قلنا من قبل إن كسرى لما حبس النعمان حتى مات في السجن استعمل مكانه إياس بن قبيصة الطائي، ونضيف هنا أن كسرى طلب من إياس أن يجمع ما خلفه النعمان ويرسله إليه فأرسل إلى هانئ بن مسعود يطلب ما استودعه النعمان فأبى، فغضب كسرى وأشار عليه أحد أعداء بكر بن وائل أن ينتظر ريثما ينزلون مياه ذي قار وقت القيظ، فيبعث من يأخذهم بالقوة، فصبر كسرى حتى نزلوا المكان، فبعث إليهم بمن يخيرهم بين الحرب أو تسليم ما خلفه النعمان، فآثروا الحرب، وقاد إياس بن قبيصة جنود الفرس والعرب، وأراد هانئ بن مسعود - بعد أن فرق سلاح النعمان في رجاله - أن يفر، ولكن رجلا اسمه حنظلة بن ثعلبة أنبه، فرد هانئ الناس وقطع ودن الهوادج وضرب على نفسه قبة وأقسم ألا يفر حتى تفر القبة، وثبت العرب ثباتا جميلا، وانهزم الفرس بصفوفهم وخيولهم على الرغم من كثرة عددهم، وتعرف هذه المعركة في تاريخ العرب بيوم ذي قار، وروي أن النبي عليه السلام - وهو في مكة بعد البعثة - لما بلغه انتصار العرب قال ما معناه: «هذا أول يوم انتصف فيه العرب من العجم»، وقد حقد سائر العرب على إياس، وكانت هذه المعركة نذيرا بزوال النفوذ الفارسي وفألا حسنا للعرب.
وبعد موت إياس تولى ملك الحيرة من قبل فارس اثنان كان آخرهما المنذر الخامس الملقب بالمغرور، ثم سقطت الحيرة تحت أقدام خالد بن الوليد في سنة 13 هجرية أيام الخليفة أبي بكر الصديق.
والآن - وقد انتهينا من الكلام عن أشهر ملوك الحيرة - يجدر بنا أن نلقي نظرة سريعة على تحضر هذه الدولة ومبلغ ما أفاد منها العرب أو الفرس. (12) حضارة دولة الحيرة
كانت دولة الحيرة في سطوتها تشمل المنطقة الواقعة غرب الفرات، ابتداء من مجراه الأوسط إلى منتصف الخليج الفارسي، وكان نفوذها يمتد إلى كافة القبائل الضاربة في هذه المناطق، وكانت الدولة مستقلة استقلالا يكاد يكون تاما، وقد استمرت زهاء أربع قرون وربع قرن ابتداء من أوائل القرن الثالث، وكان على رأس الدولة ملك له بلاط يكاد يكون صورة مصغرة من بلاط المدائن، وله وزير يسمى الرديف، وتحت تصرفه قوة عسكرية بعضها نظامي وبعضها غير نظامي، وكان الجند النظامي كتيبتين إحداهما فارسية يقال لها : الشهباء، وأخرى عربية يقال لها: دوسر. أما القوة غير النظامية فكانت تنظم القبائل الموالية التي كان معظمها يستنفر وقت الحرب، وكان أهمها كتائب الرهائن والصنائع والرضائع، وكانت لهذه الكتائب كلها حصون تعرف بالمسالح «جمع مسلحة».
ويبدو أن الحضارة العربية في الحيرة، التي كانت تواجه فارس لم تصل إلى الدرجة العالية، التي وصلت إليها الحضارة العربية في بطرة وتدمر وأرض الغساسنة، تحت التأثير البيزنطي السوري.
وكان عرب الحيرة يتكلمون العربية الشمالية في حاجاتهم اليومية، ولكنهم في الغالب كانوا يستعملون السريانية في كتابتهم، وهم من هذه الناحية يشبهون الأنباط والتدامرة، الذين كانوا يتكلمون العربية ويكتبون الآرامية، وقد أدت هذه الدولة خدمة كبيرة للغة العربية، بما احتضنت من الشعراء، كما أنه كان لها فضل كبير - فيما بعد - في تعليم الخط العربي، وفي إغناء اللغة العربية بكثير من الألفاظ الفارسية، التي تعبر عن أشياء لم يكن العرب يعرفونها.
وكان الملوك في الشطر الأول من الدولة وثنيين، أما في الشطر الثاني فقد اعتنق معظمهم النصرانية، وسبب عدم اعتناق الأولين منهم للنصرانية - ديانة البيزنطيين - يرجع إلى أن ملوك الحيرة، وجدوا - من حسن السياسة - أن يظلوا على صداقتهم مع الفرس، وكان معظم النصارى في الحيرة من النسطوريين، وطبيعي أن النصرانية انتقلت إليهم من الشام، حيث كان أصحاب المذهب النسطوري مضطهدين، وكان المذهب النسطوري «مذهب شرق الشام» أقل مذهب يلقى اعتراضا في الفرس ، وإلى نصارى الحيرة - والعباد أهم فرقة فيهم - يرجع الفضل في نشر المسيحية في بعض الأجزاء التي انتشرت فيها في بلاد العرب، كما يرجع إليهم الفضل أيضا في تعليم العرب الوثنيين القراءة والكتابة والدين، وتذكر بعض الروايات أن قريشا تعلمت من الحيرة فن الكتابة والزندقة.
ويجب أن لا ننسى أثرهم أيضا في حمل بعض مظاهر الحضارة الفارسية إلى بلاد العرب، ولا ما شيدوه من أبنية رائعة كالخورنق والسدير.
الفصل الثامن
تاريخ الغساسنة
অজানা পৃষ্ঠা