أما أين ذهب الجراهمة بعد طردهم من مكة فذلك ما لا نعرفه، وإن كان بعض المؤرخين يذكر أنهم انصرفوا إلى اليمن، وهذا ما لا نستطيع أن نجزم به. (10) الخزاعيون في مكة
في القرن الثاني الميلادي أخذت عدة قبائل من القبائل اليمانية تهجر بلادها إلى الشمال بعد تصدع سد مأرب، وكان معظم هذه القبائل يقصد المدينة والشام والحيرة، ولكن بني حارثة بن عمرو، وهم خزاعة تخلفوا في مكة، وآثروا المقام فيها، وهم الذين استطاعوا أن يجلوا الجراهمة عنها في القرن الثالث الميلادي، وقد ظلوا سادة مكة زهاء مائتي سنة، لهم ما يشبه السلطة الزمنية، وأهم الوظائف الدينية؛ إذ لم يتركوا لأهل مكة من هذه الوظائف إلا أصغرها، وتذكر بعض الكتب أن خزاعة لم تخرج جرهما من مكة منفردة، بل تولت هذا الأمر معها كنانة، ويذكر لنا المؤرخون من الخزاعيين عمرو بن لحي، الذي يقال إنه أول من أدخل عبادة الأصنام، ولقد ذكر ابن الكلبي في كتاب الأصنام «أنه مرض مرضا شديدا فقيل له: إن بالبلقاء من الشام حمة إن أتيتها برئت، فأتاها فاستحم بها فبرئ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه؟ فقالوا: نستسقي بها المطر ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا، فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة.» وقد سبق أن قلنا: إن الصنم الذي حمله هو هبل.
وآخر من ولي من خزاعة هو حليل الذي جعل ولاية البيت إلى ابنته حبي، فقالت إنها لا تقدر على فتح الباب وإغلاقه، فجعل أبوها الفتح والإغلاق إلى رجل من خزاعة يقوم لها اسمه أبو غبشان، فكانت له سدانة الكعبة قبل قريش، فاجتمع مع قصي في شرب بالطائف، فأسكره قصي ثم اشترى مفاتيح البيت الحرام منه بزق خمر، وأشهد عليه، ودفع المفاتيح إلى ابنه عبد الدار وطيره إلى مكة، فلما أفاق أبو غبشان ندم على المبيع، فضرب به المثل في الحمق والندم وخسارة الصفقة، فقالوا: «أخسر من صفقة أبي غبشان» وتلا ذلك حرب بين خزاعة وقريش، انتهت بانتصار قريش، وزوال ملك خزاعة عن مكة كما سنبينه، وآل أمر البيت إلى قريش ورثة إسماعيل الحقيقيين. (11) قصي زعيم النهضة القرشية
تذكر بعض الروايات أن حليلا أوصى لزوج ابنته قصي بحكم مكة وولاية البيت من بعده، ولكن خزاعة أبت، وسواء أكانت هذه الرواية أو الرواية السابقة أصح فإن حربا قامت بين قريش وخزاعة، وقد انضمت كنانة إلى قريش، وانضم بنو بكر إلى خزاعة، واستنجد قصي ببعض إخوته لأمه من بني عذرة في الشمال، وظلت الحرب بين الفريقين سجالا حتى تداعى القوم للصلح، وحكموا بينهم واحدا من كنانة فقضى لقصي بولاية الكعبة وحكم مكة، فأصبح رئيسا كما يقول بعض المستشرقين للجمهورية المكية وزعيما لديانتها، وقبل أن نتكلم عن حكومة قصي وأعماله الإصلاحية نذكر لمحة عن حياته الأولى:
كان لكلاب بن مرة القرشي ولدان، زهرة وزيد، وكان زيد طفلا عندما مات أبوه، وسرعان ما تزوجت أمه فاطمة من رجل اسمه ربيعة بن حرام من بني عذرة في حدود الشام، وأخذت زيدا معها، فنشأ زيد بعيدا عن موطنه الأصلي، ومن ذلك سمي قصي «تصغير قاص» ولما بلغ مبلغ الرجولة وعرف أصله الحقيقي عاد إلى مكة، حيث كان النفوذ الديني والمدني في أيدي الخزاعيين، وملكهم إذ ذاك حليل بن حبشية، وعز على قصي أن يرى الأجانب سادة بني قومه القرشيين، الذين تجري في عروقهم دماء أبيهم الأكبر إسماعيل، فصمم على أن ينتزع السلطان له من خزاعة، وبدأ ينفذ خطته بالتدريج، فتزوج من حبي ابنة حليل بأمل أن يرث من حميه امتيازاته، ولكن حليلا قبل موته أوصى بمفاتيح الكعبة لقريبه أبي غبشان، فابتدأ قصي يرمي شباكه حول أبي غبشان، فأسكره واشترى منه مفاتيح الكعبة بزق خمر كما بينا، ولم يرتح الخزاعيون بطبيعة الحال لضياع المفاتيح من أيديهم، وادعى أبو غبشان أنه رهن المفاتيح ولم يبعها، وكان قصي يعلم أن هذا الأمر لا يمر بسلام، فاتخذ للحرب عدتها من قبل، ونال نصرا حاسما كما بينا، وبذلك أصبح سيد البيت والمدينة، وكان ذلك في منتصف القرن الخامس الميلادي، ثم بدأ يقوم بأعماله الإصلاحية التي سنشرحها في الفقرة التالية. (11-1) إصلاحات قصي (1)
كانت أول خطوة خطاها قصي أن جمع أفراد قريش المبعثرين في نواح متعددة إلى وادي مكة، فأظفره ذلك بلقب «المجمع»، وجعل لكل بطن حيا خاصا على مقربة من الكعبة ، وكان الناس قبل ذلك لا يجرءون على البناء بجوار الكعبة مبالغة في تقديسها، وكانت حجة قصي في ذلك أن يقيم على مقربة من البيت حماة له، يتعهدونه بالصيانة ويدفعون عنه الخطر، ولم يترك بين الكعبة والبيوت التي بنتها بطون قريش إلا بمقدار ما يسمح بالطواف، وقد أنشأت هذه البطون أحياء حصينة حول الكعبة من نواحيها الأربع. (2)
وابتنى قصي لنفسه قصرا جعل بابه يؤدي إلى الكعبة مباشرة، وكان هذا القصر يسمى دار الندوة، فكان قصي يتولى رئاسة هذه الدار، التي جعل من اختصاصها البت في كل الشئون العامة من تجارية وحربية وغيرها بعد مناقشتها، وكان لا يسمح بدخول هذه الدار إلا لمن بلغ عمرهم الأربعين سنة، إلا إذا كان من سلالة قصي، أو كان حكيما ومفوها، وكان القرشيون إذا أزمعوا حربا يتلقون اللواء من يد قصي أيضا، كما كان قصي يعقد رقاعا من القماش الأبيض على أطراف الحراب ويقدمها بنفسه أو يبعثها مع أولاده إلى زعماء قريش، وقد ظل هذا الإجراء الذي يسمى عقد اللواء منذ أن أنشأه قصي إلى آخر أيام الفتوح العربية.
ولم تكن مهمة دار الندوة مقصورة على المسائل العامة التي بيناها، بل كان يبت فيها في المسائل الشخصية أيضا، فكان لا يتزوج رجل ولا امرأة إلا في تلك الدار، ولا تدرع جارية من قريش إلا فيها، فيشق صاحب الدار درعها ويدرعها بيده، وكانوا يفعلون ذلك ببناتهم إذا بلغن الحلم. (3)
وقد نجح قصي في إثارة عاطفة الكرم والضيافة فيهم، وأخبرهم قائلا: إن الحاج ضيف الله وهم أحق الضيف بالكرامة، فحمل الناس على دفع ضريبة سنوية تسمى الرفادة، كان يقصد منها المعاونة على إطعام الحجاج الفقراء وغيرهم ممن يهبطون مكة في أيام منى، فجرى الأمر على ذلك في الجاهلية والإسلام، وهو الطعام الذي يصنعه الخلفاء والسلاطين كل عام بمنى.
ورئاسة قصي لدار الندوة وعقده اللواء وجمعه الرفادة، تقابل في الاصطلاح الحديث رئاسته للسلطات التشريعية والحربية والمالية، مع شيء من التساهل. (4)
অজানা পৃষ্ঠা