ولا أدري بأي قياس عقلي جاز لحضرته أن ينكر أن خوف العقاب هو الذي علم الإنسان أن يكذب، وكيف يفهم قوله: «إننا لم نعاقب المجرم لأنه يصدق، بل لأنه يقر بذنبه في ذلك الصدق.» ومتى علم الإنسان أنه إذا صدق في إقراره بذنبه يعاقب، ألا يرى حضرته أنه يحاول حينئذ عدم الإقرار به؟ وما هو الكذب يا ترى غير ذلك؟ وأليس خوف العقاب من قول الصدق في ذلك الإقرار هو الذي حمله عليه، أم لا يجوز لنا أن نقصد النتيجة البعيدة من قولنا: «ألسنا نحن الذين علمنا الإنسان أن يكذب؛ لأنه رآنا نعاقبه على الصدق؟» وهل يجوز أن يفهم منه غير ما تقدم؟ أما كان يغنينا هذا الفهم عن التلاعب بالألفاظ حرصا على المعاني؟ فمهما يكن من ذلك، أليس خوف العقاب هو الذي يدفعنا إلى الإنكار؟ فأقل شرور العقاب الكذب، وهو أم المعاصي، ألا ترى الطفل الصغير قبل أن نعوج طبيعته المستقيمة، أو نزيد اعوجاجها إذا كانت عوجاء بتربيتنا له التربية السيئة، كيف يميل إلى قول الصدق، ولا يعدل عنه إلى الكذب إلا خوفا منا ومن عقابنا؟ فإذا كسر ابنك صحنا أو زجاجة دواء ولو فارغة، وسألته بأنس أقر لك بالحقيقة، فإن بادرته بالتهديد والوعيد أو كنت قد عاقبته على ذنب سابق، فأنا أضمن لك أنه لا يقر لك مطلقا، ويحاول بكذبه النجاة من غضبك؛ ولهذا السبب، ولسوء معاملة الوالدين لأولادهم، كان أكثر الأطفال ينشئون كذابين، فهل ينكر هنا تأثير العقاب في إفساد طبائع الأطفال؟ •••
أم بأي قياس عقلي يرى التناقض في هذه الحقيقة الواضحة في قولي: «ألسنا نحن الذين علمنا الإنسان أن يسرق لأنا حجبنا عنه ما يحتاج إليه؟» وهل له أن يفهمنا كيف تولدت السرقة في الإنسان أولا؟ ولا نخاله إلا يسلم بأن السرقة نشأت في الأصل عن احتياج الإنسان إلى شيء حجب عنه، وهذا الشيء في أول الأمر كان من الضروريات لحياته؛ لأن احتياجاته الأولى كانت بسيطة جدا لسد جوع أو إرواء ظمأ. وقد أبنا فيما تقدم كيف حجبت عنه هذه الحاجات الضرورية، وكيف اضطر أن يسلك للاستحصال عليها بالالتجاء إلى السرقة وغيرها من الوسائل التي صارت ذنوبا، ووضعت لأجلها الحدود وسنت الشرائع، ولا نريد من ذلك الرجوع بالإنسان إلى الإباحية التي تجعل كل شيء مباحا له، وإنما غرضنا أن نبين أن الشرائع التي وضعت في الأول لصيانة حقوق القوي - التي صارت حقوقا بالطرق التي تقدم بيانها - لم تستدرك مراعاة حقوق الضعيف؛ فلم تفرض على القوي ما يكون بمثابة تعويض للضعيف على ما اهتضم من حقوقه ولا ذنب له إلا ضعفه، بل جعلت كلها لصب جام النقمة على رأسه. وهذا الذي يسعى رجال الإصلاح في كل الأقطار لتحويل الأنظار إليه لاستدراكه.
وأما إلماعه في عرض ذلك إلى ذكر الفوضوية والاشتراكية، وذكرهما على أسلوب يوهم القارئ أنهما وصمة لا يريد أن ينسبهما إلي لئلا أتلطخ بعارهما؛ فلا أريد منه أن يخجل عني منهما إذا فهمهما بمعناهما الحقيقي، وكما أفهمهما أنا، فما هما إلا أخوات تلك الجمعيات أو بناتها - ومنها الجمعيات المسيحية في أول عهد النصرانية - التي ما فتئ الإنسان يؤلفها منذ صار عقله قادرا على أن يفهم مبدأ الشرائع وما فيها من الحيف، والتي ليس لها غرض سوى مقاومة أصحاب السلطة، وتحويلهم عن اعوجاجهم، وحملهم على السلوك في سبيل أقرب إلى مصلحة العموم.
ولولا فضل هذه الجمعيات في كل العصور، على اختلاف أسمائها واتفاق معانيها، لما تزحزح الإنسان شبرا عن المكان الذي أجلسته فيه شرائعه الأولى. والفوضوية أو الاشتراكية لا تطلب حقيقة إلا ما نراه كل يوم في نظام الطبيعة الصامتة من اشتراك الجمهور في مصلحة الجمهور، واعتبار الأفراد ضروريين للجمهور، وإلزام الجمهور بمراعاة مصلحة الأفراد. فلو وجد في الحكومات (وسوف يوجد في المستقبل) نظام مثلا ينظر إلى مصالح الأفراد، بحيث يجعل الجمهور ينتفع من قوى كل فرد ، ولا يضيع قوى فرد، ويجعل هذا الفرد ينتفع كذلك مما فيه من القوى؛ ألا كنت تظن أن الحالة الاجتماعية تكون أصلح مما هي الآن، فتقل مصائب الأفراد، وتقل الشرور وتكثر منافع الجمهور؟ ولا يخدعنا في غايات هذه الجمعيات ما نراه من الوسائط المشجوبة التي يعمد إليها أكثرها، فنظنها الغاية المقصودة منها؛ فما هي بالحقيقة إلا سلاح الضعيف لمقاومة القوي وتحويل الأفكار إليها، وإيقاظ العقول الخامدة وتنبيهها إلى التبصر والافتكار. •••
ثم دفع قولي إن العقاب من آثار التوحش القديم، قال: «وكان دليله على ذلك تعديل القصاص وتلطيف أنواع العقوبات والعذاب، فكأنه بذلك يستدل على أن كل شيء يجري فيه الإصلاح بعد حدوثه يكون فاسدا في أصل وضعه، وأن القضاء ما دام يمكن إصلاحه فهو فاسد الوضع، وأن العقاب ما دام يصلح ويلطف فهو ظلم من أصله ولا وجوب له في هيئة الاجتماع. فإذا قلنا له إن الطب ممكن الإصلاح دائما (وهو في مقالته قد شابه بين الطب والقضاء)، فهو إذن من آثار التوحش الذي لا وجوب له في هذا العهد ... إلخ.» ففيه من التكلف والاضطراب ما لا يخفى، ويجرنا إلى مبحث يصرفنا الاشتغال فيه عما نتوخاه في بحثنا من المعاني. فأنا لم أقل إن القضاء لا وجوب له، وهو للاجتماع كالطب للأبدان، وهل يجوز أن يستنتج ذلك من طعني في العقاب، أم هل العقاب هو القضاء نفسه، أم ليست نسبة العقاب إلى القضاء كنسبة الدواء إلى الطب؟ فإذا حكمنا بفساد الطرق العلاجية (والطب قديم، وقد تغيرت هذه الطرق فيه جدا) بدليل تعديلها أو تبديلها، فهل يلزم من ذلك أن نستنتج أن الطب لا وجوب له؟ وهنا يعذرني حضرة الشيخ إذا أظهرت منتهى استغرابي، ورحم الله الشيخ جمال الدين الأفغاني؛ فإنه كان كلما عرضت له مشكلة من هذا الطراز لا يجد جوابا عليها أحسن من قوله: «سبحان الله!»
وأما كلامه في السجون فلا يختلف عن كلامنا؛ فهو يوافق على إصلاحها، إنما يخالفنا في غايتها؛ فهو يريدها أن تبقى محلا للعقاب، ويزعم أن الإصلاح لا يتم بدون ذلك. وهو بذلك متفق مع نفسه؛ لاعتباره العقاب الدواء الأفضل لتقليل الجرائم. ونحن نريدها مدارس ومستشفيات لتهذيب الأخلاق وتقويم المعوج من الطبائع. وغرضه أن يدفع الشر عن الهيئة الاجتماعية، ولو بتضحية هذه الهيئة لقلة اعتداده بالأفراد، وغرضنا دفع الشر عن هذه الهيئة مع توفير المنفعة لها بتوفير أعضائها. وقد تقدم أن العقاب بمعناه وطرقه لا يفي بذلك، بل هو عقبة كبرى في سبيله. هذا وإني في الختام أشكر حضرة الشيخ الفاضل؛ لأن مقالتي لم تذهب عنده من دون صدى، وإن كان على غير ما أحب؛ فلكل منا فكر يلزم اعتباره، فهو يرى أن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأنا أرى أن في الإمكان أبدع جدا مما كان. •••
المقالة الخامسة عشرة
إحناء وإنحاء
1
اشتد القر، وأقرسني البرد، وبيوت القاهرة لا للحر، ولا للصرد. فلجأت إلى وقود الفقير، وهو في الشتاء دفاء، وفي الصيف سعير. فقمت أمشي متثاقلا كأني من أسد الشرى، أو من صيد الشرى، وما لي من بأس ولا شرى. فيتهمني الناس بالعجب، وأنا أرمقهم بالعجب، كأني لا أدرك ما بهم من العبامة، وكأنهم يجهلون ما بي من الوصب. وما زلت أنحو نحوي، وأراهم كأنهم ينحون علي، حتى شعرت كأن سلطان غلهم قد أفرغ إلي، فتذكرت ما قلت:
অজানা পৃষ্ঠা