99

وما إن أصبح طه عميدا من جديد، عميدا كان العزيز «جرانت» يحبه حبا جما، حتى لم يعد يسمح لنفسه بأي لحظة من الراحة، وسوف يستمر الأمر على هذا النحو خلال السنوات التالية. كانت أنواع الأفكار كلها تدور في رأسه، وكان عليه أن يضعها موضع التنفيذ. ولقد باتت الاقتراحات والإصلاحات والإنشاءات التي قام بها خلال العديد من السنوات معروفة جيدا من الجميع. بات معروفا أنه ضاعف من عدد المدارس، وأنه أسس المعاهد والجامعات ... إلخ. كما أن كتبه تشهد على جهده؛ فقد صدر الكتاب السابع والثلاثون في عام 1945، في حين أنها تقرب اليوم من خمسين كتابا. أما من محاضراته، فلم يبق للأسف منها سوى المقالات التي كتبت عنها، كما بقي منها، بالنسبة إلى الذين استمعوا إليها، سحر صوت جليل وعميق وواضح كانوا يصغون إليه إصغاءهم للموسيقى، وأسلوب لم يكن ثمة ما يوازيه. وقليل من الأشرطة التي سجلت عليها هذه المحاضرات ما احتفظ بهذا الصوت حقا. وإني لا أكاد أتعرفه عبر هذه الأصوات القاسية المبحوحة أحيانا التي تخرج من هذه الأشرطة ، وآسف لذلك أشد الأسف. وإني لأود لو يتم الاحتفاظ منها بأكثرها أمانة لهذا الصوت فقط.

كنا قد تركنا مصر الجديدة التي كانت بعيدة جدا حقا، لنستأجر بيتا في حي الزمالك ما لبثنا أن تركناه أيضا، بعد وقت قليل. وفيه سنتابع درب الشر الذي سيفقدنا صديقنا العزيز المرصفي، الرفيق المرح الذي امتزجت حياته بحياتنا منذ البداية. عندما رأيته للمرة الأخيرة قبل ثمانية وأربعين ساعة من النهاية، كان قد تغير إلى درجة كنت لا أستطيع أن أتعرف عليه بها لو أنني مررت من جانبه عابرة في قاعة المستشفى. وعندما غادرنا غرفته تابعنا بنظراته حتى أغلق الباب وراءنا. كانت نظراته المفعمة بالحب محزنة إلى الحد الذي استحوذت فيه علي زمنا طويلا. وكان الدكتور سامي يشرف عليه بإخلاص لا يعرف الكلل، وهو إخلاص لم يكن يدهشنا على كل حال.

تأخرنا كثيرا عن زيارة فرنسا، وأخيرا سافرنا إليها في نهاية شهر يونيو، واستطاع طه أن يستريح وهو يكتب عدة أسابيع قبل انعقاد مؤتمر المستشرقين في روما.

160

وعدنا لنعثر ثانية على الغابات والمروج في «دوفينيه

Dauphiné »، ومغيب الشمس الجليل على القمة البيضاء في «سالانش

Sallanches »، والذي كان أكثر جلالا: «كومبلو

Combloux ». جاء توفيق الحكيم ليقضي معنا عدة أيام في سالانش وليمارس على شاطئ البحيرة الصغيرة الصيد بالصنارة. لم يكن يصيد أية سمكة! وإنما كان يعلق الشص في عروة سترته معلقا: «لقد اصطدت نفسي!» وذات يوم، بينما كنا نتنزه، أراد أن يقطف لي بعض النباتات التي كانت مزروعة على حافتي الدرب، وكانت عبارة عن نبات الحريق، وهو نبات شوكي.

وفي «آنيسي

Annecy » بدأ طه غرامياته مع البحيرات، وكذلك مؤنس. فقد كانا يبقيان ساعات طويلة على حافة الماء، وكان مؤنس يشير إلى كل الأسماك التي يلمحها، ولا أدري أي نوع منها كان يعمده باسم «كريكيتش»! وسيبقى هذا الاسم ذكرى من ذكريات الأسرة.

অজানা পৃষ্ঠা