والسمع والبصر اللذان يعدان أعظم الطرق في العقل هما العضوان اللذان يوصلان إلى المخ أو إلى المركز العصبي كل التأثرات التي تحدث من التأمل في اللون والشكل والهيئة والحركة، أو من سماع أصوات خاصة، وهذه التأثرات تكون مصحوبة عادة بشعور بلذة أو ألم، وتسمى اللذة التي تحدث من التأمل في الجمال «لذة الجمال»؛ وهي أثر الجمال يخاطب عواطفنا وعقولنا وخيالنا بواسطة الحواس، فيذكي نفوسنا ويرقيها ويزكيها، ومن مميزات هذه اللذة خلوها من رغبة في الملك تسبب إحساسا بالألم لا محالة؛ ففرع الفلسفة أو علم النفس الذي يبحث في هذه العواطف وتلك اللذائذ هو «علم الجمال». والإنسان كثيرا ما يحس بسرور ولكنه لا يعرف علته، وقلما يبحث في السبب ويحلله، والغرض الفلسفي من علم الجمال أن يبحث وينقب ويحدد ذلك. نعم، إن الفيلسوف والعامي يشتركان في أن كلا يشعر، ولكن الثاني لا يستطيع أن يوضح شعوره بقول أو فعل كما يستطيع الفيلسوف والفنان؛
2
فالعامي يشعر فقط، والفيلسوف يشعر ويتأمل. في العامي غريزة ساذجة وعاطفة وإلهام يشاركه فيها الحيوان إلى حد ما، وفي الفيلسوف تبصر وإمعان وفكر.
علم الجمال - وإن شئت فقل: «علم الجميل» - هو علم يبحث في الشعور والإحساس واللذائذ التي تبعثها مناظر الأشياء الجميلة. وهذا التعريف لا يسلم من النقد إن لم يكن خطأ محضا؛ فإن هذا العلم لا يبحث في الجميل فقط، بل يبحث في القبيح أيضا، كما أنا إذا تكلمنا عن «علم الحروب» فلسنا نعني علم النصر، وإنما نعني علم الحركات الحربية التي ينبغي أن تؤدي إلى النصر، وربما أدت إلى الهزيمة.
الجميل يبعث في النفس الشعور بالحب والجاذبية واللذة والسرور، والقبيح يبعث الشعور بالكراهية والنفور، ولكن نرى جمال الطبيعة الرائع، والنجوم التي لا عداد لها سابحة في الفضاء منثورة نثر الرمال في الصحراء، والجبال الشامخة، والبحار الشاسعة، وشروق الشمس وغروبها فنطلق عليها اسم «الجميل»، وهي مع ذلك تحدث في النفوس حزنا عند التأمل فيها، وتبعث نوعا من الكآبة - أو الوجد - يصح لنا أن نسميه ألما لذيذا، وسبب هذا أننا نراع أمام هذه الأشياء باللانهاية، ويعلونا الشعور بأنا لم نعد في حضرة «جميل»، بل في حضرة «جليل»، وهذا يحدث في النفس أولا شعورا بالضعة، ثم يتلوه شعور بالرفعة.
ويقابل الجليل «الفكه»،
3
وهو ينشأ من تضاد أو عدم ملاءمة أو ظهور الشيء بغير مظهره، كالوقار المصطنع والصلاح المفتعل، قال الأستاذ «سلي» في آخر كتاب له واسمه (رسالة في الضحك): «إن لفظي المضحك والفكه يمكن استعمال أحدهما مكان الآخر إلى حد ما مع أمن اللبس، ومع ذلك فيحسن أن يلاحظ أن اللفظ الثاني يستعمل عادة في معنى أدق من الأول؛ إذ الظاهر أن لفظ (الفكه) لا يدل على ما يضحك منه فحسب، بل يدل أيضا على ذلك النوع من المجون العقلي الذي يتضمن ملاحظة ما بين الأشياء من الروابط والنسب ملاحظة واضحة، ويتصل تمام الاتصال بما ذكرنا من دلالة كلمة (الفكه) على الجانب العقلي أنه يلاحظ فيها أيضا الدلالة على المثل الأعلى لما يستحق أن يضحك منه، وفيها - كما في كل ما يثير عاطفة الجمال - إشارة شبه خفية إلى قواعد الفن المنظمة للعمل.»
والمناظر المحزنة تبعث في النفس لذة مشوبة برحمة، لذة يخالطها شيء يشبه الألم، وسبب هذه اللذة أن للعواطف الأخلاقية عملا في هذه الأشياء، وعلم الجمال يبحث في كل هذه الإحساسات، فهو علم الشعور والعواطف والانفعالات.
علم الجمال يحد الجميل والقبيح والجليل والهزلي والفكه، ويبحث في السبب الذي من أجله يظهر الشيء جميلا أو قبيحا، يبحث في الجمال المطبوع كما يبحث في الجمال المصنوع؛ أعني أنه يبحث في الفنون
অজানা পৃষ্ঠা