ومهما يكن من شيء فإن الآراء الفلسفية التي صورها أبو العلاء في اللزوميات هي بعينها الآراء الفلسفية التي صورها في الفصول والغايات؛ وإن قارئ الكتابين يخرج من قراءته بصورة واحدة لأبي العلاء؛ هي صورة الرجل المؤمن بإله حكيم، المضطرب المتردد فيما عدا ذلك من الأمر.
ومهما يكن من شيء أيضا فإن القيود الفنية التي فرضها أبو العلاء على نفسه في اللزوميات قد فرضها على نفسه في الفصول والغايات. ولعله أن يكون قد عذب نفسه في هذا الكتاب المنثور أكثر مما عذبها في ذلك الديوان المنظوم. فقد افتن في القيود التي فرضها على نفسه في هذا الكتاب، وافتن في تنويعها، والاستزادة منها حتى لم يكن مصدر ضيق لنفسه فحسب، بل كان مصدر ضيق لقارئيه وسامعيه أيضا. كان مصدر ضيق، وكان مصدر إعجاب لا حد له، فما أعرف أن أحدا وعى اللغة العربية كما وعاها أبو العلاء، وما أعرف أن أحدا راض اللغة العربية كما راضها أبو العلاء، وما أعرف أن أحدا صرف هذه اللغة في أغراضه وحاجاته الفنية كما صرفها أبو العلاء.
ليت آماله في الحياة استقامت له كما استقامت له اللغة العربية! وليت أمانيه انقادت له كما انقادت له ألفاظ هذه اللغة وأساليبها! إذن لكان أحسن الناس حظا، وأبعدهم عن التشاؤم، وأشدهم إغراقا في التفاؤل والرضا. ولكن أبا العلاء حرم تحقيق الأماني، ورد عن إدراك الآمال، وعزي عن هذا كله بهذه الألفاظ وهذه المعاني، يعبث بها كما يعبث الطفل بلعبه، حتى يدركه الملل، وحتى يدرك الملل قارئيه وسامعيه، وحتى تستحيل هذه التعزية هما ثقيلا، وعناء لا يطاق.
وأول ما التزم أبو العلاء في الفصول والغايات هذه الغاية التي يختم بها فصوله، فقد أراد - ويا لعبث الأطفال الكبار! - أن يختم كل فصل من فصوله بكلمة يلتزم آخرها في جملة من الفصول وأراد - ويا لعبث الأطفال الكبار! - أن يرتب هذه الكلمات على حروف المعجم كلها، فيلتزم الهمزة في بعض غاياته، حتى إذا بلغ منها حاجته انتقل إلى الباء، ثم إلى التاء، ثم إلى الثاء حتى يبلغ آخر الحروف، والجزء الذي بين أيدينا ينتهي بالخاء.
وقد أراد - ويا لعبث الأطفال الكبار! - أن تكون غايته ساكنة؛ لأنه يقف عندها في آخر الفصل، فلا بد له من أن يستريح، ومن أن يريح قارئه وسامعه. والسكون الذي هو علامة الوقف أدنى إلى الراحة، وأجدر أن ينتهي إليه المسافر بعد شدة النشاط، وكثرة الحركة والاضطراب. وقد أراد - ويا لعبث الأطفال الكبار! - أن يكون هذا السكون مريحا حقا، فاشترط أن يسبق الحرف الساكن بألف ساكنة، فهو يلتزم في الغاية حرفين، يتغير أحدهما بتغير حروف المعجم، ولا يتغير ثانيهما بحال من الأحوال، وهو هذه الألف الساكنة.
وهو من هذه الجهة يشق على نفسه في الفصول والغايات أكثر مما يشق عليها في اللزوميات. وما رأيك في رجل يلتزم الألف في غايات الكتاب كله، وقد رتبت هذه الغايات على الحروف كلها، ونظمت كتابا يقع في أربعة مجلدات ضخام؟ ولكن أبا العلاء لا يكتفي بهذين القيدين الثقيلين، وإنما يضيف إليهما قيودا أخرى ينوعها، ويفتن في تنويعها، فقد لا يكتفي بالتزام الألف في غاياته، وإنما يلتزم قبلها حرفا آخر في طائفة من الغايات، حتى إذا ضاق بهذا الحرف أو ضاق الحرف به تركه إلى حرف غيره، فالتزمه وقتا طويلا أو قصيرا.
هذه هي القيود التي فرضها أبو العلاء على نفسه في غاياته. ولكن أبا العلاء ينكر نفسه، ويجحد فنه وبراعته إن اكتفى بهذه القيود. فلا بد له من قيود أخرى يفرضها على نفسه في الفصول نفسها. وأنت هنا ترى الأعاجيب، فأبو العلاء يلتزم السجع أحيانا، ولكنه لا يسجع كغيره من الكتاب، وإنما يلتزم في السجع ما يلتزمه في قافية اللزوميات، فيفرض على نفسه حرفين، وقد يفرض على نفسه أكثر من حرفين، وهو قد يتجاوز هذا السجع الذي التزمه إلى نوع آخر من القيد في الفصل نفسه. فإذا فرض على نفسه سجعات بعينها انتهى إلى الهمزة، واستأنف سجعات أخرى، ثم انتهى إلى الباء، ومضى كذلك حتى يتم حروف المعجم قبل أن يبلغ الغاية.
وقد لا تعجبه هذه القيود كلها فيفرض على نفسه قيودا أخرى يلتزمها لا في فصل واحد، بل في فصول مختلفة، يجعل غايته الحاء أو الخاء، ويلتزم في الفصول من أمام هذه الغايات ومن ورائها حرفا بعينه، بحيث يكون الالتزام مؤتلفا ومختلفا. التزام في الغايات والتزام في الفصول على تباعدها وتباينها. وفصول أبي العلاء تقصر وتطول، تقصر حتى تتألف من جمل، وتطول حتى تصبح، وكأنها فصل طويل من كتاب.
وفصول أبي العلاء تستقل أحيانا، ويتبع بعضها بعضا أحيانا أخرى، تستقل فلا تكون بينها صلة، وترتبط فإذا طائفة منها تؤلف قصة واحدة، كلما انتهى جزء من القصة ختم الفصل بغاية، واستؤنف جزء آخر من القصة في فصل آخر ينتهي بغاية أخرى، ويستأنف بعده جزء ثالث في فصل ثالث، وما يزال الأمر كذلك حتى تتم القصة في عدد من الفصول والغايات كثير أو قليل.
وقد ذكرت القصة وما أكثرها فيمن بين أيدينا من الفصول والغايات، ما أكثرها وما أروعها، وما أشد اختلافها وتنوعها! منها ما يقصر حتى يؤدى في جمل، ومنها ما يطول حتى يؤدى في فصول، والخيال فيها رائع ومتواضع معا، رائع لطرافته، ولغرابة الملائمة بينه وبين ما قصد إليه أبو العلاء من تمجيد الله، ومتواضع لأن أبا العلاء لا يبتكره، ولا يستأنفه استئنافا، وإنما يستمد عناصره من الشعر العربي القديم ، ومن الأساطير العربية القديمة، ومن أخبار التاريخ، ومن أصول العلوم اللغوية وقواعدها. فكل ما صور الشعر العربي القديم من وصف الصيد قد سلكه أبو العلاء في الفصول والغايات قصصا جميلا رائعا، يدور حول الوعظ والإرشاد، وحول تمجيد الله والثناء عليه.
অজানা পৃষ্ঠা