يوم طليطلة
معركة الزلاقة
رذريق والمرابطون
يوم سرقسطة
معركة الأرك
معركة العقاب
يوم قرطبة
فاجعة غرناطة
المراجع
يوم طليطلة
অজানা পৃষ্ঠা
معركة الزلاقة
رذريق والمرابطون
يوم سرقسطة
معركة الأرك
معركة العقاب
يوم قرطبة
فاجعة غرناطة
المراجع
معارك العرب في الأندلس
معارك العرب في الأندلس
অজানা পৃষ্ঠা
تأليف بطرس البستاني
يوم طليطلة
تلك المملكة التي أسسها بنو أمية في الأندلس، وحقق عبد الرحمن الناصر وحدتها، وبسط بغزواته الظافر سلطانها - صار أمرها إلى الضعف والانحلال بعد أن سطا عليها الحاجب المنصور وأنشأ دولته العامرية في قلب دولتها، حاجرا على الخليفة هشام، مستقلا دونه بالنهي والأمر، فأسقط هيبة الأمويين من نفوس أهل الأندلس، ووطد فيهم هيبته بما أوتي من فتوح وانتصارات.
وانتقل الملك من بعده إلى ابنه عبد الملك، ثم إلى ابنه الآخر عبد الرحمن، وكلاهما جرى على سنن أبيه في الحجر على الخليفة، والاستبداد بالسلطة والنفوذ، غير أن عبد الرحمن طمحت عينه إلى الخلافة، فطلب من هشام أن يوليه عهده، فلباه هشام ونزل عند رغبته؛ لما هو عليه من الضعف والاستكانة، فنقم الأمويون والقرشيون على الخليفة، وخافوا أن يذهب الأمر من يدهم، فخلعوه وبايعوا محمد بن هشام - من حفدة عبد الرحمن الناصر - فتلقب بالمهدي.
وكان عبد الرحمن غائبا في غزوة، فلما بلغه الخبر قفل إلى قرطبة، فأرسل إليه المهدي من قبض عليه واحتز رأسه، فانقرضت بموته الدولة العامرية، ولكن محمد بن هشام لم يستقر ملكه على حال؛ لأنه جافى البرابرة لميلهم إلى العامريين، فأتمروا به وبايعوا المستعين بالله سليمان بن الحكم، فانشق البيت الأموي بعضه على بعض، ونشبت الفتنة بين الأميرين، فمرة كان ينتصر المهدي فيهزم المستعين، ومرة كان ينتصر المستعين؛ فيلجأ المهدي إلى الملك الإسباني فيمده ويعيده إلى عرشه، ثم تم الأمر للمستعين، فتغلب البربر على الأحكام وارتفع شأنهم.
وكان علي بن حمود الإدريسي قد جاء من المغرب، وأخذ يدعو البربر لمبايعته، معتمدا على نسبه الذي يرفعه إلى علي بن أبي طالب وفاطمة بنت النبي، فبايعه البرابرة، فقتل المستعين وتلقب بالناصر، فلبثت الخلافة مدة من الزمن تتنقل بين الأمويين والحموديين حتى صارت للمعتضد بالله هشام بن محمد الأموي، فملك برهة يسيرة، ثم خانه وزراؤه وحرسه فخلعوه فهرب من قرطبة، وانقطعت به الدولة الأموية، فصار الأمر بعده إلى الوزير أبي الحزم جهور، فدعا جماعة العظماء إلى مشاركته في الحكم ليأمن معارضتهم؛ فارتضوا بذلك، ونشأ في قرطبة نوع من النظام الجمهوري، ولكن من طبقة الأشراف.
وأما ولايات الأندلس، فإن رؤساء الطوائف فيها من بربر وعرب وموال اقتسموا خططها، حتى كاد يكون على كل مدينة أمير مستقل فعرفوا بملوك الطوائف، ومثل هذا التفسخ العميم في جسم الدولة لا يدعو إلى التفاؤل بقيام نظام سياسي ثابت تهنأ به تلك الإمارات المستقلة، وبعضها يتفاوت عن بعض في قوته واتساع أرضه، فلا بد للقوي أن يطمع في ابتلاع الضعيف ليزداد به قوة، فيجد أمامه أميرا منافسا ينازعه التوسع، فيأخذ الضعيف تحت حمايته فيصبح تابعا له، وتقع الحروب بين هؤلاء الأمراء فيشل واحدهم قوى الآخر، وربما استنجد بعضهم على بعض الأمراء المسيحيين؛ فيغتنم أولئك الفرصة، فيهاجمون الأندلس يستولون على عواصمها، ويخضعون ملوكها، ويفرضون عليهم الجزية، أو يجعلونهم عمالا لهم، ولو لم يكن أمراء إسبانية هم أيضا على اختلاف مستمر وتنازع فيما بينهم، لما استطاع ملوك الطوائف أن يستقروا في الأندلس زمنا طويلا، مع ما هم عليه من تقسم وتخاذل.
وحاول ابن جهور صاحب قرطبة، أن يجمع شتيت الأمراء إلى دولته متوهما أن وجوده في عاصمة الأمويين كاف لأن يحمل سائر الولايات على الاعتراف بسلطانه؛ لأنها تعودت من عهد بعيد أن تخضع لحكام قرطبة، فكاتب الأمراء - كبارهم وصغارهم - يدعوهم إلى طاعته، فلم يحفلوا به، ولا تكلفوا مئونة الرد عليه، فاضطر أخيرا إلى أن يعترف باستقلالهم مكرها، وفي رأسه خطة يريد تحقيقها، وهي أن يوسع ملكه باغتصاب الإمارات الصغيرة التي لا قبل لها بمقاومته وحماية استقلالها.
ووجه حملة إلى هذيل بن رزين صاحب السهلة، فقهره واستولى على إمارته، فالتجأ هذيل إلى إلى إسماعيل بن ذي النون أمير طليطلة، فبادر هذا إلى إنجاده ليحول دون توسع ابن جهور، فطرد القرطبيين من السهلة وأعادها إلى صاحبها، ثم ناصب قرطبة العداء، فأصلاها حربا طويلة، تابعها من بعده ابنه المأمون.
وتوفي ابن جهور سنة 435ه/1043م، فانتقل الحكم من بعده إلى ابنه محمد، ولم يكن كأبيه صاحب قوة وعزم، وإنما عرف بالتعقل والعدالة، فأراد أن يصرف هذه الحرب عنه بالمصالحة فأباها عليه أمير طليطلة وصاحب السهلة واضطراه إلى القتال؛ لطمع المأمون في الاستيلاء على قرطبة، إلا أن غارات فردينان الأول على طليطلة وإثخانه فيها، كان يكره صاحبها على مهادنة ابن جهور حينا بعد آخر، فإن ملك جليقية (Galice)
অজানা পৃষ্ঠা
وقشتالة (Castille) ، لم يغرب عنه ضعف ملوك الطوائف وتناحرهم، وأن الفرصة سانحة لامتلاك بلدانهم وبسط سلطانه عليهم.
فأخذ يهاجم الثغور الإسلامية، ينتزع المدن والحصون من أمرائها، ويفرض عليهم الجزية، فاستولى على قسم كبير من الأراضي البرتغالية - أملاك ابن الأفطس صاحب بطليوس (Badajoz) - وأغار على الدولة الهودية، في سرقسطة (Saragosse)
فأخضعها وألزم أميرها أن يؤدي له الجزية ويعينه على أمراء المسلمين، وأخضع أيضا المأمون أمير طليطلة وألزمه كما ألزم ابن هود، ثم غزا المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية، فدحره وضرب عليه الجزية، فأصبح أعاظم الأمراء الأندلسيين يقدمون الطاعة لملك الجلالقة.
ولما صارت طليطلة في حماية فردينان، نشط أميرها المأمون يحيى بن ذي النون إلى محاربة ابن جهور صاحب قرطبة مستعينا بالقشتاليين، وبأحلافه بني عامر على حكام بلنسية (Valence) ، وابن رزين صاحب السهلة، فأحس ابن جهور بالخطر المحدق بإمارته، وأنه عاجز عن مقاومة هؤلاء المجتمعين عليه، فاستصرخ المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية، وابن الأفطس أمير بطليوس، داعيا إياهما إلى التحالف على طليطلة - وكانت تهددهم جميعا - مؤكدا لهما اعترافه باستقلال دولتيهما، فبادرا إلى محالفته، وإمداده بالعساكر، ولكن المأمون ومن معه من الحلفاء استطاعوا أن يهزموا جيش ابن جهور وأنصاره، وأن يزحفوا إلى قرطبة فيضربوا عليها الحصار الشديد، فأصبحت لا نجاة لها من السقوط إلا إذا جاءها مدد من الخارج.
فعاد أميرها يستغيث بحليفه صاحب إشبيلية، وكان المعتضد يطمع في الاستيلاء على قرطبة ليبسط بها حدود مملكته، فرأى الفرصة سانحة لتحقيق رغائبه، فأمدها بجيش عظيم يصحبه وزيره محمد بن عمار، فسار الجيش إليها، وكشف الحصار عنها، فخرج القرطبيون يتعقبون أعداءهم، وفيما هم يدافعونهم ويثخنون فيهم أخذ ابن عمار يحتل العاصمة، ويمتلك حصونها، وكان أميرها محمد بن جهور مريضا، فآلمه الخطب لا يستطيع له ردا، فمات من قهره بعد أيام.
وعاد جيش قرطبة تخفق على رأسه ألوية النصر، وقد هزم جيوش طليطلة وأحلافها شر هزيمة، ولم تكن خيانة إشبيلية لتخطر له في بال، فلما رأى عاصمته بأيدي حلفائه، وأبوابها موصدة في وجهه، وقف مدهوشا حائرا أمام فاجعة لا يتوقعها، فدعاه الإشبيليون إلى الاستسلام، وكان على مقدمته عبد الملك ابن الأمير محمد، فراعه أن تنهار دولة أبيه، فاندفع كالمجنون يقاتل مستميتا، حتى سقط عن فرسه مغمى عليه من ألم الجراح، فارتد الحارث بن الحكم قائد الجيش القرطبي بفرسانه إلى مدينة الزهراء، فلبث معتصما بها مدة، ثم جاءه نبأ موت الأمير محمد وابنه عبد الملك، فترك الزهراء، وسار إلى طليطلة فحالف عدوه ابن ذي النون؛ لينتقم من ابن عباد حليفهم بالأمس!
وكانت طليطلة تؤدي الجزية - كما ذكرنا - لفردينان الأول ملك قشتالة، فلما مات قطعها المأمون عن أولاده مستفيدا من اختلافهم؛ فقد ثار واحدهم على الآخر، ينازع نصيبه من ملك أبيه، فوقعت بين الإخوة الثلاثة حروب أهلية متتابعة، تم فيها النصر أخيرا لبكرهم شانجه (Sancho) ، فضم إليه جميع ممتلكات والده سنة 1070م، وهرب أخوه غرسيه (Garcia)
إلى إشبيلية مستجيرا بالمعتمد بن عباد، وكان قد ولي الأمر بعد أبيه المعتضد.
ولجأ أخوه الثاني ألفنس إلى طليطلة مستجيرا بالمأمون، فأحسن وفادته وأنزله عنده عزيزا مكرما، إلا أن شانجه لم يعش طويلا بعد استئثاره بالدولة؛ فقد قتل غيلة في كمين نصب له سنة 1072م، ويقول المستشرق الألماني جوزف أشباخ: «إن هذا الكمين حدث بمسعى أخته أوراكا أو أخيه ألفنس، أو كليهما معا.»
ولما انتهى الخبر إلى ألفنس، غادر طليطلة وجاء لاون فاعتلى عرشها - نصيبه من أبيه - ثم جمع إليه عرش قشتالة - نصيب أخيه شانجه - وترك جليقية لأخيه غرسيه يتمتع بها بضعة أشهر ، ثم انتزعها منه، بعد أن اعتقله خدعة سنة 1073م، وزجه مغلولا في بعض الحصون، فلبث طوال حياته سجينا حتى مات.
অজানা পৃষ্ঠা
ولم يغفل ألفنس عن تعزيز سياسته في الأندلس الإسلامية، وله من أمير طليطلة صديق آواه يوم كان طريدا ضعيفا، فعقد حلفا بينه وبين المأمون، تعاهدا فيه على الصداقة الخالصة والتعاون المشترك في ما يئول إلى خير بلديهما، فأصبح في وسع صاحب طليطلة أن ينتقم من عدوه ابن عباد ويستولي على قرطبة، فوجه إليها جيشا من فرسان طليطلة، والمرتزقة القشتاليين، معقود اللواء على الحارث بن الحكم - قائد ابن جهور - فهاجم الحارث عاصمة الأمويين حين غرة، ودخلها دون أن يلقى مقاومة، على أنه ما تحول إلى الزهراء يريد امتلاكها حتى تصدى له سراج الدولة ابن المعتمد بن عباد بحرس من المغاربة يدافع عن قصور الملوك وذخائرهم، إلى أن سقط في المعمعة صريعا، فانهزم الحرس، وتم النصر لطليطلة 468ه/1075م.
ودخل المأمون قرطبة ظافرا، إلا أنه لم يمتع بانتصاره؛ فقد توفي، وكان كبير السن مريضا، ويقول ابن خلدون إنه مات مسموما وحمل إلى طليطلة فدفن بها، وكان ابنه وولي عهده هشام قد مات قبله، فأوصى بالملك لحفيده القادر بالله يحيى بن إسماعيل - وكان هذا قاصرا - فأقام له مجلس وصاية من صديقه ألفنس السادس، والحارث بن الحكم وبعض الولاة، ولكن هذه الثقة بحليفه لم تقع موضعها؛ فملك قشتالة نسي ضيافة طليطلة وعطفها عليه، ونسي صديقه المأمون يوم أمنه من خوف، وغابت عنه العهود التي واثقه عليها، وما أقسم له من الأيمان على رعاية الأمير القاصر وحماية بلاده.
وأبت نفسه إلا أن تشعر بشعور العرش والوطن، فنجحت عنده مساعي ابن عمار وزير المعتمد، فارتضى أن يحالف صاحب إشبيلية عدو الملك الذي هو وصي عليه، وأن يعده بالمساعدة في توسعه ومحاربة الأمراء المسلمين، ورضي ابن عباد أن يساومه على أبناء ملته، فيترك يده حرة تتصرف في طليطلة، ثم يؤدي له الجزية صاغرا، لا يجد بها غضاضة في سبيل مطامعه، وتروي الأخبار الإسبانية أن المعتمد بن عباد بعث ابنته «سيدة » إلى بلاط ألفنس؛ تمكينا للصداقة! فاتخذها هذا حظية له! وكان أمراء إسبانية المسيحية يتسرون يومئذ بالنساء تشبها بأمراء الأندلس المسلمين.
على أن الرواية العربية تنفي هذه التهمة عن أمير إشبيلية، وتلقي نورا على حقيقة المرأة المسلمة التي صارت في حوزة الملك الإسباني؛ فقد تمكن المستشرق لاوي بروفنسال من جلاء هذا الحادث الذي بقي غامضا على المؤرخين المحدثين، ينفيه بعضهم، ويثبته بعضهم الآخر؛ وذلك أنه عثر سنة 1934م على رواية عربية أصح من الرواية الإسبانية وأثبت، أوردها ابن عذاري المراكشي في القسم الثالث من كتابه البيان المغرب، وفيها يقول: إن البعث الذي أرسله ألفنس السادس سنة 501ه/1108م لمحاربة أبي الطاهر تميم أخي السلطان علي بن يوسف، وكان يحاصر قلعة أقليش (Ucles) - قتل فيه أمام أسوارها ابنه شانجه من زوجة المأمون بن عباد، وكانت قد تنصرت مع نحو سبعة آلاف فارس.
فمن رواية ابن عذاري هذه يتبين أن الأميرة سيدة ليست بنت المعتمد بن عباد بل زوج ولده المأمون، وكان المأمون واليا على قرطبة من قبل أبيه، فلما هاجمها المرابطون - وعلى رأسهم القائد سير بن أبي بكر - قتل المأمون في الموقعة، ودخلها المرابطون ظافرين في 26 آذار سنة 1091م/3 صفر 484ه.
فالظاهر أن أرملة ابن المعتمد هربت مع ثلة من فرسانها إلى ألفنس السادس محتمية به، فتسرى بها وتنصرت مع جماعتها، ويؤيد ذلك دليل آخر وقع عليه المستشرق هنري بيريس، وهو عبارة عن فتيا كتبت في أواخر القرن الخامس عشر، أو أوائل القرن السادس عشر، وصاحبها الفقيه المراكشي يحيى الونشريشي، أفتى بها جوابا على سؤال: أيستطيع المسلم أن يغادر الأندلس إلى إفريقية إذا تيسر له، أم يبقى فيها ليساعد إخوانه في الدين؟
فكان جوابه بتحتيم الهجرة على من يستطيعها من المسلمين بعد استيلاء الإسبانيين على الأندلس محافظة على نسائهم؛ لئلا تعقد زوجة بعضهم أو ابنته صلتها بأعداء الدين، فيقودها الأمر إلى ترك الإسلام، كما أصاب كنة المعتمد بن عباد وأولادها الذين تنصروا معها وهم أبناء المأمون .
وبينما ابن عباد يزحف بجيشه إلى غرناطة ليخضع صاحبها ابن باديس، إذا ألفنس يتهيأ لغزو طليطلة واحتلالها 1079م، وكانت قد ثارت على أميرها القادر بن ذي النون؛ لإكثاره من فرض الضرائب إرضاء لشهواته وترفه، أو إشباعا لمطامع ملك قشتالة، فجاء ألفنس إلى طليطلة متذرعا بحجة الدفاع عن حليفه، فعاث في ولايتها مخربا قراها وحصونها، ثم ارتد عنها عندما بلغه أن المنصور أمير بطليوس قادم لنجدتها، وعاد في العام التالي يفسد في بسائطها، ويستبد بقلاعها وزروعها، وما زال يوالي عليها الغارات في كل عام حتى أضعفها، ونهك قواها، ورماها بالضيق والفاقة، ثم دلف إليها في السنة السادسة يبغي العاصمة نفسها، فألقى عليها الحصار حتى منع عنها كل صلة ومدد؛ فراحت تستغيث بأمير بطليوس؛ فأمدها المتوكل بن الأفطس بجيش على رأسه ولده الفضل، ولكنه لم يثبت أمام قوات ألفنس الساحقة فانهزم مدحورا، ولم يبق للقادر أمل من النجاة.
وكان الجوع يهدد المدينة فخاف أن يثور عليه الشعب فيقتله، فأرسل إلى ألفنس يطلب الصلح على أن يؤدي الجزية، ويكون تابعا له، فرفض ألفنس مطالبه، واشترط عليه أن يفتح أبواب المدينة ويسلمها إليه، واعدا بأن يحافظ على أرواح المسلمين ومقتنياتهم، وأن يترك لهم المسجد الجامع يصلون فيه، وأن لا يعارضهم في دينهم وشرائعهم، وخيرهم في البقاء أو المهاجرة، فمن أحب البقاء يؤدي الجزية كما يؤديها المسيحيون في بلاد المسلمين، ومن آثر الهجرة يسمح له بأن يحمل أمواله حيث يشاء، وضمن للقادر أن يدع له إمارة بلنسية يتصرف فيها، ولا يبخل عليه بالمساعدة إذا احتاج إلى الدفاع عنها.
في الخامس والعشرين من أيار سنة 1085م دخل ألفنس السادس - ملك قتشالة ولاون وجليقية - عاصمة القوط القديمة بأبهة وجلال، منتزعا من العرب إحدى قواعد الأندلس الكبرى: طليطلة العاصية التي طالما تمردت على أمراء المسلمين، فبذل عبد الرحمن الناصر، والحاجب المنصور من بعده، أعظم الجهود لإخضاعها وكسر شوكتها، فكان يومها المشئوم كارثة على الأندلس العربية؛ لأن قشتالة - حين تملكتها - أصبحت جاثمة على ضفتي نهر التاج، ممدوة النظر إلى ثغور المسلمين.
অজানা পৃষ্ঠা
معركة الزلاقة
ما لبث المعتمد بن عباد - أمير إشبيلية - أن ساوره الندم على محالفته ألفنس السادس ملك قشتالة، ومعاضدته له في انتزاع طليطلة من القادر بن ذي النون، فإن العاهل الإسباني ما كاد يحيط بنهر التاج من عدوتيه، مستطيلا على منافذ الأندلس العربية، حتى نهض يفتتح قلاع الشاطئين وما حولها من المدن والضياع، وراح يهدد قرطبة وماردة (Mérida)
وبطليوس (Badajoz) ، فذعر المعتمد وتراءى له الخطر المحدق بأملاكه، فأرسل إلى ألفنس يستوقفه عن الفتح، ويطلب منه أن يراعي المعاهدة التي بينهما فلا يتجاوز طليطلة.
فرد عليه ألفنس بما عرف به من دهاء ومراوغة، وهو أنه إنما يملك ولاية طليطلة كلها شريكا لصديقه القادر بن ذي النون صاحب بلنسية، وكان المعتمد منصرفا يومئذ إلى محاربة ابن باديس صاحب غرناطة؛ طامعا في ضم هذه الإمارة إلى مملكته، فأراد ألفنس أن يظهر له حسن نيته من حيث يروم خداعه، فأمده بخمسمائة فارس مدرع من الإسبانيين ليقاتلوا معه في غرناطة، فأوجس المعتمد شرا، وأزعجته هذه النجدة التي لم يرغب فيها، ولا شاقه قدومها، ففضل أن يصالح ابن باديس على أن يستبقيها عنصرا خطرا في جيشه.
فلما عادت إلى طليطلة دون أن تسفر بعثتها عن نتيجة ترضي ملك قشتالة، كتب هذا إلى المعتمد يطلب منه أن يتخلى له عن الحصون التي يمتلكها في ولاية طليطلة، فعظم الأمر على أمير إشبيلية، وأوجعه خطؤه وسوء سياسته، وعلم أن لا سبيل إلى كبح مطامع ألفنس إلا إذا قابل الشدة بالشدة، وهو وإن يكن يحمل إليه الجزية كغيره من ملوك الطوائف، إلا أنه كان أوسعهم دولة، وأقواهم سلطانا، فلماذا لا ينقض على الطاغية، ويرفع عن مخنقه يدا قاسية القبض؟ بل لماذا لا يسعى إلى دعوة أمراء المسلمين أن يتركوا الخلاف ويتحدوا لدرء الخطر المشترك؟ فقد آن لهم أن يطهروا قلوبهم من أحقادها، ويمد بعضهم إلى بعض يده مصافيا ومعاونا.
فالأمراء المسيحيون في إسبانيا أدركوا قبلهم ضرورة التعاضد للتغلب عليهم وإخراجهم من تلك الأرض الجميلة التي افتتحها أجدادهم، فتناسوا ما بينهم من عداء قديم يفرقهم ويضعفهم، فاجتمعت كلمة ألفنس السادس وشانجه (Sancho)
صاحب أرغون ونافار، ورمند برنجه (Reymond Berenguer)
أمير برشلونة، فنهضوا نهضة واحدة لينقضوا على العدو الغريب متيمنين بتخاذله وانقسامه.
فمتى يدرك أمراء الأندلس ما أدركه أمراء إسبانية فيهبوا للدفاع عن أرضهم متضافرين لا متفسخين؟ أفما يخلق بالمعتمد بن عباد أن تدور هذه الفكرة في رأسه عندما جاءته رسل ألفنس تستنزله عن حصونه في طليطلة؟ فإذا به لا يتلكأ عن الرفض، حاملا نفسه على الخطة الصماء يريد فصلها، وإن ساءت مغبة الفصل، فأثار رفضه سخط العاهل القشتالي كما كان ينتظر، فنقض الحلف وجاهره العداء، ثم زحف بجيوشه يضرب في ولايات الأندلس فاستولى على قورية (Coria)
من بني الأفطس، وأغار على بسائط إشبيلية، فأثخن فيها وأحرق قراها وحقولها، حتى بلغ جزيرة طريف، فأدخل قوائم فرسه في البحر وقال: «هذا أقصى بلاد الأندلس قد وطئته.»
অজানা পৃষ্ঠা
ثم ارتد إلى قلعة سرقسطة (Saragosse)
يبتغي فتحها، فألقى عليها حصارا شديدا، وأعمل الحديد والنار في ولايتها، فدافعت عاصمة الدولة الهودية عن نفسها دفاع المستبسل المستميت، ولكن الإسبانيين ضيقوا الخناق عليها، فراحت تستغيث بجاراتها المسلمة، وملوك الطوائف ضعاف متمزقون يبصرون الكارثة مقذوفة إليهم، فتنخلع قلوبهم هلعا، ولا يستطيعون لها ردا، وهالهم أن تسقط سرقسطة بعد طليطلة، قاعدة تلو قاعدة، فماذا يكون مصير الأندلس إن لم يهبوا متساندين للنضال عنها؟ فالمصيبة جامعة لا تعف عن واحد منهم، ولا يؤمل بغير الاتحاد الحئول دون استشرائها.
فتداعوا إلى مؤتمر يعقدونه في مملكة ابن عباد - أعظمهم دولة - فاجتمعوا في إشبيلية، ثم في قرطبة، واتفقوا على ضم جهودهم لدفع المغير وإنقاذ سرقسطة، بيد أنهم لم يكونوا واثقين بالظفر؛ لما يعلمون من ضعف قواهم إزاء القوات الإسبانية القاهرة، فقرروا أن يستنجدوا يوسف بن تاشفين أمير المرابطين في عدوة إفريقية، وكان صاحب شوكة وسلطان، يسيطر على شعب مخشوشن الأبدان يستطيب الحرب والكفاح، لم ينغمس في الترف والملذات - كأهل الأندلس - لتخور عزائمه فيستكره القتال.
ولا يتوقع أن يصم زعيم المرابطين أذنيه عن نداء إخوانه المسلمين؛ لما به من حمية للدين ، ثم لما يضمر في نفسه من مأرب يهزه لفتح الأندلس وإلحاقها بإفريقية ما دام أمراؤها ضعافا متواكلين، لا يملكون وسائل الدفاع لحمايتها، فمن الخير للمسلمين أن يدخلها المرابطون، ويمنعوها أن تقع في قبضة المسيحيين.
بيد أن يوسف بن تاشفين - على رغبته الشديدة في الذود عن أبناء ملته، وبسط سلطانه على الأندلس - لم يسرع إلى تلبية ملوك الطوائف دون أن يتبصر بالأمر ويقلبه على وجوهه؛ فقد كان يجهل أرض الأندلس، ولا يعرف إلا الشيء القليل عن الأمراء المسيحيين، فأشفق أن يغرر بجيشه في بلاد غريبة، قبل أن يحتاط للطوارئ، ويتدبر عواقب مغامرته وإقدامه، فدعا إليه كاتبه عبد الرحمن بن أسبط الأندلسي، وطلب منه أن يشرح له أحوال إسبانيا، وما يحول من العقبات دون التغلب عليها.
فذكر له الكاتب أن المسلمين هناك لا يعمرون إلا ثمن البلاد، في حين أن النصارى يعمرون سبعة أثمانها، وشبه إسبانيا بسجن لمن دخلها، لا يخرج منه إلا تحت حكم صاحبه، فإذا كان الأمير عاقدا نيته على العبور إليها، فيحسن به أن يجيب المعتمد بن عباد بأنه لا يمكنه الجواز إليه، إلا إذا تنازل له عن الجزيرة الخضراء ليجعلها مقر أجناده وأثقاله، ويريد عبد الرحمن بذلك أن يبقى سيده متصلا بإفريقية، حتى إذا أخفق في حملته لا تسد عليه طريق الرجعة إليها، فاستصوب الأمير هذا الرأي، فكتب به إلى صاحب إشبيلية، ولبث ينتظر الجواب ويتأهب للقتال.
وكان ألفنس في تلك الأثناء قد ثقلت وطأته على الولايات الأندلسية، فلقي ابن هود أشد العناء في الدفاع عن سرقسطة، وما سلمت من التخريب بسائط إشبيلية وحصونها، وبات الخطر يهدد المتوكل بن الأفطس أمير بطليوس، فرأى المعتمد بن عباد أن يستوقف شر الملك الإسباني بأداء الجزية والنزول له عن الحصون المتاخمة، فأرسل إليه يسأله الهدنة، ويبدي رغبته في تسليم الحصون، وتقديم الإتاوة.
فأوفد ألفنس بعثة على رأسها أحد قواده، ومعه يهودي يقال له ابن شاليب، ماهر في نقد الدراهم الزائفة، فنزلوا في ظاهر المدينة، فوجه المعتمد إليهم المال مع جماعة من وجوه دولته، فطلب ابن شاليب أن ينظر فيه قبل تسلمه، فاستاء الوفد الإشبيلي، وعدوا ذلك إهانة لهم ولأميرهم، فاحتدم الجدال بينهم وبين البعثة الإسبانية، فأصر اليهودي على طلبه، فاقترح القائد السفير أن يقدم ابن عباد بدلا من المال سفنا حربية، فعاد المندوبون بالمال إلى سيدهم، وأخبروه بما حدث، فتلظى حنقا حتى خرج عن دائرة اعتداله، فأمر بقتل السفير ومن معه، وكانوا ثلاثمائة، ولم ينج منهم غير ثلاثة تمكنوا من الفرار، ويروي صاحب «نفح الطيب» عن ابن اللبانة، شاعر المعتمد أن الأمير لم يقتل من البعثة غير اليهودي، فقد أمر بصلبه، وأما المسيحيون فإنه اكتفى بأن يزجهم في السجن.
ويقول أبو عبد الله الحميري في «الروض المعطار»: إن ألفنس طلب زيادة على الضريبة والحصون، أن تأتي امرأته إلى قصور الزهراء فتنزل فيها إلى أن تلد؛ لأن القسيسين أشاروا عليها بأن تتردد على الجامع الكبير في قرطبة، لتتبرك مدة حملها بزيارة الكنسية التي كانت بجانبه الغربي قبل بنائه، فرفض ابن عباد هذا الطلب، فراجعه ابن شاليب وأغلظ له القول، حتى أغضبه فأمر بصلبه منكوسا.
ثم فكر بما يجر عليه هذا الحادث من وخيم المغبة، فملك الجلالقة لا يصبر عن الاثئار لبعثته، وقد اتسع الخرق بينهما؛ فما يمكن استرضاؤه إلا بشروط لا تطاق، فوطن النية على استدعاء المرابطين ثانية، والتنازل لزعميهم عن الجزيرة الخضراء، فدعا ابنه الرشيد ولي عهده، وأفضى إليه بما يعتزم عليه، فمانع الرشيد وحذر والده خطر المرابطين إذا دخلوا الأندلس وامتلكوا قاعدة فيها.
অজানা পৃষ্ঠা
فأجابه المعتمد بكلمته المأثورة: «رعي الجمال خير من رعي الخنازير»، أي أنه يفضل أن يكون مأكولا ليوسف بن تاشفين يرعى جماله في الصحراء، على أن يكون أسيرا عند ألفنس، يرعى خنازيره في قشتالة.
وتلقى أمير المرابطين دعوة ابن عباد - وكان ينتظرها - فحشد جيشه في سبتة، ثم اجتاز المضيق إلى الجزيرة الخضراء، في شهر ربيع الآخر 479ه/آب 1086م، فوجد أمير إشبيلية قد خف لاستقباله في مائة فارس ووجوه أصحابه، فتقدم المعتمد يريد تقبيل يده؛ إظهارا لطاعته، فمنعه يوسف، فتصافحا وتعانقا كصديقين، لا كتابع ومتبوع، ثم تسلم الزعيم الإفريقي الجزيرة ليتصرف فيها، فاحتل بجيشه قلعتها، واهتم بتعزيز حصونها، وتنظيم حاميتها، وإعداد المؤن والذخائر فيها لتكون له موئلا يفزع إليه إذا لم يحالفه النصر في حملته.
فلما أتم تجهيزها شخص إلى إشبيلية فلبث ثمانية أيام يؤهب جيوشه منتظرا في الوقت نفسه قدوم الأمراء الأندلسيين بقواتهم لينضموا إليه، حتى إذا اكتملت عدة الجيوش المتحالفة، زحفت من إشبيلية تجوز أملاك أمير بطليوس، فسار فرسان المرابطين في الطليعة وعدتهم عشرة آلاف يقودهم داود بن عائشة، ثم الجيش الأندلسي، وعلى رأسه المعتمد، ثم الجيش الصحراوي يتقدمه يوسف بن تاشفين، وبينه وبين جيش ابن عباد يوم واحد، حتى بلغوا بطليوس، فنزلوا بظاهرها، فخرج إليهم أميرها المتوكل بن الأفطس، فلقيهم بما يجب من الضيافات والأقوات.
وكان ألفنس لا يزال يحاصر سرقسطة، ويرميها بالحملة إثر الحملة وهي تدافع عن نفسها يائسة، فلما عرف بمجيء المرابطين وزحفهم إليه مع القوات الأندلسية، خاف على طليطلة والممتلكات الجنوبية أن يقع فيها العدو؛ فرفع الحصار عن العاصمة الهودية، وارتد إلى طليطلة يحشد العساكر من قشتالة ولاون وجليقية (Galice)
وبسكونية (Biscaya)
وأشتوريش (Asturias) ، ومن الأراضي الإسلامية التي افتتحها وأخضعها، وجاءته النجدات المتطوعة من ولايات فرنسة الجنوبية طامعة في المغانم أو مجاهدة في سبيل الدين، ودعا إلى معونته حليفيه شانجه أمير أرغون ونافار، ورمند أمير برشلونة.
فلبيا دعوته وانضما إليه بقواتهما، فاجتمع لديه جيش عظيم، تختلف الروايات الإسلامية في تقديره؛ فمنها ما يبالغ فيه فيجعله مائتي ألف راجل، وثمانين ألف فارس، ومنها ما يذهب إلى الاعتدال فلا يرتفع به عن الثمانين ألفا، منهم أربعون ألفا من ذوي الدروع الثقيلة، ويقدره ابن الأثير بخمسين ألف مقاتل، ويجعله ابن خلكان أربعين ألف فارس غير ما انضم إليه من الأتباع، ولا تتفق الروايات الإسلامية على عدد جيوش المسلمين؛ فمنها ما يرفعه إلى ثمانية وأربعين ألفا، نصفهم من الأندلسيين، ونصفهم الآخر من المرابطين، ومنها ما يهبط به إلى العشرين ألفا، ولكنها تجمع كلها على أن عدد المسلمين كان أقل من عدد المسيحيين.
وأما الروايات المسيحية، فإنها لا تشير إلى عدد الجيوش النصرانية، وإنما تذهب إلى تقدير الجيوش الإسلامية بزهاء مائة ألف، أو تظهر عجزها عن إحصائها، فتقول إنها كانت كالجراد المنتشر، ويفترض المستشرق الألماني جوزف أشباخ عددا متساويا للفريقين، فيقدر أن كل واحد منهما كان يجمع نحو مائة وثلاثين ألفا إلى مائة وخمسين.
ونحن إذا نظرنا إلى الولايات المتسعة في مملكة ألفنس، وما يحتمل استمداده من القوات الحليفة والمتطوعة، لا نستكثر خروجه بمقدار مائة ألف لقتال عدو يشعر بخطره بعد اجتماع الإفريقيين والأندلسيين عليه، وكذلك لا يعقل أن يوسف بن تاشفين يعبر إلى الأندلس بأقل من أربعين إلى خمسين ألفا، وهو مقدم على الحرب في بلاد غريبة منيعة، رأينا كاتبه عبد الرحمن يجتهد في تحذيره منها، وإذا كانت فرسانه عشرة آلاف كما ذكرنا، فلا ينبغي أن يقل عدد الرجالة عن الثلاثين أو الأربعين ألفا، ثم إن أمراء الأندلس في تحالفهم على الكارثة المشتركة لا يستغرب أن يبلغ حشدهم خمسين ألفا على أقل تعديل ليتخلصوا من عدو مخيف طالما هدد وجودهم، وقد سنحت لهم الآن فرصة تمنوها طويلا حتى حصلوا عليها.
فإن تكن العساكر الصحراوية والأندلسية دون العساكر الإسبانية في مجموعها بحسب رواية المؤرخين المسلمين، فلا يمكن التسليم بأنها تقل عنها كثيرا، فكلا الجيشين قوي متأهب أحسن الأهبة، والموقف خطر رهيب، والمصير غامض لا ينجلي إلا في اللقاء.
অজানা পৃষ্ঠা
وجاءت الأنباء أن ألفنس زاحف بقواته إلى بطليوس، فنشط القواد المسلمون إلى ترتيب صفوفهم ومعسكراتهم، وخطب يوسف بن تاشفين وابن عباد في أصحابهما، وقام الفقهاء يحضونهم على الثبات، ويحذرونهم من الفشل، ثم جاءت الطلائع تخبر أن العدو مشرف عليهم صبيحة يومهم، وهو يوم الأربعاء، فخرج المسلمون مبكرين وأخذوا مصافهم، وأقبلت الجيوش الإسبانية بخيلها ورجلها تملأ الفضاء، فنزلت على بضعة أميال من بطليوس، في سهل تتخلله الغابات يعرف باسم الزلاقة (Sacralias) ، وعسكرت تجاهها الكتائب الأندلسية يفصل بينهما نهر صغير.
أما يوسف بن تاشفين، فقد جعل معسكره وراء أكمة عالية، في عزلة عن معسكر الأندلسيين ، فلما أخذت العساكر الإسبانية محلاتها، أرسل زعيم المرابطين إلى ألفنس يعرض عليه الدخول في الإسلام، أو تأدية الجزية، أو مباشرة القتال كما هي السنة، ومن جملة ما قاله في الكتاب بحسب رواية نفح الطيب: «بلغنا يا أدفنش أنك دعوت إلى الاجتماع بنا، وتمنيت أن يكون لك سفن تعبر فيها البحر إلينا؛ فقد عبرنا إليك، وقد جمع الله - تعالى - في هذه الساحة بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال.»
فلما اطلع ألفنس على مضمون الكتاب، رماه إلى الأرض مغضبا، وقال للرسول: «اذهب فقل لمولاك: إننا سنلتقي في ساحة الحرب.»
ولم يشأ العاهل الإسباني أن يباشر القتال قبل أن يلجأ إلى بعض خدائعه المعهودة، فبات ليلته لا يحرك ساكنا، والمسلمون يحسبون المعركة ناشبة حتما غداة الخميس، فهبوا في الصباح يستعدون لخوضها، وإذا رسول من ألفنس يحمل كتابا إلى يوسف بن تاشفين يقول فيه: «غدا يوم الجمعة وهو عيدكم، والأحد عيدنا، فليكن لقاؤنا بينهما يوم السبت.» وفي رواية أخرى أنه استثنى يوم السبت أيضا؛ لأنه عيد اليهود، وفي المعسكرين كثير منهم، واختار للقاء يوم الإثنين.
فاستحسن الأمير المغربي هذا التأجيل وخاله عدلا، فوافق عليه، ولم يعلم أن ألفنس يرمي به إلى تعطيل أهبة المسلمين ليأخذهم يوم الجمعة على غرة وهم غير مستعدين، ولكن المعتمد بن عباد كان قد بلا مكايد حليفه بالأمس، وذاق سموم أكاذيبه، فلم يطمئن فؤاده إلى هذا الاقتراح المريب، واستشعر الحيلة من خلاله، فبث عيونه في الليل يتجسسون حركات الإسبانيين، فعادوا إليه يخبرونه بأنهم أشرفوا على محلة ألفنس، فسمعوا ضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة، فبعث إلى السلطان يوسف يطلعه على الأمر ويستحث نصرته، وكان ألفنس قد جعل جيشه قسمين: أحدهما يقوده غرسيه، والثاني يتقدم جناحيه شانجه ورمند ويقوم هو في قلبه، فعند السحر، حمل جيش غرسيه أولا يريد مباغتة الأندلسيين، وإذا داود بن عائشة يصدمه بفرسان المرابطين، ويكسر من حدة هجومه.
ولم يكن الإسبانيون ينتظرون هذه المفاجأة فانكفئوا إلى خط دفاعهم الثاني، ثم أصلحوا أمرهم وعاودوا الكرة على المرابطين، وحمل معهم ألفنس بسائر الجيش، يخترق فرسانه المدرعون بالحديد الخطوط الأندلسية، وقد ارتفع إلى السماء صياح الإسبانيين وقرع طبولهم، وكانت الحملة راعبة عنيفة، فلم يصبر لها أمراء الأندلس، فتراجعوا مفلولين ثم ركنوا إلى الفرار، فطاردهم المسيحيون إلى أسوار بطليوس، ولم يثبت في الميدان إلا فرسان إشبيلية وأميرهم المعتمد بن عباد، والفرسان المرابطون، وقائدهم داود بن عائشة، فإنهم لبثوا يجاهدون الأعداء صابرين على عض السلاح، مستهينين بالموت، لا يطلبون النجاة.
وأظهر ابن عباد من ضروب البسالة ما يملأ النفس إعجابا؛ فقد أحاط به الإسبانيون من كل جهة، فانكشف بعض أصحابه، وفيهم ابنه عبد الله، فأخذ يقتحم الصفوف معرضا نفسه للوبال، فشج رأسه، وجرحت يمنى يديه، وطعن في أحد جانبيه، وعقرت تحته ثلاثة أفراس، وهو يجالد مستأسدا لا يترك المعمعة، ولو لم ينفس عنه داود بن عائشة بعض الشيء لكانت عليه المحنة أشد وأقسى.
فقد جاهد القائدان بفرسانهما أروع جهاد، حتى لم يبق لهما أمل من الدفاع، فارتدا بأصحابهما إلى الأسوار ملتحقين بأمراء الأندلس الذين انهزموا في بدء المعركة، وأسملوا محلاتهم، فاستفاد منها الأعداء في انقضاضهم وتطويق الذين صبروا وصابروا من المسلمين، وتتبعهم ألفنس بالمطاردة ليجهز عليهم، فتدفقت وراءهم فرسان إسبانية تضرب في أقفائهم، وبارق النصر يلوح لها مشعا لماعا.
وظن ألفنس واهما أن الكسرة وقعت على جيوش المسلمين بأجمعها، وأن يوسف بن تاشفين والصحراويين في جملة المندحرين، ولكن ساء فأله، فبينما هو يطارد المنهزمين، وأصحابه يتباشرون بالظفر، إذا بالصرخة تتعالى وراءه في معسكره، وقرع الطبول يتجاوب في الهواء، وكان زعيم المرابطين قد خرج بعساكره من وراء الأكمة، وأمر قائده أبا بكر أن يخف بقوة من البربر لمعونة المعتمد بن عباد والأندلسيين، وسار هو بفيالقه الضخمة إلى معسكر الإسبانيين، فأناخ عليه، فأوقع بحاميته، وانتهب ما فيها من الذخائر والسلاح، وضجت أصوات طبوله، فاستكت لها آذان ألفنس ورجاله.
وجاءه النبأ المشئوم وهو في نشوة الظفر يتعقب الأندلسيين، ويبعثر البرابرة الذين جاءوا لنجدتهم، فترك المطاردة، وارتد بجيوشه إلى المعسكر؛ لينقذه من أيدي المرابطين، وأبصر يوسف بن تاشفين عنف الكرة، فحاد عنها خارجا لهم عن المحلة، ثم كر عليهم فأخرجهم، ثم كروا عليه فأخرجوه، وتوالت الكرات والمعسكر ينتقل من يد إلى يد، وكان أمير المرابطين يمر بين مسافات المسلمين يحرضهم، ويقوي نفوسهم على الجهاد والصبر ويقول: «يا معشر المسلمين، اصبروا لجهاد أعداء الله الكافرين، ومن رزق منكم الشهادة فله الجنة، ومن سلم فقد فاز بالأجر العظيم والغنيمة.» فقاتل المسلمون في ذلك اليوم قتال من يطلب الشهادة ويرغب في الموت، وقاتل المسيحيون أصدق قتال، وصبروا أعظم الصبر، وفي نفوسهم ما في نفوس أعدائهم من الحمية للدين والوطن، فتساقطت ألوف الضحايا من الفريقين حتى غصت بهم ساحة القتال، وخاضت الخيل في برك من الدماء، وسقط فيها جماعة فغرقوا في دم قتلاهم، وصارت الأرض ترتجف من وقع حوافر الجياد، وانعقد العجاج فأظلم النهار.
অজানা পৃষ্ঠা
وكان المعتمد بن عباد، وداود بن عائشة قد جمعا شمل فرسانهما بعد أن كف ألفنس عن المطاردة، فارتدا بهم في أثر المسيحيين، وارتد بعدهما المنهزمون من أمراء الأندلس وقد اشتدت عزائمهم حين تنسموا ريح النصر، فأخذ الإسبانيون من الجانبين، فتناهبتهم شفار السيوف تحصدهم من الأمام والوراء، وهم لا يفترون عن المكافحة غير مصدقين أنهم خسروا المعركة، يكرون على معسكرهم يستعيدونه من المرابطين، ثم ينتزعه المرابطون من أيديهم، ثم يرجع إليهم، وهم في الوقت نفسه يقاومون الأندلسيين في مؤخرتهم، حتى دنت ساعة الغروب، فكره يوسف بن تاشفين أن يأتي الظلام ويفصل بينه وبينهم على غير نتيجة، فأمر رجاله السودان، فترجلوا عن مطاياهم وعدتهم أربعة آلاف، بأيديهم السيوف والدرق ومزاريق الزان، فاقتحموا خيول الإسبانيين، وأعملوا الطعن في بطونها وصدورها، فازورت بفرسانها وخامت عن المعترك من ألم الجراح.
وحملت جيوش المسلمين حملة صادقة؛ فانهزم الإسبانيون متخلين عن معسكرهم لا يأملون العودة إليه، فاستحر القتل فيهم، فلم يفلت منهم غير طويل العمر، وأبى الملك ألفنس أن يهرب، فلبث يجمع صفوفه ويقاتل مستبسلا مخاطرا بحياته، فلحقه أحد السودان، فلصق به وطعنه بخنجر فأثبته في فخذه، وهتك حلق درعه ، فبادر إليه خمسمائة من فرسانه الدارعين فأنقذوه، ولكنه رفض أن يترك ساحة القتال، وآثر الموت على أن يرضى بالهزيمة، فساروا به على كره منه إلى تل مما يلي المعسكر، ثم انحدروا إلى قورية يسترهم الظلام.
وخسر الإسبانيون أكثر جيشهم في هذه الموقعة، وكذلك كانت خسارة المسلمين جسيمة؛ لأن الضائقة لزمتهم معظم النهار، بيد أنهم وجدوا تعزية في النصر البهيج، فأقاموا مهرجان الفرح مساء يومهم، وبعث المعتمد بن عباد حمامة إلى عاصمته تحمل رسالة البشرى لولده الرشيد، فقرئت على الناس في المسجد الجامع، واحتفلت إشبيلية بالنصر في اليوم نفسه على ما بينها وبين بطليوس من البعد، وبات الجيش ليلته في ميدان القتال، حتى تنفس الصبح، فجمعت ألوف من رءوس الإسبانيين على شكل مئذنة، وقام فوقها المؤذن ينادي: حي على الفلاح!
وانتهت معركة الزلاقة بيوم واحد، الجمعة 23 كانون الأول 1086م، فدونت حدثا عظيما في تاريخ الإسلام، فهي وإن تكن فتحت أبواب الأندلس لمرابطي إفريقية، فلقد أثبتت فيها أقدام المسلمين مدى أربعة قرون.
رذريق والمرابطون
عاد أمير المسلمين من معركة الزلاقة يجرر ذيل المجد، ومن حوله ملوك الطوائف يسعون إليه بتحايا الشكر وعرفان الجميل، وهم بين سكرة النفس الغائبة، وصحوة الفكر الحاضر، تهزهم أهازيج العساكر المنتصرة، فيستسلمون للغبطة والتيمن، ثم يلوح لهم وجه يوسف بن تاشفين، في عبوسه واستعلاء نظراته، ويسمعون أصوات المرابطين ترتفع على أصوات الجنود الأندلسية، فترتعد الغبطة في قلوبهم، ويستحيل اليمن طيرة وشؤما.
يشوقهم أن يترشفوا غرة الجو مشرقا صافيا، بعد أن تلاشت عاصفة الإسبان، وتمزقت سحائبهم في الشمال، فتروعهم غمامة مطلة من الجنوب، كثيفة سوداء.
ينظرون إلى زعيم الملثمين يسير في المقدمة عظيما بقوته وبطشه، عظيما بورعه وتقشفه، فلا يملكون النفس عن الإعجاب بأمير مسلم، أنقذ الأندلس المسلمة، وأبعد عنها خطر المسيحية، فيودون لو ينطق بكلمة تبدد أوهامهم وتبعث الطمأنينة في الصدور، لينقلب هذا الإعجاب حبا ومودة، ولكنه صامت لا يحدثهم بشيء عن إماراتهم ومصايرها، فإذا هم - بكره منهم - يخافونه على بلادهم، أكثر مما يخافون ألفنس والقشتاليين.
ولم يكن خوفهم في غير محله، فإن سلطان مراكش قد عقد نيته على البقاء في الجزيرة ليشرف من كثب على الدويلات العربية، ويتابع جهاد الإسبانيين ورد غاراتهم، ولعله ابتدأ منذ اليوم يعتبر الأندلس ولاية من أعمال إفريقية؛ لما رأى من عجز أمرائها وضعفهم وتخاذلهم.
غير أنه فكر في شيء وفكرت الأقدار في شيء آخر، ففيما هو يتأهب للقيام بغارة جديدة، جاءه نعي ولده أبي بكر سير، وكان قد أقامه نائبا عنه في مراكش يدير أمورها، فاضطر إلى الإسراع في العودة لتنظيم حكومته، إلا أنه ترك الجيش الصحراوي في الأندلس برئاسة قائده سير بن أبي بكر، فاستأنس ملوك الطوائف بعض الشيء، وسرهم أن يبتعد الظافر عن أرضهم، منصرفا إلى العناية بشئون مملكته الإفريقية، فاستأنف بعضهم الغارات على الإمارات الإسبانية والبرتغالية يعاونهم جيش المرابطين، فكانوا ينجحون في مكان ويخفقون في مكان آخر.
অজানা পৃষ্ঠা
ولم يخطر لهم في بال أن ألفنس السادس ستقوم له قائمة بعد موقعة الزلاقة، وقد خسر فيها نخبة فرسانه ومعظم جيشه وعتاده، ويقينا لو أصابت هذه الكارثة رجلا غيره لحطمت عزيمته وقضت على مساعيه، ولكنها أصابت جبارا مريدا لا يسهل على الأحداث تدويخه وإقعاد هماته، فإنه ما انفك - منذ هزيمته المشئومة - يستنفر الإسبانيين والفرنسيين، حتى تم له بعد عام حشد جيش عظيم في عدته وعدده، فخرج به سنة 1087م، مغيرا على الأندلس، مخربا فيها، مفتتحا بعض مدائنها، مهددا ملوكها ولا سيما المعتمد بن عباد.
وعبثا حاول هؤلاء الأمراء أن يدفعوا البلاء عن ديارهم، وهم على تحاسدهم، وطمع قويهم في ضعيفهم، لا يخلصون النية للتعاون المشترك، يتحالف منهم فريق، ويتخلف فريق آخر، ولا يتلكأ بعضهم أن يكيد لبعض، فكأن يوم الزلاقة أنساهم ما جر عليهم تفسخهم بالأمس، وكأن بعد يوسف بن تاشفين أغفلهم عما يهددهم في الغد، وكان المعتمد أشدهم طموحا إلى بسط سلطانه والاستئثار بالنفوذ؛ لاعتداده عليهم بالقوة واتساع الملك، فحدثته نفسه بخطة خرقاء لم يحسب حسابا لنتائجها، فرأى أن يعبر المضيق إلى المغرب ويشرح لأمير المسلمين أحوال الأندلس وقعود أمرائها عن حمايتها، راجيا منه أن يوليه قيادة العساكر الصحراوية ليستطيع بها جمع الولايات وضم أشتاتها، ومن ثم مقاومة الأمراء المسيحيين، وفاته أن سلطان مراكش ينتظر هذه الفرصة لتحقيق رغائبه في الاستيلاء على الأندلس وجعلها من أعمال دولته.
فعاد من عنده خائبا نادما؛ لأن الزعيم المرابطي يريد أن يحمل بنفسه عبء مجاهدة الإسبانيين، ولعله تلقى رسائل من علماء الأندلس يستنجدونه لإنقاذها؛ فنشط يجمع العساكر ويدربها، حتى تهيأ له حجفل كثيف، فعبر به بحر الزقاق إلى الجزيرة الخضراء، في حزيران 1088م/ربيع الأول 481ه، وما وكده الأمراء المسيحيون وحدهم، بل ملوك الطوائف قبلهم.
على أنه لم يجد من الحكمة أن يناصبهم العداء فورا، فباشر الحرب أولا مع الإسبانيين دون أن يدعوهم إلى مساعدته، ثم ارتد إلى غرناطة فاحتلها واعتقل صاحبها عبد الله بن بلكين بن باديس، ونفاه إلى أغمات قرب مراكش، متهما إياه بأنه حليف لألفنس، ورأى أن الجيش المرابطي لا يكفي للقيام بحركات واسعة يزيل بها ملوك الطوائف، فارتد إلى سبتة وأخذ يحشد العساكر ويجيزها إلى قائده سير بن أبي بكر في غرناطة حتى اجتمعت له قوات جرارة، فسيرها في أربع جهات لقتال المعتمد بن عباد، والمعتصم بن صمادح صاحب ألمرية (Almeria) .
وكان المعتمد يتوقع غارة المرابطين على مملكته، ويستعد لها، فهب إلى مدافعتهم يخوض المعارك بنفسه، ويبلي أحسن البلاء، ولكن ما حيلته وجيشه ضعيف أمام الفيالق الصحراوية الطاحنة؟! فمن الجنون أن يغرر به ويتابع حربا نتيجتها خاسرة؛ يعرف كل ذلك، ويعرف أيضا أن الحرب لا مهرب منها إلا إذا تنازل عن عرشه ليوسف بن تاشفين، وكيف له بالتنازل عنه وهو به ضنين، يفضل أن تخرق الرماح جثمانه وأن يموت الجيش في مكانه على أن يخفض الرأس لابن الصحراء!
ترى بمن يستغيث، وإلى من يفزع؟ أيدعو ملوك الطوائف لنصرته، وفيهم الحاسد والشامت؛ من يسر بنكبته، أو الخائف المرتعش يشتغل بتحصين أرضه ولا يجرؤ أن يبادي الملثمين بالعدوان؟ وما أبعد الأمل عند ملوك الطوائف! وما أقربه عند ألفنس عدوه اليوم وحليفه بالأمس! فلماذا لا يهرع إليه بندائه وهو يشعر شعوره بخطر الغزاة الغرباء؟ وما كاد صوت الاستغاثة يبلغ عاهل قشتالة، حتى بادر إلى نجدته بأربعين ألف راجل وعشرين ألف فارس يقودهم الكونت غوميز (Gomez) ، فالتقاهم المرابطون عند قرطبة فهزموهم بعد معكرة دامية.
ولبث المعتمد يدافع عن إشبيلية دفاع اليائس المستميت، باذلا آخر ما لديه من القوى، والمرابطون يأخذونه من كل جهة إلى أن دخلوها عنوة في أيلول سنة 1091م/رجب 484ه، فاعتقلوه وساقوه وأسرته إلى أغمات، وسقطت ألمرية على إثر إشبيلية، وزال عنها ملك المعتصم بن صمادح، ثم أناخ المرابطون على مرسية (Murcie) ، وافتتحوا دانية (Dénia)
وشاطبة (Jativa) ، وما زالوا يتقدمون من مدينة إلى مدينة حتى انتهوا إلى بلنسية، وهي يومئذ في حكم القادر بن ذي النون، وكان ألفنس السادس قد أقطعه هذه الإمارة بدلا من طليطلة التي انتزعها منه، وجعله تحت حمايته يتقاضاه الجزية ويذود عنه إذا اعتدي عليه.
فلما أغار المرابطون على بلنسية انضمت قوة من النصارى إلى المسلمين تدافع معهم عنها ممتنعين بحصونها، ولكن المهاجمين استطاعوا أن يأخذوها في غير مشقة؛ لأن القاضي أبا أحمد بن جحاف المعافري فتح لهم أبوابها، وأمدهم بجماعة من أصحابه تسهل لهم امتلاكها؛ لطمعه في الإمارة، وكرهه للقادر بن ذي النون صنيعة الإسبانيين.
وكافأ المرابطون القاضي فجعلوه واليا على بلنسية من قبل سلطان مراكش، فما كان منه إلا أن بادر إلى الانتقام من القادر، فما زال يبحث عنه ويطارده حتى تمكن منه فقتله، ثم انتهب قصره واستولى على أمواله، فزالت بموته دولة ذي النون 1092م/485ه.
অজানা পৃষ্ঠা
على أن سقوط بلنسية في أيدي المرابطين لا يعد خسارة للنونيين وحدهم، بل هو خسارة لألفنس السادس أيضا، وبالتالي، خسارة كبيرة للفارس الإسباني، السيد رذريق (Rodrigue le Cid) ؛ فقد كان ملك قشتالة يعتبر بلنسية إمارة تابعة له، ولا ينظر بارتياح إلى تقدم الإفريقيين في الأواسط الشرقية من الأندلس؛ حيث ينبسط نفوذه، وقد رأيناه يبادر إلى نجدة المعتمد بن عباد لكي يستوقف زحف المرابطين، ويقضي على حركاتهم في الجنوب قبل أن تتسع وتنتشر، فلم ينجح في مسعاته فاضطر جيشه إلى التقهقر عن قرطبة مدحورا، وراحت العساكر الصحراوية توغل في الجانب الشرقي، ناهضة من مدينة إلى مدينة حتى استولت على أكثر القواعد الحصينة ، هازمة أمامها القوى الأندلسية وأعوانها الإسبانيين، ومن بينهم الكونت رذريق وفرسانه الأشداء.
وكان هذا الفارس لا يقل حماسة عن أميره ألفنس في مقاومة المرابطين ومصابرتهم، ولا يقل عنه غضبا لسقوط الولايات الشرقية؛ لما له من النفوذ فيها، ولا سيما بلنسية التي بسط عليها سيادته وجعلها محط آماله ومدار مطامعه، سواء أرضي مليكه أم سخط؛ فإنه من أولئك الأبطال المغامرين الذين يتعشقون الشهرة، ولا ينكصون عن طلبها مهما يقم دونها من الأهوال، وقد كان ألفنس ناقما عليه حتى إنه نفاه عن قشتالة، وأزال ما به من نعمة سابقة.
فما زاده النفي والاضطهاد إلا عزما وإقداما، فبنى مجده بذكائه وحد سيفه على كره من العاهل القشتالي، وباءت بالخيبة كل محاولة قام بها ألفنس لخذلانه وإخراج بلنسية من يده، وجدير بنا أن نلم بطرف من حياة السيد وأخلاقه قبل أن نتحدث عن مواقعه في بلنسية مع المرابطين؛ لتنجلي للقراء تلك الشخصية التي بلغت من سيرورة الذكر ما لم يبلغه ألفنس السادس نفسه؛ فقد تغنى ببطولتها الشعراء والمنشدون، ونسجت حولها الروايات والأساطير، فكانت غذاء للأدب الإسباني في القرون الوسطى، وغذاء من بعده للشاعر الفرنسي كورناي في مسرحيته الخالدة «السيد».
هذا الفارس القشتالي يمثل فروسية عصره أصدق تمثيل بفضائلها وعيوبها، أوتي من القوة البدنية والشجاعة والإقدام واستهانة بالموت ما يصح أن توسم به عصور البطولة، وساعده ذكاؤه وقوة إرادته على التبصر في الأمور وتصريفها، والنظر في عواقبها.
كانت فروسيته تقترن بالتدين وحرارة الإيمان، يصوم ويصلي، ويعنى بالحفلات الدينية، ويقدم الهدايا للكنائس والأديرة، فهو على خلاف ما تصوره المستشرق دوزي؛ إذ جعله لا دين له ولا شرع؛ فإن روح الدين كانت أكبر محرك لنفوس الفرسان في عصره؛ بسبب الحروب الصليبية التي امتدت من الغرب إلى الشرق، ولعل دوزي نفى عنه العقيدة المسيحية لكثرة ما اقترف من الجرائم والفظائع التي يستنكرها الدين وينهى عنها، أو لعله يرمي إلى تقلبه في السياسة الوطنية، فحينا يحارب المسلمين مجاهدا، وحينا يضع سيفه في خدمتهم لينصرهم على المسيحيين، وفي كلا الحالين لو عاد المستشرق بالسيد إلى عصره لما وجده غريبا عنه؛ فإحراق القاضي ابن جحاف حيا، والتمثيل بالأسرى أو إلقاؤهم إلى الكلاب الضارية، كلها أعمال وحشية بحد ذاتها، تنفر منها النفس الإنسانية في صفائها.
إلا أن رذريق لم ينفرد بها عن غيره، فإنما هي من عيوب فروسية العصر، وتاريخ الأندلس حافل بأمثالها وبأبشع منها، وتقترن على الغالب بأحوال خاصة؛ كدافع الانتقام، أو الحاجة إلى الإرهاب، ولا يصح في ما عدا ذلك أن تجرد السيد من الشعور الإنساني والعاطفة المهذبة تجريدا تاما، وفي أخباره ما لا يسمح لنا بهذا الحكم الجازم، كخبره مع المرأة النفساء، ذكره لويس برتران في كتابه «تاريخ إسبانية»، وهو أن السيد عندما نفاه الملك سار بفرسانه وخدمه هائما بين قشتالة وسرقسطة، فذات يوم أمر بأن تقوض الخيام للرحيل، فما كادت تطوى وتحمل حتى سمع بعض رجاله يقولون إن زوجة طاهيه قد وضعت في تلك الساعة. فسألهم حالا: كم تلزم سيدات قشتالة السرير عادة بعد الولادة؟ فأعلموه، فقال: إذن نبقى هنا طول هذه المدة، فلتنصب الخيام.
وبقي السيد في مكانه لا يتحرك منه حتى نهضت زوجة الطاهي من فراشها، مع أن الخطر كان محدقا به لانتشار الأعداء وتسربهم في تلك الأصقاع.
وكذلك تقلبه في السياسة الوطنية لم يكن غريبا في نوعه عندهم؛ فإن تاريخ إسبانية يحدثنا عن كثير من الفرسان المسيحيين والمسلمين كانوا يفعلون فعله، مدفوعين بحب المال والشهرة، أو شهوة الانتقام، أو روح المغامرات، إلى محاربة أبناء ملتهم في صفوف أعدائهم، والكونت رذريق فيه جشع كبير إلى المال والشهرة، وكانت شهوة الانتقام تحفزه إلى طلب المعالي، بعدما فقد حظوته عند ألفنس وأبعد عن بلده.
وهو إلى ذلك لا تنقصه روح المغامرات، وإسبانية يومئذ في حالتها السياسية المضطربة، وما يهددها من الخطر الشامل لتصارم ولاياتها، وتباغض حكامها، تفرض على الأمراء المسلمين والمسيحيين أن يجتمعوا في مواطن مختلفة، متحالفين مع ما بينهم من حروب أزلية وعداء قديم، على ما في هذا التحالف من تكافؤ أو غير تكافؤ، كما حالفت بلنسية وسرقسطة قشتالة، وكانتا في الوقت نفسه تؤديان لها الجزية، وتعتمدان على مساعدتها إذا نزل بها عدو مغير، فغير عجيب أن يقاتل السيد في صفوف حلفاء قومه - وإن كان العدو الذي يقاتله من المسيحيين - أو أن يقاتل في غير صفوف حلفائه وهو حاقد على أميره، مغامر باسل يطمح إلى المجد ويطمع في المال، ولديه جيش خليط من المرتزقة، لا يقوم على المسيحيين وحدهم، بل فيه عدد عظيم من الفرسان المسلمين، وإذا عدنا إلى أخباره أول حياته نجده - مع حبه للمال وسعيه إلى جمعه - لا يجرد حسامه إلا في سبيل أميره.
ولد هذا الفارس في قرية فيفار (Vivar) ، على مقربة من برغش (Burgos)
অজানা পৃষ্ঠা
نحو سنة 1045م، يكتنفه النسب الكريم من ناحية أبيه دياغو أو دياز (Diego ou Diaz) ، سليل كالفو (Calvo)
بعض كبار القضاة في قشتالة، ثم من ناحية أمه التي تنتمي إلى أسرة كبيرة في أشتوريش (Asturias) ، وكان والدها صاحب إقطاعات في الوادي الجوفي؛
1
أي وادي دويره (Duero) ، والظاهر أن دياغو توفي والغلام في نحو الثالثة عشرة من سنيه، على حد تقدير لاوي بروفنسال؛ إذ يجعل وفاته سنة 1058م، فورث رذريق أملاكه.
ثم اتصل بالدون شانجه (Sancho)
بعدما قسم فردينان مملكته بين أولاده الثلاثة، فأتيح له أن يتأدب بأدب القصر شأن أبناء الأمراء؛ وقلده شانجه رتبة الفروسية، فحارب معه سنة 1063م مناصرا المقتدر بن هود ملك سرقسطة على الأرغونيين؛ فكانت أولى معاركه بجانب المسلمين على المسيحيين.
فلما نشب الخلاف بين الإخوة الثلاثة، وقام الواحد منهم ينازع الآخر نصيبه من ملك أبيه؛ وقعت بينهم حروب أهلية، فقاتل الفتى رذريق تحت لواء شانجه، حتى تم النصر لأميره؛ فكافأه على بلائه بمنصب رفيع في القصر، وأناط به قيادة الجيش، وصاحبها يعرف بصاحب العلم (Alferez) ؛ ولقب بالكمبيادور (Campeador)
أي القائد الأعلى، أو رئيس الغزوات؛ على رأي لاوي بروفنسال.
ويسميه المقري في نفح الطيب: القنبطور، ويعرف أيضا عند مؤرخي العرب بصاحب الفحص،
2
অজানা পৃষ্ঠা
والمراد به الرئيس الموكول إليه أمر الغارات على فحوص الأعداء وانتساف زروعها، غير أن حياته في القصر لم يكن من شأنها أن تمنحه الشهرة التي أعدتها له الأقدار مع كثرة الحروب التي شهدها في عهد مليكه.
ثم اغتيل شانجه في حصار زمورة (Zamora)
الثائرة عليه سنة 1072م، واتهم بمقتله أخوه ألفنس؛ وكان هذا قد نفاه من شانجه إلى طليطلة؛ فرجع إلى مملكته لاون واعتلى عرشها، وأراد أن يضم إليه قشتالة نصيب أخيه المقتول؛ فتمنع القشتاليون عن مبايعته أو يقسم على براءته من دم أخيه، فرضي ألفنس، وذهب في جماعة من أشراف قشتالة إلى كنيسة شانتا غادية (Gadia)
في برغش لتأدية اليمين؛ فلم يجرؤ أحد منهم على تحليفه سوى الكونت رذريق؛ فحقد عليه، ولكنه كان يتقي جانبه لما يعلم من بطشه ودهائه، فآثر أن يأخذه باللين على أن يجاهره العداء، وإن تكن هذه الظواهر لا تخدع الفارس الذكي فتزيل من نفسه الريبة بعاهله الجديد؛ فقد رأى خيرا له أن يتخلى عن منصبه في الجيش، ويترك القصر دون أن يخرج عن طاعة ألفنس، أو يقطع صلة التابع بالمتبوع.
وكان لألفنس ابنة عم يقال لها الدونا ليمانا دياز، وتعرف بشيمانة، وهي بنت دياغو بن رذريق كونت أوفيادو؛ وحفيدة ألفنس الخامس ملك لاون، فشاء أن يزوجها برذريق؛ ليجمع بهما أشراف لاون وقشتالة، ويزيل ما بين البلدين من العداء.
فقبل الفارس القشتالي عروسه اللاونية من يد مليكه بعامل السياسة، لا بدافع الحب الذي يصوره كورناي في مسرحيته، ويجعل منه صراعا عنيفا بين العاطفة والواجب في نفس البطل العاشق، ثم في نفس معشوقته، فوالد شيمانة لم يلطم والد السيد، وهذا لقي حتفه من عهد بعيد، ولا رذريق اضطر إلى قتل والد شيمانة، وإنما تم الزواج بينهما في جو هادئ، لا تلوح فيه بارقة وجد، ولا عاصفة التياع، وهذا لا يمنع أن يكون الزوجان تبادلا المودة والإخلاص مع طول الألفة، كما يحصل عادة بين الرجل والمرأة إذا اقترنا وقلباهما خليان من حب أو كره.
غير أن هذا الزواج لم يعد إلى رذريق سابق حظوته في القصر، فما لبث أن رجع وشيمانة إلى قريته بيغار لا يخرج منها إلا إذا دعاه أميره لبعض المهمات.
وكان ألفنس يوفد كل سنة بعثة إلى طليطلة وإشبيلية، لاستئداء الجزية من الدولتين الإسلاميتين، فأوفد السيد إلى إشبيلية في أواخر سنة 1079م ليأخذ الجزية من صاحبها المعتمد بن عباد، فلما بلغها رأى الحرب دائرة بينها وبين الغرناطيين، وعلى غرناطة يومئذ الأمير عبد الله بن باديس بن زيري، وقد أمده ألفنس بنجدة من الفرسان الإسبانيين تنصره على المعتمد؛ لأنه لم يكن مطمئن النفس إليه؛ لانبساط ملكه بين ملوك الطوائف، وطمعه في التوسع، وكان قائد الحملة الإسبانية الكونت غرسيه أوردونه عدو رذريق ومنافسه، فخاض السيد المعركة بجانب الإشبيليين محتجا بأنهم حلفاء مليكه ألفنس.
فهزم العساكر الغرناطية، وأسر جماعة من الأشراف المسيحيين بينهم غرسيه، ولم يطلق سراحهم إلا بعد ثلاثة أيام، فقفلوا إلى بلادهم مذلولين منكسي الرءوس، وتقاضى رذريق الجزية من ابن عباد، وحملها إلى قشتالة سنة 1080م.
فغير عجيب أن يكون له من غرسيه وأعوانه خصوم يناصبونه العداء، ويكايدونه في السر والعلانية حتى أوغروا صدر ألفنس عليه، فبات يتحين الفرص للنيل منه، وإضعاف شأنه، فاتفق أن أغار السيد على طليطلة دون استئذان سيده، فأثخن وأوجع، وعاد بالأسرى والغنائم، فثار ثائر الأشراف القشتاليين لاستقلاله بالأمر، وصغى إليهم ألفنس، وبدا له أن يطرده من أراضي قشتالة، ففتحت له أبواب المجد في منفاه.
অজানা পৃষ্ঠা
ولم يسلم سبب طرده من الالتباس والخلاف فيه؛ فمنهم من يرجعه إلى حقد الملك عليه من أجل اليمين التي لقنه إياها في كنيسة برغش، ومنهم من يعود به إلى غاراته على طليطلة وإيقاعه بحلفاء عاهله، أو إلى طمعه في الثروة، وأنه أخذ مالا كثيرا من المعتمد بن عباد، ويتفق لويس برتران والمستشرق الألماني جوزف أشباخ على القول بأن فارسا ممتازا عظيم الكبرياء كثير المطامع مثل السيد لا يرضى أن يظل مغمورا في كنف ملك يبخسه حقه ويغار منه، فهو لا بد أن يختار هذا النفي بنفسه، ويقصد إليه قصدا إلم يفرض عليه، ليسعى وراء الشهرة التي يتعشقها، ويبني عليها قصور أحلامه.
ومهما يكن من شيء، فإن رذريق هجر موطنه نحو سنة 1081م، مبقيا زوجه وأولاده في بيفار، وسار برجاله إلى برشلونة، عارضا سيفه على أميرها رامون بيرنغر الثاني (Berenguer)
فلم يجد عنده قبولا، فتركه وولى وجهه شطر سرقسطة، فاتصل بصاحبها المقتدر بن هود، وكان حليفا لألفنس فأحسن وفادته.
وتوفي المقتدر في السنة نفسها، فانتقل الحكم من بعده إلى ولديه المؤتمن والمنذر، فولي الأول سرقسطة وأعمالها، والثاني دانية وطرطوشة (Tortosa)
ولاردة (Lerida) ، ثم نشب الخلاف بينهما، فاستنجد المنذر كونت برشلونة وملك أرغون مستنصرا بهما على أخيه فأمداه بالعساكر، فخرج إليهم رذريق بفرسانه وفرسان المؤتمن فاشتبك وإياهم في معارك دامية كتب له النصر فيها، فانهزموا أمامه، فطاردهم وأناخ على بلادهم فدمر وأتلف ونشر الروع بين المسيحيين والمسلمين، ويروى أنه أسر يومذاك بيرنغر كونت برشلونة، وكان هذا قد نذر دمه، فأبى إلا أن يقابله بالإحسان، معاملة الفارس الشريف لصنوه، فأطلق سراحه دون أن يطلب منه الفداء، ثم رجع إلى سرقسطة تظلله رايات المجد والظفر فاستقبلته المدينة هاتفة له، وأنزله المؤتمن منزل الكرامة، وصار المسلمون حلفاؤه يلقبونه بالسيد من ذلك الحين، غير أن لاوي بروفنسال يقول: إن لقب السيد ليس له ذكر في الروايات المسيحية القديمة ولا في الروايات العربية، وإنما يذكر لقب القنبطور، وفي ذلك ما فيه الشبهة كما لا يخفى.
ولم يطل حكم المؤتمن؛ فإنه توفي سنة 1085م فخلفه ابنه المستعين مترسما خطة أبيه في إكرام السيد والاعتماد على سيفه وخبرته، إلا أن الفارس القشتالي لم يهجر بلاده ليكون تابعا لأمير غير أميره، بل ليحقق أحلامه، وأي أحلام تراوده سوى الإمارة والسلطان؟ فرمى بعينيه إلى الولايات المجاورة يتفحصها، فوجد بلنسية أقربها منالا وأحكمها موقعا، فالقادر بن ذي النون ضعيف لا قبل له بالدفاع عنها، فانقض عليها بفرسانه فافتتحها، والظاهر أنه كان على اتفاق مع المستعين، ولم يشأ أن يخلع القادر بل استبقاه مراعاة للمسلمين، ووضعه تحت حمايته.
وأرسل في الوقت نفسه إلى ألفنس السادس يبايعه على الطاعة؛ لئلا يثير حفيظته، وبلنسية معدودة في جملة الإمارات الخاضعة لمملكته.
ومن الطبيعي أن لا يرتاح ألفنس إلى عمل السيد واستبداده بإمارة حليفه وتابعه، وهو ناقم على هذا الفارس الطريد ؛ فكيف يأمن جانبه إذا قويت شوكته في بلنسية وما جاورها؟ وقد كان حقيقا به أن يرميه بحملة تأديبية تنزع بلنسية من يده، وتحرر القادر من سلطانه، إلا أن الأحداث الخطيرة التي طرأت على الأندلس اضطرته إلى التغاضي عنه؛ ذلك أن المرابطين أخذوا يتقدمون في الولايات الجنوبية والشرقية ناثرين تيجان ملوك الطوائف، مغيرين على الأراضي الإسبانية، فالخطر الداهم أعظم من أن يحمل الملك القشتالي على التفكير في محاربة السيد ومعاقبته، وقد تكون الاستفادة من سيفه في مثل هذه الأحوال أولى وأنفع.
ولم يخطئ ألفنس في حدسه ونظره إلى الأمور؛ فإن السيد نفسه كان يشعر شعور مليكه، وتساوره المخاوف من زحف المرابطين وانتصاراتهم الصاعقة، فإذا بهذا الشريد المغامر يصبح بطلا قوميا لا هم له إلا أن يرد الأعداء الغرباء عن بلاده، ويحول دون تجدد النكبات التي شهدتها إسبانيا المسيحية في أوائل الفتح، ومن هنا تبتدئ حياته الوطنية اللامعة تتغنى بذكرها وتخلدها القصائد والأناشيد.
دخل المرابطون بلنسية، والسيد غائب عنها، فارتد إليها عندما بلغه الخبر، وهو مصمم على استرجاعها - مهما كلفه خطبها - ليجعل منها قلعة حصينة في وجه الملثمين تمنعهم من التوغل في الولايات الإسبانية، فنشط إلى تحصين القلاع الجبلية المحيطة بها وتعزيز حامياتها.
অজানা পৃষ্ঠা
ودعا إلى محالفته الأمراء المسلمين في السهلة وشاطبة ودانية ومربيطر (Murviedro)
فلبوا الدعوة لما يضمرون من الكره للمرابطين، ثم ضرب الحصار على المدينة بجيش لهام من النصارى والمسلمين، فصبرت بلنسية عليه مدة طويلة تقاوم الجوع يائسة؛ لأن المرابطين الذين جاءوا لنجدتها هزموا وشتت شملهم، فثار الشعب أخيرا على القاضي جعفر بن جحاف حاكمها الجديد وأجبروه على التسليم، فلم يجد مناصا من مفاوضة رذريق على شروط تضمن السلامة له ولأسرته ولسكان المدينة أجمع، فقبل السيد هذه الشروط، وفتحت له بلنسية أبوابها في أيار سنة 1094م، فدخلها دون أن يتعرض لأحد بأذى، وخطب فيهم فقال:
جعلت لكم يومي الإثنين والخميس موعدين لسماع مطالبكم، فمن كان له حاجة معجلة، فبوسعه أن يدخل علي متى شاء، فأسمع له؛ لأني لن أحتجب عنكم كما كان يحتجب ساداتكم مع النساء للشراب والسماع، وأنا أقضي بنفسي في أموركم، فأكون لكم حاميا وصديقا، وقاضيا ووزيرا، وإذا شكا إلي أحدهم الآخر، حكمت بالعدل بين الخصمين.
ويقول ابن بسام: إن القنبطور ترك ابن جحاف على القضاء نحوا من عام، ثم اعتقله وأهل بيته وقرابته، وجعل يطالبهم بذخيرة القادر بن ذي النون، فأنكر القاضي أن يكون لديه شيء منها، فهدده السيد بالقتل إن كان كاذبا، وهو يعلم أنه قد استولى عليها بعد مقتل القادر، وفي جملتها عقد زبيدة «حمة العقرب» وكان من الزمرد والماس والياقوت، قيل إنه كان لزبيدة زوج هارون الرشيد، فنهب يوم مقتل الأمين، وانتقل إلى الخليفة الأموي في الأندلس عبد الرحمن الثاني.
ثم صار بعد سقوط الدولة الأموية في قرطبة إلى الدولة النونية، فحمله القادر من طليطلة إلى بلنسية، فلما قتل استحوذ عليه القاضي ابن جحاف، ثم امتلكه السيد، وبقي في حوزته حتى مات، فأخذته شيمانة معها إلى قشتالة، ويقول ميناندز بيدال: إن عقد حمة العقرب كان بخزانة قشتالة في القرن الخامس عشر، فأثار شهوة الشريف ألفارو أولينا، فعدا عليه، وعثر الملك جوان الثاني على هذه الحلية سنة 1453م تحت عمود من أعمدة القصر الملكي في مدريد ثم ضاع أثرها، فلم يسمع بذكرها بعد هذا التاريخ.
وقيل: إن ابن جحاف عرض على السيد هدية من ذخائره؛ فردها عليه ولم يأخذها منه؛ فأوجس القاضي شرا، ثم أمره أن يبين في كتاب ما لديه من المال والحلي والجواهر، وأن لا يخفي شيئا عنه، فوعده بذلك، ولكنه أخلف الوعد، وأبقى الذخيرة مطمورة في الأرض، ويقول المقري صاحب نفح الطيب: «فاتفق أنها وجدت عند القاضي، فأمر به فأحرق حيا.»
على أن الذخيرة لم تكن السبب الوحيد الذي حمل رذريق على قتل أبي أحمد بن جحاف، فهناك أسباب أخرى جعلته يحقد عليه، ويرصد له الشر، منها: اغتياله لتابعه القادر بن ذي النون، وإقفاله المدينة في وجهه، وحجزه عنه ما أودع من الحنطة فيها، واستنجاده المرابطين عليه، وتلونه في المفاوضات حينا معه، وحينا معهم، حتى أدى الأمر إلى حصار طويل، أخره عن دخول بلنسية، وأضر بسكانها ضررا بليغا؛ لما أصابهم من الجوع الغاشم حتى أكلوا جلود الحيوانات.
ويقول ابن بسام: إن رذريق كان قد هم بإحراق زوجة ابن جحاف وبنيه معه؛ فضج المسلمون والمسيحيون معا، ورغبوا في ترك الأطفال والعيال، فأجاب رذريق سؤلهم بعد جهد شديد، وأضرمت نار عظيمة في ساحة بلنسية كانت تلفح الوجوه على مسافة بعيدة، وجيء بالقاضي أبي أحمد يرسف في قيوده، وقد احتفر له حفرة، فأدخل فيها إلى حجزته، أي وسطه ومعقد إزاره، وسوي التراب حوله، وضمت النار نحوه، فلما دنت منه ولفحت وجهه قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وقبض على أقباسها وضمها إلى جسده ليقصر مدة عذابه.
ثم اختار رذريق لبون بن عبد العزيز واليا من قبله على بلنسية ليستأنس به المسلمون، وأقام هو في قصر القادر يعنى بإصلاح إمارته وتدبير شئونها، منصرفا إليها بكل قواه، قال فيه أحد المؤرخين: إنه أحبها كعشيقة له. ومع ذلك لم يغفل عن امرأته وأولاده؛ فاستقدمهم من بيفار، ولبث نحو خمس سنوات يقاوم المرابطين، ويمنع تقدمهم في إمارته، فما ينالون منها منالا، ولا يستطيعون الإيغال في الولايات الإسبانية، حتى أصابته الحمى وثقلت عليه الجراح القديمة، وبلغه - وهو على هذه الحال - مقتل ولده دياغو في جيش ألفنس، وانهزام فرسانه أمام ابن عائشة قائد المرابطين في سنة 1097، فآلمه الخطب، واشتد عليه المرض، حتى نهك قواه، وأودى بحياته في تموز سنة 1099.
وكانت الجيوش الصحراوية لا تنفك تهاجم المدينة، فأبت الأميرة شيمانة أن تتخلى عن تراث بعلها؛ فظلت تدافع المرابطين زهاء ثلاث سنوات، وقائدهم مزدلي يشد الخناق على بلنسية، فلما ضاق ذرعها بعثت أسقف المدينة جيروم ذي بيروغورد تستنجد بابن عمها ألفنس، فخف إليها ملبيا، ورفع المرابطون الحصار عن بلنسية عندما عرفوا بمجيئه؛ فدخلها دون أن يلقى مقاومة، ولكنه وجد أن الدفاع عنها يرهق جيشه على غير جدوى، فلم يشأ أن يبقيه فيها عرضة لهجمات الملثمين.
অজানা পৃষ্ঠা
فأمر شيمانة بالجلاء عنها فأطاعت مكرهة، وعادت برجالها مع الجيش إلى قشتالة، حاملة رفات زوجها رذريق (أيار سنة 1102م)، بعدما انتهبت بلنسية وأحرقت، فدخلها مزدلي وهي على تلك الحال.
وبموت السيد تطوى صفحة جليلة من تاريخ الأندلس العربية؛ فإن ولايتها أصبحت خاضعة لمراكش، تابعة ليوسف بن تاشفين الزعيم المرابطي، بعد نضال طويل اشترك فيه أمراؤها وأمراء إسبانية المسيحية، ليطردوا الغريب من بلادهم؛ فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا.
يوم سرقسطة
ما كان طبيعيا أن تظل سرقسطة إمارة إسلامية مع تطرفها في الشمال الشرقي على نهر إبره (Ebre) ، وقد سقطت قبلها طليطلة في أيدي الإسبانيين؛ فجعلت نهر التاج فاصلا بينها وبين الولايات الأندلسية المسلمة، حتى أصبحت في شبه عزلة عن أبناء جلدتها، تستنجد في ضنكها ملوك الطوائف وتستنفر أمير المرابطين.
وقد أخذها ألفنس السادس بالحصار أخذا شديدا، فما رده عنها إلا نبأ جاءه عن يوسف بن تاشفين وأمراء الأندلس بأنهم زاحفون إليه في جموع جرارة، فبادر نحوهم قبل أن يبلغوا طليطلة، والتقاهم في بطليوس؛ حيث دارت عليه معركة الزلاقة بشؤم الطالع 1089م، فانكفأ منهزما إلى عاصمته في فلول من جيشه المكسور، فاستطاعت سرقسطة عندئذ أن تتنفس الصعداء، وتستعيد سلطانها على الولايات التي انتزعت من يدها، ولم يكن لها قبل بالدفاع عنها.
ولكن لم يطل الأمر حتى ساورها خطر جديد من ناحية أرغون لا يقل هولا عن الخطر الأول؛ فإن أميرها شانجه بن رذمير (Sancho Ramiro) ، أغار من جبال البرنات (Pyrénées)
بعشرين ألف مقاتل على نهر إبره، فتصدى له المستعين بن هود، صاحب سرقسطة يدافعه بظاهر وشقة (Huesca) ، وقيل: إن السيد رذريق الفارس القشتالي حارب مع المسلمين في هذه الموقعة، وكان يومئذ ضيف المستعين بعد أن نفاه ألفنس السادس من قشتالة.
إلا أن النصر حالف الأرغونيين فانهزم أمير سرقسطة في جيشه ودخل وشقة محتميا بقلعتها الحصينة؛ فضرب المسيحيون حولها آلات الحصار، وشدوا عليها الخناق ليكرهوها على الاستسلام ؛ فصبرت باسلة، ودافعت أنبل دفاع؛ لقي منه الأرغونيون ضيما وخسرانا، وأصيب فيه شانجه بسهم قاتل أودى بحياته 1093م، ومع ذلك فالحصار ما برح على شدته وضغطه، وتمكن الغزاة في الوقت نفسه من افتتاح مدينة إفراغة (Fraga)
والتغلب عليها ، فلم يبق من سبيل للمستعين إلا أن يفزع إلى حليف يناصره، وينفس الكرب عنه، فرأى أن يحالف عدوه ألفنس السادس؛ لما يعلم من تفسخ الأمراء المسيحيين، ثم من استياء صاحب قشتالة لتوسع مملكة أرغون.
وقد تعودت سرقسطة - لتطرف إمارتها - أن تؤدي الجزية لملوك قشتالة، وتحالفهم على الأعداء الذين يهددونها من قطلونية وأرغون والبشكنس (Basque) ؛ فقد رأينا السيد رذريق يلجأ إليها؛ لأن أميرها أبا جعفر المقتدر، ومن بعده ابنه المؤتمن والد المستعين كانا حليفين لفردينان الأول، ثم لولده ألفنس السادس؛ فغير عجيب أن يحذو الابن حذو أبيه وجده فيحتمي بعاهل قشتالة في الملم العصيب.
অজানা পৃষ্ঠা
وكان ألفنس قد استأنف أهبته ونشاطه بعد كارثة الزلاقة؛ فخرج سنة 1087 يثخن في الولايات الأندلسية، مستنزلا أمراءها عن قواعدهم وحصونهم، فعاد هؤلاء إلى استصراخ يوسف بن تاشفين؛ فعبر إليهم سنة 1088م ينثر التيجان عن رءوسهم، ويبسط يده على إماراتهم، وافتتحت جيوشه بلنسية سنة 1092م فأزالت عنها كلمة النونيين، وهي تحت حماية السيد رذريق يومئذ، تابعة لمملكة قشتالة، وقد رأينا الفارس الإسباني يخف لإنقاذها برجاله وحلفائه المسلمين، حتى استردها سنة 1094م؛ لذلك لا يصح قبول الرواية التي تزعم أنه حارب ملك أرغون سنة 1093م منتصرا للهوديين؛ لأنه كان منصرفا في تلك السنة إلى تحصين القلاع الجبلية ببلنسية، ثم إلى السعي لمحالفة الأمراء المسلمين في السهلة وشاطبة ودانية ومربيطر.
وكما كان السيد مهتما بصد المرابطين عن الولايات الشمالية؛ خشاة أن يدخلوا إسبانية، فكذلك كان هم ألفنس السادس؛ فقد أزعجه توغلهم في الأنحاء الجنوبية والشرقية، واستيلاؤهم على بلنسية، فنشط إلى حشد الجيوش ليدفعهم عن بلادهم إذا حاولوا الغارة على طليطلة؛ فلهذا لم يكن بوسعه أن يجيب نداء المستعين عندما استغاثه ملتمسا حمايته، واعدا بتأدية الجزية على أن يمده بجيش يرد الأرغونيين عن وشقة، وقد بلغ منها الحصار أشده، فلما رأى المستعين أن ألفنس عاجز عن مساعدته لاشتغاله بدفع الخطر الصحراوي عن مملكته، أيقن أن لا فائدة من محالفته؛ فنقض المعاهدة، وولى وجهه شطر المرابطين، مع علمه بما يجر تدخلهم من الخطر على إمارته، ولكنهم على علاتهم أبناء ملته، ولعله تمثل قول المعتمد بن عباد: «رعي الإبل خير من رعي الخنازير.»
فأوفد ابنه عماد الدولة إلى يوسف بن تاشفين في مراكش، ومعه الهدايا النفيسة، يخطب وده ويستعينه على الأرغونيين، فلم يتلكأ أمير المسلمين عن محالفته، وهو يعلم موقع سرقسطة، وما يرجى من فائدته في مهاجمة الأمراء المسيحيين لقربها من ممالكهم.
ثم إنه كان يؤثر أن تظل هذه الدولة المسلمة شجا في حلوق الإسبانيين، فبادر إلى إنجاد وشقة بستة آلاف راجل وألف فارس، واعدا بمتابعة الإمداد، وكتب إلى أمراء دانية وشاطبة والسهلة يهددهم ويدعوهم إلى نصرة المستعين، وطرد الأرغونيين عن وشقة.
وكان عرش أرغون قد صار بعد وفاة شانجه إلى الدون بدرو ولده الأكبر، فتولى بنفسه قيادة الجيش، ملتزما حصار القلعة، حتى إذا بلغه زحف المرابطين ومن انضم إليهم من العساكر الأندلسية رفع الحصار عن وشقة وخف إلى لقائهم في الكرازة؛ فمزق جموعهم ثم ارتد إلى وشقة، فما انفك يحاصرها حتى سقطت في يده سنة 1096م، فجعلها قاعدة لملكه.
ويقول المستشرق الألماني جوزف أشباخ: إن الحروب الإسبانية بين المسلمين والنصارى اتخذت في ذلك العهد شكلا صليبيا منظما؛ لأن الكرسي الرسولي منع أمراء إسبانية من الذهاب إلى الشرق للمساهمة في إنقاذ الأراضي المقدسة أسوة بغيرهم من الأمراء المسيحيين؛ مخافة أن تنتقص قواهم، فيعجزوا عن القيام بقسطهم من الحرب الدينية في الغرب، خصوصا بعدما أوغلت جيوش المرابطين في ولايات الأندلس، وبات خطرها يحدق بالممالك المسيحية في إسبانية، إن لم يكن بالممالك الغربية جمعاء؛ فهب الأمراء الإسبانيون من كل جانب يدافعون العدو المغير على ثغورهم، فاتسعت دوائر القتال، وتعددت جبهات المعارك، ففي كل ناحية تزهق أرواح، وتغلي دماء.
وكان ملك أرغون قد أطمعه سقوط وشقة فراح يوالي الغارة إثر الغارة ووكده سرقسطة دون سواها، بيد أنها امتنعت عليه متمردة، فردته خائبا يائسا سنة 1101م، ثم إن المرابطين استردوا بلنسية سنة 1102م، بعد موت السيد رذريق؛ فأصبحوا مسيطرين على القسم الشرقي من البحر والبر، يهون عليهم أن يتداركوا سرقسطة ويدرءوا الخطر عنها، ثم رأوا أن وجودهم فيها أجدى نفعا لهم إذا أرادوا الغارة على قطلونية وأرغون، فدخلوها على كره من المستعين سنة 1107م، فنشبت بينهم وبين الأرغونيين معارك متتابعة، وكان يوسف بن تاشفين قد توفي سنة 1106م، وصارت الإمارة بعده إلى ابنه علي، فحشد جيشا عظيما سنة 1108م عاقدا لواءه لأخيه تميم.
فزحف الأمير المرابطي إلى قشتالة يثخن فيها، فاعترضته قلعة أقليش (Uclés)
تستوقفه بحصونها المنيعة، فأناخ عليها يحاصرها ويساور آطامها، فأصابها منه ضيق شديد، وكان ألفنس السادس قد بلغ من كبر السن ما أقعده عن خوض المعارك، فأشفق على قلعته أن تستخذي للأعداء، فتفتح لهم الطريق؛ فيتوغلوا في أرضه، فأمر بأن ترسل إليها نجدة قوية تنفس الكرب عنها، ولو يستطيع لقاد هذه الحملة بنفسه، وهو يعلم ما لوجوده من التأثير في إذكاء حمية رجاله.
فخيل إليه أن يملأ هذا الفراغ بإرسال وحيده شانجه وعمره يومئذ إحدى عشرة سنة، أو خمس عشرة سنة، على رأي لاوي بروفنسال، فسار الغلام مع الجيش يصحبه مؤدبه الكونت غرسيه، حتى بلغوا أقليش، فالتحموا والمرابطين في معركة الوطاة، عادت عليهم بالخسار والخذلان، فقتل شانجه ومؤدبه، وعشرون ألفا فيهم سبعة من قوامس (Comtes)
অজানা পৃষ্ঠা
قشتالة.
لا نحاول أن نحيط ما أصاب ألفنس من الحزن الأليم عندما انتهى إليه نبأ أقليش، فحسبنا أن نتصور هذا الملك الشيخ يجر وراءه أمجاد ثلاث وأربعين سنة استوى فيها على العرش، فإذا هو يمنى آخر حياته بكارثة لم تقتصر على انكسار جيشه واستسلام قلعته، بل جاوزت ذلك إلى الفجيعة بابنه الوحيد، بقية أمله، ووارث عرشه.
وتقول الرواية الإسبانية: إن شانجه لم يكن ولدا شرعيا؛ فقد رزقه ألفنس من حظيته ابنة المعتمد بن عباد،
1
وكان يحبه كثيرا لما بدا من نجابته على حداثة السن، فخالف فيه القانون المرعي وجعله ولي عهده، ومحط رجائه، فماذا يكون مصير تلك المملكة العظيمة إذا تركها ولا وارث من صلبه يجمع أجزاءها، وهو لا يأمل أن يرزق ولدا بعد أن بلغ من العمر عتيا؟
وقعت هذه الهموم ثقيلة على عاتق الشيخ الفاني، فكاد يهوي تحتها لولا بقية حزم لم تنل منها عاديات السنين، فرأى أن لا سبيل إلى بقاء العرش في سلالته إلا بنقل ولاية العهد إلى ابنته أوراكا، وكانت فتاة ذكية كثيرة المطامع، تزوجت في العاشرة من عمرها بالكونت ريمون البورغوني، ثم توفي بعلها بعدما رزقت منه غلاما سمته ألفنس باسم أبيها، غير أن الملك الشيخ خشي ألا تستطيع ابنته حماية المملكة وحدها؛ فآثر أن يزوجها ملكا قويا من أنسبائه، فوقع اختياره على ملك أرغون حفيد عمه راميرو.
وكان بدرو قد توفي سنة 1105م وخلفه أخوه ألفنس الأول، ذاك الذي لقب بالمحارب؛ لبسالته وغاراته المتلاحقة على ثغور المسلمين، ولم يغب عن والد أوراكا ما يتعلق بهذا الزواج من الخير لإسبانية؛ إذ تصبح مملكة قشتالة ولاون وجليقية وأشتوريش ومملكة أرغون والبشكنس دولة واحدة، فدعا مجلس النواب (Cortés)
فانعقد في لاون؛ حيث اجتمع الأساقفة والقوامس وحكام الولايات ورجال الدين والأشراف والفرسان وممثلو الطبقة الوسطى، فقرروا أن تكون أوراكا وارثة مملكة قشتالة ولاون وأشتوريش، وإن تزوجت بألفنس الأول ملك أرغون، حتى إذا لم ترزق منه ولدا عادت المملكة بأجمعها إلى ابنها ألفنس البورغوني، وأعطي هذا عرش جليقية على أن يكون تابعا لقشتالة.
وتوفي ألفنس السادس سنة 1109م بعد أن اطمأنت نفسه إلى نظام ولاية العهد، وأمن على عرشه من الانهيار، وما خطر له أن زواج ابنته بنسيبها ملك أرغون سيدفع البلاد إلى فتنة حمراء؛ ذلك أن كلا الزوجين رضي الآخر بدافع المنفعة الشخصية لا بدافع الحب المتبادل، وأن كليهما كان يريد أن يستأثر بالسلطة دون رفيقه، وفي نفسه من الطماح والصلابة ما يأبى عليه أن يلين أو يتنازل عن شيء من حقوقه، حتى بلغ التنازع بينهما إلى النفور فالتباغض، ثم إلى مجاهرة الخلاف والقطعية؛ فطلبت أوراكا الطلاق متذرعة بموانع القربى، وراحت في الوقت نفسه تبسط يدها للعشاق مستنصرة بهم، مثيرة غيرة بعلها؛ لتحمله على قبول الطلاق.
واشتهرت روايتها الغرامية فباتت سمرا للناس، ولا سيما صلتها بالكونت غومز، وكان ألفنس يتألم في كبريائه من سلوك زوجته ويزداد سخطا عليها، غير أنه رأى من الحكمة أن يرفض تطليقها؛ حفاظاعلى حقوقه في مملكة قشتالة، وأن يعمد إلى تدبير جازم يضع حدا لنفوذها وتهتكها، فأمر باعتقالها بعد أن جعل حصون طليطلة في حراسة جنوده الأرغونيين.
অজানা পৃষ্ঠা
إلا أنها تمكنت من الفرار وأخذت تدس لزوجها وتؤلب عليه الأنصار من قشتالة ولاون وأشتوريش؛ فنشبت في إسبانية حروب أهلية أدمتها عدة سنوات، وخاض غمارها ألفنس ابن أوراكا منازعا أمه من جهة وألفنس المحارب من جهة أخرى ... على أنها كانت تتوقف حينا بعد آخر ليردوا غزاة المرابطين عن بلادهم، أو ليغيروا على ثغور الأندلس.
ولبثت إسبانية قلقة لا تستقر على حال، حتى يئس ألفنس المحارب من خضوع قشتالة، فسكت عن المطالبة بحقوقه، مكتفيا بلقب قيصر إسبانية؛ أسوة بألفنس السادس، وكان الحبر الأعظم قد أقر فسخ الزواج بمانع القرابة، فانفصلت أوراكا عن زوجها انفصالا شرعيا، ثم أزال بسلطانه الروحي خلاف الأم وولدها على أن يملكا معا، فتم الصلح بينهما في اجتماع عقد سنة 1124.
وكان ملك أرغون - مع اشتغاله بالفتنة الأهلية - لا يفتر عن مجاهدة المرابطين ومنعهم من الإيغال في بلاده؛ فقد أغار علي بن يوسف بن تاشفين على ولاية طليطلة، فاستولى على طائفة من حصونها، وافتتح مجريط (مدريد)، ووادي الحجارة (Guadalajara)
وسواهما، ثم عاد إلى مراكش وبقي قائده مزدلي يتابع بعده الغارات.
وحدثت عدة مواقع في جهات مختلفة من الولايات الإسبانية رافق النصر في أكثرها المرابطين؛ فافتتحوا عددا من المدن والقلاع، وأتلفوا الحقول والمزارع؛ فأصيبت البلاد من جراء ذلك بقحط شديد، ونالها من العناء ما أضيف إلى ما تعانيه من حربها الداخلية التي انتفعت بها جيوش ابن تاشفين، ويقينا لو أن المرابطين وأهل الأندلس على وفاق خالص لكانت الفرصة يومئذ أسنح ما يرجى لاكتساح العدو والقضاء عليه، ولكن أمراء الأندلس كانوا ناقمين على الدولة الإفريقية لاستطالتها على ولاياتهم، واغتصابها السلطة من أيديهم، فلم يولوها المعونة الصادقة، بل ربما وجدت فيهم من يمالئ الأعداء؛ فإن أمير سرقسطة عبد الملك بن هود ساءه أن يصبح المرابطون سادة في عاصمته يعود الأمر إليهم، وهو ليس له أمر؛ فانتفض عليهم غير ناظر في نتيجة عمله.
كان شجاعا كأبيه المستعين، ولم يكن كأبيه ذكاء وفطنة، فخرج من سرقسطة برجاله وأهله، فقصد إلى حصن روطة (Roda)
فامتنع به، ولو اكتفى بعمله هذا لهان الخطب، ولكن مقته للمرابطين ضرب على عينيه غشاء من الغفلة؛ فتورط في عقد محالفة مع ألفنس المحارب، ناسيا أن حليفه الجديد يطمع من زمن في امتلاك سرقسطة ليزيل عقبة كأداء تواجه مملكته، وتحول بينه وبين حرية الملاحة في نهر إبره، وما كان ينبغي له أن ينسى - والعهد قريب - مهاجمة الأرغونيين لعاصمته غير مرة، وارتدادهم عنها خاسرين أمام مزدلي قائد المرابطين، بل ما كان ينبغي أن ينسى مقتل أبيه المستعين وهو يدافع عن حصن تطيلة (Tudela)
سنة 1110 ليمنع ملك أرغون من التقدم إلى سرقسطة.
فلما تمت المعاهدة بين الأميرين زحفت جيوشهما متحدة إلى المدينة فحاصرتها حصارا شديدا، وأكرهت المرابطين على الخروج منها فتركوها سنة 1117م/511ه بعدما حاولوا استردادها تكرارا دون جدوى، حتى تمزق جيشهم في المعركة الأخيرة التي اصطلى نارها الأمير تميم.
وهنا تختم مأساة سرقسطة؛ فإن ألفنس المحارب بعد أن بات بمأمن من خطر المرابطين عاوده الطمع في الاستيلاء على تلك القاعدة الحيوية لمملكته، فطلب إلى حليفه أن يتنازل له عنها، فكان جواب عبد الملك رفضا أبيا، واستعدادا للدفاع.
অজানা পৃষ্ঠা