Ma'alim Fi Al-Suluk Wa Tazkiyat Al-Nafs
معالم في السلوك وتزكية النفوس
প্রকাশক
دار الوطن
সংস্করণের সংখ্যা
الأولى ١٤١٤هـ
জনগুলি
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن السلوك الصحيح وتزكية النفوس من أعظم أمور الدين، وأجل خصاله، حيث اهتم سلفنا الصالح بالسلوك الشرعي علمًا وعملًا، فالسلوك الظاهر ملازم للإيمان الباطن، وصلاح الظاهر ناشئ عن صلاح الباطن، وكذا العكس.
ومع شدة الحاجة إلى فقه السلوك علمًا وعملًا، فإننا قد لا نجد كتابات معاصرة تعالج الجانب السلوكي من خلال منهج أهل السنة، إضافة إلى كثرة المخالفات والانحرافات للسلوك السوي من قبل أعداد كبيرة من أهل السنة، فضلًا عن غيرهم.
ولأجل ذلك رغبت أن أسهم في خدمة هذا الجانب، فيسر الله تعالى بمنه وتوفيقه جمع هذا الكتاب وإعداده.
ويتضمن هذا الكتاب قسمين، أحدهما: معالم في السلوك وتزكية النفوس، وهو عبارة عن لمحات في منهج السلف في تقرير السلوك.
ولما كان السلوك – عند السلف – يعد إيمانًا ودينًا، فإننا نراهم يفردونه بكتب مستقلة، بل ويوردون الجوانب السلوكية ضمن كتب العقيدة، لأن السلوك وما يتعلق بالصفات الأخلاقية من شعب الإيمان وخصاله، فلا نتفك عنه.
1 / 3
لقد كان للنزعة الإرجائية الكلامية أثر ظاهر في إهمال موضوعات السلوك والأخلاق، فلما كان الإيمان – عندهم – تصديقًا فحسب، أهملوا أعمال القلوب والجوارح. ولما كان توحيدهم – فقط – هو توحيد اعتقاد الربوبية لله تعالى، أعرضوا عن توحيد العبادة والإرادة والطلب، ما يتبعه من الجوانب السلوكية والأخلاقية.
وأما القسم الآخر فهو نماذج مختارة لموضوعات سلوكية، وقد اقتصرت على خمسة موضوعات، وهي: أهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق، وتزكية النفوس، وأعمال القلوب، ومكايد الشيطان، والإخلاص والعجب.
وقد حرصت على الاختصار، مع التفصيل – أحيانًا – لبعض المسائل التي قد تخفى على الكثير وأوردت في تلك الموضوعات أمثلة عملية وأقوالًا مأثورة من حياة السلف الصالح، وما كان عليه من سلوك صحيح، وإخلاص لله تعالى، وتحقيق العبودية التامة لله وحده لا شريك له
١ وعندما نورد تلك الأمثلة الواقعية من حياة السلف الصالح، فإننا «نستغفر الله ن الكلام فيما لسنا بأهل له» . (١)
وإذا كان الإمام أحمد بن حنبل – ﵀ – يسئل عن أخلاق الورعين، فيقول: «أسأل الله أن لا يمقتنا» . (٢)
فكيف بحالنا نحن الضعفاء المذنبين؟
لا تعرضن َّ لذكرنا في ذكرهم ... ليس الصحيحُ إذا مشى كالمقعدِ
إن الكاتب في مثل تلك الموضوعات السلوكية قد يجد شيئًا من التردد والإحجام، ويخشى أن يُلبّس عليه الشيطان من خلال هذا الباب، فإن من كيد إبليس على المشتغلين والمتكلمين في الزهد والسلوك أن يلبِّس عليهم أنكم من جملة
_________
(١) قالها ابن القيم في طريق الهجرتين ص ٣٣٣.
(٢) سير أعلام النبلاء ١١/ ٢٢٦
1 / 4
الموصوفين بذلك، لأنك لم تقدر على الوصف حتى عرفتَ ما تصف وسلكت الطريق (١) .
ومع ذلك فلا يلزم - ضرورة – أن من وضح السلوك الصحيح أن يكون عاملًا به، لكن قد يكون وصفه وبيانه للسلوك الصحيح – وإن كان مقصرًا في العمل – سببًا في الاستقامة على هذا السلوك، والاستحياء من الله ﷿
فإن المتعين على الدعاة أن يبينوا الحق، ويدلوا الناس على السلوك الشرعي، وإن لم يحققوه عملًا، وكما قال سعيد بن جبير – ﵀: «لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شئ، ما أمر أحد بالمعروف، ولا نهى عن منكر» (٢) .
أسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا، وأن يجعل عملنا خالصًا صوابًا، وأن يحشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.
_________
(١) انظر تلبيس إبليس ص ١٣٦.
(٢) ذكر العلماء أنه ليس من شرط لآمر بالمعروف والناهي عن المنكر العصمة من الذنوب.. انظر:
تفسير ابن كثير ١ / ٨٢، الإحياء للغزالي ٢ / ١٧٢، تفسير القرطبي ١ / ٣٦٦.
1 / 5
أهمية الموضوع:
تتجلى أهمية هذا الموضوع من خلال الأمور التالية:
١- اهتم السلف الصالح بتزكية النفوس، واعتنوا بالجانب السلوكي والأخلاقي علمًا وفقهًا، كما حققوه عملًا وهديًا، فأفردوا كتبًا مستقلة في الزهد والرقائق ونحوهما بل إن أئمة السلف يوردون الصفات السلوكية والأخلاقية لأهل السنة في ثنايا كتب العقيدة.
كما قال الإسماعيلي (ت ٢٧١هـ) في اعتقاد أهل السنة:
«ويرون مجانبة البدعة والآثام، والفخر ن والتكبر، والعجب، والخيانة، والدغل، والاغتيال، والسعاية.
ويرون كف الأذى، وترك الغيبة، إلا لمن أظهر بدعة وهوى يدعو إليهما، فالقول فيه ليس بغيبة عندهم» (١)
وقال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الصابوني (ت ٤٤٩هـ) في عقيدة السلف:
«ويرون المسارعة إلى أداء الصلوات المكتويات، وإقامتها في أوائل الأوقات أفضل من تأخيرها إلى آخر الأوقات
ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام، وإفشاء السلام وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين، والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبدار إلى فعل الخيرات أجمع، ويتحابون في الدين ويتباغضون فيه ويتقون الجدال في الله، والخصومات فيه، ويجانبون أهل البدع والضالات، ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات» (٢) .
_________
(١) اعتقاد أهل السنة للإسماعيلي ص ٥٣.
(٢) عقيدة السلف أصحاب الحديث للصابوني ص ٩٧ – ٩٩ باختصار يسير.
1 / 6
وقال قوام السنة إسماعيل بن محمد الأصفهاني (ت ٥٣٥هـ):
«ومن مذهب أهل السنة التورع في المآكل والمشارب والمناكح، والتحرر من الفواحش والقبائح، والتحريض على التحابّ في الله ﷿، واتقاء الجدال والمنازعة في أصول الدين، ومجانبة أهل الأهواء والضلالة، وهجرهم ومباينتهم، والقيام بوفاء العهد والأمانة، والخروج من المظالم والتبعات، وترك الزور، وقذف المحصنات، وإمساك اللسان عن الغيبة والبهتان، والفضول من الكلام، وكظم الغيظ والصفح عن زلل الإخوان، ومواساة الضعفاء، والنصيحة في الله والشفقة على خلق الله، والتهجد لقيام الليل لا سيما لحملة لقرآن، والبدار إلى أداء الصلوات» (١) .
وذكر ابن تيمية – ﵀ – جملة من الصفات السلوكية والأخلاقية لأهل السنة، ومن ذلك قوله:
«يأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله ﷺ: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا» (٢)، ويندبون أن ١تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن لجوار والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفا سفها» (٣) .
_________
(١) الحجة في بيان الحجة ٢ / ٥٢٨.
(٢) أخرجه أحمد ٢ / ٤٧٢، والترمذي، ح (١١٦٢) .
(٣) العقيدة الواسطية (شرح محمد هراس) ص ١٧٢، ١٧٣. .
1 / 7
٢-هناك تلازم بين السلوك والاعتقاد، فالسلوك الظاهر مرتبط بالاعتقاد الباطن، ومن ثم فإن الانحراف الواقع في سلوكنا وأخلاقنا الظاهرة إنما هو ناشئ عن نقص في إيماننا الباطن.
يقول ابن تيمية موضحا ً هذا التلازم:
«إذا انقضت الأعمال الظاهرة الواجبة، كان ذلك نقص ما في القلب من الإيمان، فلا يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب أن تعدم الأعمال الظاهرة الواجبة، بل يلزم من وجود هذا كاملًا وجود هذا كاملًا، كما لزم من نقص هذا نقص هذا، إذ تقدير إيمان تام في القلب بلا ظاهر من قول وعمل، كتقدير موجب بلا موجبه، وعلة تامة بلا معلولها، وهذا ممتنع» (١) .
ويقول أيضًا: «وإذا قام بالقلب التصديق به ن والمحبة له، لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة والأعمال الباطنة، فما يظهر على البدن من الأقوال والعمال له أيضًا تأثير فيما في القلب، فكل منهما يؤثر في الآخر، لكن القلب هو الأصل والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه»
(٢) .
ويقول الشاطبي في هذه المسألة:
«الأعمال الظاهرة في الشرع دليل على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منخرمًا، حكم على الباطن بذلك، أو مستقيمًا حكم على الباطن بذلك أيضًا، وهو أصل عام في الفقه، وسائر الأحكام العاديات، والتجريبيات، بل الالتفات إليهما من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جدًا» . (٣) .
_________
(١) مجموع الفتاوي٥٨٢/٧،وأنظر ٦١٦/٧،وشرح الأصفهانية ص١٤٢.
(٢) مجموع الفتاوي ٥٤١/٧.
(٣) الموافقات٢٣٣/١.
1 / 8
إضافة إلى ذلك، فإن الإيمان إذا جاء مطلقًا مجردًا ن فإنه يندرج فيه السلوك والأخلاق وسائر الأعمال الصالحة، كما في حديث الإيمان – مثلا – حيث قال ﷺ: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» (١) .
وكما يقول ابن تيمية:
«اسم الإيمان يستعمل مطلقًا، ويستعمل مقيدًا، وإذا استعمل مطلقًا فجميع ما يحبه الله ورسوله من أقوال لعبد وأعماله الباطنة والظاهرة، يدخل في مسمى الإيمان عند عامة السلف والأئمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين يجعلون الإيمان قولًا وعملًا ... ودخل في ذلك ما قد يسمى مقامًا وحالًا، مثل الصبر، والشكر، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرضا، والخشية، والإنابة، والإخلاص، والتوحيد وغير ذلك» (٢) ١.
٣ - يترتب على تحقيق الجانب الخلقي السلوكي الأجر الكثير والثواب الجزيل، كما دلت على ذلك النصوص الشرعية.
فقد عد الله تعالى في كتابه مخالقة الناس بخلق حسن من خصال التقوى، بل بدأ بذلك في قوله: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران، آية ١٣٣، ١٣٤) .
وقد جعل رسول الله ﷺ حسن الخلق أكمل خصال الإيمان فقال: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا» (٣) .
_________
(١) أخرجه البخاري، ك الإيمان، ح (٩)،ومسلم، ك الإيمان، ح (٣)
(٢) مجموع الفتاوى ٧/٦٤٢، وانظر ٧/٥١٥.
(٣) أخرجه أحمد ٢/٤٧٢، وأبو داود، ح (٤٦٨٢)، والترمذي ح (١١٦٢) .
1 / 9
كما أخبر النبي ﷺ أن صاحب الخلق الحسن يبلغ بخلقه درجة الصائم القائم فقال: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجات الصائم القائم» (١) .
وجاء في أحاديث أخرى أن حسن الخلق أثقل ما يوضع في الميزان ن وأن صاحبه أحب الناس إلى الله وأقربهم من النبيين مجلسًا.
فقال ﷺ: «ما من شئ يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق» (٢) .
وقال ﷺ: «ألا أخبركم بأحبكم إلى الله وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة؟ قالو ا: بلى: قال: أحسنكم خلقًا (٣») (٤) .
قال ابن القيم ﵀: «الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين» (٥) .
١ وقال ابن رجب ﵀ عند شرحه لقوله ﷺ: «وخالق الناس بخلق حسن) (٦) .
«هذا من خصال التقوى، ولا تتم التقوى إلا به، وإنما إفراده بالذكر الحاجة إلى بيانه، فإن كثيرًا من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحق الله دون حقوق عباده ن فنص له على الأمر بإحسان العشرة للناس، فكثيرًا ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله، والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته إهمالُ حقوق العباد بالكلية او التقصير فيها، والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جدًا
_________
(١) أخرجه أحمد ٦/٩٤، وأبو داود ح (٤٧٩٨) .
(٢) أخرجه احمد ٦/٤٤٢،وأبو داود ح (٤٧٩٩)، والترمذي ح (٢..٤) وقال:حسن صحيح.
(٣) أخرجه ابن حبان ح (٤٧٨) .
(٤) انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب (١/٤٥٤ – ٤٥٦)، ومدارج السالكين (٢/٣.٤ – ٣.٧) .
(٥) مدارج السالكين ٢/٣.٧.
(٦) جزء من حديث أخرجه أحمد (٥/١٥٣)، والترمذي ح (١٩٨٧)، والدا رمي (٢/٣٢٣) .
1 / 10
لا يقوى عليه إلا الكُمَّل من الأنبياء والصديقين» (١) .
٤- وإذا كان سلفنا الصالح قد اعتنوا كثيرًا بالسلوك علمًا وعملًا، لأهميته وقيام التلازم بين السلوك الظاهر والإيمان الباطن، إضافة إلى الوعد الكريم والأجر الكبير لأصحاب السلوك الشرعي.
مع ذلك كله فإن الناظر إلى واقع الكثير منا – معشر المنتسبين لأهل السنة – يرى تقصيرًا وتهاونًا في هذا المجال، فأنت تشاهد تفرقًا وخصومة ن وجدلًا ومراءً، وأهواء وشهوات ولا حول ولا قوة إلا بالله.
1 / 11
معالم في منهج السلوك
مصدر تلقي السلوك هو الكتاب والسنة
...
من خلال استقراء جملة من كتب السلف الصالح في السلوك والرقائق يمكن أن تستخلص المعالم التالي:
١- إن مصدر تلقي السلوك (١) والأخلاق عند السلف الصالح هو الكتاب والسنة، فإنهم أهل أتباع، وأرباب طريقة أثرية ٠
قال تعالى: ﴿ونزّلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء﴾ (النحل، آية ٩٩)
وقال سبحانه: ﴿يا أيها الذين امنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلًا﴾ (النساء، آية ٥٩)
وعن أبي ذر ﵁ قال: «لقد تركنا محمد ﷺ وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا أذكرنا منه علمًا» (٢)
_________
(١) السلوك: لغة: مصدر سلك أي دخل،ويقال: سلكت الخيط في المخيط أي أدخلته فيه والمسلك: الطريق، وأمرهم سلكي: على طريقة واحدة (انظر: لسان العرب ١٠/ ٤٤٢، ٤٤٣ = باختصار)،ويطلق السلوك على سيرة الإنسان ومذهبه واتجاه (انظر المعجم الوسيط ١/٤٤٧) وأما تعريف السالك – عند الصوفية فهو السائر إلى الله، المتوسط بين المربد والمنتهي (انظر اصطلاحات الصوفية للكاشاني ص ١٥٥، والتعريفات للجرجاني ص١١٦، والمقصود بالسلوك – ها هنا –ما يتعلق بالجانب العلمي من الأمور التعبدية والأخلاقية، والمقيدة بالهدي النبوي والسمت الشرعي – كما هو موضح في الصفحات التالية
(٢) أخرجه أحمد ٥/١٥٣ ٠
1 / 15
يقول ابن تيمية: «إن السلوك هو بالطريق التي أمر الله بها ورسوله من الاعتقادات والعبادات والأخلاق وهذا كله مبين في الكتاب والسنة، فإن هذا بمنزلة الغذاء الذي لا بد للمؤمن منه.
ولهذا كان جميع الصحابة يعلمون السلوك بدلالة الكتاب والسنة والتبليغ عن الرسول، لا يحتاجون في ذلك إلى فقهاء الصحابة.
وفي السلوك مسائل تنازع فيها الشيوخ، لكن يوجد في الكتاب والسنة من النصوص الدالة على الصواب في ذلك ما يفهمه غالب السالكين، «فمسائل السلوك من جنس مسائل العقائد كلها منصوصة في الكتاب والسنة» (١) . ١
ويقول أيضًا: «المعلم المشروع والنسك المشروع مأخوذ عن أصحاب النبي ﷺ ن فمن بنى الكلام في العلم – الأصول والفروع – على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب طريق النبوة، وكذلك من بنى الإرادة والعبادة والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية والأعمال البد نية على الإيمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد ﷺ وأصحابه فقد أصاب طريق النبوة، وهذه طريقة أئمة الهدى» (٢) .
وعندما ذكر الإمام الذهبي السلوك الصحيح، نجده لا يورد إلا ما دل عليه الدليل، كما هو ظاهر مقالته الآتية
«السلوك الكامل هو الورع في القوت، والورع في النطق، وحفظ اللسان، وملازمة الذكر، وترك مخالطة العامة، والبكاء على الخطيئة والتلاوة بالترتيل والتدبر، ومقت النفس وذمها في ذات الله، والإكثار من الصوم المشروع، ودوام التهجد، والتواضع للمسلمين، وصلة الرحم، والسماحة وكثرة البشر والإنفاق
_________
(١) مجموع الفتاوى ١٩/٢٧٣، ٢٧٤- باختصار.
(٢) مجموع الفتاوى ١./٣٦٢، ٣٦٣ – باختصار يسير، وانظر ١. / ٤٨٦.
1 / 16
مع الخصاصة، وقول الحق المر برفق وتؤدة، والأمر بالمعروف، والأخذ بالعفو، والإعراض عن الجاهلين والرباط بالثغر، وجهاد العدو، وحج البيت، وتناول الطيبات في الأحايين، وكثرة الاستغفار في السحر، فهذه شمائل الأولياء، وصفات المحمديين، أماتنا الله على محبتهم» (١) .
ويقرر ابن القيم أن السلوك وتزكية النفوس لا يكون إلا عن طريق الرسل ﵈ فيقول: «وتزكية النفوس مسلم إلى الرسل»، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم إياها، وجعلها على أيديهم دعوة، وتعليمًا، وبيانًا، فهم المبعثون لعلاج نفوس الأمم. قال الله تعالى﴾ هو الذي بعث في الأميين رسولًا منهم يتلو عليهم آياتهِ ويزكيهم ويعلّمهم الكتابَ والحكمةَ وإن كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين ﴿(الجمعة آية ٢) .
وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد، فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة، التي لم يجئ بها الرسل، فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب؟ فالرسل أطباء القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم، وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد، والتسليم لهم، والله المستعان» (٢) . ١
وهذا السلوك الشرعي على مرتبتين كما قرره ابن تيمية بقوله: «والسلوك سلوكان: سلوك الأبرار أهل اليمن، وهو أداء الواجبات وترك المحرمات باطنًا وظاهرًا» .
والثاني: سلوك المقربين السابقين وهو فعل الواجب والمستحب بحسب الإمكان، وترك المكروه والمحرم، كما قال النبي ﷺ: «إذا نهيتكم عن شئ
_________
(١) سير أعلام النبلاء٩٠/١٢،٩١
(٢) مدا رج السالكين ٢/٣١٥.
1 / 17
فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (١) (٢)
وإذا كان عامة من ضل في باب الاعتقاد بسبب الإعراض عن ما جاء به الرسول. (٣)، فكذلك الضلال في باب السلوك، إنما كان ناشئًا – في الجملة – بسبب الإعراض عن نصوص الوحيين، كما هو ظاهر في متأخري الصوفية، وأرباب الطرق المحدثة (٤) .
قال تعالى: ﴿فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضلُّ ولا يشقى * ومن اعرض َ عن ذكري فإن له معيشةً ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال ربّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا * قال كذلك أتتك آيتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى﴾ (طه: آية ١٢٣ – ١٢٦) .
قال ابن عباس ﵄: «تكفّل الله لمن قرأ القرآن وعمل به، أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية» . (٥)
بل إن البدع في باب السلوك أكثر من البدع الاعتقادية، كما بين ذلك ابن تيمية بقوله: «ولا ريب أن البدع كثرت في باب العبادة والإرادة أعظم مما كثرت في باب الاعتقاد والقول، لأن الإرادة يشترك الناس فيها أكثر مما يشتركون في القول، فإن القول لا يكون إلا بعقل، والنطق من خصائص الإنسان، وأما جنس الإرادة
_________
(١) أخرجه البخاري ح (٧٢٨٨)، ومسلم ح (١٣٣٧) .
(٢) مجموع الفتاوى ١./٤٦٣.
(٣) انظر: درء تعارض العقل والنقل ١/٥٤، ١٦٦،٢.٩، وجموع الفتاوى ٣/٣١٤، وشرح الطحاوية ١/٨.
(٤) مما يجدر ذكره أن المتقدمين من أرباب الزهد والتعبد كالفضيل، وإبراهيم بن أدهم، والجنيد، وسهل التستري، وسليمان الداراني وأمثالهم، كانوا من أحرص الناس على لزوم السنة والأتباع، والاعتصام ١/١٩٩ – ١٣٢، ومدا رج السالكين ٢/٤٦٤ – ٤٦٨، ٣٤٨.
(٥) أخرجه الحاكم في المستدرك ٢/٣٨١، وصححه ووافقه الذهبي.
1 / 18
فهو مما يتصف به كل الحيوان فما من حيوان إلا وله إرادة» (١) .
لقد صنف متأخرو الصوفية كتبًا كثيرة في السلوك، وغلب على تلك الكتب قلة العلم بالسنن والآثار، وكثرة الموضوعات، والتعويل على أخبار متأخري الزهاد، ومع ذلك فلا تخلو تلك الكتب من حق وصواب ١ (٢) .
وسمى أرباب الطرق الصوفية ما أحدثوه من البدع «حقيقة»، فطريق الحقيقة عندهم هو السلوك الذي لا يتقيد صاحبه بأمر الشارع ونهيه (٣)، بل قدموا أذواقهم ومواجيدهم وكشوفاتهم الباطلة على نصوص الوحيين (٤) .
يقول ابن تيمية في هذا الصدد:
«من عارض كتاب الله وجادل فيه بما يسميه معقولات وبراهين وأقيسة، أو ما يسميه مكاشفات ومواجيد وأذواق، من غير أن يأتي على ما يقوله بكتاب منزل فقد جادل في آيات الله بغير سلطان، هذا حال الكفار الذين قال فيهم:﴾ ايجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ﴿(غافر آية ٤) فهذه حال من يجادل في آيات الله مطلقًا (٥) .
وقال ابن القيم – مبينًا خطورة الابتداع في السلوك:
«وعامة من تزندق من السالكين فلإعراضه عن دواعي العلم، وسيره على جادة الذوق والوجد، ذاهبة به الطريق كل مذهب فهذه فتنته ن والفتنة به شديدة» (٦) .
_________
(١) مجموع الفتاوي ٢٧٤/١٩،٢٧٥.
(٢) انظر: تلبيس إبيلس لابن الجوزي ص ١٨٤ – ١٨٦، ومجموع الفتاوى ١./٣٦٧، ٥٥١، ٦.٨،٦٨١،٥٧٩،٥٨. .
(٣) انظر: مجموع الفتاوى ١./١٦٩.
(٤) انظر: تفصيل ذلك في: مدا رج السالكين ٢/٧.،٣٣٤،٤٩٤ – ٤٩٦، والصواعق المرسلة ٣/١.٥١، وشرح الطحاوية ١/٢٣٥.
(٥) الاستقامة ١/٢٢.
(٦) مدا رج السالكين ١/١٥٨، وانظر إغاثة اللهفان ١/١٩٣.
1 / 19
وليس هذا فحسب، بل أغلوا في الانحراف والإعراض عن هدي الله تعالى، حتى قال قائلهم: حدثني قلبي عن ربي وقال بعضهم: نحن نأخذ علمنا من الحي الذي لا يموت وأنتم تأخذونه من حي يموت، وقال الآخر: العلم حجاب بين القلب وبين الله ﷿، وقال رابعهم: إذا رأيت الصوفي يشتغل بـ «أخبرنا» و«حدثنا» فأغسل يدك منه!! .
قال أبو الوفاء ابن عقيل (ت ٥١٣هـ) في نقد تلك الأقاويل:
(. فإذا قالوا (أي الصوفية) عن أصحاب الحديث قالوا: أخذوا علمهم ميتًا عن ميت، فقد طعنوا في النبوات، وعولوا على الواقع، ومتى أزري على طريق، سقط الأخذ به ومن قال: حدثني قلبي عن ربي فقد صرح أنه غني عن الرسول، ومن صرح بذلك فقد كفر، فهذه كلمة مدسوسة في الشريعة تحتها هذه الزندقة، ومن رأيناه يزري أن يكون من إلقاء الشياطين ن فقد قال الله ﷿: ﴿وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم﴾ (الأنعام آية ١٢١) .
وهذا هو الظاهر، لأنه ترك الدليل المعصوم وعول على ما يلقى في قلبه الذي لم تثبت حراسته من الوساوس» (١) ١.
وقال ابن القيم معلقًا على تلك العبارات:
«ومن أحالك على غير «اخبرنا» و«حدثنا» فقد أحالك إما على خيال صوفي، أو قياس فلسفي، أو رأي نفسي، فليس بعد القرآن و«ـخبرنا» و«حدثنا» إلا شبهات المتكلمين، وآراء المنحرفين، وخيالات المتصوفين، وقياس المتفلسفين، ومن فارق الدليل ضل عن سواء السبيل، ولا دليل إلى الله والجنة سوى الكتاب والسنة، وكل طريق لم يصحبها دليل القرآن والسنة فهي طريق الجحيم والشيطان الرجيم» (٢) .
_________
(١) تلبيس إبيلس لابن الجوزي ص ٤٢٣، ٤٢٤، وانظر الصواعق المرسلة ٤/١٣٤٢ – ١٣٥. .
(٢) مدا رج السالكين ٢/٤٦٨، ٤٦٩.
1 / 20
فلما أعرض أهل التصوف عن الطريقة النبوية السلفية، تلاعب بهم الشيطان، فأوقعهم في الإفراط والتفريط، فتراهم أصحاب تشدد وتنطع ورهبانية محدثة، وحديث عن الدقائق من «الوساوس» و«الخطرات» (١) .
ثم في المقابل تجدهم أهل سماع بدعي، وأرباب رقص وغناء، ومصاحبة للأحداث، وعشق للصور المحرمة (٢)
قال ابن رجب - في بيان حال القوم:-
«ومما أحدث من العلوم، الكلام في العلوم الباطنة من المعارف وأعمال القلوب وتوابع ذلك، بمجرد الرأي والذوق أو الكشف، وفيه خطر عظيم وقد أنكره أعيان الأئمة كالإمام أحمد وغيره.
_________
(١) سئل الإمام أحمد بن حنبل عن الوساوس والخطرات، فقال: ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون وإنما ذم الإمام أحمد المتكلمين على الوساوس والخطرات حيث كان كلامهم لا يستند إلى دليل شرعي، بل إلى مجرد رأي وذوق (انظر: مسائل الإمام أحمد. جمع الأحمدي ٢/٢٧٩،وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص١٨٦، وجامع العلوم والحكم ٢/١.٤، والآداب الشرعية ٢/٨٨)، وسئل أبو زرعة عن الحارث المحاسبي وكتبه،فقال للسائل: إياك وهذه الكتب هذه كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر، فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب.قيل له: في هذه الكتب عبرة، قال:من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة بلغكم أن مالك بن أنس وسفيان الثوري، والاوزاعي، والأئمة المتقدمين، صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء، هؤلاء قوم خالفوا أهل العلم، يأتون مرة بالحارث المحاسبي، ومرة بعبد الرحيم الديبلي، ومرة بحاتم الأصم، ومرة بشقيق، ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع. (انظر: تاريخ بغداد ٨/٢١٥،وتلبيس إبليس ص ١٨٦) .
وسئل ذو النون عن الخطرات والوساوس، فقال: أنا لا أتكلم في شئ من هذا محدث (انظر تلبيس إبيلس ص٢٧) .
(٢) ومما يجدر ذكره هاهنا ما قاله ابن تيمية: «ولقد حدثني بعض المشايخ أن بعض ملوك فارس، قال لشيخ رآه قد جمع الناس على مثل هذا الاجتماع (رقص وغناء..): يا شيخ إن كان هذا هو طريق الجنة، فأين طريق النار؟» الاستقامة ١/٣١٧.
1 / 21
وقد اتسع الخرق في هذا الباب، ودخل فيه قوم إلى أنواع الزندقة والنفاق، ودعوى أن أولياء الله أفضل من الأنبياء، أو أنهم مستغنون عنهم ...
وأدخلوا في هذا الطريق أشياء كثيرة ليست من الدين في شئ، فبعضها زعموا أنه يحصل به ترقيق القلوب كالغناء والرقص، وبعضها زعموا أنه يراد لرياضة النفوس كعشق الصور المحرمة ونظرها، وبعضها زعموا أنه لكسر النفوس والتواضع كشهرة اللباس وغير ذلك مما لم تأت به الشريعة، وبعضه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة والغناء والنظر المحرم، وشابهوا بذلك الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا) (١) ١.
إذا تقرر ما سبق، وعرفنا اعتماد السلف الصالح على الكتاب والسنة، وأن طريقهتم في السلوك في غاية الإتباع، وأما أرباب الطرق الصوفية ففي منتهى الإحداث والابتداع. فها هنا سؤال يفرض نفسه وهو إذا لم يتيسر المسلك الشرعي الخالص إلا بنوع من الابتداع فما العمل؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – مجيبًا عن هذا السؤال: «وقد يتعذر أو يتعسر على السالك سلوك الطرق المشروعة المحضة إلا بنوع من المحدث لعدم القائم بالطريق المشروعة علمًا وعملًا، فإذا لم يحصل النور الصافي، بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف، وإلا بقي الإنسان في الظلمة، فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة، إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور بالكلية..» (٢) .
_________
(١) بيان فضل علم السلف على علم الخلف ص ١٤٩، ١٥. = باختصار، انظر جامع العلوم والحكم ٢/١٣٣.
(٢) مجموع الفتاوى ١./٣٦٤، وله كلام نفيس في مثل هذا المبحث – في اقتضاء الصراط المستقيم ٢/٦١٦ –
1 / 22
١- الوسطية:
من المعلوم أن أهل السنة والجماعة هو الوسط في فرق الأمة، فهم وسط في باب صفات الله ﷾ بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة، وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية، وهم في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي ﷺ، وبين المرجئة الذين يقولون إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية، كما أنهم وسط في أصحاب النبي ﷺ بين الرافضة والخوارج (١) .
فإذا كان أهل السنة وسطًا في باب الاعتقاد، فكذلك هم وسط في باب السلوك بين طرفي الإفراط والتفريط، فدين اله بين الغالي فيه والجافي عنه.
إن إيمان أهل السنة بجميع النصوص الثابتة في مسألة ما قد أورثهم الخيرية والوسطية بين الفرق، وكما قال ابن تيمية:
«وكذلك (أهل السنة) في سائر أبواب السنة هم وسط، لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وما اتفق عليه السابقون والأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان» (٢)
ويقرر الشاطبي مفهوم الوسطية في هذا الدين فيقول:
«الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة
1 / 23
عليه ولا انحلال، بل هو تكليف جارٍ على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال.. فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلف، أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى احد الطرفين، كان التشريع رادا إلى الوسط الأعدل، لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الاعدال فيه..
إلى أن قال:-
فإذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط، فإن رأيت ميلًا إلى جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر.
فطرف التشديد – وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر – يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين.
وطرف التخفيف – وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص – يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحًا، ومسلك الاعتدال واضحًا، وهو الأصل الذي يرجع إليه.
وعلى هذا إذا رأيت في النقل من المتبرعين في الدين من مال عن التوسط، فاعلم أن ذلك مراعاة منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة الأخرى، وعليه يجري النظر في الورع والزهد، وأشباههما، وما قابلهما» (١) . ١
والآن نورد أمثلة على وسطية أهل السنة في السلوك على النحو التالي:-
أ- أهل السنة والجماعة وسط في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الوعيدية والمرجئة، فالوعيدية من الخوارج والمعتزلة قد ينكرون المنكر، لكن بنوع من التعدي والإفراط، فجوزوا الخروج على أئمة الجور وقتالهم، مما ترتب عليه أنواع من الفساد والمنكرات أكثر مما أزالوه..
_________
(١) الموافقات ٢/١٦٣ -١٦٨ =باختصار.
1 / 24
وأما المرجئة فقد تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طنًا أن ذلك من باب ترك الفتنة (١) . فأهل السنة يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، مع مراعاة مقاصد الشريعة، والحرص على لزوم الجماعة والائتلاف، والبعد عن الفرقةوالاختلاف.
يقول ابن تيمية:
«أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم يرون قتال أئمة الجور، والخروج عليهم إذا فعلوا ماهو ظلم، أو ماظنوه هم ظلمًا، ويرون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وآخرون من المرجئة وأهل الفجور قد يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظنًا أن ذلك من باب ترك الفتنة، وهؤلاء يقابلون لأولئك، ولهذا ذكر الأستاذ أبو منصور الماتريدي (٢) .١ المصنف في الكلام وأصول الدين من الحنفية الذين وراء النهر ما قابل به المعتزلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذكر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سقط في هذا الزمان» (٣) .
ويقول في موضع آخر:
«الطريقة الوسطى التي هي دين الإسلام المحض جهاد من يستحق
_________
(١) يقول ابن تيمية عن هذا الصنف: «وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا، لئلا يفتنوا، وهم قد سقوط في الفتنة.. وهذه حال كثير من المتدينين، يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين كله لله، لئلا يفتنوا بجنس الشهوات، وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منه» . انتهى ملخصًا. انظر مجموع الفتاوى ٢٨/١٦٧.
(٢) يظهر من مقالة أبي منصور الماتريدي – في تعريف الإيمان – نزعة إرجائية، حيث يقول: إن الإيمان هو ما في القلب، والقول الظاهر شرط لثبوت أحكام الدنيا. انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية ٧/٥١.، وشرح الطحاوية ٢/٤٥٩. ورسالة «الماتريدية» لأحمد الحربي ص ٤٥٣.
(٣) الآداب الشرعية لابن مفلح ١/ ١٧٧.
(١) مجموع الفتاوى ٢٨/٥.٨.
1 / 25