كشفت آفة أبي العلاء إذن له سجنه الفلسفي، وامتزجت به فأصبحت سجنا من داخل سجن، وألف الرجل هذين السجنين أشد الإلف، وضاق بهما أشد الضيق، ولا تعجب لهذا التناقض فهو قوام حياة أبي العلاء، بل هو قوام الحياة لكل رجل يجمع بين دقة الحس ورقة الشعور، وحدة المزاج وقوة العقل والإرادة جميعا. وقد امتحن الله أبا العلاء بهذه الخصال كلها، فثبت للمحنة ثباتا عجيبا، ولكنه ضاق بها ضيقا شديدا، وشكا منها شكاة متصلة. ولولا هذه الشكاة وذلك الضيق لما نعمنا باللزوميات، وما ترك لنا أبو العلاء من الآثار! وماذا تريد أن يصنع! لقد احتمل حياته في هذين السجنين كارها، فصور كراهته هذه، ولم يكن يستطيع أن يفر من حياة السجن هذه:
وهل يأبق الإنسان من ملك ربه
فيخرج من أرض له وسماء؟
كلا! ليس إلى ذلك من سبيل. فليقم أبو العلاء إذن حيث أراد الله له أن يقيم، وليرتب أمره كما يستطيع في هذين السجنين، وقد فعل، فأنشأ لنفسه هذا السجن الثالث الذي لزمه نصف قرن، وهو بيته في المعرة. وليس المهم أنه أقام في بيته نصف قرن لا يتركه، وإنما المهم أنه أقام في هذا البيت على نحو خاص لم يتعود الناس أو لم يتعود أكثر الناس أن يقيموا عليه في البيوت، وحسبك أنه كان فذا في هذا بين المسلمين جميعا على اختلاف البيئات والعصور!
هوامش
الفصل الخامس
ومن المحقق أن أبا العلاء كان يستطيع أن يكتفي بسجنيه هذين اللذين أطلنا فيهما الحديث دون أن يضيف إليهما هذا السجن الثالث، ومن غير أن يحد ذلك من فلسفته، أو يؤثر في سيرته التي تفرضها عليه هذه الفلسفة. وما أكثر الفلاسفة الذين عاشوا عيشة فلسفية خالصة لاءموا فيها أحسن الملاءمة بين حياتهم العقلية وحياتهم العملية دون أن يحتاجوا إلى اعتزال الناس، ولزوم بيت واحد لا يعدونه! بل منهم من قضت عليه فلسفته أن يخالط الناس ما وسعته مخالطتهم؛ ليؤثر فيهم ما وجد إلى التأثير فيهم سبيلا. ولو أن سقراط اعتزل الناس ولزم بيتا بعينه لا يعدوه لما كان سقراط، ولفقد أخص ما يميزه ويميز فلسفته من الخصال التي كانت تفرض عليه التنقل بتفكيره وسؤاله وجوابه من مكان إلى مكان، ومن مجمع إلى مجمع.
وكان أبو العلاء يستطيع أن يعيش بفلسفته هذه الحادة القاتمة ذاما للدنيا، وناعيا على أهلها، ومتجنبا لذاتها دون أن يحبس نفسه نصف قرن في بيت من بيوت المعرة، ودون أن يؤثر ذلك في فلسفته قليلا أو كثيرا. فما الذي دفعه إلى إيثار العزلة، وحمله على لزوم هذا السجن مختارا إن صح أن يضاف هذا الاختيار إلى أبي العلاء؟
ليس من شك في أنه حين سافر إلى بغداد لم يكن يريد الوحدة، ولا اعتزال الناس، فإن الوحدة لا تطلب في أكبر المدن الإسلامية، وإن اعتزال الناس لا يطلب في أشد البلاد اكتظاظا بالناس، بل لعل أبا العلاء إنما سافر إلى بغداد فرارا إليها من هذه العزلة الإضافية التي لزمها أو لزمته في قريته الصغيرة الخاملة التي لا يجد فيها من يلائم شكله شكله من العلماء والأدباء والفلاسفة. وقد وصل إلى بغداد، وما أسرع ما اتصل بالناس واتصل الناس به، وما أسرع ما أحبه أهل بغداد وخلطوه بأنفسهم وآثروه بمودتهم، وما أسرع ما شهد أنديتهم الخاصة والعامة، واختلف إلى مجالس علمائهم وأدبائهم وفلاسفتهم، وشفى نفسه من حاجته إلى الحياة الاجتماعية العليا التي يتحدث فيها إلى الأضراب والنظراء، ويسمع منهم فيفهم عنهم، ويفهمون عنه. وشفى نفسه أيضا من طموحه الطبيعي إلى الشهرة وبعد الصيت وتسامع الناس به وتحدثهم عنه. ولكنه كان في بغداد قلقا يحس الغربة، ويجد الحنين إلى وطنه في الشام، ويعلن ذلك في شعر رائع مؤثر حفظه سقط الزند، وأحبه البغداديون أنفسهم، ووقفت عنده في غير هذا الكتاب. كما بينت أنه لم يكد يعود من بغداد حتى أخذت نفسه تذوب حسرات لفراقها. وهذه الخصلة من أخص صفات الأديب ذي الحس الدقيق، فهو طامح إلى بغداد إن كان في المعرة، وهو مشوق إلى المعرة إن كان في بغداد، ثم هو محزون على بغداد إن عاد إلى المعرة! وقد صور المتنبي هذه الخصلة تصويرا رائعا في بيته المشهور:
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا
অজানা পৃষ্ঠা