فإن حظركه بالدين إزراء
ولا بد من أن أصور لك تردد أبي العلاء بإزاء البعث في كتاب الفصول والغايات كما تردد بإزائه في اللزوميات. فهو في هذا الفصل القصير يقطع بوجود الأرواح متعالية عند ربها بعد أن تبلى الأجسام في القبور، ولكنه لا يعرف أمنعمة هي أم معذبة، فيقول: «الديار خالية، والأجساد في الحفر بالية، والأرواح عند ربنا متعالية، لا يعلم أنعيم هي فيه أم عذاب.»
11
ومن قبل هذا صور شكه في البعث تصويرا رائعا مؤلما، فذكر أنه يرى الموتى فيما يرى النائم فيسمع منهم، ويتحدث إليهم، ويكاد يصدق ما يسمع لولا أنه يتهم خواطر الأحلام بالكذب، وذلك حيث يقول:
سبحانك مؤبد الآباد، هل للمنية نسب إلى الرقاد؟ لا أتخيل إذا انتبهت أحدا من الأموات، وإذا هجعت لقيني قريب عهد بالمنية، ومن قد فقد منذ أزمان، أسألهم فيجيبون، وأحاورهم فيتكلمون، كأنهم بحبل الحياة متعلقون. لو صدق الرقاد لسكنت إلى ما يخبر عن سكان القبور، ولكن الهجعة كثيرة الكذاب!
12
وما أحب أن أدع حديث البعث دون أن أروي هذا الفصل المؤثر الممتع الذي يذكر فيه أباه فيصلي عليه، ويهدي إليه التحية، ويعلن اليأس من لقائه. ولكن لماذا يعلن هذا اليأس؟ ألأنه يائس من البعث جملة؟ أم لأنه واثق بأن أباه يستمتع بنعيم الله، ومشفق من أن تضطره سيئات أعماله إلى الجحيم؟ قال أبو العلاء:
أدعوك وعملي سيئ ليحسن، وقلبي مظلم لكي ينير، وقد عدلت عن المحجة إلى بنيات الطريق. وأنت العدل ومن عدلك أخاف! يا من سبح له زرقة الأفق، وزرقة الماء، وحمرة الفجر، وحمرة شفق الغروب، وإن كان الدمع يطفئ غضبك فهب لي عينين كأنهما غمامتا شتي تبلان الصباح والمساء، واجعلني في الدنيا منك وجلا لأفوز في الآخرة بالأمان، وارزقني في خوفك بر والدي وقد فاد، بره إهداء الدعوة له بالغدو والآصال، فاهد اللهم له تحية أبقى من عروة الجدب، وأذكى من ورد الربيع، وأحسن من بوارق الغمام، تسفر لها ظلمة الجدث، ويخضر أغبر السفاة، ويأرج ثرى الأرض، تحية رجل للقيا ليس براج!
13
وبعد، فهل أراد أبو العلاء إلى معارضة القرآن في الفصول والغايات كما ظن بعض القدماء؟ نعم ولا. نعم إن فهمنا من المعارضة مجرد التأثر، ومحاولة المحاكاة، إن فهمنا من المعارضة أن أبا العلاء قد نظر إلى القرآن على أنه مثل أعلى في الفن الأدبي فتأثره وجد في تقليده، كما يتأثر كل أديب ما يعجب به من المثل الفنية العليا.
অজানা পৃষ্ঠা