وأزيدك أيها المسلم بيانا في أن النصراني يؤمن بإله واحد، فأقول إن القرآن المجيد لم يسم النصارى مشركين، كما لا يخفى، بل سماهم أهل كتاب، وأجاز أكل ذبائحهم والتزوج بنسائهم، ولم يجز هذا ولا هذا في الذين سماهم مشركين. وقد اشتبه الأمر على بعض العلماء من الأقدمين، فسأل عالما آخر: «كيف لا يكون النصراني مشركا وهو يقول إن الله ثالث ثلاثة؟» فقال له: «إن الله الذي لم يسمه مشركا أعلم مني ومنك.»
هذا ما رأيته واجبا من بعد أن رأيت وسمعت كلمات القاصرين في هذه المباحث العميقة لدى المؤمنين بالغيب، والعقيمة لدى الذين لا يريدون إلا ما يشهد به الحس أو العقل بسهولة، فإن أقنع ونفع فنعما ذاك ، وإلا فليتجادل القوم ما شاءوا أن يتجادلوا حتى تطلع الشمس من مغربها، أليس كذلك؟ •••
وجاء في عرض كلام الدكتور أنه جعل الأديان بمثابة واحدة من حيث علاقتها بالعمران وتأثيرها في الاجتماع، فأنكر ذلك عليه صاحب الرد. وقد طال المقال فضاق المقام عن الإسهاب في هذا الموضوع؛ فلذا أكتفي بكلمة واحدة، وهي أن صاحبنا يسلم معنا ومع الدكتور بأن ديننا الإسلامي لا ينافي العمران، فافرض أنك لا ترى دينا آخر له هذه المزية، وأن ديانات الأقوام الآخرين قد خربت ديارهم وقطعت نسلهم؛ فلذلك لم يبق في الصين من نسمة ولا حجر على حجر، ولم يبق في أوروبا وأمريكا من ديار ولا نافخ نار، فما الذي يضرك إذا كان دليلك الحس ودليله الخيال أن تجامل من حولك من الذين يتدينون بالنصرانية، إخوانك في الوطن واللسان، الذين لم يبق لهم من إخوان في الدين إلا أربعمائة وخمسون مليونا فقط! نعم أقول لك ما الذي يضرك إذا لم تفاجئ القوم جيرانك بأن ليس بيدهم إلا دين يخرب الديار ويفني البشر؟ •••
بقي شيء واحد مما أحببت الكلام فيه، وهو أنه جاء في عرض كلام الدكتور أن الزواج والطلاق ليسا في الإسلام والنصرانية من المسائل التي يقيد بها الاجتماع، وقد قال صاحب الرد بأن ذلك صحيح في الإسلام دون المسيحية. ولولا أنني ما وصلت إلى هذا المقام حتى مللت لشدة كراهتي الجدل في الدين، لأسهبت في هذا الموضوع أيضا، ولكني أعدل عن ذلك إلى توجيه نظر الكاتب إلى كتاب الوجود؛ ففيه صحائف الأمم، وهناك يجد أن لاجتماعها سننا قد راعتها الديانات كلها. فالمسيحية جاءت في هذه الأبواب بوعظ ونصائح، ولم تجئ بشرع حاتم يجب تأييده على الملك والحاكم. فهذا سر اختلاف طوائفهم في هذه الأبواب قديما وحديثا، فمن تمسك بهذه النصائح من ملوكهم وشعوبهم بنوا عليها قوانينهم في هذه المسائل، ومن رأى مندوحة في تفسيرها وتأويلها وجواز مخالفتها اجتماعيا، تراهم توسعوا فيها على قدر ما آنسوا أن العادات تساعدهم. وبهذا البيان تعرف صحة قول الدكتور.
وبعد ، فإنني قد عملت ما علي من الإرشاد إلى وجوب التفاهم وآداب المناظرة ومراعاة الأوقات فيها، وأرجو بعد ذلك أمرين: الأول من حضرات الكتاب المسلمين، أرجوهم إذا مدحوا دينهم ألا يذموا دين غيرهم. والثاني من حضرات الأدباء المسيحيين، أرجوهم ألا يظنوا الدين الإسلامي هو الذي يأمر بذم غيره من الديانات، بل هو يأمر بالحكمة والموعظة الحسنة. انتهى ببعض اختصار.
المقالة التاسعة
رأى وقال1
كل شيء في الكون سلسلة: العالم المادي والعالم المعنوي على حد سوى. وكما نشأت الأحياء الراقية من أحياء أدنى، وهي من مواد الطبيعة، هكذا نشأت الأديان من الاعتقادات، وهذه من الخرافات، وهذه من قلة تعرف الإنسان لظواهر الأشياء التي حوله وتوهمه فيها. ***
آيات بينات، وحقائق باهرات. ضلال استمسك به الناس كأنه العروة الوثقى، كل حزب بما لديهم فرحون، وهدى إذا ذكروه فإنما هم يهمسون.
أناس يجوعون ويعطشون ويموتون، نظروا إلى ما حولهم، وإذا الأرض تخرج لهم ما يأكلون مريئا ويشربون هنيئا، فقالوا: «أمنا ارحمينا ولا تحبسي عنا قوتا يغذينا وماء يروينا.» وارتفعوا إلى ما فوق، وإذا البرق يكاد يخطف أبصارهم والرعد يصم آذانهم، فانخلعت قلوبهم من هول ما يبصرون ويسمعون، فأغمضوا جفونهم، وجعلوا أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت، وخروا خاشعين.
অজানা পৃষ্ঠা