فلم استخرج من الجماد ليرد إليه؟ ولم هذه المحنة التي يمتحن بها في هذا الطور من أطوار وجوده؟ والذي يزيد الأمر إشكالا، أي يجعله مصدرا من مصادر الألم العقلي الذي هو شر من الألم المادي، أنه لا يدري أصائر كله إلى الجماد بعد الموت؟ وإذن فالمحنة موقوتة، وهي من أجل ذلك محتملة هينة الأمر مهما تمتلئ بالمصائب والنوائب، وبالكوارث والآلام. أم صائر بعضه وهو الجسم إلى الجماد كما كان، وإذن فما مصير بعضه الآخر؟ أين كان قبل أن تلم به هذه المحنة، وإلى أين يمضي بعد أن تنجاب عنه هذه المحنة؟ بل أهي منجابة عنه يوما من الأيام؟ أراجع هو إلى حيث كان قبل المحنة فجاهل نفسه كما كان يجهلها من قبل؟ وإذن فلم تكن المحنة إلا حلما، ولكنه حلم معاكس لما ألفه الناس من معنى الحلم. فالحلم عند الناس يقظة تخيل إلى النائم فإذا استيقظ لم يجدها شيئا، ولكن هذا الحلم العلائي يقظة تخيل إلى المعدوم فإذا أفاق منها لم يشعر بها، بل لم يذكرها ولم يجد لها تعبيرا، بل لم يشعر بنفسه فضلا عن أن يشعر بما ألم بها من الأحداث. أم ماض هو في هذه المحنة، فشاعر بنفسه شعورا متصلا خالدا، وإذن فالمحنة باقية لم تنقض، وما عسى أن يكون نوع هذه المحنة بعد الموت، أهو من نوعها قبل الموت؟ وإذن ففيم الموت وآلامه؟ وفيم هذه الحسرات التي تمتلئ بها النفس؛ لأنها تتوقع الموت وآلامه؟ أم هو من نوع جديد لم نعرفه، ولم نذقه أثناء هذه الحياة؟ وإذن فما عسى أن يكون هذا النوع الجديد؟ أهو خير مما ألفنا، أم هو شر مما ألفنا؟
وكذلك أنفق أبو العلاء نصف قرن من حياته يواجه هذه الخواطر إذا أصبح، ويواجهها إذا أمسى، ويواجهها أثناء الليل إن أبطأ عليه النوم، ولعله يواجهها أثناء النوم إن صورتها له الأحلام. وقد وجد أجوبة مختلفة على هذه الأسئلة، وجد أجوبة الديانات، ووجد أجوبة الفلسفة. وكان خليقا أن يطمئن إلى هذه الأجوبة أو تلك فيريح ويستريح، ولكن هذا الاطمئنان لم يقدر له. فهو يستريح إلى ما جاءت به الأديان، ويهيئ نفسه للبعث، ويجتهد ما استطاع في تحصيل الخير، وتحقيق العمل الصالح. ولكن عقله لا يلبث أن يصور له الأمور مناقضة لما اطمأن إليه. فما بال الإنسان يخص بالبعث، وما يستتبعه البعث من ألم أو لذة ومن جحيم أو نعيم؟ ألأنه عاقل وهو من أجل ذلك مكلف؟ ولكن ما بال الإنسان خص بالعقل، وما باله خص بالتكليف؟ وإذن فقد ذهبت عن المسكين طمأنينته، وخاب كل ما كان قد عقد بها من أمل.
وتارة يطمئن إلى بعض مذاهب الفلاسفة فيرى خلود النفس، ولكنه يريد أن يعرف ما عسى أن تصنع النفس، وما عسى أن تلقى أثناء هذا الخلود فلا يجد جوابا، فيعود إلى الحيرة والشك، وما يستتبعان من الألم والشقاء. وقد يتحدث إليه بعض الأجيال بالتناسخ، وما تلقى النفس فيه من فنون الرضا والسخط، وألوان الرفعة والضعة، ولكنه لا يحفل بذلك ، ولا يقف عنده، يراه سخفا وعبثا، ويسخر من الذين يجدون فيه غناء ومقنعا. والذي يزيد الأمر مشقة وجهدا، ويجعله حريا بإثارة اليأس، والدفع إلى القنوط هو أن أبا العلاء قد هداه عقله إلى أن لهذا العالم خالقا، وإلى أن هذا الخالق حكيم. لا يشك
1
في ذلك، أو على الأقل لا يظهر فيه شكا، وإنما تمتلئ به اللزوميات، ولا تكاد تخلو منه قصيدة من قصائدها، أو مقطوعة من مقطوعاتها. وهو إذا تحدث عن هذا الخالق الحكيم تحدث عنه في لهجة صادقة، يظهر فيها الإخلاص واضحا جليا، ولكنه عاجز عن فهم هذه الحكمة التي يمتاز بها هذا الخالق الحكيم، وعجزه عن فهم هذه الحكمة هو الذي يضنيه ويعنيه، ويعذبه في نفسه أشد العذاب. خالق حكيم، خلق هذا العالم ورتبه على هذا النحو الذي رتبه عليه، ولكن لماذا وما بال هذا الخالق الحكيم الذي منحنا هذا العقل، وهدانا إلى التفكير لم يكشف لنا القناع كله أو بعضه عن وجه هذه الحكمة التي لا نشك فيها ولا نرتاب؟ لقد قالت الديانات
2
لأبي العلاء أشياء كثيرة، ولكنها فيما بينها مختلفة أشد الاختلاف متناقضة أشد التناقض. فلأيهما يسمع، وبأيهما يؤمن؟ حيرة جديدة أهون من تلك الحيرة التي صورناها آنفا. وهي تثير في نفس أبي العلاء كثيرا من السخرة التي تظهر هنا وهناك صريحة مرة
3
وخفية مرة
4
অজানা পৃষ্ঠা