ولكن الشاعر هو الذي يكف أسبابه أو يقبضها، تدفعه إلى ذلك صناعته، ويدفعه إلى ذلك فنه، وتدفعه إلى ذلك ضرورات الوزن. ونحن نعلم أصول الصناعة وأصول الفن، ودقائق الضرورات التي تدعو الشاعر إلى أن يكف أسبابه أو يقبضها. فأما أسباب المنى فليس الناس هم الذين يكفونها أو يقبضونها؛ لأنهم ليسوا هم الذين ينظمون قصيدة الحياة، وإنما تكف أسباب المنى، وتقبض بعلم الله الذي خلق الحياة والأحياء، ودبر أمور هؤلاء وتلك بحكمة لا يعرفها أبو العلاء، ولا يعرفها غيره، وإذن فلا بد من الإذعان للقضاء، والرضى بالحوادث الواقعة، والاحتياط من القضاء، ومن الحوادث الواقعة، ولا بد من أن يكف الإنسان أذاه عن غيره، ويصرف شره عما عداه وعمن عداه. وقد فعل أبو العلاء ذلك ، فهو لا يروع آمنا، ولا يثير ساكنا.
وما الظبيات مني خائفات
وردن على الأصائل أو ربضنه
وهو ينصح لك، ويرأف بك، ويود لو تذهب مذهبه وتسير سيرته، فلا تفجع الطير في بيضها، فإنه لها لا لك، وما ينبغي لك أن تعتدي عليها ما دمت تكره أن يعتدى عليك.
فلا تأخذ ودائع ذات ريش
فما لك أيها الإنسان بضنه
ثم هو لا يكفيه من نفسه، ولا يكفيه منك الإعراض عن ترويع الآمن، وإثارة الساكن، وتفجيع الطير في ودائعها، ولكنه يريدك كما أراد نفسه على أكثر من هذا، يريدك على أن تروع نفسك بحرمانها طائفة من اللذات؛ لتجنبها طائفة من الآلام. يريد أن يصرفك عن الغانيات، وعما تثير حياتهن وزينتهن في نفسك من لهو وشهوة وفتنة؛ لأن هذا كله ينتهي بك إلى آلام لا تحصى، وحسرات لا تقضى، وفيم تحمل الآلام وتجشم الحسرات ما دامت كلها منتهية إلى هذه الآخرة المنكرة التي تعرفها، ولكنك تجهل ما بعدها وهي الموت، إنما يحتمل الألم حين ينتهي إلى لذة، فيجب أن تترك اللذة حين تنتهي إلى ألم.
وشاعرنا في تأدية هذا المعنى الذي يكلف بترديده معتمد دائما على حفظه، وعلى ما ورث من الألفاظ والأخبار والأساطير، يصرف هذا كله في شعره تصريفا جميلا رائعا، يشعرك بهذه البداوة الحلوة المرة، ويصور لك حكمته هذا التصوير الجزل الذي لا يلين كل اللين، ولا يعنف كل العنف، وإنما يتخذ بين ذلك سبيلا.
فراع الله واله عن الغواني
يرحن ليمتشطن ويرتحضنه
অজানা পৃষ্ঠা