جفاها ولم يقبل فداه سوى البذل
والحكم بين الطفلين كالحكم بين الأمين لا يقبل التردد، وهذه النسبة تختلف بين أطفال أمة واحدة لاختلاف الأمهات، والغلبة حينئذ للأكثرية، كما أنها تختلف بين أطفال أمة وأمة، والغلبة هنا للأمة المتمدنة. فإذا خرج الطفل من حجر أمه إلى المدارس صادف هناك عقبات كثيرة، كثيرا ما تهدم جسمه وتطفئ نور عقله، من سوء المعاملة في التربية وفساد التعليم. وهذه المسألة المهمة جدا في مستقبل الطفل ومستقبل كل أمة تحتمل بسطا واسعا إذا أردنا الإلمام بكل أطرافها، والمقام لا يحتمل ذلك، فنقتصر فيها على كلام إجمالي يكون تمهيدا للتوسع في هذا البحث لمن أراد. ولا نطيل الوقوف على المدارس الصغرى؛ فإن عدمها أفضل من وجود كثير منها، ونحصر كلامنا في المدارس الكبرى. فنقول إن التعليم على ما هو شائع، وخصوصا في مدارس المشرق؛ ناقص جدا، فنظام المدارس في التعليم والتربية قديم لا ينطبق في جملته على احتياجات العصر ومقبولات العقل وسنن الارتقاء؛ فالأسباب الصحية مهملة في أكثرها للغاية، من حيث نظافة الهواء والماء والمأكل والملبس. فإن القائمين بهذه التربية أكثرهم لا يعتنون بذلك، وربما عده بعضهم من الأمور المخالفة للمبادئ القائمين بتأييدها، فعدوا القذارة نوعا من التقشف الفضيل، والنظافة إفراطا في الترهل الذميم. وكثيرا ما يكون ذلك سببا لأمراض تؤدي إلى الموت بعد الاعتلال. خذ مثلا لذلك من أمثلة كثيرة، وهو مثال السكين والملعقة والشوكة التي يستعملها التلامذة في طعامهم؛ فإن كثيرا من المدارس حتى اليوم لا يسمح بغسل هذه الأواني إلا مرة في كل أسبوع.
والتربية ناقصة كذلك، وأكثر القائمين بها أناس يجهلونها، فيعدون العقاب ومعاملة التلامذة بالخشونة والقساوة من القواعد الأساسية، ويساوون فيها بين العموم، لا يفرقون بين تلميذ وتلميذ، جاهلين الحكمة من قول الشاعر:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
مضر كوضع السيف في موضع الندى
أي إن استعمال العصا حيث يمكن الاكتفاء بالتوبيخ اللطيف مضر كاستعمال هذا في موضع ذلك. والأمثلة على ذلك كثيرة، وكل واحد منا في وسعه أن يذكر كثيرا منها. وأروي لك مثالين وقعا لي في مدرستين متباينتين في التربية، وبينهما فترة طويلة؛ أحدهما: أني كنت ذات ليلة قبل ميعاد النوم واقفا مع صفي في مكان مكشوف للهواء، وفي أيام الشتاء، فخانني الصبر من طول الانتظار، وقرصني البرد، فتأففت من ذلك طالبا العجلة، فلم يرق ذلك في عيني الملاحظ علينا، وكأن رجلا أحمق اسمه الأب بيانكي، أحق به مستشفى المجاذيب من مدرسة يتولى تربية الصغار فيها، فعاقبني للحال عقابا أوسخ من عقله، فاعترضت فشدد العقاب، فرضخت للظلم لصغر سني وضعفي، وحفظت الغل في قلبي حتى اليوم، ولو كان لي حينئذ قوة تمكنني من الدفاع عن نفسي لنتفت ذقنه شعرة شعرة.
ثم وقع لي بعد ذلك بسنين في مدرسة أخرى ما أخجل أنا نفسي من ذكره؛ فإني طلبت يوما وأنا على المائدة طعاما غير موجود، وكان ذلك جائزا لنا، فأباه العشي علي، فغضبت لذلك جدا، وقمت من عن المائدة، واندفعت إلى المطبخ كالآلة العمياء، وتناولت الشيء الذي طلبته، ثم رميت به إلى الأرض ودسته تحت قدمي، ثم رجعت إلى مكاني وأنا أنتظر العقاب على ذلك، وأقله الطرد، وكان للمدرسة رئيس من أفاضل الرجال، عاقل حكيم اسمه الدكتور بلس، أطال الله بقاءه، فأبلغوه الأمر، فكأنه نظر إلى سوابقي الحسنة، وربما راعى اجتهادي في الدرس كذلك، فأمهلني يومين ولم يقابلني، وأنا أنتظر من دقيقة إلى أخرى أن يطلبني. فلما كان اليوم الثالث كنت في ساحة المدرسة وحدي، فرأيته مقبلا علي وبيده كتاب، فجمدت في مكاني، وعلاني اصفرار الوجل، وخفق قلبي، فلما دنا مني تبسم ومال إلى أذني كأنه يريد أن يسر إلي أمرا، وقال لي بصوت منخفض: «إذا غضبت مرة أخرى فلا ترتب على غضبك عملا إلا بعد أربع وعشرين ساعة.» وتركني. فبقيت جامدا في مكاني لا أتحرك، وعلاني احمرار الخجل، واستولى علي الدوار، ولا أعلم كم بقيت في هذه الحالة لا أنتقل من مكاني، وإنما الذي أعلمه أنني اعتبرت بهذا العقاب كثيرا، وحسبته أشد من الضرب والطرد، وأدعى إلى الإصلاح.
وأي قساوة وحشية تفوق ما أرويه لك عن معاملة المعلمين للتلامذة في بعض هذه المدارس الكبرى؟ فإني يوم كنت تلميذا وسني بين 11 و12 سنة، كان ملاحظ غرفة منامتنا كلما رأى تلميذا مكشوفا وهو نائم يوقظه بضربه بعصا رفيعة على رجليه عوضا عن أن يغطيه كما كان يفعل أبوه أو أمه، مع أن عمل الضرب لا يوجب على حضرته صرف قوة أقل مما يوجب عمل التغطية، فماذا يفعل هذا الطفل المسكين القاصر عن معرفة الجائز وغير الجائز، وعن معرفة متى يكون مسئولا ومتى لا يكون، إذ يرى مثل هذا الوحش المتولي أمر تربيته يفعل ذلك، سوى أن يقوم في اعتقاده أن تكشفه في نومه ذنب لا يغتفر، ولكنه ذنب ليس في طاقته أن يجتنبه؛ فتقل ثقته بنفسه، ويقع في رعب قد يؤدي به إلى الخمول. وأذكر أني كي أتقي هذه المعاملة الوحشية عمدت إلى اللحاف وثبته في السرير، ثم فتقت ملحفته، وصرت أدخل جسمي بين اللحاف والملحفة كأني في كيس، ولكني كنت حينئذ كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ فقد اتقيت بهذه الحيلة عصا الرقيب، ولكني وقعت بين أنياب البق؛ لأن مسامير اللحاف، كما يسمونها، كانت ملآنة بقا.
ولذلك ينبغي أن يكون المعلمون من الذين تربوا جيدا، وبرعوا في علم الأخلاق؛ حتى يدرسوا طبائع كل تلميذ، ويعاملوه بحسب طبيعته. وينبغي أن يكونوا كذلك من النبهاء؛ ليلاحظوا ميل كل تلميذ وقابلية عقله؛ ليردعوه عن الفاسد، وينشطوه في الاستعداد الحسن. والأكثرون لا يفهمون مقدار الضرر الناشئ عن عدم مراعاة ذلك؛ فإن عقولا كثيرة من أذكى العقول ينطفي نورها كل سنة في المدارس من سوء المعاملة، ومقاومة أميال العقل. ولا ريب عندنا أن المستقبل سيجعل فن سياسة الأطفال فنا قائما بنفسه، تؤلف فيه المؤلفات، ويتلقنه المعلمون في مدارس خصوصية تجيز لهم التعليم، كما يفعل اليوم للأطباء والمتشرعين.
أما التعليم في المدارس فقسمان: العلوم الأدبية، والعلوم الطبيعية. أما العلوم الطبيعية، ويدخل تحتها العلوم الرياضية، فلا يعترض عليها؛ لأنها واحدة في كل المدارس، وهي من أصدق العلوم، وتأثيرها في العقل جيد جدا؛ إذ تربيه على القياس الصحيح.
অজানা পৃষ্ঠা