استقبلنا عمدة ليون في مدينته كأصدقاء. وكان حديثه، كما هو معروف، عيدا. كان كل ما يقوله مثيرا، بل إن طريقته في قول ما يقول كانت أكثر إثارة. وأقيمت بالطبع عدة ولائم، غير أن وليمته كانت ممتازة، وكان أيضا ذواقة شهيرا للأكل، ولقد حدثني بإطناب عن الحدائق خلال الغداء، وكان يقول إن في عالم النباتات كما هو الأمر في العالم الإنساني نباتات وأشجار غير متحابة بوضوح. لقد قرر أن يبتكر زهرة في مزرعة الورد التجريبية حيث كانت تجرى تجارب علمية عظيمة، وسوف يطلق على هذه الوردة «سوزان طه حسين»، والحق أن مدير المختبر أعلمني بعد ذلك بسنة واحدة تقريبا عن ولادة زهرة شاي مهجنة تحمل اسمي. لم أرها قط؛ فقد قامت الحرب ولم نعد إلى ليون.
كان هيريو أيضا مرحا بقدر ما كان بليغا عندما منحته جامعة القاهرة الدكتوراه الفخرية. وبدأ ينادي طه منذ ذلك الوقت: «يا عزيزي العميد.»
رأيناه ثانية في نهاية الحرب. فقد قضى أربعا وعشرين ساعة في القاهرة في طريق عودته من روسيا إلى فرنسا، وقد تلطف وزير فرنسا المفوض؛ فدعانا لتناول الغداء بصحبته في جلسة خاصة، وعندما لمحته في الحديقة حيث كان يتمشى إلى جانب الوزير بدا لي إنسانا متغيرا كليا، متهالكا، قد شاخ بشكل لا يصدق. وعندما التقى طه به تعانقا. وانفعلت من لقائي به فعانقته بدوري، فقال لي السيد ل. مبتسما: «إن الرئيس محظوظ.» أما زوجته السيدة هيريو فقد بدت لي أقل إنهاكا، وكان زوجها يردد: «لقد كانت رائعة رائعة؛ فبفضلها ما زلت أعيش، إنها بطلة!»
وفي العام التالي، كان مؤنس يحضر في باريس محاضرة لهيريو الذي كان قد استعاد صحته. وعندما تقدم لتحيته، قام هيريو بتقديمه مطولا إلى كل من كان حوله، متحدثا بإطناب عن أبيه. كان مؤنس عفوي الإعجاب بهذا الرجل المسن المتعب الذي كان يجد في غمرة هموم الحياة السياسية الوسيلة للذهاب إلى المكتبة الوطنية لمراجعة المخطوطات.
ثم ذهبنا في أحد الأيام لزيارته. كان رئيسا للمجلس النيابي، لكنه كان مريضا جدا. كان ينتقل بصعوبة، وكنا مضطرين لمساعدته على المشي، وكان لقاؤنا ذاك به هو لقاءنا الأخير. •••
ما إن عادت أمينة من الريف بعد جولة التطعيم ضد الكوليرا حتى تقرر مصير حياتها، وكان لا بد من إعلان ذلك. فمنذ ثماني سنوات وهي، فيما يبدو، تبادل محمد الزيات المودة دون أن تلتزم نهائيا بالارتباط به. ومع ذلك فإن محمدا لم يكن يشك قط في مشاعره، منذ تقديم «إليكترا»، نحو الفتاة الطويلة الشامخة الرأس، والتي كانت تقف باستقامة أخاذة وسط ثنيات سترتها البيضاء ذات الحزام الفضي.
كانا يدرسان في الكلية نفسها. كان هو مختصا بالدراسات الفارسية. وقد دفعه طه في هذا الاتجاه مثلما كان يوجه بعض طلابه نحو اليونانية والبعض الآخر نحو اللغات السامية. وقد قص علي صهري أنه بعد أن تقدم بطلب منحة دراسية (ولم تكن مسألة الخطوبة قد طرحت بعد آنذاك) دهش من إعطاء المنحة لطالب آخر؛ فسأل طه: «ولماذا؟» فأجابه طه: «لأنه أفقر منك.» وأعلنت الخطوبة. ولما كانا قد انتظرا طويلا فقد أصبحا مستعجلين! وهكذا كنا نسرع في الإعداد للزواج، وزوجناهما في فترة فصلت بين مؤتمرين كان علينا حضورهما في الخارج. فقد عدنا من المؤتمر الأول في الرابع من يونيو
220
وتم الزواج في الثاني عشر منه، ثم رحلنا في السابع عشر ثانية.
وتركناهما وراءنا متألقين، وبعد عدة أيام توفي والد صهري فجأة ... وقد تألمنا من ذلك كثيرا، أما ابنتي فقد كانت مبلبلة، لكنها وجدت لدى حماتها تفهما نادرا؛ فقد تمكنت هذه المرأة الشجاعة الطيبة من كبت حزنها الشخصي كي لا تكدر سعادة وليدة.
অজানা পৃষ্ঠা