وبالجملة ذهبوا إلى أن الحكم الوازع يمتنع أن يكون مقيدا حق التقييد في مثل هذا النظام إلا إذا كان فيه الملك صورة لا حقيقة كما يعهد في بعض الأمم (أمة الإنكليز)، وهي مع ذلك أصلح الناس حالا؛ ولذلك قالوا: لا بد من أن يكون حكم التبديل شاملا لعامة الهيئة من الملك إلى العامل البسيط مع مراعاة جانب الحكمة في هذا التبديل اجتنابا لشر العجلة إذا كان سريعا، فتتبدل الدول ولا تكون فرصة للعمل وفرارا من سوء عقبى الإبطاء؛ لئلا يستبد الرأس الحاكم بالحكم إذا طال عهده وهو قابض على ذمامه، كما وقع لنابوليون. وينتخب الرأس من آحاد الأمة، ويوجب له هذا الانتخاب عندها ما له من الحكمة والدراية بالأمور، فيتعاون مع رجال الحكومة على إتمام الحكم في الأمة وعليها، على قوانين الشورى الحقة، قالوا: وهذا النظام كثيرا ما لا يبرأ من الخلل، إلا أنه أبلغ ما في طاقة البشر إدراكه بالفعل. •••
ومن ينظر في العمران ينبغي ألا يذهل عما للإقليم من الأثر فيه؛ إذ لا يستوي العمران في كل الأصقاع لاختلاف طبائع أقاليمها، ولا في كل الأجيال لاختلافهم في الخلق والخلق. وسبب ذلك لأن الإنسان متأثر لعامة الأسباب الطبيعية من حر وبرد وهواء وخصب وجدب ونجد وغور وجبل وسهل وبادية ومصر واختلاف فصول، وغير ذلك ما بين اعتدال مزاج واختلاف تكوين وشدة واسترخاء وحزم وثبات وطيش وخفة وخشونة ولين ونشاط وتوان وغفلة وذكاء وبلادة. وكل ذلك يؤثر في عاداته وسياساته ونحله، ويؤثر بعضه في بعض أيضا، بحيث تختلف النتائج عن ذلك اختلافا جسيما، وتتنوع إلى ما لا حد له. فإنك إذا قابلت بين سكان صقع وصقع تجد بينهم بونا عظيما في التكوين والأخلاق والسياسات والعادات، وكذلك الأجيال الواحدة تختلف في الأحقاب المختلفة، وسكان البلد الواحد يختلفون فيما بينهم حتى لا تكاد ترى اثنين يشبه أحدهما الآخر بسبب ذلك.
وربما أمكن الحكم على طبائع كل قوم من طبائع إقليمهم بقطع النظر عن تاريخهم؛ لأن متولدات كل إقليم هي شبيهة به؛ لذلك كان اليونان الأقدمون في عصر الميثولوجيا يصلون آلهتهم نار الحرب، وكان أكثر شعرهم حماسيا كما جاء في ديوان شاعرهم أوميروس؛ لأن شعر كل قوم مرآة حال ذلك القوم؛ ولذلك أيضا كان المصريون القدماء يعبدون التمساح وغيره من أصناف الحيوانات العجم؛ ولهذا السبب عينه كان أهل بريطانيا يغلب على طباعهم الجد وعلى تصوراتهم العبوسة، كما يظهر من تصورات شاعرهم «ملتن»؛ ولهذا السبب أيضا كان العرب وأهل إيطاليا وإسبانيا يصبون إلى الألحان الشجية، ويميلون إلى الغزل والتصابي في شعرهم. وما كان بين ذلك كانت طباع أهله بين ذلك أيضا، ولا يمكن الإطلاق في مقام التقييد؛ لأن أسبابا أخر كثيرة عامة وخاصة إذا اشتركت مع ذلك لم تبق هذه النتائج على حالها، بل غيرت من أمرها، وبدلت تبديلا كبيرا. •••
وممن تمعن من الأقدمين بما لطبيعة هذه الأسباب من الأثر في طبيعة الأرض وسكانها أبو الطب أبقراط. قال في عرض كلام له في هذا المعنى ما نصه: «إن آسيا تختلف اختلافا عظيما عن أوروبا بطبائع محاصيلها وسكانها، فكل ما ينبت في آسيا أقوم خلقا وأعدل خلقا، وسبب ذلك اعتدال فصولها؛ فإنها لوقوعها بين شروقي الشمس (الشتوي والصيفي) هي معرضة للحر بعيدة عن البرد، وهذا هو سبب خصبها وجودة محاصيلها واعتدال إقليمها. وهي ليست متساوية في كل الأماكن، فما كان منها واقعا متوسطا بين الحر والبرد كانت أثماره أخصب، وأشجاره أجمل، وهواؤه أرق، ومياهه مطرا كانت أم ينابيع أصح؛ إذ ليس فيه زيادة حر تحرقه، ولا قلة مياه تيبسه، ولا برد قارس يميته، بل هو دائما ندي بسبب أمطاره الغزيرة وثلوجه الكثيرة؛ فأرضه لذلك كثيرة الخصب زرعا مزروعا كان أم نباتا تنبته الأرض من نفسها، وحيواناته كبيرة كثيرة النتج، وسكانه سمان وأشكالهم جميلة وقاماتهم معتدلة، وقلما يختلف أحدهم عن الآخر. وهذه القارة أيامها أشبه بالربيع لاعتدال فصولها، إنما ليس لأهلها بسالة الرجال، ولا الصبر على الملمات، ولا الثبات في الأعمال، ويغلب عليهم حب اللذات. وأمم أوروبا تختلف بعضها عن بعض بالقد والشكل لشدة اختلافات فصولهم وكثرتها.» إلى أن يقول: «لذلك فيما أرى كان أهل أوروبا يختلفون فيما بينهم أكثر من أهل آسيا، وكان أهل البلد الواحد يختلفون في القد؛ لأن تكوين الجنين يختلف في إقليم تكثر فيه اختلافات الفصول أكثر من إقليم تتشابه فصوله، وكذلك يحصل في الأخلاق؛ لذلك كان أهل أوروبا أشد نجدة للحروب من أهل آسيا.» ا.ه. •••
وكذلك تكلم الشيخ الرئيس ابن سينا في كتاب القانون، وقد نحا نحو أبقراط في ذلك حتى يظن في أماكن كثيرة أنه نقل عنه. قال في أرجوزته متكلما عن سبب اختلاف اللون في البشر:
بالزنج حر غير الأجسادا
حتى كسا جلودها سوادا
والصقلب اكتسبت البياضا
حتى غدت جلودها بضاضا
وممن أفاض في هذا الموضوع ابن خلدون في مقدمته، حيث بسط الكلام على تأثير الحر والبرد والهواء والقوت والمكان، وغيرها بما لا يعهد له مثيل إلا عند علماء طبائع الحيوان اليوم. قال من كلام طويل له في ذلك ما نصه: «وفي القول بنسبة السواد إلى «حام» غفلة عن طبيعة الحر والبرد وأثرهما في الهواء، وفيما يتكون فيه من الحيوانات؛ وذلك أن هذا اللون شمل أهل الإقليم الأول والثاني من مزاج هوائهم للحرارة المتضاعفة بالجنوب؛ فإن الشمس تسامت رءوسهم مرتين في كل سنة قريبة إحداهما من الأخرى، فتطول المسامتة عامة الفصول، فيكثر الضوء لأجلها، ويلح القيظ الشديد عليهم، وتسود وجوههم لإفراط الحر.» إلى أن يقول: «وليست هذه الأسماء لهم من قبل انتسابهم إلى آدمي أسود، لا حام ولا غيره.» ثم يقول: «ونظير هذين الإقليمين مما يقابلهما من الشمال الإقليم السابع والسادس، شمل سكانهما أيضا البياض عن مزاج هوائهم للبرد المفرط بالشمال؛ إذ الشمس لا تزال بأفقهم في دائرة مرئي العين أو ما قرب منها، ولا ترتفع إلى المسامتة ولا ما قرب منها فيضعف الحر فيها، ويشتد البرد عامة الفصول، فتبيض ألوان أهلها وتنتهي إلى الزعورة، ويتبع ذلك ما يقتضيه مزاج البرد المفرط من زرقة العين وبرش الجلد وصهوبة الشعر.»
অজানা পৃষ্ঠা