤاه؟
فتكبدوا ألم الفراق،
ألم التغرب مرتين. فيا ضفاف النهر، يا أمواجه ومحاره،
ماذا تبقى فيك من أمس الهوى؟
الدوح أسلم للبلى ورقاته،
وهي التي سمعت لديك حواره،
وهي التي أودعت فيها، في الضحى،
قبلاتنا وطويت فيها ناره،
إني ذويت مع الظلام كما ذوى.
يا ليت لي شفة فتلثم أو يدا فتمس ماءك.
إني لأكثر من غريب غربة وأشد حيرة؛
لم يبق فيك سوى الزمان، وليس مما فيك قطرة
من ماء أمس. كأن فجرك عاد قبل غد مساءك،
وكأن ضفتك الحبيبة ضفة الأبد البعيد.
يا نهر إن وردتك «هالة» والربيع الطلق في نيسانه،
ولى صباها فهي ترتجف الكهولة، وهي تحلم بالورود،
في حين أثقلها الجليد، كأن نبعا في اللحود.
تمتص منه عروقها دمها، فقل: لم ينس عهدك
وهو في أكفانه.
أبو الخصيب، 2 / 2 / 1962
صياح البط البري
وذرى سكون الصباح الطويل
هتاف من الديك لا يصدأ.
وهز الصدى سعفات النخيل،
وأشرق شباكنا المطفأ.
هتاف سمعناه منذ الصغر،
سمعناه حتى نموت.
يمر على عتبات البيوت.
فيرسم أبوابها والحجر.
ولا يهدأ
إلى أن تسير الحقول
إلينا فنقطف منها الثمر. •••
وعند الضحى وانسكاب السماء
على الطين والعشبة اليابسة،
يشق إلينا غصون الهواء
صياح، بكاء، غناء، نداء
يبشر شطآننا اليائسة
بأن المطر
على مهمه الريح مد القلوع،
هو البط ... فلتهنئي يا شموع.
بموت به تعرفين الحياة.
به تعرفين ابتسام الدموع:
نذورا تذوبين للأولياء.
صياح ... كأن الصياح
ينشر، مما انطوى من رياح
سهولا وراء السهول،
أزاهيرها في الدجى من نباح.
وعند النهار خزامى، أقاح
وختمية ما لها من ذيول ...
ينشر في شاطئ مشمس
من القصب الكث غابا له عذبات تطول.
صياح كأجراس ماء ... كأجراس حقل من النرجس
يدندن والشمس تصغي، يقول
بأن المطر
سيهطل قبل انطواء الجناح،
وقبل انتهاء السفر ...
18 / 3 / 1962
المعبد الغريق
خيول الريح تصهل، والمرافئ يلمس الغرب
صواريها بشمس من دم، ونوافذ الحانة
تراقص من وراء خصاصها سرج، وجمع نفسه الشرب.
بخيط من خيوط الخوف مشدودا إلى قنينة، ويمد آذانه إلى المتلاطم الهدار عند نوافذ الحانة.
وحدث - وهو يهمس جاحظ العينين، مرتعدا،
يعب الخمر - شيخ عن دجى ضاف وأدغال
تلامح وسطها قمر البحيرة يلثم العمدا ...
يمس الباب من جنبات ذاك المعبد الخالي.
طواه الماء في غلس البحيرة بين أحراش مبعثرة وأدغال.
هنالك قبل ألف، حين مج لظاه من سقر،
فم يتفتح البركان عنه فتنفض الحمى
قرارة كل ما في الواد من حجر على حجر،
تفجر باللظى رحم البحيرة ينثر الأسماك والدم، مرغيا سما،
وقر عليه كلكل معبد عصفت به الحمى.
تطفأ في المباخر جمرها وتوهج الذهب
ولاح الدر والياقوت أثمارا من النور،
نجوما في سماء تزحف دونها السحب،
تمرغ فوقها التمساح ثم طفا على السور؛
ليحرس كنزه الأبدي حتى عن يد الظلماء والنور •••
وأرسى الأخطبوط فنار موت يرصد البابا،
سجا في عينه الصوراء صبح كان في الأزل ...
تهزأ بالزمان، يمر ليل بعد ليل وهو ما غابا .
ففيم غرور هذا الهالك الإنسان، هذا الحاضر المشدود بالأجل؟
أعمر ألف عام؟ ليته شهد الخلائق وهي تعبر شرفة الأزل؟ •••
ألا يا ليته شهد السلاحف: تسحق الدنيا
قياصرها، ويمنع درعها ما صوب الزمن
إليها من سهام الموت!
لكن الذي يحيا
بقلب يعبر الآباد، يكسر حده الوهن؛
فيصمت، عمره أزل يمس حدوده أبد من الأكوان في دنيا،
هنالك ألف كنز من كنوز العالم الغرقى.
ستشبع ألف طفل جائع وتقيل آلافا من الداء،
وتنقذ ألف شعب من يد الجلاد، لو ترقى
إلى فلك الضمير!
أكل هذا المال في دنيا الأرقاء
ولا يتحررون؟ وكيف وهو يصفد الأعناق،
يربطها إلى الداء؟
كأن الماء في ثبج البحيرة يمنع الزمنا
فلا يتقحم الأغوار، لا يخطو إلى الغرف.
كأن على رتاج الباب طلسما، فلا وسنا
ولكن يقظة أبد، ولا موت يحد حدود ذاك الحاضر الترف،
كأن تهجد الكهان نبع في ضمير الماء يدفق منه للغرف.
إذن ما عاد من سفر إلى أهليه عوليس ...
إذن فشراعه الخفاق يزرع فائر الأمواج،
بما حسب الشهور وعد حتى هده البؤس.
فيا عوليس ... شاب فتاك، مبسم زوجك الوهاج
غدا حطبا. ففيم تعود، تفري نحو أهلك أضلع الأمواج،
هلم فماء شيني
1
في انتظارك يحبس الأنفاس
فما جرحته نقرة طائر أو عكرته أنامل النسم. •••
هلم فإن وحشا فيه يحلم فيك دون الناس.
ويخشى أن تفجر عينه الحمراء بالظلم،
وأن كنوزه العذراء تسأل عن شراعك خافق النسم.
أما فجعتك في طروادة الآهات من جرحى
ومحتضرين؟
يا لدم أريق فلطخ الجدران،
ورد ترابها الظمآن طينا، رده جرحا
كبيرا واحدا، جرحا تفتح في حشا الإنسان
ليصرخ بالسماء.
فيا لصوت رددته نوافذ الحجرات والجدران: «لأجل فجور أنثى واتقاد متوج بالثار
تخضب من دم المهجات حتى سلم الأفن؛
وحل بلا أوان يومنا، وتساوت الأعمار
كزرع منه ساوى منجل ...
وهناك في الشفق
تنوح نساؤنا المترملات، يولول الأطفال عند مدارج الأفق.»
هلم فقد شهدت كما شهدت دما وأشلاء:
تفجر في بلادي قمقم ملأته بالنار
دهور الجوع والحرمان.
أي خليقة قاء؟
رأينا أن أفئدة التتار، وأذؤب الغار
أرق من الرعاع القالعين نواظر الأطفال والشاوين بالنار
شفاه الحلمة العذراء.
يا نهرا من الحقد
تدفق بالخناجر والعصي، بأعين غضبى:
نجوما في سماء شدها قابيل بالزند.
فليتك حين هز الموصل الإعصار (لا دربا
ولا بيتا ولا قبرا نجا فيها) شهدت الأعين الغضبى.
وليتك في قطار مر حين تنفس السحر،
فقص، على سرير السكة الممدود، أمراسا
2
تعلق في نهايتهن جسم يحصد النظر،
عليه الجرح بعد الجرح بعد الجرح أكداسا،
ليهوي جسم «حفصة»
3
لابسا فوق النجيع دما وأمراسا.
وفيم نخاف في ثبج البحيرة أو حفافيها
كواسج
4
ضاريات أو تماسيح التظت لهبا
نواجذها الحديدة؟ فيم تخشى كل ما فيها؟
فإن عقارب الرقاع
5
يضمر سمها العطبا،
وتزرع في الجسوم أزاهر الدم والجراح بلا دم لهبا. •••
هلم نشق في الباهنج
6
حقل الماء بالمجذاف،
وننثر أنجم الظلماء، نسقطها إلى القاع
حصى ما ميزته العين عن فيروزه الرفاف
ولؤلئه المنقط بالظلام.
سنرعب الراعي
فيهرع بالخراف إلى الحظيرة خوف أن يغرقن في القاع. •••
هلم فليل آسية البعيد مداه يدعونا
بصوت من نعاس، من ردى، من سجع كهان.
هلم ... فما يزال الدهر بين أيدينا.
لنطو دجاه قبل طلوع شمس دون ألوان
تبدد عالم الأحلام، تخفت - إذ يرن التبر فيها - سجع كهان! •••
يجول التبر فيها مثل وحش يأكل الموتى،
ويشرب من دم الأحياء، يسرق زاد أطفال،
ليتقد اللظى في عينه، ليعيره صوتا
يحطم صوت كل الأنبياء هناك.
يا لرنين أغلال!
ويا لصدى من الساعات، بالأكفان مس رءوس أطفال،
وفل عناق كل العاشقين، ودس في القبلة
مدى من حشرجات الموت، رد أصابع الأيدي
أشاجع غاب عنها لحمها، وستائر الكلة
يحولها صفائح تحتها جثث بلا جلد.
هلم فبعد ما لمح المجوس الكوكب الوهاج تبسط نحوه الأيدي
ولا ملأت حراء
7
وصبحه الآيات والسور.
هلم فما يزال زيوس يصبغ قمة الجبل
بخمرته ويرسل ألف نسر نز من أحداقها الشرر
لتخطف من يدير الخمر
8
يحمل أكئوس الصهباء والعسل.
هلم نزور آلهة البحيرة،
ثم نرفعها لتسكن قمة الجبل!
البصرة، 17 / 2 / 1962
أفياء جيكور
نافورة من ظلال، من أزاهير،
ومن عصافير ...
جيكور، جيكور، يا حفلا من النور،
يا جدولا من فراشات نطاردها
في الليل، في عالم الأحلام والقمر
ينشرن أجنحة أندى من المطر
في أول الصيف.
يا باب الأساطير،
يا باب ميلادنا الموصول بالرحم،
من أين جئناك؟ من أي المقادير؟
من أيما ظلم؟
وأي أزمنة في الليل سرناها
حتى أتيناك أقبلنا من العدم؟
أم من حياة نسيناها؟
جيكور مسي جبيني فهو ملتهب.
مسيه بالسعف
والسنبل الترف.
مدي علي الظلال السمر، تنسحب
ليلا، فتخفي هجيري في حناياها. •••
ظل من النخل، أفياء من الشجر
أندى من السحر
في شاطئ نام فيه الماء والسحب ...
ظل كأهداب طفل هده اللعب،
نافورة ماؤها ضوء من القمر،
أود لو كان في عيني ينسرب؛
حتى أحس ارتعاش الحلم ينبع من روحي وينسكب.
نافورة من ظلال، من أزاهير،
ومن عصافير ... •••
جيكور ... ماذا؟ أنمشي نحن في الزمن
أم أنه الماشي
ونحن فيه وقوف؟
أين أوله؟
وأين آخره؟
هل مر أطوله،
أم مر أقصره الممتد في الشجن،
أم نحن سيان، نمشي بين أحراش،
كانت حياة سوانا في الدياجير؟
هل أن جيكور كانت قبل جيكور
في خاطر الله ... في نبع من النور؟
جيكور مدي غشاء الظل والزهر،
سدي به باب أفكاري لأنساها.
وأثقلي من غصون النوم بالثمر،
بالخوخ والتين والأعناب عارية من قشرها الخصر.
ردي إلي الذي ضيعت من عمري
أيام لهوي ... وركضي خلف أفراس
تعدو من القصص الريفي والسمر؛
ردي أبا زيد، لم يصحب من الناس
خلا على السفر
إلا وما عاد.
ردي السندباد وقد ألقته في جزر،
يرتادها الرخ ريح ذات أمراس. •••
جيكور لمي عظامي وانفضي كفني
من طينه، واغسلي بالجدول الجاري
قلبي الذي كان شباكا على النار
لولاك يا وطني،
لولاك يا جنتي الخضراء، يا داري،
لم تلق أوتاري
ريحا فتنقل آهاتي وأشعاري.
لولاك ما كان وجه الله من قدري. •••
أفياء جيكور نبع سال في بالي،
أبل منها صدى روحي ...
في ظلها أشتهي اللقيا، وأحلم بالأسفار والريح
والبحر تقدح أحداق الكواسج في صخابه العالي،
كأنها كسر من أنجم سقطت.
كأنها سرج الموتى تقلبها أيدي العرائس من حال إلى حال.
أفياء جيكور أهواها
كأنها انسرحت من قبرها البالي،
من قبر أمي التي صارت أضالعها التعبى وعيناها
من أرض جيكور ... ترعاني وأرعاها.
جيكور، 17 / 3 / 1962
الشاعر الرجيم
(إلى شارل بودلير.)
حملت للنزال سيفك الصديء،
يهتز في يد تكاد تحرق السماء
من دمها المتقد المضيء،
تريد أن تمزق الهواء.
وتجمع النساء
في امرأة شفاهها دم على جليد،
وجسمها المخاتل البليد
أفعى إذا مشت، وسادة على الفراش ...
لا تريد
أن تفتح الكوى ليدخل الضياء.
كي لا تحس أنها خواء.
ويرفع الشرق أمام عينك الستور،
توشك أن تعانق الجمال عند سدة الإله،
تكاد أن تراه
يهف وسط غيمة من عبق ونور.
تراه في حلمة نهد توقد النجوم
بحمرة لها ...
أريته يقوم
من قبره، تحمله سحابة الدخان،
ينام تحت ظلها الفقير والشريد،
فهو أمير حوله الكئوس والقيان،
وبيته العتيد
جزير من جزر المرجان،
كأن بحرا غاسلا لسبوس
1
بالأجاج،
تشربه روحك من صدى إلى القرار،
كأن سافو أورثتك من العروق نار،
وأنت لا تضم غير حلمك الأبيد،
كمن يضم طيفه المطل من زجاج،
حرقة نرسيس، وتنتلوس
2
والثمار!
كأن أفريقية الفاترة الكسول (أنهارها العراض والطبول
وغابها الثقيل بالظلال والمطر،
وقيظها الندي ... والقمر)
تكورت في امرأة خليعة العذار،
رضعت منها السم واللهيب،
قطرت فيها سمك الغريب ...
كأنها سحابة الدخان والخدر
أقمت منها، بين عالم تشده نوابض النضار
وبين عالم من الخيال والفكر،
من نشوة جدار
تقبع خلف ظله فلا ينالك البشر.
دخلت، من كتابك الأثيم،
حديقة الدم التي تؤج بالزهر،
شربت من حروفه سلافة الجحيم
كأنها أثداء ذئبة على القفار،
حليبها سعار،
وفيئها نعيم
غرقت فيه، صكني العباب،
يقذفني من شاطئ لشاطئ قديم،
حملت من قراره محارة العذاب.
حملتها إليك،
فمد لي يديك،
وزحزح الصخور والتراب.
البصرة، 24 / 3 / 1962
لأني غريب
لأني غريب،
لأن العراق الحبيب
بعيد، وأني هنا في اشتياق
إليه، إليها ... أنادي: عراق،
فيرجع لي من ندائي نحيب
تفجر عنه الصدى،
أحس بأني عبرت المدى
إلى عالم من ردى لا يجيب
ندائي؛
وإما هززت الغصون،
فما يتساقط غير الردى
حجار،
حجار وما من ثمار،
وحتى العيون
حجار، وحتى الهواء الرطيب
حجار ينديه بعض الدم.
حجار ندائي، وصخر فمي،
ورجلاي ريح تجوب القفار.
بيروت، 15 / 4 / 1962
ابن الشهيد
وتراجع الطوفان، لملم كل أذيال المياه،
وتكشفت قمم التلال، سفوحها، وقرى السهول،
أكواخها وبيوتها خرب تناثر في فلاة.
عركت نيوب الماء كل سقوفها ومشى الذبول
فيما يحيط بهن من شجر ... فآه.
آه على بلدي، عراقي: أثمر الدم في الحقول
حسكا، وخلف جرحه التتري ندبا في ثراه.
يا للقبور كأن عاليها غدا سفلا وغار إلى الظلام
مثل البذور تنام في ظلم الثمار ولا تفيق.
يتنفس الأحياء فيها كل وسوسة الرغام
حتى يموتوا في دجاها مثلما اختنق الغريق.
جثث هنا، ودم هناك ...
وفي بيوت النمل مد من الجفون،
سقف يقرمده النجيع، وفي الزوايا
صفر العظام من الحنايا.
ماذا تخلف في العراق سوى الكآبة والجنون؟
أرأيت أرملة الشهيد؟
الزوج مد عليه من ترب لحافا ثم نام
متمددا بأشد ما تجد العظام
من فسحة: سكنت يداه على الأضالع، والعيون
تغفو إلى أبد الإله، إلى القيامة في سلام.
رمت الرداء العسكري ونشرته على الوصيد ...
لثمته، فانتفض القماش يرد برد الموت،
برد المظلمات من القبور.
يا فكرها عجبا ... ثقبت بنارك الأبد البعيد،
يا فكر شاعرة يفتش عن قواف للقصيد،
ماذا وجدت وراء أمسي وعبر يومك من دهور؟ «الثأر» يصرخ كل عرق، كل باب
في الدار. يا لفم تفتح كالجحيم ... من الصخور،
من كل ردن في الرداء من النوافذ والستور،
من عيني ابنك، يا شهيد، تسائلان بلا جواب،
عنك الأسرة والدروب، وتسألان عن المصير،
مذ ألبسته الأم ثوبك في معاركك الأثير،
ويداه في الردنين ضائعتان، والصدر الصغير
في صدرك الأبوي عاصفة تغلف بالسحاب،
ورنا إلى المرآة
أبصر فيه شخصك في الثياب. «أبني كان أبوك نبعا من لهيب، من حديد،
سورا من الدم والرعود،
ورماه بالأجل العميل فخر - واها - كالشهاب،
لكن لمحا منه شع وفض أختام الحدود ،
وأضاء وجه الفوضوي ينز بالدم والصديد،
وكأن في أفق العروبة منه خيطا من رغاب.»
وتنفس الغد في اليتيم ومد في عينيه شمسه،
فرأى القبور يهب موتاهن فوجا بعد فوج،
أكفانها هرئت ...
ولكن الذي فيها يضم إليه أمسه،
ويصيح: «يا للثار، يا للثار.»
يصدي كل فج،
وترن أقبية المساجد والمآذن بالنداء.
وينام طفلك وهو يحلم بالمقابر والدماء.
البصرة، 9 / 3 / 1962
فرار عام 1953
في ليلة كانت شرايينها
فحما وكانت أرضها من لحود
يأكل من أقدامنا طينها،
تسعى إلى الماء،
إلى شراع مزقته الرعود
فوق سفين دون أضواء،
في الضفة الأخرى ... يكاد العراق
يومئ؟ يا أهلا بأبنائي.
لكننا، وا حسرتا، لن نعود.
أواه، لو سيكارة في فمي،
لو غنوة، لو ضمة، لو عناق.
لسعفة خضراء أو برعم
في أرضي السكرى برؤيا غد.
إنا مع الصبح على موعد
رغم الدجى، يا عراق!
ريف وراء الشط بين النخيل
يغفو على حلم طويل طويل،
تثاءبت فيه ظلال تسيل
كالماء بين الماء والعشب.
يا ليت لي فيه
قبرا على إحدى روابيه،
يا ليتني ما زلت في لعبي
في ريف جيكور الذي لا يميل
عنه الربيع الأبيض الأخضر،
السهل يندى والربى تزهر.
ويطفئ الأحلام في مقلتي - كأنها منفضة للرماد -
همس كشوك مس من جبهتي،
ينذر بالسارين فوق الجياد (سنابك الخيل مسامير نار
تدق تابوت الدجى والنهار:
ناعورة تحرس كرم الحدود)
1
أثقل طين الخوف ما للفرار
من قدم تدمى ... ومد السدود.
أمن بلادي هارب؟ أي عار!
وارتعش الماء وسار السفين،
وهبت الريح من الغرب
تحمل لي دربي ...
تحمل من قبرها ذر طين،
تحمل جيكور إلى قلبي.
يا ريح، يا ريح،
توهجت فيك مصابيح،
من ليل جيكور، أضاءت ظلمة السفين؛
لأبصر الأعين كالشهب
تلتم حولي، لأراها تلين!
وأنجم الشط زهور كبار
أوشكت أن أبصر سيقانها
تمتد في الماء، تمس القرار،
لملم فجر الصيف ألوانها،
كأنها أوجه حور تحار،
فيها تباريح الهوى والحياء ...
كأنها زنبق نار وماء.
البصرة، 21 / 3 / 1962
جيكور شابت
ما نفضت الندى عن ذرى العشب فيها،
ما لثمت الضباب الذي يحتويها،
جئتها والضحى يزرع الشمس في كل حقل وسطح،
مثل أعواد قمح.
فر قلبي إليها كطير إلى عشه في الغروب.
هل تراه استعاد الذي مر من عمره، كل جرح
وابتسام؟
أبعد انطفاء اللهيب
يستطيع الرماد اتقادا؟ ومن أين؟ من أي جمرة؟
يا صباي الذي كان للكون عطرا وزهوا وتيها ...
كان يومي كعام، تعد المسرة
فيه نبضا لقلبي تفجر منها على كل زهرة.
كانت الأرض تلقى صباها لأول مرة ...
كان قابيلها بذرة مستسرة ...
كان للأرض قلب، أحس به في الدروب،
في البساتين، في كل نهر يروي بنيها.
آه جيكور، جيكور ...
ما للضحى كالأصيل
يسحب النور مثل الجناح الكليل؟
ما لأكواخك المقفرات الكئيبة
يحبس الظل فيها نحيبه؟
أين أين الصبايا يوسوسن بين النخيل
عن هوى كالتماع النجوم الغريبة،
أو يجررن أذيالهن التي لونتهن أقمار صيف،
أو شموس خريفية، عند شط ظليل،
والشفاه ابتسامات حب وخوف؟
عجائز أو في القبور ...
عجائز يغزلن حول الصلاء
ويروين، عبر الكرى والفتور،
أقاصيص عن جنة في بيوت خواء،
لأحفادهن اليتامى.
وجيكور شابت وولى صباها،
وأمسى هواها
رمادا، إذا ما
تأوهن هزته ريح ...
أثارته حتى ارتمى في صداها
هباء وذرا تضيق الصدور
به عن مداها.
أين جيكور؟
جيكور ديوان شعري،
موعد بين ألواح نعشي وقبري.
كركرات المياه التي كسر الشمس منها ارتجاف،
والأنين الذي منه كنا نخاف،
صاعدا مثل مد تنز القبور
عنه والشمس تمتص من كل نهر،
ودرابك في الأرض تنقرهن البذور
وهي تنشق في كل فجر
ذكريات ... كما يترك الصوت من ميت
في خيال رنينه،
مثل ناي تشظى وأبقى أنينه.
إيه جيكور، عندي سؤال، أما تسمعينه؟
هل ترى أنت في ذكرياتي دفينة،
أم ترى أنت قبر لها؟ فابعثيها
وابعثيني.
وهيهات! ما للصبى من رجوع.
إن ماضي قبري وإني قبر ماضي:
موت يمد الحياة الحزينة؟
أم حياة تمد الردى بالدموع؟ •••
ما نفضت الندى عن ذرى العشب فيها.
جيكور، 2 / 4 / 1962
احتراق
وحتى حين أصهر جسمك الحجري في ناري،
وأنزع من يديك الثلج، تبقى بين عينينا
صحارى من ثلوج تنهك الساري،
كأنك تنظرين إلي من سدم وأقمار،
كأنا، منذ كنا، في انتظار ما تلاقينا.
ولكن انتظار الحب لقيا ... أين لقيانا؟
تمزق جسمك العاري ...
تمزق، تحت سقف الليل، نهدك بين أظفاري ...
تمزق كل شيء من لهيبي، غير أستار،
تحجب فيك ما أهواه.
كأني أشرب الدم منك ملحا، ظل عطشانا
من استسقاه. أين هواك؟ أين فؤادك العاري؟
أسد عليك باب الليل ثم أعانق البابا،
فألثم فيه ظلي، ذكرياتي، بعض أسراري ...
وأبحث عنك في ناري
فلا ألقاك، لا ألقى رمادك في اللظى الواري.
سأقذف كل نفسي في لظاها، كل ما غابا
وما حضرا.
أريدك فاقتليني كي أحسك.
واقتلي الحجرا
بفيض دم، بنار منك ... واحترقي بلا نار؟
بيروت، 26 / 10 / 1961
سهر
سهرت فكل شيء ساهر: قدماي والمصباح
وأوراقي.
أنا الماضي الذي سدوا عليه الباب، فالألواح
غدي والحاضر الباقي.
أنا الغد في ضمير الليل، مد الليل ألف جناح
عليه، فطار، لما طار، بالظلماء والشهب.
أصخت السمع والظلماء حولي بوق سيارة.
يبث إلى البغي رسالة الحب
ويومئ للسكارى أن تعالوا، ألف خمارة.
تكشر، تفرج الساقين، تقطع نومة الدرب
بوهوهة النيون.
أصخت والظلماء صفارة
وخطوة حارس ...
فذكرت نهر القرية المكسال
يسيل لكي يعيش، لكي يموت، يمصه الجزر
فيعرى جرفه الطيني حتى يقبل الفجر
فيحمل في سناه المد، يحمل زورقا يختال،
بصياد يعد شباكه ويرود في الماء
مسارب كل ناعسة من الأسماك خضراء.
ذكرت مقابر الأطفال،
تلوذ بكل سفح، نام فيها دون أثداء
ولا قمط، صغار من حصاد الجوع والداء،
لقد رضعوا من الثدي الذي لم تبله الأجيال،
وناموا في حمى الأم التي لا يستوي الأطفال
ولا الأشياء إلا في حماها، في حمى ترب وظلماء.
سهرت الليل في بيروت لا بين المواخير (كهوف العالم المتحضر المغسول بالنور)
هنا يتوكئون على العظام ليصعدوا أفقا من النشوة،
لينحدروا إلى فجوة.
تثاءب ظلها وأصيلها بين الدياجير
وبين منابع الأضواء،
تثاءب ظلها وأصيلها بين العقارب والسنانير،
وبين المسرج الظلماء
والممتد حتى الله في القدس وفي سيناء.
سهرت يرن صور الموت في أذني كالزلزال، «تهدم حائط الأجيال ،
وكاد يغور إذ لمسته كفي، ألف نوح زال،
وألف زليخة صيرت كحل عيونها ظلمة.
أنا الباقي بقاء الله أكتب باسمه الآجال،
وما لسواه عند مطارق الآجال من حرمة.»
هنا في كل موت ألف موت: كان في الضمة
وفي القبلات، في الأقداح،
تدور الأسطوانة وهو فيها لمعة الضوء
يوسوس في تهدج صوتها فيخادع الأرواح،
ويلمس جبهة الملاح في النوء.
سهرت لأنني أدري
بأني لن أقبل ذات يوم وجنة الفجر،
سيقبل مطلقا في كل عش نغمة وجناح،
وسوف أكون في قبري.
بيروت، 15 / 4 / 1962
الوصية
من مرضي،
من السرير الأبيض،
من جاري انهار على فراشه وحشرجا،
يمص من زجاجة أنفاسه المصفرة،
من حلمي الذي يمد لي طريق المقبرة،
والقمر الريض والدجى ...
أكتبها وصية لزوجتي المنتظرة،
وطفلي الصارخ في رقاده: «أبي، أبي.»
تلم في حروفها من عمري المعذب.
لو أن عوليس وقد عاد إلى دياره،
صاحت به الآلهة الحاقدة المدمرة،
أن ينشر الشراع، أن يضل في بحاره
دون يقين، أن يعود في غد لداره،
ما خضه النذير والهواجس،
كما تخض نفسي الهواجس المبعثرة،
اليوم ما على الضمير من حياء حارس:
أخاف من ضبابة صفراء
تنبع من دمائي.
تلفني فما أرى على المدى سواها.
أكاد من ذلك لا أراها،
يقص جسمي الذليل مبضع
كأنه يقص طينة بدون ماء.
ولا أحس غير هبة من النسيم ترفع
من طرف الستائر الضباب،
ليقطر الظلام، لست أسمع
سوى رعود رن في اليباب،
منها صدى وذاب في الهواء ...
أخاف من ضبابة صفراء!
أخاف أن أزلق من غيبوبة التخدير
إلى بحار ما لها من مرسى،
وما استطاع سندباد حين أمسى
فيهن أن يعود للعود وللشراب والزهور،
صباحها ظلام،
وليلها من صخرة سوداء.
من ظل غيبوبتي المسجور
إلى دجى الحمام
ليس سوى انتقالة الهواء،
من رئة تغفو، إلى الفضاء.
أخاف أن أحس بالمبضع حين يجرح
فأستغيث صامت النداء.
أصيح لا يرد لي عوائي،
سوى دم من الوريد ينضح.
وكيف لو أفقت من رقادي المخدر
على صدى الصور، على القيامة الصغيرة:
يحمل كل ميت ضميره،
يشع خلف الكفن المدثر،
يسوق عزرائيل من جموعنا الصفر إلى جزيرة
قاحلة يقهقه الجليد فيها،
يصفر الهواء في عظامنا ويبكي.
ماذا لو أن الموت ليس بعده من صحوة،
فهو ظلام عدم، ما فيه من حس ولا شعور!
أكل ذاك الأنس، تلك الشقوة،
والطمع الحافر في الضمير،
والأمل الخالق من توثب الصغير،
ألف أبي زيد تفور الرغوة
من خيله الحمراء كالهجير ...
أكلها لهذه النهاية؟
ترى الحمام للحياة غاية؟ •••
إقبال يا زوجتي الحبيبة،
لا تعذليني ما المنايا بيدي،
ولست، لو نجوت بالمخلد.
كوني لغيلان رضى وطيبة،
كوني له أبا وأما وارحمي نحيبه،
وعلميه أن يذيل القلب لليتيم والفقير،
وعلميه ...
ظلمة النعاس
أهدابها تمس من عيوني الغريبة،
في البلد الغريب، في سريري،
فترفع اللهيب عن ضميري ...
لا تحزني إن مت أي باس،
أن يحطم الناي ويبقى لحنه حتى غدي؟
لا تبعدي،
لا تبعدي،
لا ...
بيروت، 19 / 4 / 1962
অজানা পৃষ্ঠা