مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الأولى
1 - دراسات تمهيدية
2 - الوطن العربي
3 - الشعب العربي
4 - تاريخ اليمن
5 - تاريخ الأنباط
6 - تاريخ تدمر
7 - تاريخ الحيرة
8 - تاريخ الغساسنة
9 - تاريخ كندة
10 - تاريخ الحجاز
11 - الحجاز في فجر ظهور الإسلام
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الأولى
1 - دراسات تمهيدية
2 - الوطن العربي
3 - الشعب العربي
4 - تاريخ اليمن
5 - تاريخ الأنباط
6 - تاريخ تدمر
7 - تاريخ الحيرة
8 - تاريخ الغساسنة
9 - تاريخ كندة
10 - تاريخ الحجاز
11 - الحجاز في فجر ظهور الإسلام
عصر ما قبل الإسلام
عصر ما قبل الإسلام
تأليف
محمد مبروك نافع
مقدمة الطبعة الثانية
لم يعد التاريخ ولا طرائق بحثه ودراسته في جيلنا الحالي - كما كان في أجيال مضت - مقصورا على تدوين الأسماء وذكر السنوات وتقرير الحوادث؛ بل أصبح علما في معناه الأعم الأوسع يتناول كل معارفنا عن الإنسان: أعماله، وأفكاره، وآماله، وأحاسيسه، ويبين لنا كيف كان يعيش الفرد، من عامة الناس أو خاصتهم، في حقبة ما من الزمن، وماذا كانت النظم التي يخضع لها والمهن التي يحترفها والتطورات والتغيرات التي ساهم - بطريقة محسوسة له أو غير محسوسة - في إحداثها، وماذا استفاد من الأجيال السابقة له، وأفاد الأجيال التالية في كل ناحية من نواحي التقدم الإنساني والرقي الاجتماعي.
وهذا الكتاب يعالج فترة هامة من التاريخ العربي كانت تبدو حتى أوائل هذا القرن عديمة الأهمية تلك هي فترة «تاريخ العرب في عصر ما قبل الإسلام»، ولكن دراستها وتوضيحها من الناحية التاريخية أصبح ضرورة لازمة، وخاصة في هذه الأيام الأخيرة التي يقف فيها العالم العربي، بل العالم الإسلامي أجمع في مفترق الطرق لا يدري أيها يسلك، ولا إلى أين يلقي عصا التسيار وهو يجتاز فترة من اليقظة والازدهار والتقدم السريع في مدارج الحضارة العالمية غب التحرر من ربقة الاستعمار البغيض. أقول: أصبحت دراسة تلك الحقبة ضرورة لازمة لمن يريد أن يدرس تاريخ العرب والإسلام دراسة صحيحة؛ ذلك لأن الإسلام أحدث ثورة كبرى في عالم السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والعقيدة، ولا يمكن أن يعرف مدى هذا التغيير الذي أحدثه الإسلام، ولا تفهم دقائقه إلا إذا عرفنا البيئة التي ظهر فيها والملابسات التي اكتنفت ظهوره في بلاد العرب نفسها قبل أن تخفق رايته على ربوع العالم المتمدين آنئذ عقب انتشاره.
إن المؤرخين كثيرا ما يجانبهم الصواب ويعوزهم العطف والرفق في أحكامهم فلقد مر حين من الزمن كان المؤرخون فيه يطلقون اسم «العصور المظلمة» على العصور الوسطى، تلك التي تلت سقوط الدولة الرومانية الغربية على أيدي القبائل المتبربرة وما تلا ذلك السقوط من اضطراب في الأنظمة، وتدهور في الثقافة؛ ولكن البحوث والدراسات التي تمت منذ أواخر القرن الماضي قد أثبتت أن العصور الوسطى لم تكن كلها فترة ظلام، بل على النقيض كان الشطر الأكبر منها يزخر بالنشاط والإنتاج والرقي، وتدين حضارتنا الحالية إليها - لا إلى اليونان والرومان كما كان يظن - بالشيء الكثير.
كذلك درج المؤرخون القدامى - من بدء تدوين التاريخ الإسلامي حتى أوائل هذا القرن - على اعتبار «عصر ما قبل الإسلام» - وكان أكثرهم لا يعرف حدوده ومدلوله - عصر همجية وإفلاس حضاري وتدهور أخلاقي وانحطاط في مجال السياسة والدين، فشوه هؤلاء المؤرخون تاريخ عصر ما قبل الإسلام في قسوة ظاهرة، ولست أشك في أنهم فعلوا ذلك بنية حسنة هي رغبتهم في تمجيد الإسلام ورفع شأنه، ولكنهم بنيتهم الطيبة هذه لم يحققوا كل غرضهم؛ بل إنهم كثيرا ما أتاحوا فرصة للمغرضين من المستشرقين للطعن على الإسلام واتهامه بأنه دين بدائي جاء لشعب بدوي؛ مع أن الإسلام نشأ في أهم مركز حضري في بلاد العرب وهو مكة، وكانت تعاليمه وتوجيهاته حضرية في أساسها، وقد حطم البداوة واتجاهاتها الفردية، وقضى على العصبية المذمومة، وأحل محلها رابطة الدين والعقيدة.
نحن لا ننكر أن صفة «الجاهلية» بمعناها الحرفي هذا كانت تنصب على بعض أجزاء البيئة العربية، وفي بعض فترات من تاريخها، ولكن الذي ننكره هو التعميم، ولو كان العصر كله جاهلية لما أقر الإسلام، لا الكثير من نظم المجتمع وتقاليده فحسب، بل بعض ما يتصل بالدين وشعائره وطقوس العبادة وغير ذلك من الفضائل.
وإذا كانت الشعوب العربية والإسلامية تتطلع إلى استعادة مجدها وتقلد زمام الأمور في بلادها، فإن الواجب يقضي على رجالها أن يقبلوا على تاريخهم يتلمسون الأسس التي شيدت عليها مكانتهم الرفيعة في عالم العصور الوسطى.
وهذا الكتاب الذي أقدم طبعته الثانية للقراء الآن هو محاولة لإلقاء ضوء - وإن يكن خافتا - على تاريخ بلاد العرب في العصر السابق للإسلام، وهو محاولة متواضعة ما في ذلك شك رسمت فيها صورة سريعة لأولئك العرب الذين جعل الإسلام منهم أمة واحدة فحملوا رايته وثبتوا في عواصم العالم المتمدين المعروف أن ذاك ما تضمنته مبادئه من سلام وأمن وعدل وإخاء كان العالم كله - لا بلاد العرب وحدها في حاجة إليها.
والله جل جلاله أسأل أن يوفقنا إلى خير ما نرجو، وأن يكلأنا بعين رعايته الصمدانية؛ إنه سميع مجيب.
محمد مبروك نافع
مصر الجديدة
28 من جمادى الأولى سنة 1371
24 من فبراير سنة 1952
مقدمة الطبعة الأولى
لم يعد خافيا أن العرب قد أصبحوا - وخاصة في الآونة الأخيرة - يثيرون اهتمام العالم أجمع؛ ذلك لأنهم أدركوا أنهم عادوا الآن، كما كانوا من قبل، يتحكمون تحكما خطيرا في مصائر العالم من الناحيتين الحربية والاقتصادية، بحكم موقع بلادهم الجغرافي، وتوسطها بين الشرق والغرب.
ولقد أصابت العرب في القرون القلائل الأخيرة إغفاءة طويلة، فلم يقدروا خطورة موقفهم بالنسبة للأمم الأخرى، فاستهدفت مصالحهم للعبث كما تعرضت مكانتهم للتجاهل، ولكنهم عندما أخذوا - منذ أواخر القرن الماضي - يستيقظون من سباتهم ويتحركون من رقدتهم ليلموا شعثهم، بدأت القوات المتصارعة في العالم تخطب ودهم، وتتلمس رضاهم، واتجه العلماء في الغرب - وهم دائما الرواد الممهدون - إلى العناية بدراسة أحوالهم الحاضرة، وتاريخهم القديم.
وإذا كان هذا شأن أهل الغرب في العناية بتاريخ العرب، فكم بالحرى يجب أن يكون شأننا ونحن ننتسب إلى ذلك الشعب العريق أو نفخر بأن نكون من سلالته.
وقد حاولت في هذا الكتاب الذي أضعه بين أيدي القراء، أن أرسم صورة واضحة لتاريخ العرب قبل الإسلام، وتاريخ دولهم، في الجنوب، والشمال والوسط، والأدوار التي لعبها هؤلاء وأولئك في معترك الحياة العالمية من سياسية واقتصادية، منذ فجر التاريخ إلى مبعث سيد الخلق محمد
صلى الله عليه وسلم .
وما أحسب أني في حاجة إلى القول بأنه لا يلمس الصعوبة التي يعانيها من يتصدى للكتابة في تاريخ العرب في عصر ما قبل الإسلام إلا من كابدها.
ولست أدعي أني قد أحطت بما لم يحط به أحد، أو أنني وفيت الموضوع من جميع نواحيه، بل أشهد أن هذا الحقل من حقول المعرفة التاريخية - بسبب قلة الكشوف والبحوث، ولأسباب أخرى - لا يزال بكرا، لم تقلب أرضه إلا فئوس قليلة، وبحسبي أن أكون أحد العاملين في هذا السبيل.
والله العلي القدير أسأل أن يوفقنا إلى ما فيه الخير، وأن يهبنا من لدنه العون والقوة.
محمد مبروك نافع
القاهرة في
8 رجب سنة 1367 / 17 مايو سنة 1948
الفصل الأول
دراسات تمهيدية
(1) اضطراب تاريخ العرب قبل الإسلام وغموضه
لا يلقى الباحث في التاريخ القديم عناء وجهدا كاللذين يلقاهما عند تعرضه للبحث في تاريخ العرب قبل الإسلام، ولا يرجع السبب في ذلك إلى إيغال تاريخهم في القدم؛ فإن تاريخ أجدادنا الفراعنة أشد إيغالا في القدم من كل تاريخ في الأرض؛ إذ يرجع تاريخهم الثابت المؤكد إلى القرن الخامس والأربعين قبل الميلاد، هذا عدا تاريخهم الأسطوري الذي يمتد وراء ذلك بعشرات القرون، ولقد كان هذا التاريخ الفرعوني قبل نحو قرن ونصف غامضا مضطربا شأن القديم من تاريخ العرب اليوم، ولكن كشف حجر رشيد سنة 1798 ميلادية وفك طلاسمه بعد ذلك والتمكن من معرفة الكتابة المصرية القديمة وقراءة ما حفر على جدران الهياكل والمقابر والتماثيل وغيرها من الآثار التي تملأ ربوع البلاد، والتي صانها جفاف جو مصر وحفظها من الفناء، وترجمة البرديات التي لا حصر لها والتي وجدت مدفونة وفي حالة حفظ جيدة مع مومياء الفراعنة؛ كل ذلك ألقى ضوءا وهاجا على التاريخ المصري القديم الذي كان غامضا ومكن علماء التاريخ من تصحيح ما ورد عنه في كتب المؤرخين القدامى من خطأ وتخليط حتى ضاقت دائرة التناقض والاختلاف، وأصبحت الاختلافات في تاريخ الفراعنة لا تعدو ما يعترضنا من اختلافات في التاريخ الحديث، بل وفي التاريخ المعاصر.
وشأن تاريخ بابل وأشور والفرس وغيرها من دول الشرق القديم شأن تاريخ مصر إلى حد كبير.
أما تاريخ العرب القدامى فشأنه يختلف عن ذلك كثيرا. حقيقة أن هناك كشوفا تمت في بعض بلاد اليمن وفي شمالي شبه الجزيرة، وأن الخطوط العربية القديمة هنا وهناك قد فكت طلاسمها؛ ولكن على الرغم من ذلك لا يزال المؤرخ يتهيب الكتابة في تاريخ العرب قبل الإسلام؛ لأن ما تم من الكشوف لم يكن كافيا، وإن كان قد أماط اللثام عن وجود دول كان يجهلها مؤرخو العرب واليونان جهلا تاما، ولأن الشطر الأكبر من وسط شبه الجزيرة وأطرافها لا يزال بكرا لم تقلبه فأس منقب، ولم تزل الرمال عما هو مطمور تحته من آثار قد تتسامى في عظمتها إلى آثار بابل ومصر.
وسنبين فيما يلي مصادر التاريخ القديم عامة والتاريخ العربي القديم لنرى إلى أي مدى أفادتنا الأخيرة في دراسة تاريخ العرب القدامى. (2) مصادر التاريخ القديم
مصادر التاريخ القديم كثيرة:
أولها ما كتبه الأقدمون عن أنفسهم، فإن كان خطهم لا يزال مستعملا أمكن بطبيعة الحال قراءته ومعرفة كل ما كتبه القوم عن أنفسهم، ومثال ذلك الخط اليوناني، وإن كان غير مستعمل وتمكن العلماء من حل رموزه كالخط الهيروغليفي، والخط المسماري كانت أهميته كمصدر للتاريخ كالخط المستعمل تماما، أما إذا كان غير مستعمل ولم يتمكن العلماء من فك طلاسمه فإنه يكون عديم الفائدة أو قليلها كمصدر من مصادر التاريخ.
وثاني مصادر التاريخ هو ما خلفه القوم وراءهم من آثار مختلفة كالمعابد والمسلات والتماثيل والمقابر وغيرها، فإن وجود هذه الآثار وبخاصة إذا كانت في حالة جيدة تساعد على تفهم حالة الحاكمين والمحكومين الذين شيدوها، ثم هي - بما تحمل في الغالب من نقوش وكتابات - تنقل إلينا معلومات وأخبارا قد لا يتطرق الشك إليها، وتعتبر المدافن بصفة خاصة عند المصريين القدماء من أهم المصادر؛ لأن المصريين كانوا يؤمنون بالبعث، وكانوا يعتقدون أن الأرواح ستعود إلى الأجساد، ومن أجل ذلك كانوا يضعون مع الميت في قبره أسلحته وملابسه وأثاثه وطعاما وشرابا وغير ذلك من الآنية.
أما ثالث مصادر التاريخ فهو ما كتبه مؤرخون قدماء، ولكنهم جاءوا بعد الأزمنة التي وصفوها، وهؤلاء المؤرخون إما وطنيون كتبوا عن تاريخ بلادهم أو أجانب كتبوا عن تاريخ بلاد غير بلادهم، وقد تكون كتاباتهم خطأ أو مغرضة كما قد تكون صحيحة، فهي على كل حال في حاجة إلى التمحيص، وقد كانوا بطبيعة الحال يعتمدون فيما يكتبون على ما شاهدوه بعيونهم أو نقل إليهم عن طريق الرواية، أو كان مسجلا على الآثار، وقد كانت مهمة معظمهم شاقة نظرا لعدم توفر وسائل البحث لديهم كما هي متوفرة لدى المؤرخين المحدثين الذين يستطيعون في معظم الحالات قراءة الكتابات القديمة ومعرفة ما دون الأقدمون عن أنفسهم.
وقد يضاف إلى هذه المصادر الثلاثة مصدر رابع وهو الأقاصيص المتداولة التي تمثل في الغالب صفحات من الحياة اليومية للناس، إلا أنه من الصعب استخلاص حقائق تاريخية ثابتة منها نظرا لما كانت تحشى به هذه الأقاصيص عادة من المبالغات والأكاذيب وهي تنتقل من جيل إلى جيل.
والتاريخ الأسطوري «الميثولوجي» لكل أمة - وهو يسبق عادة تاريخها الحقيقي - إن كان يدل على شيء فهو يدل على ميولها وأمانيها ومبلغ إدراكها وطرائق تفكيرها.
أما مصادر التاريخ العربي القديم فهي: (1)
الكتب المقدسة. (2)
التفاسير. (3)
مؤرخو اليونان والرومان. (4)
مؤرخو العرب. (5)
النقوش الكتابية. (6)
آثار الجنوب. (7)
آثار الشمال. (8)
الآثار خارج الجزيرة. (9)
المستشرقون المحدثون. (10)
الأدب العربي. (2-1) الكتب المقدسة
وأقدم هذه الكتب التوراة وفيها شيء كثير عن أحوال الأمم العربية في سفر التكوين أول أسفارها الذي ذكر الكثير من أخبار سام وأولاده، وقصة إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام، كما جاء فيها ذكر بلقيس ملكة سبأ وقصتها مع سليمان عليه السلام في سفر الأيام الثاني، وغير ذلك من أخبار الملوك والقبائل في سفر نحميا وغيره.
أما القرآن الكريم فهو أصدق المصادر المقدسة، وقد جاء فيه ذكر بعض القبائل البائدة كعاد وثمود اللتين انفرد بذكرهما دون بقية الكتب المقدسة، كما جاء فيه بعض أخبار ملوك اليمن كقصة ملكة سبأ، وقصة إسماعيل جد العرب العدنانية، ومسألة سيل العرم وغير ذلك، وقد أيدت الكشوف الحديثة صحة ما ورد في القرآن عن مساكن ثمود وسيل العرم وغيرها.
ويجب أن نلاحظ أن المستشرقين لا يعتبرون الكتب المقدسة من مصادر التاريخ التي يصح الاعتماد عليها. (2-2) التفاسير
وأقصد بها الشروح المسهبة والتعليقات الطويلة التي اعتبرها المفسرون مكملة وموضحة لما أجملته آي القرآن المحكمة الرصينة؛ فإن الشطر الأكبر من هذه المبالغات والخرافات إنما هو من ابتداع خيال المفسرين، ومما دسه عليهم اليهود والمجوس لأغراض في نفوسهم فهذه يجب الحذر منها وعدم الأخذ بها، وقد يكون المفسرون حسني النية، وإنما لجئوا إلى هذه المبالغات لإظهار أن القوم وصلوا إلى درجة كبيرة من العظمة، وأن القصاص الذي نزل بهم عندما عصوا أمر ربهم ولم يستمعوا لأنبيائه كان يتناسب مع ما وصلوا إليه من عظمة. (2-3) مؤرخو اليونان والرومان
جاء ذكر العرب عرضا في تاريخ هيرودوت (المتوفى سنة 406ق.م) أثناء كلامه عن الحرب بين قمبيز والمصريين في القرن السادس قبل الميلاد.
وأشار أرطستيني (المتوفى سنة 194ق.م)، وديودور الصقلي (المتوفى سنة 80ق.م) إلى العرب في كتبهم.
وأفرد استرابون اليوناني (المتوفى سنة 24م) فصلا في مؤلفه الجغرافي ذكر فيه مدن العرب وقبائلهم وشيئا عن أحوالهم التجارية والاجتماعية.
وخصص بطليموس الجغرافي الشهير الذي مات سنة 140م جزءا من كتابه ذكر فيه قبائل بلاد العرب ومدنها وحدود موضعها بالدرجات كما شرح الكثير من أحوال العرب التجارية وغيرها، وفصل ما أجمله سابقوه تفصيلا.
وعلى الرغم من تشتت ما كتبه هؤلاء اليونان والرومان وغيرهم كيوسفيوس اليهودي (المتوفى سنة 93م) فإنهم بلا شك قد ألقوا ضوءا وإن يكن خافتا على تاريخ العرب القديم. (2-4) مؤرخو العرب
لم يكتب مؤرخو العرب تاريخا خاصا لبلاد العرب قبل الإسلام، ولم يتجاوز كل ما كتبوه أن يكون مقدمات لتواريخهم المفصلة الدقيقة للعصر الإسلامي، وحتى هذه المقدمات فإنها لم تكن مفصلة ولا دقيقة، وأوجه الخلاف بين المؤرخين في أسماء الدول والملوك وحوادث التاريخ ومدد الحكم كثيرة، وفي بعض الحالات يظهر التناقض بينا.
وأكثر ما اعتمد عليه مؤرخو العرب في رواية تاريخ العصور السابقة للإسلام هو الأدب العربي من نظم ونثر الذي كان يتناقله الرواة مشافهة، كما أنهم اعتمدوا على بعض آثار اليمن حيث كان الخط المسند لا يزال يقرؤه بعض علماء القرى، وكذلك اعتمدوا على بعض كتب النصارى التي وجدت في الأديرة والكنائس في العراق والشام، وعلى ما تلقطوه من أفواه اليهود في اليمن والحجاز وغيرها.
ولقد حشا هؤلاء المؤرخون أخبارهم بالمبالغات والخرافات كما فعل المفسرون تماما.
وإن المتصفح لما كتبه أمثال ابن إسحاق «المتوفى سنة 151ه»، وابن هشام «المتوفى سنة 218ه»، وابن قتيبة «المتوفى سنة 276ه»، واليعقوبي «المتوفى سنة 177ه»، والطبري «المتوفى سنة 310ه»، والمسعودي «المتوفى سنة 346ه»، وياقوت «المتوفى سنة 626ه»، وابن الأثير «المتوفى سنة 650ه»، وأبو الفدا «المتوفى سنة 735ه»، وابن خلدون «المتوفى سنة 807ه»؛ أقول: إن المتصفح لما كتبه هؤلاء العمد الأفاضل ليعجب للدقة التامة والتحري الصحيح الذي عالجوا به تاريخ الإسلام في معظم الحالات بقدر ما يأسف على الإهمال والخلط الذي صحب كتابتهم عن عصر ما قبل الإسلام، ولعل لهم العذر؛ فقد كانت الأخبار تتناقل على الألسنة بدون تدوين أو ضبط، كما أن الخط العربي في أول الأمر كان مهملا فكانت الباء والتاء، والحاء والجيم والخاء، والسين والشين ... إلخ يلتبس في قراءتها.
وقصارى القول أن ما كتبه مؤرخو العرب عن عصر ما قبل الإسلام يجب أن لا يؤخذ على علاته، وأن يتناول بمنتهى الحيطة والحذر. (2-5) النقوش الكتابية
وهذه هي التي ألقت أول ضوء وهاج على التاريخ الصحيح لبلاد العرب قبل الإسلام.
إن أول ما حصل عليه من النقوش الكتابية من بلاد العرب كان صورة محشوة بالأغاليط لخمسة نقوش حصل عليها سيتزن
Seetzen
سنة 1811، ثم بدأ البحث العلمي بعد ذلك إذ حصل هاليفي
Halévy
على 600 نقش في سنة 1869، ثم أخذ عدد النقوش يزداد بالتدريج حتى حصل جلازر
Glaser
فيما بين عامي 1882-1888 على 1023 نقشا آخر كانت هي وما سبقها عمدة العلماء في كل المعلومات عن تاريخ العرب قبل الإسلام، وهذه النقوش مكتوبة بلغات عدة أهمها اللغة المعينية، واللغة السبئية، ولهجة أخرى من اللهجات المعينية، وقد عدت كلها من باب التساهل حميرية، وهي كلها لغات سامية تمت بصلة إلى الأكادية «البابلية الأشورية»، وإلى الإثيوبية الحبشية، مما يشعر أن موجة من موجات الثقافة ربطت ما بين العراق وبلاد العرب وشرق أفريقيا، ومما هو جدير بالذكر أن لغتي مهرة «جنوب بلاد العرب» وسوقطرا الحاليتين تضمان عناصر تشبه عناصر هذه اللغات القديمة، أما خط هذه النقوش فهو تطور من الخط الفينيقي الذي كان مستعملا في القرن الثامن قبل الميلاد وما بعده وهو الأصل في الخط الذي لا يزال مستعملا في الحبشة، وتزخرف بعض هذه النقوش رسوم لحيوانات ونباتات مما يشير إشارة واضحة إلى مدى تأثير الفن الأشوري المتأخر فيها.
وننتقل الآن إلى الكلام في الآثار، وقد آثرنا أن نقسمها إلى آثار الجنوب وآثار الشمال. (2-6) آثار الجنوب
كانت بلاد اليمن وحضرموت أهم أجزاء بلاد العرب التي كثر مرتادوها من علماء الآثار، والتي كثرت دراساتهم فيها، ولا غرو فهي غاصة بآثار الحضارتين المعينية والسبئية، ولقد زار آثار مأرب عاصمة سبأ القديمة أكثر من واحد من العلماء نخص بالذكر منهم أرنو
Arnaud
وهاليفي
Halévy
وجلازر
Glaser ، وجمعوا من بين أنقاضها عددا من النقوش المعينية والسبئية محفورا على الحجر الجيري أو البرونز، ولقد درس أرنو دراسة تفصيلية سد مأرب المشهور ورسم أول خريطة له، كما درس بعض آثار صنعاء والخريبة وحرم بلقيس وقاسى في أثناء أبحاثه هذه مر العذاب، وكان ينقل الرسوم سرا تحت خطر القتل، وأصابه في أثناء العمل رمد أودى ببصره.
وقفى على أثره هاليفي، فجاس خلال اليمن وزار كثيرا من الآثار، ونقل نقوشها، وتمكن من كشف مدينة معين عاصمة دولة المعينيين التي ذكرها اليونان وكان العرب لا يعرفونها.
وكان لجمعية الآثار السامية فضل كبير في حل طلاسم الكثير من النقوش التي عاد بها المستكشفون، وكان علماء الألمان أصحاب القدح المعلى في ذلك، ولا تحمل الآثار التي حصل عليها تواريخ تدل عليها، ولكن العلماء يرجعونها إلى الفترة ما بين سنة 800ق.م، سنة 600م. (2-7) آثار الشمال
لم يكن نصيب الشمال من اهتمام علماء الآثار بأقل من نصيب الجنوب، وذلك على الرغم من أن وسائل البحث العلمي ومسهلاته لم تكن ميسورة لدى هؤلاء العلماء، فلقد كشف العلامة دوتي
Doughty
سنة 1876 عددا من المقابر النبطية المحفورة في مدائن صالح ورسمها ونقل نقوشها، كما كشف برتن
Burton
سنة 1877 مقابر نبطية أخرى أثناء فحصه عن مناجم الذهب في مدين، وعثر بعض الكاشفين على مقابر رومانية في حدود الحجاز الشمالية، وفي تيماء عثر هوبير سنة 1883 على النقش السامي المشهور المحفوظ الآن في متحف اللوفر، وعثر دوتي أثناء جولاته بين خيبر والحائل على عدة قبور قديمة معلمة بحجارة مستطيلة رأسية، وفي بعض بلاد نجد كشف بلي
Bely
عن عمود مسيحي حطمه الوهابيون، وتوجد في وادي سرحان بعض الآثار الرومانية والعربية القديمة وهي أبنية من البازلت عليها نقوش، وعلى مقربة من الطائف عثر دوتي على مشروع تمثال هائل على صورة آدمي يرجع إلى عصر ما قبل التاريخ، وقد قرر هو وآخرون أنه كان بالطائف تمثالان من الحجر لا شكل لهما كان يعبدهما القدماء على أنهما اللات والعزى وقد حطمهما الوهابيون، ويظن أن ثالث هذين التمثالين - وهو تمثال مناة الذي قد يرجع إلى عصر ما قبل التاريخ أيضا - يوجد إلى الجنوب من الطائف، وقد كان لأمنا «حواء» قبر في جدة حطمه الوهابيون سنة 1927.
هذا؛ وقبل أن ننتقل إلى الكلام عن الآثار خارج شبه الجزيرة، يجدر بنا أن نشير إلى أن العلماء يرجحون أن مدنا هائلة لا تزال مطمورة تحت رمال «الربع الخالي»، وأن أكبر خدمة تؤدى لتاريخ العرب قبل الإسلام هي أن تعبد للعلماء سبيل الكشف عن هذه الآثار.
ولقد أرسلت كلية الآداب في صيف 1936 بعثة للتنقيب عن آثار اليمن. (2-8) الآثار خارج الجزيرة
أو بعبارة أدق المصادر المنقوشة على الآثار خارج بلاد العرب، والتي تشير من قرب أو بعد إلى أحوال العرب وتاريخهم، فقد حصل في آثار بابل على نقوش بالخط المسماري تشير إلى دول تولت حكم بابل يرى بعض المؤرخين أنها عربية، كما أن بعض المؤرخين يحاول أن يصف الهكسوس الذين فتحوا مصر في أواخر الأسرة 13 (حوالي سنة 1675ق.م) بأنهم عرب مع أن الكشوف الحديثة تؤيد أنهم من آسيا الصغرى، وأنهم تحركوا على أثر اضطرابات هجرية كان منشئوها سهول أوروبا الوسطى.
وفي رأينا أن ما نقل من الآثار خارج بلاد العرب لا يمكن أن يؤخذ منه ما يفيد بصيغة الجزم تاريخ العرب قبل الإسلام. (2-9) المستشرقون المحدثون
وهم جماعة من العلماء الأوربيين عكفوا على دراسة اللغة العربية وغيرها من اللغات الشرقية حتى حذقوها، ثم تخصص كل منهم بعد ذلك في دراسة فرع من فروع الأدب أو التاريخ العربي أو الشرقي في مصادره الأصلية فلم يتركوا - في صبر وجلد - شاردة منه ولا واردة إلا فحصوها ووزنوها بميزان النقد العلمي الحديث، وقد أنفق الكثير منهم عمره في ترجمة مرجع عربي أو شرقي إلى لغته الأصلية سواء أكانت الألمانية أم الفرنسية أم الإنجليزية أم الإيطالية والتعليق عليه ومراجعته على المصادر الأصلية الأخرى المطبوع منها والمخطوط، وقد كتب الكثير منهم كتبا في الأدب العربي أو التاريخ الإسلامي، تستهوي الباحث بحسن ترتيبها، وجمال تبويبها، وتركيز المعلومات فيها تركيزا لا يجهد القارئ في البحث ولا يكلفه عناء الاستقصاء، وتجعل بعض المحدثين من رجال عصرنا يعيشون عالة عليها يلتمسون العلم من أسهل مناهله وأقرب موارده، ولئن كان البعض من هؤلاء المستشرقين يركب هواه في بعض الأحيان فيخون العلم في سبيل تحقيق غرض ديني في الغالب، إلا أن الجمهرة منهم تغلب فيهم النزاهة العلمية وبخاصة إذا كان الموضوع الذي يعالجونه غير شديد المساس بالدين.
وفي موضوع كموضوع تاريخ العرب قبل الإسلام، أرى أن الاعتماد عليهم - وبخاصة لأنهم أعرف الناس بالكشوف الحديثة في بلاد العرب - يكون اعتمادا مأمون العاقبة إلى حد كبير. (2-10) الأدب العربي
قلت في فقرة [مؤرخو العرب]: إن من أكثر ما اعتمد عليه مؤرخو العرب في رواية تاريخ العصور السابقة للإسلام هو الأدب العربي، من نثر ونظم، الذي كان يتناقله الرواة مشافهة، وأقرر الآن هنا أنه في ضوء البحث العلمي الحديث يصعب الاعتماد على الأدب العربي كمصدر هام من مصادر تاريخ العرب قبل الإسلام لعدة أسباب:
منها أن هذا الأدب لا يرجع إلى أكثر من عصر الجاهلية وهو جزء من عصر ما قبل الإسلام يقدر له العلماء زمنا يتراوح بين قرن ونصف وقرنين ونصف قبل ظهور الإسلام مباشرة، بينما يقدر العلماء لعصر ما قبل الإسلام مدة تتجاوز الثلاثين قرنا تمتد من سنة 1500ق.م إلى سنة 622 ميلادية.
ومنها ما تسرب في السنوات الأخيرة إلى هذا الأدب من الشك؛ إذ يرى فريق من المستشرقين وبعض المحدثين وعلى رأسهم أستاذنا الدكتور طه حسين أن الشعر الجاهلي - لأنه كان يتناقل مشافهة دون تدوين، وبسبب الخلاف الكبير في بعض رواياته، ولأسباب لغوية أخرى - إنما هو كله أو الشطر الأكبر منه ملفق أتقن تزويره حماد الراوية وخلف الأحمر من الرواة في القرن الثامن الميلادي.
وإذا كانت نظرية تلفيق الشعر الجاهلي خاطئة فإن ما وصل إلينا منه مع ذلك - إذا استثنينا بعض القصائد كالقصيدة الحميرية التي يعدد فيها أسماء الملوك المثامنة والأذواء المستقلين من حكام اليمن - ليس فيه غناء كبير فيما يتعلق بالتاريخ السياسي وأسماء الدول والملوك؛ إذ هو قاصر على وصف بعض أخلاق العرب ومعتقداتهم الدينية وعاداتهم وغير ذلك.
أما ما ينسب إلى بعض قوم طسم وجديس من الشعر وغيره، فلا يعدو في نظرنا أن يكون نسيجا جميلا من خيال الشعراء أو الرواة المتأخرين. (3) موطن الجنس السامي الأول وهل هو بلاد العرب
ليس من شأننا في هذا البحث أن نتعرض لمسألة الطوفان، وهل كان عاما شمل الكرة الأرضية أم كان قاصرا على منطقة دجلة والفرات، وإنما يكفي أن نذكر هنا ما روته التوراة من رسو سفينة نوح عليه السلام بعد انحسار الطوفان على جبل أراراط في هضبة أرمينيا «الإصحاح الثامن من سفر التكوين»، ومن ثم تفرق أبناء نوح، فسار يافث إلى الشرق وسار حام إلى الغرب، أما سام فإنه نزل إلى الجنوب، واختلف الباحثون في المكان الذي استقر فيه الساميون الأول، وتتلخص آراؤهم في القول بأن الساميين قد أخذوا نشأتهم الأولى في واحد من الأماكن المختلفة الآتية: (1)
عند مصب النهرين. (2)
في بلاد كنعان. (3)
في بلاد الحبشة. (4)
في شمال أفريقيا . (5)
في بلاد العرب.
وأنصار الرأي الأول يعتمدون على قصة التوراة السالفة الذكر، ويحددون بابل مستقرا أول لبني سام بعد نزوحهم من جنوب أرمينيا.
وأصحاب الرأي الثاني يرون أنه في الوقت الذي دخل فيه الساميون العراق كانت تلك البلاد آهلة بالسومريين المتمدينين، وأن الساميين في سوريا أنشئوا مدنية أقدم من مدنية ساميي العراق، وإذا فبلاد كنعان هي المهد الأول للأمم السامية.
وأتباع الرأي الثالث يعتقدون أن الجنسين السامي والحامي كانا في العصور القديمة في أفريقيا، ويعتمدون على الصلات اللغوية بين اللغات السامية والحامية.
وأصحاب الرأي الرابع يجعلون مهد الساميين الأول في شمال أفريقيا، ولا يزيدون شيئا على ما ذكره أنصار الرأي الثالث.
وأنصار الرأي الخامس يؤكدون أن أواسط الجزيرة العربية منذ عصور ما قبل التاريخ كانت آهلة بالسكان، وأن منها ابتدأت هجرة الساميين إلى أطراف الجزيرة وما وراءها، ومن معضدي هذا الرأي الدكتور العناني، وهو يدلل على صدق النظرية بأدلة ترجع إلى الجهة اللغوية ووحدة التفكير واتحاد العقلية والاشتراك في نوع الخيال عند جميع الأمم السامية واصطباغ كل ذلك بصبغة واحدة أصلها وحي الصحراء وقوامها حياة البداوة، وأن الشعوب السامية التي تحضرت في أطراف الجزيرة ظلت محتفظة بنوع التفكير والخيال السالف الذكر (راجع الباب الثاني من الجزء الأول من كتاب الأساس للأستاذ الدكتور العناني والأستاذين محرز والإبراشي).
وممن يؤيد هذا الرأي أيضا الأستاذ جورج سمث
George Smith
إذ يذكر في كتابه «الجغرافية التاريخية للأرض المقدسة»: أن الشام هو الطرف الشمالي للوطن السامي الأكبر وهو جزيرة العرب، وآخر معضدي هذا الرأي أيضا الأستاذ فلبي
الذي صدر كتابه عن عصر ما قبل الإسلام أخيرا سنة 1947 فقد ذكر في فاتحة هذا الكتاب وعنوانه
Back ground of Islam
ما نصه: «إلى أن يثبت أن الساميين جاءوا إلى بلاد العرب من بلاد غيرها يلزمنا أن نعتبر جزيرة العرب الوطن الأصلي للساميين، ولعله من الممكن تحديد هذا الوطن في القسم الجنوبي من هذه الجزيرة.»
ولقد كان الرأي الأكثر رجحانا حتى العقود الأولى من هذا القرن هو الرأي الأول الذي يعتمد على قصة التوراة السالفة الذكر، ولكنها أصبحت مرجوحة الآن وتغلب عليها الرأي الخامس القائل بأن بلاد العرب هي مهد الجنس السامي؛ إذ استبعد أن ينتقل شعب من طور الرقي الزراعي على ضفاف نهر إلى طور البداوة في أرض مراع أو صحراوات، وهذه النظرية الحديثة تقرر أن بلاد العرب في الأزمان السحيقة كانت - بسبب اختلاف مناخها في ذلك الوقت عن ما هو الآن - أكثر خصبا مما هي عليه الآن، وأن نجدا كانت إذا زاد عدد سكانها زيادة لا تحتملها قدرة الأرض على إعالتهم ينبعث الناس منها في هجرات على شكل تقاطر تدريجي، كما هو حال الهجرات في أيامنا هذه إلى البلاد المجاورة، وكانت شبه الجزيرة تشبه حوضا ضخما يفيض بالبشر ويقذف ما يطفح به إلى الخارج، وكانت الفترة بين الموجة الهجرية والتي تليها نحو 1000 سنة، ويحددون منتصف الألف الرابع قبل الميلاد بدأ لتلك الهجرات التي حفظها لنا التاريخ، والتي لا بد أن تكون قد حدثت هجرات قبلها قبل عصر التاريخ.
ففي سنة 3500ق.م تقريبا حدثت هجرة سامية إلى الشمال الشرقي إلى وادي الفرات الأدنى حيث بلاد بابل، وفي نفس الوقت تقريبا تحركت هجرة سامية أخرى إلى الشمال الغربي حيث بلاد مصر.
وحوالي سنة 2500ق.م أي بعد ألف سنة تقريبا من الهجرات السابقة تحركت هجرة سامية أخرى إلى الشمال، وهي التي أحلت معها العاموريين والكنعانيين والفينيقيين في بلاد سوريا وسواحل البحر الأبيض الشرقية.
وحوالي سنة 1500ق.م تحركت هجرة إلى بلاد فلسطين وجنوب سوريا، وهي التي حملت معها الآراميين في الأولى والعبرانيين في الثانية، وفي نفس الوقت تقريبا تحركت هجرات سامية أخرى إلى الجنوب حيث بلاد اليمن.
وحوالي سنة 500ق.م كانت هجرة الأنباط إلى الشمال الشرقي من شبه جزيرة سيناء وعاصمتهم بطرة أو «البتراء» تقع في جنوب بلاد الأردن الحديثة.
وبعد سنة 600 ميلادية كانت حركة الغزو الإسلامي الرائعة التي امتدت شرقا وغربا فكان من نتائجها تكوين الإمبراطورية العربية التي لم تسبقها إمبراطورية في عظم مساحتها، وتمشيا مع هذه النظرية يحق لنا أن نتساءل هل حدثت موجات هجرية بعد نحو ألف سنة من هذا الفتح؟ ونحسب أن الجواب على ذلك قد نجده في الحضارمة سكان السواحل الجنوبية لبلاد العرب الذين استوطنوا بعض جزائر إندونيسيا وسواحل أفريقيا الشرقية، وباستعراضنا أهمية هذه الهجرات في التاريخ نجد أن الحضارات القديمة كانت نتيجة امتزاج هذه الشعوب السامية مع السكان الأصليين في البلاد التي نزحوا إليها، ومكانة المصريين القدماء والبابليين والعبرانيين في التاريخ العالمي مشهورة ليس هنا مقام التعرض لها. (3-1) معنى كلمة عرب
ذكر الأستاذ نلدكه
Noldeke
في تاريخ المؤرخين للعالم أن الظاهر أن كلمة «عرب» معناها «صحراء».
وكان ورودها لأول مرة بنفس هذا المدلول في النقوش الأشورية التي ترجع إلى القرن التاسع قبل الميلاد.
وفي التوراة وردت في سفر أرميا في الإصحاحين الثالث والخامس والعشرين بما يستفاد منه أن المقصود هم سكان البادية، وفي بعض نقوش دارا كان يقصد من لفظ «عرباية» صحراوات العراق والشام وسينا، ويفهم مما كتبه هيرودت أنه كان يقصد بالعرب سكان المنطقة الممتدة بين الفرات في الشرق والنيل في الغرب، ولفظ «عرب» في التاريخ القديم كان يرادف لفظ «بدو» أو «بادية» في هذه الأيام، ويرى بعض علماء العبرية أن كلمة عبري ترتبط بكلمة عربي ارتباطا لغويا متينا؛ لأنهما مشتقان من أصل واحد وتدلان على معنى واحد، وأنهما مشتقان من الفعل الثلاثي «عبر» بمعنى قطع مرحلة من الطريق أو الوادي أو النهر من عبره إلى عبره أو من عبر السبيل شقها؛ وذلك لأن العرب والعبرانيين كانوا في الأصل من الأمم البدوية الصحراوية التي لا تستقر في مكان، بل ترحل من بقعة إلى أخرى بإبلها وماشيتها للبحث عن الماء والمرعى.
ويرى بعض المؤرخين - ويجاريهم فريق من المستشرقين - أن كلمة عرب مشتقة من يعرب بن قحطان، وأنه أطلقها على بعض أقاليم تهامة ومن ثم شاعت على العرب، وفي كتب العرب القدامى أن العرب إنما سموا بالعرب؛ لأنهم كانوا موسومين بين الأمم بالإعراب وهو البيان.
وهناك رأي يقول: إن كلمة عرب مشتقة من «غرب»، وأن العرب إنما سموا بذلك لارتحالهم من وطن الساميين الأصلي وهو ما بين النهرين إلى الغرب؛ إذ اللغة السامية لا غين فيها فعرب ترادف غرب.
وبمناسبة لفظ «عرب» نذكر أن أهل بابل وبعض السوريين القدامى كانوا يطلقون على العرب لفظ
Taits
التي يرجح أنها مشتقة من طيء سكان شمال نجد.
وهناك لفظ آخر هو
Saracens
كان يطلقه الرومان على البدو المجاورين لبلادهم في الصحراء الممتدة غرب الفرات، ثم شاع استعماله بعد ذلك فصار يطلقه الأوربيون على العرب كافة ثم على المسلمين بدون تمييز ثم على أهل الشرق جميعا، ولعله مشتق من لفظ شرق العربية، وإن كان يحاول البعض أن يقرر أنه مشتق من لفظ «صحراء» أيضا.
الفصل الثاني
الوطن العربي
(1) موقع شبه جزيرة العرب وحدودها
تقع شبه جزيرة العرب في الطرف الغربي من قارة آسيا، وهي مستطيل غير متوازي الأضلاع شماله فلسطين وبادية الشام، وشرقه الحيرة ودجلة والفرات وخليج فارس، وجنوبه المحيط الهندي وخليج عدن، وغربه البحر الأحمر.
ويبلغ طوله أكثر من ألفي كيلومتر، وعرضه أكثر من ألف وخمسمائة من الكيلومترات، ومساحته تزيد عن مساحة الهند.
وبلاد العرب جزء من صحراء كبرى ممتدة في شمال أفريقيا وغرب آسيا ولا يفصلها عن آسيا إلا حوض النيل وأخدود البحر الأحمر الذي تحفه الصخور النارية على جانبه.
ويطلق العرب على بلادهم اسم جزيرة العرب، وفي هذه التسمية كثير من التسامح؛ إذ الواقع أنها لم تتم إحاطتها بالماء، ويعلل جغرافيو العرب تسميتها بالجزيرة «لإحاطة الأنهار والبحار بها من جميع أطرافها وأقطارها فصاروا منها في مثل الجزيرة من جزائر البحر؛ وذلك لأن الفرات يقبل من بلاد الروم مارا ببلدة قنسرين، ثم ينحط على أطراف الجزيرة وسواد العراق، حتى إذا قارب البصرة اتحد بدجلة وصبا معا في خليج عمان من بحر الهند، ويأخذ البحر في ذلك الوضع مغربا طائفا ببلاد العرب، منعطفا عليها إلى بلاد عمان والشحر وحضرموت إلى تهائم اليمن، ويمضي إلى ساحل مكة وساحل المدينة، ثم ساحل الطور وخليج أيلة وخليج القلزم، والنيل حتى بحر الروم الذي تقع عليه سواحل الأردن وبيروت وسواحل دمشق وسواحل قنسرين، وهي الناحية التي أقبل منها الفرات منحطا إلى أعلى أطراف الجزيرة وسواد العراق، إلخ.» (راجع معجم البلدان لياقوت وصفة جزيرة العرب للهمداني).
وهذا التحديد وإن كان يسهل فهم تسمية البلاد العربية بالجزيرة إلا أنه يتطلب أن تعتبر ولايات الشام وفلسطين والأراضي المصرية الواقعة شرقي فرع دمياط من ضمن بلاد العرب، وهذا غير مرض عند الجغرافيين المحدثين، ولا هو منطبق على المصطلح الجغرافي ولا على الواقع. (2) بلاد العرب في نظر الجغرافيين القدامى
فيما خلا الجزء الجنوبي الغربي حيث بلاد اليمن والجزء الشمالي المتاخم للشام ومصر كانت بلاد العرب مجهولة تماما لدى القدماء، فلم تطأها أقدامهم؛ إذ عصمتها الصحراوات والبحار المحيطة بها من الغزو الاستعماري أو الغزو الديني، كما عصمها كذلك ترامي أطرافها وعدم جودها بما يغري الغزاة على تجشم المصاعب في سبيل غزوها.
ورد في القاموس الكلاسيكي للأستاذ وليم سمث
William Smith
أن بلاد العرب كانت تنقسم قديما إلى ثلاثة أقسام: (1)
بلاد العرب الصخرية
Arabia Petraea
وهي عبارة عن المثلث المنحصر بين خليجي البحر الأحمر «شبه جزيرة سينا»، والمنطقة التي تليه إلى الشمال والشمال الشرقي، وكانت عاصمتها مدينة بطره
وقد سميت بهذا الاسم إما نسبة إلى عاصمتها أو إلى طبيعة المنطقة الصخرية. (2)
بلاد العرب الصحراوية
Arabia Deserta
وهي تشمل بادية الشام وجزءا من داخل شبه الجزيرة. (3)
بلاد العرب السعيدة
Arabia Felix
وهي تشمل بقية أجزاء البلاد ما عدا الجزأين السابقين.
وجهل القدماء بداخل بلاد العرب هو الذي دعاهم إلى احتسابه ضمن بلاد العرب السعيدة «أو الخضراء» مع أنه في الواقع يعتبر من بلاد العرب الصحراوية، أما ما يصح أن يطلق عليه اسم بلاد العرب السعيدة فهو الجزء الجنوبي الغربي حيث بلاد اليمن التي كانت فيها حضارة معين وسبأ. (3) وصف بلاد العرب الطبيعي
يمكن بالإجمال وصف بلاد العرب بأنها هضبة مرتفعة لا يقل ارتفاع أي جزء فيها عن 1500 قدم عن سطح البحر.
وهذه الهضبة تنحدر انحدارين أحدهما نحو الغرب والآخر نحو الشرق، ويبدأ الانحداران من سلسلة جبال تقع في غرب شبه الجزيرة وتعرف باسم جبال السراة، وهي تمتد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب حيث تصل إلى أعلى ارتفاعها وهو عشرة آلاف قدم «أو أكثر من 3000 متر».
أما الانحدار الغربي فهو شديد، وتحصر سلسلة الجبال فيما بينها وبين ساحل البحر الأحمر واديا ضيقا متوسط عرضه خمسة عشر ميلا (نحو 29ك.م)، وأقصى اتساع له ثلاثون ميلا «نحو 57ك.م» تتخلله عدة وديان لا يستفاد منها، بل قد تعوق سير القوافل في بعض الأحيان.
وأما الانحدار الشرقي فهو انحدار تدريجي لا يكاد يلمس ويصحبه انحداران آخران أحدهما ناحية الشمال الشرقي، والآخر ناحية الجنوب الشرقي.
وهذا الوصف الذي ذكرناه يظل صحيحا اللهم إلا في الجنوب الشرقي حيث تبرز سلسلة من الجبال في عمان هي المعروفة باسم الجبل الأخضر يبلغ ارتفاعها نحو عشرة آلاف قدم أيضا «أو أكثر من 3000 متر».
وإذا استثنيت بلاد اليمن وعمان وبعض الوديان الواقعة في سلسلة الجبال الغريبة أمكننا وفي نجد والأحساء أن نصف بلاد العرب بأنها قفر مجدبة.
وتسقط الرياح الموسمية الجنوبية الآتية من ناحية الحبشة بعض الأمطار في بلاد العرب وتستفيد بلاد اليمن بأكبر قسط منها؛ إذ تصدها الجبال العالية، فيزرع هناك البن والحبوب والفاكهة، وفي الجهات التي هي أقل مطرا من هذه المنطقة تنبت أشجار الصمغ والبخور.
أما عمان فتحمل إليها الرياح الموسمية الشمالية الشرقية بعض الأمطار، وأما حضرموت فلا تستفيد من هذه الرياح الموسمية بسبب محاذاة جبالها لمهب الرياح.
وحيثما يسقط المطر في بلاد العرب ينبت الكلأ وتتيسر سبل الحياة، وفيما عدا ذلك فكل البلاد عبارة عن صحراء شاسعة بعثرت فوق أديمها بعض الواحات التي يوجد فيها بعض الماء، وتكثر فيها زراعة النخيل وبعض البقول وتحف بها بعض المراعي وتربط طرق القوافل هذه الواحات بعضها ببعض، وفي غير هذه الأماكن لا يقع بصرك على سكان.
والوصول إلى عمان ميسور من ناحية البحر حيث يعيش فريق من السكان على صيد الأسماك والغوص على اللؤلؤ في الخليج الفارسي، أما عن طريق البر فترتبط باليمن عن طريق شبوة ولكن الطريق طويل وشاق.
وتغطي الحشائش حافة الصحراء الجنوبية التي تفصل بين عمان واليمن وبينها وبين نجد.
وليس في بلاد العرب أنهار ولا غابات، وأقصى ما وصل إلى عملنا هو وجود بحيرتين أو ثلاث بحيرات صغيرات في منطقة الأحساء. «والأحساء والحساء - كما في كتب العرب - جمع حسى وهو موضع رمل تحته صلابة، فإذا أمطرت السماء على ذلك الرمل نزل الماء فمنعته الصلابة أن يغيض ومنع الرمل السمائم أن تنشفه فإذا بحث ذلك الرمل أصيب الماء».
وقد قسم الأستاذ فلبي
العالم الخبير ببلاد العرب شبه الجزيرة إلى ثلاثة أقسام رئيسية: (1)
قسم أوسط أو قلب هو عبارة عن صحراء صلبة فيها عدة وديان وواحات تقوم بأود عدد لا يستهان به من السكان المقيمين. (2)
دائرة كاملة من الكثبان الرملية تحيط بالقسم الأول وتتسع ناحية الشمال وناحية الجنوب. (3)
دائرة خارجية تطوق الثانية وبعض هذه الدائرة نجاد وبعضها وهاد وبعض أجزائها قفر عار والبعض الآخر منزرع وغاص بالسكان. (1)
أما القسم الأول فهو نجد. (2)
وأما القسم الثاني فإنه يشمل صحراء النفود الشمالية والدهناء والربع الخالي. (3)
وأما القسم الثالث فإنه يشمل مدين والحجاز وعسير واليمن وحضرموت وعمان والأحساء.
وتكون مرتفعات عسير واليمن وجزء من حضرموت ما كان يسميه الجغرافيون القدماء ببلاد العرب السعيدة، ومناخ هذه الأجزاء معتدل وأمطارها كافية وتربتها خصيبة.
وتنطبق هذه الأوصاف أيضا على عمان التي تروي ساحلها نهيرات تستمد ماءها من الجبل الأخضر، ولا يقل خصبها وإنتاجها عن أي جزء من الأجزاء السابقة؛ أما فيما عدا هذه الأجزاء فالغلبة للصحراء التي يبرقش أديمها في بعض الأحيان واحات يصل الخصب في بعضها - كالمدينة والحسا - إلى درجة عظيمة، وأما الربع الخالي فهو خلاء تكثر فيه الأعاصير الرملية ولا يقدر أحد حتى البدو على ارتياده. (4) تقسيم العرب لبلادهم
قسم معظم كتاب العرب بلادهم في أخبارهم وأشعارهم وغيرها إلى خمسة أقسام وهي:
اليمن والحجاز وتهامة «وتسمى أيضا الغور» ونجد واليمامة «وتسمى أيضا العروض»، وأضاف بعض الكتاب قسما سادسا هو البحرين «ويسمى أيضا هجر»، وهو في نظر بعض الكتاب جزء من اليمامة، وفي نظر آخرين جزء من العراق، وقصر بعض الكتاب التقسيم على قسمين فقط هما: اليمن والحجاز، وجعل القسم الثاني يشتمل على تهامة ونجد واليمامة، وذكر الهمداني في كتابه «صفة جزيرة العرب» - بعد أن شرح التفصيل الخماسي الأول - تفصيل هذه الجزيرة عند أهل اليمن فقال ما نصه:
هي عند أهل اليمن يمن وشأم؛ فجنوبها اليمن وشمالها الشأم، ونجد وتهامة؛ فالنجد ما أنجد منها عن السراة وظهر من رءوسها ذاهبا إلى المشرق في استواء دون ما يتمدد إلى العروض، وحجاز وهو ما حجز بين اليمن والشأم، وسراة وهو ما استوثق واستطال في الأرض حيال هذه الجزيرة مشبها بسراة الأديم، وعروض وهو ما أعرض عن هذه المواضع شرقا إلى حيث شمال المشرق، وعراق وشحر، فالعراق ما حاذى المياه العذبة والبحر من الأرض، مأخوذ من عراق الدلو، والشحر مأخوذ من شحر الأرض وهو سبخ الأرض ومنابت الحموض. ا.ه.
وسنتبع نحن التقسيم الأول؛ لأن إجماع الكتاب القدامى والحديثين يكاد ينعقد عليه، ولأنه أكثر انطباقا على الحالة الطبيعية لشبه الجزيرة، وهذا بصرف النظر عن أن جغرافي العرب لم يحددوا هذه الأجزاء بحدود ثابتة.
وسنعالج فيما يلي كل قسم من هذه الأقسام الخمسة: (4-1) اليمن
وكان يسميها الأقدمون بلاد العرب السعيدة واليمن الخضراء. قال الهمداني: «وسميت اليمن الخضراء لكثرة أشجارها وثمارها وزروعها.»
وأما سبب تسميتها باليمن ففيه قولان؛ قول يقول: لأنها تقع إلى يمين الكعبة، وآخر يقول: لأنها بلاد اليمن والخير والبركة.
وهي تمتد على طول المحيط الهندي، ويحدها البحر الأحمر من ناحية الغرب، والحجاز من الشمال، وفيها التهائم والنجد.
وتتكون بلاد اليمن من عدة أقسام صغرى، أهمها: حضرموت وشحر وعمان ونجران، وتنفرد شحر من هذه الأقسام بإنتاج البخور، وأهم مدن اليمن صنعاء، وهي مدينة قديمة جدا ذات موقع ممتاز.
ولبلاد اليمن شهرة قديمة بسبب جودة مناخها، وخصوبة تربتها وغناها، ولقد ذكر «استرابون» أن أوصافها هذه أغرت الإسكندر المقدوني بفتحها، إلا أنه أرجأ هذا الفتح إلى ما بعد عودته من حملة الهند، ولكن المنية عاجلته في بابل فلم ينفذ تصميمه.
على أن فريقا من المستشرقين، يعتقد أن ما نسب إلى اليمن من غنى وخصب مبالغ فيه، وأن معظم الحاصلات التي كان يظن أن بلاد اليمن هي مصدرها، إنما كان يستجلبها العرب والمصريون الذين كانوا يحتكرون التجارة في البحر الأحمر، من جزائر الهند وسواحل أفريقيا الشرقية، وأنهم كانوا يخفون هذا عن جيرانهم، حتى لا يزاحموهم في الحصول عليها من هذه الأنحاء.
ويرجع ازدهار اليمن وخصبها إلى الجبال التي تقع في داخلها، والتي تصد الرياح الموسمية فتسبب الأمطار التي تجعل أرض اليمن تجود بالبن أهم حاصلاتها وبالفاكهة والقمح والأعناب والتوابل.
وليس في بلاد اليمن أنهار مهمة؛ لأن السيول التي تنزل من الجبال قل أن يصل مجراها إلى البحر؛ إذ تتشربها رمال الصحراء المحرقة. (4-2) الحجاز
وسمي حجازا لأنه يفصل ما بين نجد وتهامة، أو لأنه يحجز بين اليمن والشام، وهو سلسلة جبال السراة الممتدة من أقصى اليمن إلى الشام.
وأهم مدن الحجاز مكة والمدينة، وتشتهر الأولى بوجود الكعبة المقدسة فيها، وبأنها مكان ولادة النبي
صلى الله عليه وسلم ، وتشتهر الثانية بأنها موطن هجرته عليه الصلاة والسلام، وبأن ترابها ضم جثمانه الطاهر.
ويرى فريق من المؤرخين أن مكة - وتسمى أيضا بكة - من أقدم مدن العالم، وكانت تعرف عند اليونان باسم مكوربا
Macoraba ، ويميل فريق من المستشرقين إلى الظن بأنها ميشا
Mesha
التي ورد ذكرها في الآية 30 من الإصحاح 10 من سفر التكوين، ويبلغ طول مكة من الشمال إلى الجنوب نحو ميلين وعرضها نحو ميل، وهي مبنية بالحجارة المقطوعة من الجبال المجاورة، وليس في مكة عيون يصلح ماؤها للشرب، وحتى زمزم فإن ماءها يميل إلى الملوحة ويؤذي الذين يكثرون من شربه، ومن أجل ذلك اضطر المكيون إلى خزن مياه الأمطار في أحواض ليستقوا منها، كما حاولوا أن يجروا الماء إليها في قنوات مشيدة، ويروي لنا التاريخ أن الزبير من صحابة النبي عليه السلام أنفق كثيرا في محاولته جلب الماء من جبل عرفات، ولكنه أخفق، والأرض المحيطة بمكة قفر في مجموعها، ولذلك كان المكيون من قديم الزمان يستجلبون الميرة من جهات أخرى، وهذا هو الذي حدا بهاشم زعيم مكة والجد الأكبر للنبي عليه السلام إلى أن يحكم نظام رحلتي الشتاء «إلى اليمن» والصيف «إلى الشام» اللتين ورد ذكرهما في القرآن في سورة قريش، وكان ما تجلبه القوافل من ميرة يوزع مرتين في العام، الأولى في رجب والثانية عند وصول الحجاج، وعدا هذا فقد كان يصل إلى مكة الثمر من بعض المناطق المجاورة، والأعناب من الطائف التي تبعد عنها نحو ستين ميلا، وأهل مكة أغنياء، مصدر غناهم التجارة التي تروج سوقها في موسم الحج.
وسنرجئ الكلام عن الكعبة إلى موضع آخر.
أما المدينة وتعرف أيضا بطيبة، وكانت تعرف قبل هجرة النبي إليها باسم يثرب «ولعل هناك صلة تربط ما بينها وبين مدينة إتريبس المصرية القديمة» فهي تلي في الأهمية مكة، وتبلغ في المساحة نحو نصفها، وهي بيضية الشكل، تحيط بها أسوار بها ثلاثة أبواب، وتقع بين حرتين من حرات جبل السراة، ويصل الماء إليها من قباء التي تقع على بعد ثلاثة أرباع الميل إلى الجنوب منها، وفي فصل المطر تنهمر السيول من الجبال المجاورة إليها ومن أجل ذلك كانت المنطقة المحيطة بها أكثر خصبا من مكة وإلى الشمال منها يقع جبل أحد المشهور. (4-3) تهامة ونجد والعروض (أ)
أما تهامة فإنها سميت تهامة من التهم، وهو شدة الحر وركود الريح، ويقال لها الغور أيضا لانخفاض أرضها، وهي تطلق على الأرض الممتدة من غرب جبال السراة إلى ساحل البحر الأحمر، وفيها كان يجري طريق القوافل الغربي الذي يمتد متاخما لساحل البحر الأحمر، ومعظم مدنها في الوقت الحاضر ثغور، أهمها جدة التي بناها عثمان بن عفان وهي فرضة مكة، وينبع وهي فرضة المدينة. (ب)
أما نجد فسميت نجدا لارتفاع أرضها، وهي تشمل المنطقة التي تلي الحجاز من الشرق وتمتد إلى الخليج الفارسي، وحدودها ليست معروفة تماما في كتب العرب الجغرافية لكثرة الأقوال وتعدد الآراء وهي ليست قاحلة تماما كما يتصورها معظم الناس، وهي تشتهر بمراعيها الجيدة التي تربى عليها أجود الخيول التي تشتهر بها بلاد العرب. (ج )
أما العروض وتعرف باليمامة، فسميت عروضا لأنها تعترض ما بين نجد واليمن، وسميت يمامة نسبة إلى اليمامة وهي أشهر بلد فيها، وكانت تسمى أيضا جو وهو الاسم القديم لليمامة، وينتظم هذا القسم عدا اليمامة بلاد البحرين، ويقال لبلاد البحرين أيضا هجر، ويطلق على الجزء الشمالي منها اسم الأحساء، ذكر الأستاذ «هل» الألماني في كتابه حضارة العرب أن بلاد نجد واليمامة كانتا تسدان حاجة العرب من القمح، كما كانتا في القرنين السادس والسابع لا تقلان عن أراضي أوروبا المنزرعة اليوم، بل ربما كانتا تبزانها خصبا في كثير من البقاع.
هذه هي أقسام بلاد العرب في نظر جغرافييهم، وإتماما للفائدة نعرض في الفقرة التالية لبعض التفصيلات الطبوغرافية الهامة التي قد يصادفها كثيرا الباحث في تاريخ العرب. «والطبوغرافية هي فن وصف الأماكن.» (5) بعض تفصيلات طبوغرافية (5-1) بادية الشام
وهي تشمل المنطقة المثلثة الشكل الواقعة فيما يلي خط 30
من شمال شبه الجزيرة، وهي تتبع من الناحية السياسية شرق الأردن وسوريا والعراق وإن كانت من الناحية الطبيعية تعتبر جزءا من بلاد العرب، وتعرف هذه الصحراء أيضا باسم بادية السماوة، وهي في ناحيتها الغربية صحراء بها حجارة صوانية سوداء تفصل منحدرات مؤاب وإيدوم عن منخفض وادي سرحان الذي يمتد إلى الجنوب الشرقي، والذي تكثر به بحيرات الملح كما يكثر به النخيل الذي يستغله سكان المنطقة المجاورة، وفي طرف هذا الوادي تقع مدينة الجوف الغنية بنخيلها، وهي تقع في الموضع الأصلي لدومة الجندل. (5-2) النفود الشمالية
وتقع إلى الجنوب من الجوف صحراء النفود الكبرى، ويبلغ طولها من الغرب إلى الشرق نحو 400 ميل ومتوسط عرضها نحو 200 ميل، وهي في الغالب عديمة الماء، وفي الأشتاء الممطرة تكثر بها المراعي فإذا جاء الربيع انتجعها البدو بإبلهم، وتكثر في صحراء النفود الكثبان المرتفعة ذات الرمل الدقيق التي تتحرك مع الريح، وأشهرها الكثبان التي توجد في منطقة الفلج . (5-3) الدهناء
وتختلف عن النفود في أن متوسط عرضها 30 ميلا، وأن طولها يبلغ من الشمال إلى الجنوب 400 ميل، وتكثر بها التلال الرملية التي يبلغ ارتفاع الواحد منها 200 أو 300 قدم، ورمل هذه التلال أحمر وليس فيه أي أثر للنبات، ولا ترى هذه التلال في جنوب الدهناء، وإذا سقطت الأمطار ظهرت المراعي، وعند ذلك يؤمها البدو كحالهم في النفود، وتخترق الدهناء من الشمال في 13 ساعة على الإبل وفي ست ساعات من جهة الأحساء، وذكر مؤلف جزيرة العرب في القرن العشرين أنه قطعها إلى نجد في 3 ساعات بالسيارة، كما ذكر أن بعض الجهات لا ترى فيها غير الرمال المرتفعة التي تكاد تبتلع المارة لنعومتها وعدم تماسكها فيتجنبها المسافرون ابتغاء سلامة أرواحهم وأموالهم. (5-4) الربع الخالي
ويسمى أيضا صحراء الجنوب، هو منطقة لم يطأها قدم مستكشف إلا منذ نيف وعشر سنوات؛ حيث نجح برترام توماس في اختراقها في 58 يوما من بحر العرب إلى الخليج الفارسي، واكتشف في أثناء رحلته بحيرة من الماء الملح طولها سبعة أميال؛ وقد قطعها من بعده «عبد الله فلبي»، ويرجح أنها صحراء ذات حصا وحجارة جيرية، وأنها عامرة بالكثبان الرملية المرتفعة مثل النفود الشمالية والدهناء، وطرفها الجنوبي الغربي يسمى بالأحقاف وهو المنطقة التي يظن أنها تضم آثار عاد البائدة، وتربي قبائل بني مرة وغيرها إبلهم في بعض أطرافها «كجنوبي نجد وأطراف عمان وحضرموت واليمن» حيث تكثر البرك والمستنقعات الملحة، وتشرب إبلهم الماء الملح بينما يشرب المربون أنفسهم ألبان الإبل. (5-5) الوديان
ذكر الأستاذ حافظ وهبه في كتابه جزيرة العرب في القرن العشرين أنه:
لا يوجد في بلاد العرب أنهار بالمعنى المعروف، ولكن بعض مجار أو نهيرات صغيرة دائمة في عسير واليمن وجهات عدن والأحساء، وعمان ونجد، ووديان لأعداد لها مما تجري فيها المياه إبان المطر، وهي في الغالب طويلة وغير عميقة، وأطول هذه الوديان وادي الرمة الذي يبدأ قريبا من المدينة ويمر في القصيم ثم إلى شط العرب، ووادي حنيفة الذي يبدأ في منحدرات جبل طويق الغربية إلى اتجاه الخليج الفارسي «وهو لا يصل إليه» فهذان الواديان يمكن أن يعبر مجراهما أثناء فيضانهما الواطئ والمتوسط بدون صعوبة، وفي بعض الأماكن كما في القصيم «وادي الرمة» والخرج ووادي حنيفة تعلو المياه سطح الأرض وهنالك تتكون الواحات.
أما الوديان التي تتجه نحو البحر الأحمر، فإنها ذات مجرى أعمق وأكثر انحدارا، وهي تكاد تكون معدومة النفع، وهي عقبة في سبيل المرور من الشمال إلى الجنوب، وهي لا تكون واحات مثل مياه الأودية الأخرى بسبب ما تجلبه المياه في انحدارها من الأتربة وغيرها مما يتراكم بعضه فوق بعض بسرعة، بحيث لا تستطيع حرارة الشمس أن تؤثر في صلابته، ووديان غربي اليمن ومنطقة قسم البحر الأحمر من هذا النوع من مدين إلى حضرموت. (5-6) الجبال
يرد في الأدب العربي وفي كتب التاريخ ذكر الكثير من جبال بلاد العرب نذكر بعضها فيما يلي: (1)
جبل شمر: وهو إلى جنوبي النفود الشمالية، وتنحدر إليه المياه من جبلي طي الشهيرين «أجا وسلمى» اللذين يمتدان من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي، ويبلغ ارتفاع جبل أجا أكثر من 5000 قدم. (2)
الجبل الخضر: وهو أعلى جبال الهضبة التي تقع في نهاية الجنوب الشرقي. (3)
جبل طويق: ويقع في الوسط الشرقي ويبلغ ارتفاعه 600 قدم. (4)
جبل السراة أو بالحرى سلسلة جبال السراة: وهي تمتد من الشمال إلى الجنوب على مقربة من الساحل الشرقي حيث بلاد الحجاز، وليست السراة جبالا مصمتة بل تتخللها عدة منخفضات تصل ما بين الشرق والغرب، والسراة كثيرة الحرار «وهي الحجارة النخرة السوداء وتكثر في المناطق الغربية والوسطى من شبه الجزيرة وتمتد حتى تصل إلى حوران الشرقية» وتقع المدينة بين حرتين، وخيبر إحدى الحرات، وإلى إحدى هذه الحرات وهي حرة واقم التي تقع إلى الشرق من المدينة المشهورة تنسب واقعة الحرة المشهورة. (5)
جبال مكة وهي مشهورة: أهمها جبل أبي قبيس في جنوبها، وجبل قينقاع في غربها، وجبل حراء ويشرف على مكة من الشرق، وفيه كان يتعبد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وجبل ثور ويشرف عليها من الجنوب، وفيه الغار الذي اختفى فيه عليه السلام ومعه أبو بكر. (6)
جبل رضوى: وهو جبل بين المدينة والبحر الأحمر. (5-7) طرق القوافل
وتسمى المحاج، واحدتها محجة، والجواد، واحدتها جادة، كان يتخذها جغرافيو العرب أساسا لتحديد مواضع البلدان فيقولون: البلدة الفلانية على جادة البصرة أو الكوفة، وقد فصل هذا الجواد الهمداني في كتابه «صفة جزيرة العرب» وبين منازلها وما بين كل منزلتين من الأميال، كما أوضحها أيضا ابن خرداذبة في كتابه «المسالك والممالك».
وذكر الدكتور هيكل باشا في كتابه «حياة محمد» أن «شبه الجزيرة كانت تموج بطرق القوافل، على أن طريقين منها كانا رئيسيين، فأما أحدهما فيتاخم الخليج الفارسي ويتاخم دجلة ويقتحم بادية الشام إلى فلسطين، ويصح لمجاورته لحدود البلاد الشرقية أن يسمى طريق الشرق.
وأما الآخر فيتاخم البحر الأحمر، ويصح لذلك أن يسمى طريق الغرب، وعن هذين الطريقين كانت تنقل مصنوعات الغرب إلى الشرق ومتاجر الشرق إلى الغرب، وكانت تجلب إلى البلاد أسباب الرخاء والرفاهية.»
وتتخلل شبه الجزيرة طرق قوافل مستعرضة، تمتد في الغالب من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي، متجنبة المناطق الصحراوية، ومتتبعة الوديان الجافة، أو الواحات الوسطى. (6) جيولوجية بلاد العرب
يشبه التكوين الجيولوجي لبلاد العرب إلى حد كبير التكوين الجيولوجي لبلاد مصر، وأقدم الصخور فيها من الجرانيت وصخر الشيست، وتغطي هذه الصخور طبقات رسوبية، تبدأ من الخرسان «الحجر الرملي» النوبي عند بطرة، وتمتد إلى الجوف فالحجاز في الجنوب.
وتوجد طبقات رسوبية أحدث من هذه عند وادي سرحان، وأطراف الصحراء التي تكتنف العراق، ويظهر الجرانيت عند جبل شمر في نجد وفي المرتفعات الغربية، والمخاريط البركانية عديدة، ولقد روى التاريخ حدوث انفجار بركاني في سنة 1256 ميلادية بالقرب من المدينة، ويتكون الشطر الأكبر من جنوب بلاد العرب من صخور كلسية ترجع إلى العصر الجيولوجي الثالث «الكاينزوي»، وعند عدن نجد بركانا خامدا، كما نرى بجوار مضيق باب المندب بعض الصخور البركانية وانثناء الطبقات الرسوبية في بلاد العرب لطيف، ولكن العيوب الجيولوجية في الطبقات كثيرة الحدوث وخليج العقبة مثال واضح من هذه العيوب، أما منخفض البحر الأحمر فتكتنفه العيوب الجيولوجية على طوال شاطئيه، ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى الينابيع الحارة التي تكثر في منطقة الأحساء، ولا الينابيع العميقة في الخرج والأفلاج. (7) مناخ بلاد العرب
إذا نظرنا إلى بلاد العرب على اعتبار أنها قريبة من خط الاستواء، وأنها إقليم قاحل، فإننا نعدها من الأقاليم الحارة في العالم، ولكن حرارتها مع ذلك لا تقارن بحرارة بعض البلاد الأخرى كصحراء السند وبلاد العراق، وقد سجلت أقصى درجات الحرارة في نجد، فوجد أنها لا تزيد عن 112 °
فارنهيت «نحو 45 °
مئوية»، ووجد أن أدنى درجة حرارة هي 18 °
فارنهيت وهي دون درجة التجمد، وقد سجلها في الحائل أحد العلماء سنة 1893، وتمتاز الأقاليم الوسطى بمناخ صحي بسبب جفاف الجو، وبخاصة عندما يهب نسيم الشمال المنعش، ولكن حرارة الجو تزداد عندما تهب رياح من الجنوب، والجو عند السواحل على وجه العموم أقل حرارة منه في قلب الجزيرة؛ إذ لا يزيد متوسط درجة الحرارة عن 95 °
فارنهيت، وتتمتع عمان بجو معتدل لا تطرف فيه، ولكن منطقة مدين تشتد فيها البرودة في الشتاء لدرجة يسقط معها البرد.
وإذا استثنينا بلاد اليمن التي تقع في منطقة الرياح الموسمية، والتي تنزل أمطارها في شهور الصيف، وبلاد عمان التي يسقط فيها المطر «وفي بعض الأحيان البرد» أمكننا أن نقرر أن بلاد العرب بلاد عديمة الأمطار أو قليلتها، ولا يتجاوز ما يسقط من المطر في عدن وعلى ساحل البحر الأحمر في العام 3 بوصات، وإذا أمطرت السماء في هذه الجهات أمطرت وابلا، ولكنه لا يستمر إلا بضع ساعات، وينزل بعض المطر في قلب الجزيرة وفي المناطق الواقعة إلى الغرب منه في فصل الشتاء، كما تمطر السماء قليلا على هذه الجهات في شهر أغسطس أو سبتمبر، وتقاسي مساحات شاسعة في بلاد العرب وبخاصة في الغرب والجنوب من الجفاف، ولكن ما ينزل من الأمطار على وجه العموم يكفي لأن يجعل الصحراء تزدهر في فصل الربيع، ويساعد الواحات على إنتاج شيء من الزرع، وحظ جبال الحجاز وافر في الغالب من الأمطار، وتمتاز الطائف بأنها تقع عند المرحلة النهائية التي تصل إليها الرياح الموسمية في سيرها شمالا.
وأما الصحراء الجنوبية فربما لا يصيبها الرذاذ ساعة واحدة كل ثلاث أو أربع سنوات.
أما بلاد حضرموت فلا تسقط فيها أمطار؛ لأن شواطئها توازي الرياح الموسمية في هبوبها، والرياح السائدة في شمال بلاد العرب إما شرقية أو غربية، وتحمل الأخيرة منها الأمطار من ناحية البحر الأبيض المتوسط وتجتاز بها فلسطين، وفيما عدا هذه المنطقة تتبادل الرياح الشمالية والرياح الجنوبية الهبوب على بلاد العرب، فأما الجنوبية فتحمل ما تحمل من أمطار في الشتاء، كما تحمل لفحات الحر في الصيف، وأما الشمالية فإنها في الغالب تلطف الجو. (8) نبات بلاد العرب
دلت الأبحاث العلمية التي قام بها علماء النبات في جهات متعددة من بلاد العرب، على أن نباتات بلاد العرب تمت بصلة إلى نباتات أفريقيا أكثر من صلتها بنباتات آسيا الجنوبية.
تنبت في هذه البلاد أنواع مختلفة من التين والتمر الهندي والخرنوب، كما تكثر غابات العرعر في بلاد اليمن وعسير ومدين.
ويزدهر نخيل البلح ازدهارا في كل مكان، وينتج أنواعا من أحسن أنواع البلح في العالم، وتعتبر النخلة ملكة الأشجار العربية، وقد ذكر كتاب العرب القدامى أكثر من 100 صنف من البلح، وتنمو أشجار الأثل في كثير من المناطق الصحراوية، كما تغرس في بعض الأحيان على شكل أسوار حول المزارع لتمنع طغيان الرمال المتحركة من اتلاف الزرع، وفي معظم الواحات تزرع الأعناب والخوخ والبرقوق والرمان والتين.
ويزرع البرتقال والسفرجل في المناطق المرتفعة، والموز في بعض الوديان الصالحة نحو الجنوب.
ومن الحبوب تزرع أنواع عدة أهمها القمح والشعير والذرة والدخن، وفي بعض أقاليم الحجاز يزرع البطيخ، كما يزرع بكثرة في جهات عدة الفجل والخيار والبصل، وتشتهر الطائف وغيرها من الجهات المرتفعة بزراعة الورد الذي يستخرج منه عطر الورد بكميات محدودة، كما تزرع بعض الأزهار ذات الروائح الزكية كالياسمين لنفس الغرض.
أما البن فيقال إنه أدخلت زراعته إلى اليمن من بلاد الحبشة حوالي القرن الرابع عشر الميلادي، وإن زراعته صادفت نجاحا باهرا في سفوح بلاد اليمن وعسير التي يتراوح ارتفاعها بين 4000-7000 قدم، والتي تواجه البحر، وتزرع أشجاره في صفوف الواحد منها تلو الآخر، وهي تروى مرتين كل شهر، وتثمر بعد مدة تتراوح بين عامين وأربعة أعوام، ثم يجفف الثمر في الشمس ويرسل بعد ذلك حبوبا إلى الحديدة وعدن، حيث يصدر منهما بكميات هائلة، ويصنع من قشره المتخلف بعد تجفيفه شراب يسمي القشير، يشربه الناس في اليمن وجنوب نجد، وتكثر زراعة التبغ في حضرموت، وتكثر أشجار الصمغ العربي في الصحراء، ويستخرج المر على مقربة من صنعاء في اليمن.
ولا تزال شجرة البخور التي كانت أهم سلعة في الحياة التجارية الأولى لبلاد العرب الجنوبية، تزرع على المرتفعات الموازية للساحل الجنوبي، وخاصة في مهرة والشجر. (9) حيوان بلاد العرب
أشهر أنواع الحيوان البري الأسد والفهد والنمر، والضبع والثعلب والذئب، وابن آوى والوعل واليربوع، وبقر الوحش وحمار الوحش والخنزير، والأرنب والغزلان والظباء.
ومن الحيوان المستأنس الإبل والخيل والشاء، والماعز والحمير والبقر والجاموس، والبغال والقردة والنسانيس والكلاب.
وفي بلاد العرب من الطيور النعام والقطا والحجل والكروان، والغراب والبجع والرخم، والهدهد والنسر والحدأة.
ومن حشراتها السامة الثعبان والعقرب والرتيلاء «أبو شيت».
وخيل نجد من أجود أنواع الخيل في العالم، ولكن الاعتماد عليها أصبح الآن ضعيفا بسبب استعمال البنادق، وبسبب انصراف التجار في سوق الخيل ببمباي عن شرائها وكانوا من أكبر عملاء نجد، وكان اقتناء الخيول من الكماليات، وكان العرب يعتمدون عليها في غزوهم بسبب سرعتها.
وأهم الحيوانات المستأنسة في بلاد العرب الجمل؛ والجمل العربي ذو سنام واحد وهو - على حد تعبير دائرة المعارف البريطانية - أكثر أرستقراطية من جيرانه إبل الممالك المجاورة؛ وأحسن الإبل العربية هو الذي يقوم بتربيته بنو مرة على حافة الربع الخالي، والجمل المري - شأن غيره من الإبل النبيلة - شديد الاحتمال كثير الصبر على الجوع والعطش لمدة طويلة، رغم سرعته في السفر، ولكنه لا يخمل أكثر من 300 رطل ولا يقطع في السير المستمر أكثر من ثمانية أميال في الساعة، والإبل الأصيلة تصبر على العطش في الصيف ثلاثة أو أربعة أيام، إذا كانت تقطع في اليوم الواحد 25 ميلا، أما في فصل الربيع حين تزدهر المراعي فإنها تصبر على العطش شهرا.
ولقد كان الجمل من العوامل التي سهلت الفتوح الإسلامية الأولى، ولقد صدق الخليفة عمر حين قال : «لا يصلح العرب إلا حيث تصلح إبلهم.»
الفصل الثالث
الشعب العربي
(1) أقسام العرب
يكاد ينعقد الإجماع بين جمهور المؤرخين على إرجاع الشعوب العربية إلى ثلاثة أقسام كبرى، يسميها بعض المؤرخين طبقات هي: (1)
العرب البائدة. (2)
العرب العاربة. (3)
العرب المستعربة.
ويقتصر بعض المؤرخين على تقسيمهم إلى قسمين فقط: (1)
عرب بائدة؛ وهي التي هلكت واندثرت أخبارها قبل الإسلام. (2)
وعرب باقية؛ وهي التي ينتسب إليها العرب الذين عاشوا بعد الإسلام والذين يكونون الشعب العربي الحالي.
وأصحاب هذا التقسيم الثاني يعودون فيرجعون العرب الباقية إلى فرعين عظيمين: (1)
عرب عاربة أو عرباء أو قحطانية أو عرب الجنوب التي سكنت اليمن، والتي يرجع مؤرخو العرب نسبها إلى يعرب بن قحطان بن عابر من سلالة سام بن نوح عليه السلام. (2)
وعرب مستعربة أو متعربة أو عدنانية أو عرب الشمال، وهي التي سكنت الحجاز في عصر متأخر عن عصر سكنى القحطانية اليمن، ويرجع مؤرخو العرب نسبها إلى معد بن عدنان من سلالة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
وظاهر أن الخلاف في التقسيمين شكلي بحت؛ لأن النتيجة في الحالين واحدة.
ولكن جمهرة المؤرخين المستشرقين يتبعون في كتابتهم التقسيم الثاني، ويعتقدون أن ما يسمى بالعرب البائدة ليس من التاريخ الحقيقي في شيء، إنما هو جزء من الميثولوجيا العربية أو التاريخ الأسطوري، الذي يسبق عادة التاريخ الحقيقي لكل أمة، وهم إذا عالجوا بعض قبائل العرب البائدة في كتبهم فإنما يعالجونها على هذا الأساس فحسب.
وقد ذكر مؤرخو العرب أسماء كثير من قبائل العرب البائدة مثل طسم وجديس وأميم وعبيل وعمليق وجرهم وجاسم ووبار، ورووا عن بعضها قصصا هي أشد شبها بالخرافات منها بالتاريخ الحقيقي.
وانفرد القرآن الكريم بذكر قبيلة عاد، التي كانت تسكن الأحقاف في الجنوب، وذكر نبيها هودا عليه السلام، وكذلك ذكر قبيلة ثمود التي كانت تسكن الحجر في الشمال، وذكر نبيهم صالحا عليه السلام ، وذكرتها أيضا المراجع اليونانية.
وأماطت الكشوف الحديثة التي نمت في أواخر القرن الماضي اللثام عن وجود دولة لم يعرف مؤرخو العرب عنها شيئا، ولم يذكروها بتاتا في كتبهم وإن كان قد أشار إليها بعض مؤرخي اليونان والرومان إشارات ليس فيها غناء ونقصد بها دولة معين، التي سبقت حضارتها دولة سبأ القحطانية.
والمؤرخون جميعا، القدامى منهم والمحدثون، يجمعون على إرجاع العرب إلى أم واحدة هي السامية، بل ويرون كما بينا في فقرة [موطن الجنس السامي الأول وهل هو بلاد العرب] أن بلاد العرب نفسها كانت المهد الأول للجنس السامي.
وسيعالج هذا الكتاب تاريخ الشعب العربي متبعا إلى حد كبير، وفي شيء من التحفظ، التقسيم الثاني الذي وضعه مؤرخو العرب، والذي أشرنا إليه في صدر هذه الفقرة لأسباب ستتبينها في ثنايا الكلام عن كل قسم. (1-1) العرب البائدة
لم تتعرض التوراة لذكر عاد وثمود وطسم وجديس وغيرها من قبائل العرب البائدة ما عدا عمليق، فقد وردت الإشارة إليهم في بعض أسفار التوراة كسفر التكوين والخروج والمزامير وغيرها، على أنهم كانوا من أعداء بني إسرائيل.
أما عاد وثمود فقد انفرد القرآن الكريم بذكرهما، ولما كانت الكشوف الحديثة قد أيدت بعض ما جاء في القرآن عن ثمود ومساكنهم، كما أن كثيرا من العلماء يرجحون أن تحت كثبان الرمل في الأحقاف والمنطقة المجاورة، آثارا لم تكشف بعد لأن هذه المنطقة كانت خصبة، بسبب ما كان يصلها من الأمطار الموسمية؛ وإذا فلا سبيل إلى إنكار وجودها كما يفعل بعض المستشرقين.
أما طسم وجديس وبعض القبائل البائدة الأخرى، فنحن لا نستطيع أن نتعرض لإثبات وجودها أو نفيه، ما دامت المراجع التي بأيدينا لا ترجح إحدى الكفتين، وإن كنا نميل الميل كله إلى أن ما كتب عنها لا يعدو أن يكون جزءا من التاريخ الأسطوري لبلاد العرب.
ويجمل أن نشير هنا إلى أن لفظ «بائدة» أطلق عليها عند تدوين التاريخ بعد الفتح الإسلامي وعدم وجود أحد من العرب ينتسب إليها.
عاد
انفرد القرآن الكريم بذكر عاد ونبيهم هود عليه السلام، فورد ذكرهما عدة مرات في السور الآتية: (1)
الأعراف 7، آية 65-72. (2)
هود 11، آية 50-60. (3)
المؤمنين 23، آية 31-42. (4)
الشعراء 26، آية 123-140. (5)
فصلت 41، آية 85-86. (6)
الأحقاف 46، آية 21-26. (7)
القمر 54، آية 18-21. (8)
الحاقة 69، آية 6-8. (9)
الفجر 89، آية 6-8.
وتدل هذه الآيات القرآنية على أن قوم هود استكبروا في الأرض بغير الحق، واعتزوا بقوتهم، فأرسل الله إليهم رسله لينهوهم عن عبادة الأوثان، وينذروهم عذاب يوم عظيم، وكان آخر من أرسل إليهم هودا عليه السلام، فكذبوه فعاقبهم الله تعالى بأن أرسل عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر، سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما، فأبادتهم فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم.
وكانت هذه القبيلة تسكن أرض الأحقاف، التي تقع إلى الشمال الشرقي من حضرموت في جنوب الربع الخالي.
ولا نستطيع أن نحدد - لا بالضبط ولا على وجه التقريب - الزمن الذي عاشت فيه عاد، ولا الوقت الذي بادوا فيه؛ إذ يرى فريق من المؤرخين أنهم بادوا بعد بناء إبراهيم للبيت، بينما يرى آخرون غير ذلك، وفي رأينا أن كل تحديد لا يعدو أن يكون حدسا وتخمينا غير مبني على أساس علمي.
ولم يكشف النقابون عن شيء من أخبارهم، وغاية ما ذكروه أنهم عثروا في الأحقاف على مقابر محفورة في الصخور التي تراكمت عليها طبقة كثيفة من الرمال، وليس في هذا كبير غناء كما ترى (راجع الرحلة الحجازية للبتنوني) وطبيعي أن هودا وفريقا ممن آمن به أفلتوا من الدمار، ويقول مؤرخو العرب: إنهم هم الذين يسمون بعاد الثانية، وإنهم أسسوا دولة جديدة، يختلفون في مقرها، هل كانت باليمن أم كانت بمكة؟ (راجع الجزء الأول من تاريخ الطبري وابن الأثير)، أما هود فيقولون: إنه عاد إلى حضرموت ثم مات هناك، ولا تزال قرية من قرى حضرموت إلى الوقت الحاضر تسمى قبر هود.
ولقد أسرف فريق من المؤرخين والمفسرين في الاستنتاج مما ورد في بعض آي القرآن الكريم، ومن أمثلة ذلك أن فريقا من المفسرين والمؤرخين اعتمد على قوله تعالى في سورة الأعراف الآية 69:
واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون
فنسب إلى عاد أنهم كانوا في هيئات النخل طولا، وكانوا في اتصال الأعمار وطولها بحسب ذلك من القدر، إلخ.
وفي هذا تحميل للآية الكريمة أكثر مما تحتمل، يشبه ما كانت توصف به فراعنة مصر من الضخامة والطول مما كذبه الواقع بعد كشف مومياتهم، ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن قوم هود كانوا يتميزون بضخامة لا تزيد على ما يتميز به بعض الأفراد والعشائر بيننا الآن من بسطة في الخلق.
والآن وقد أبنا ما يمكن أن يستخلص في حدود النصوص القرآنية من تاريخ عاد يجمل بنا أن نذكر بعض ما ورد في كتب المؤرخين المسلمين عن هذه القبيلة مما حدا ببعض المستشرقين إلى اعتبار تاريخها من الميثولوجيا. (أ) عاد في كتب العرب
ورد في الجزء الأول من كتاب «مروج الذهب للمسعودي»: «أن عادا كان رجلا جبارا عظيم الخلقة وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وكان عاد يعبد القمر، وذكروا أنه رأى من صلبه أربعة آلاف ولد، وأنه تزوج ألف امرأة وعاش ألف سنة ومائتي سنة ثم مات، وكان الملك بعده في الأكبر من ولده وهو شديد بن عاد وكان ملكه 850 سنة وقيل غير ذلك، ثم ملك أخو شداد بن عاد وكان ملكه 950 سنة، ويقال إنه احتوى على سائر ممالك العالم وهو الذي بنى مدينة إرم ذات العماد ... إلخ.»
ومدينة إرم ذات العماد هذه تحتل مكانا، أسرف خيال مؤرخي العرب فيه إسرافا شديدا، فلقد روى ياقوت والمسعودي وغيرهما أن هذه المدينة بناها شداد بن عاد، لينافس بها قصور الذهب والفضة في الجنة التي تجري من تحتها الأنهار، وقالوا إنه كتب إلى عماله أن يجمعوا ما في أرضهم من الذهب والفضة والدر والياقوت والمسك والعنبر والزعفران فتوجهوا به إليه، ثم استخرج غواصوه الجواهر فجمعوا أمثال الجبال، وأنه أمر بالذهب فضرب أمثال اللبن، ثم بنى - بذلك اللبن من الذهب وبلبن مثله من الفضة - المدينة، وفصص حيطانها بالدر والياقوت والزبرجد، ثم جعل لها غرفا من فوقها غرف، تعتمد على أساطين من الزبرجد والياقوت، ثم أجرى تحت المدينة واديا طليت حافته بالذهب الأحمر، وجعل حصاه أنواع الجوهر، وبنى بالمدينة 300 ألف قصر، وجعل على بابها مصراعين من ذهب مفصصين بأنواع اليواقيت، وجعل ارتفاع البيوت في المدينة 300 ذراع، وبنى خارج السور كما يدور 300 ألف منظرة بلبن الذهب لينزلها جنوده ومكث في بنائها 500 عام.
ويذكر بعض المؤرخين مبالغات تشبه هذه في مصير المدينة، فمنهم من يذكر أنها بعد أن تم بناؤها لم يسكنها عاد؛ لأنها طارت في السماء، وأن بعض الناس يلمحونها وهي طائرة، ومنهم من يقول: إنها لا يراها إلا من شاء الله له ذلك، ويروون أن رجلا يسمى عبد الله بن قلابة رآها في أيام معاوية بن أبي سفيان، وأن معاوية استدعاه ليعرف جلية الخبر، فأخبره أنه بينما كان يبحث في الصحراء عن بعير ضل منه، إذا به يجد نفسه فجأة أمام باب المدينة، وأنه دخلها فوجدها خاوية على عروشها، فأخذه الذعر فخرج، ولم يحتمل منها إلا بعض الحجارة الصغيرة التي أراها للخليفة.
ويرى الأستاذ جرجي زيدان في كتابه «تاريخ العرب قبل الإسلام» أن عادا من الأمم الآرامية؛ ولذلك سميت عاد إرم كما سميت ثمود إرم، وأنها ليست مدينة، وأن الظن بأنها مدينة هو الذي جعل المؤرخين يبالغون في وصفها هذه المبالغات.
ثمود
ثمود هم قوم صالح عليه السلام وقد ورد ذكرها في القرآن عدة مرات في السور الآتية: (1)
الأعراف 7، آية 73-79. (2)
هود 11، آية 61-68. (3)
الحجر 15، آية 80-84. (4)
الشعراء 26، آية 141-159. (5)
النحل 21، آية 45-53. (6)
فصلت 41، آية 17-18. (7)
الذاريات 51، آية 43-45. (8)
النجم 53، آية 50-51. (9)
القمر 54، آية 23-32. (10)
الحاقة 69، آية 4-5. (11)
الشمس 91، آية 11-15.
ويؤخذ من هذه الآيات أن زمن صالح عليه السلام كان بعد زمن هود عليه السلام، وقوم ثمود كانوا يعبدون إلها غير الله، وكانوا يعيثون في الأرض مفسدين، وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا، وأن مساكنهم كانت بالحجر، وأنهم كذبوا الرسل، فأرسل الله إليهم أخاهم صالحا فنصح لهم ودعاهم إلى عبادة الله، وترك ما يعبد آباؤهم فكذبوه واتهموه بالسحر، وطلبوا إليه أن يجيء بآية إن كان من الصادقين، فقال لهم: هذه ناقة الله لكم آية وطلب إليهم أن يذروها تأكل في أرض الله ولا يمسوها بسوء فيأخذهم عذاب يوم عظيم، فكذبوه فعقروها، فأخذتهم بعد ثلاثة أيام الصيحة أو الرجفة أو الصاعقة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين ونجى الله صالحا والذين آمنوا معه وكانوا يتقون.
هذا هو ملخص قصة ثمود كما وردت في القرآن الكريم، ويضيف إليها كثير من المفسرين والمؤرخين أخبارا تتعلق بمصير الذين آمنوا مع صالح، ففريق يزعم أنهم سكنوا فلسطين، وآخرون يقولون: بل سكنوا مكة، وغيرهم يقول: إنهم سكنوا حضرموت، ويزعمون أن قبر صالح هناك.
ويرى فريق من المؤرخين المحدثين أن ثمود هم شرذمة من الهكسوس، الذين طردهم أحمس الأول من مصر، وأنهم سكنوا منطقة الحجر، وأنهم نحتوا من الجبال بيوتا على غرار المقابر المصرية القديمة، التي شاهدوها أثناء احتلالهم لمصر.
والمتفقد لمساكنهم الآن في مدائن صالح «إحدى محطات السكة الحديدية الحجازية» يرى أنها في مساحتها لا تختلف عن المساكن العادية، وعلى ذلك يكون ما نسب إلى ثمود من ضخامة الأجسام وطولها ليس إلا حديث خرافة، ولقد مر النبي
صلى الله عليه وسلم
بها في غزوته لتبوك في السنة التاسعة للهجرة ومنع المسلمين من الدخول إلى ديار ثمود والشرب من مياههم.
ويروي بعض المؤرخين أن ثمود نشئوا في اليمن، ثم غلبهم الحميريون فأجلوهم إلى الشمال فسكنوا منطقة الحجر.
ولا شك أن تكون قبيلة ثمود هذه هي ثموديني
Thamudini
التي ذكرها استرابون وبطليموس عند كلامهم عن قبائل العرب.
أما النسابون من العرب فيقولون: إن هودا هو ابن جائر بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام.
وتكاد تجمع المصادر أن نبيهم صالحا أرسل إليهم في الفترة ما بين هود وإبراهيم، ولكنا - على الرغم من ذلك - لا نستطيع أن نجزم في أي عصر عاشوا. (أ) ثمود والكشوف الحديثة
زار أكثر من واحد من المستشرقين آثار ثمود وكتبوا عنها، وكان أهم ما عثروا عليه من الآثار هو ما يعرف بقصر البنت وقبر الباشا والقلعة والبرج.
أما النقوش التي شاهدوها على هذه الآثار فمعظمها بالخط الآرامي وبعضها بالمسند، ولغتها هي العربية الشمالية التي لا تختلف - إلا في قليل - عن العربية الفصحى المعروفة، وهي تتضمن عبارات دينية، مما ينقش عادة على قبور كثير من الأمم، وهي ليست - في حد ذاتها - كبيرة الفائدة من الناحية التاريخية، ولكنا نستطيع أن نستنتج منها أن بعض العلاقات ربطت ما بين ثمود ودولة الأنباط، التي كانت عاصمتها مدينة بطره في الشمال.
ونحن نثبت هنا - نقلا عن «تاريخ العرب قبل الإسلام» للأستاذ جرجي زيدان - ترجمة عهد كتبه على قبره رجل اسمه عائذ بن كهيل:
هذا القبر الذي بناه عائذ بن كهيل بن القيس لنفسه وأولاده وأعقابه، ولمن يكون في يده كتاب من يد عائذ يبيح له ولأي واحد يخوله عائذ في حياته أن يدفن فيه، في شهر أبريل في السنة التاسعة للحارث ملك الأنباط محب شعبه «وذلك حوالي سنة 18م» ولعن ذو الشرى ومناة وقيس كل من يبيع هذا القبر أو يشتريه أو يرهنه أو يهبه أو يؤجره أو ينقش عليه شيئا آخر، أو يدفن فيه أحدا إلا الذين كتبت أسماؤهم أعلاه ... ا.ه.
أقصوصة طسم وجديس
طسم وجديس ابنا عم، يصعد النسابون نسبهما إلى سام بن نوح عليه السلام، أما موطنهما فقد حدد له المؤرخون منطقة اليمامة، وكانت تسمى فيما مضى جو، ويدل سياق الأقصوصة على أن الغلبة كانت لطسم، فكان منها الحكام والسادة، وحدث أن ولى ملك من طسم اختلف القصاص في اسمه؛ فبعضهم يسميه عملوق، وآخرون عملاق، وغيرهم عمليق، وكان عملوق هذا فاجرا ظالما سيئ السيرة، وكان يستذل جديسا وينتهك أعراضها، ويسوقون تدليلا على شناعة فعاله أن امرأة من جديس خاصمت زوجها إلى عملوق هذا، تريد أن تأخذ ابنها منه ويريد هو أن يحتفظ بالغلام، فكان حكم عملوق أن يرسل الغلام مع عبيده، وأن تباع المرأة والرجل فيأخذ الرجل خمس ثمن المرأة وتأخذ المرأة عشر ثمن الرجل وفي هذا قالت المرأة واسمها هزيلة:
أتينا أخا طسم ليحكم بيننا
فأصدر حكما في هزيلة ظالما
لعمري لقد حكمت لا متورعا
ولا فهما عند الخصومة عالما
ندمت فلم أقدر على متزحزح
وأصبح زوجي مائر الرأي نادما
واتصل بعملوق ما قالته هزيلة فغضب وأصدر أمرا بأن لا تزف بكر إلى زوجها حتى تحمل إليه أولا فيفترعها، فلقوا من ذلك بلاء وجهدا وذلا، ولم يزل يفعل ذلك حتى حدث أن امرأة من جديس تسمى عفيرة خطبت إلى زوج من قومها، فلما حان موعد زفافها إلى بعلها حملها العبيد ليزفوها إلى عملوق قبله، وتكلموا في ذلك كلاما لمس عزتها، وخرجت المرأة من فراش عملوق ودمها يسيل وقد شقت ثوبها من خلف ومن قدام وأخذت تنشد:
لا أحد أذل من جديس
أهكذا يفعل بالعروس
ثم أبت أن تمضي إلى زوجها وقالت تحرض قومها:
أيصلح ما يؤتى إلى فتياتكم
وأنتم رجال فيكمو عدد النمل
أيصلح تمشي في الدماء عفيرة
صبيحة زفت في النساء إلى البعل
من قصيدة طويلة منها:
فلو أننا كنا الرجال وكنتمو
نساء لكنا لا نقر على الذل
وإن أنتمو لم تغضبوا بعد هذه
فكونوا نساء لا تفروا من الكحل ... إلخ.
وكان أخو عفيرة من سادة قومه وأصحاب الرأي فيهم، فتحركت نخوته، كما أحس المذلة قوم جديس، فاغتنم هو فرصة انفعال القوم واستشعارهم الذل، فقال لهم: هل لكم أن تتبعوا رأيي أرحكم من هذا الغشوم وطغيانه. فقالوا له: لم تعد لنا طاقة على احتمال هذا الهوان، فمرنا نفعل ما تريد، فاقترح عليهم أن يدفنوا سيوفهم تحت الرمل، وأن يتظاهروا بالولاء والإكبار للملك، وأن يدعوه هو ورجال حاشيته إلى مأدبة في العراء، فوافقوا على ذلك، وتمت دعوة الملك، وبينما هم في وسط الطعام والشراب إذا بجديس تخرج السيوف من تحت الرمال فتجندل الملك وتقتله شر قتلة هو ورجال حاشيته، ثم يعمد القوم إلى الفتك برجال طسم، حتى كادوا أن يفنوهم جميعا، ويفلت من طسم رجل يفر إلى ملك اليمن - ويقولون: إنه حسان بن تبع - فيستنصره على جديس، ويستمع ملك اليمن إلى هذا الطسمي، فيسير معه في جند كثيف إلى جديس، حتى إذا ما أصبح القوم على بعد ثلاثة أيام من اليمامة مقر طسم، إذا بهذا الطسمي يخبر ملك اليمن أن له أختا في جديس ترى على مسيرة ثلاثة أيام، وأنه يخشى أن تراهم فتحذر القوم، ثم يقترح على الملك أن يحمل كل جندي فرعا من شجرة كبيرة يستتر وراءها، حتى يستطيعوا أن يفاجئوا جديسا قبل أن يتحوطوا للقائهم.
وتتطلع زرقاء اليمامة - وهي أخت ذلك الطسمي - إلى ناحية الجنوب الغربي فترى شجرا يتحرك، ومن وراء ذلك الشجر جنودا تحمل سلاحا، ومنهم من يتعرق كتفا أو يخصف نعلا أو يخيط ثوبا، فأنذرت قومها وحذرتهم جند اليمن، فسألوها عن الخبر، فقالت:
إني أرى شجرا من تحته بشر
فكيف تجتمع الأشجار والبشر
ثوروا بأجمعكم في وجه أولهم
فإن ذلك منكم - فاعلموا - ظفر
فلم يصدقوها واعتبروا كلامها حديث خرافة «تأمل!» وما زالوا في غير حذر حتى صبحهم ملك اليمن فأباد الرجال وسبا النساء والذرية وحطم البيوت، ثم أمر بزرقاء اليمامة فاقتلعوا عينيها، وتقول الأقصوصة: إنهم وجدوا في داخلها عروقا سودا، فقالوا لها: من أي شيء ذلك، قالت: كحل أكتحل به، قيل: ما هو؟ قالت: الإثمد، فاتخذوه بعد ذلك كحلا، ثم أمر الملك بها فصلبت على باب المدينة.
وهكذا كان فناء طسم على يد جديس وجديس على يد ذلك الملك اليمني.
ونحن لا نستطيع أن نجزم - حتى ولو صرفنا النظر عما في القصة من المبالغات الخرافية - بصحة وجود طسم وجديس، ولكنا إذا افترضنا وجودهما فإنا قد نستنتج أن هلاكهما كان في أوائل القرن الرابع الميلادي، وأن الحكومة كانت إقطاعية بسبب كثرة تردد أسماء السادة في سياق الأقصوصة، ولأن مثل تلك العادة القذرة، التي أشير إليها آنفا، إنما يغلب وجودها في البلاد الإقطاعية.
وبمناسبة هذه العادة نشير إلى ما ذكره المستشرق جورج سيل، من أن مثل هذه العادة كانت شائعة في بعض مقاطعات إنجلترا واسكتلندا في القرنين العاشر والحادي عشر الميلادي، كما يذكر بعض المؤرخين أنها كانت شائعة في كثير من البلاد الأوربية في عهد الإقطاع، وكانت تعرف باسم «حق السيد».
والآن وقد انتهينا مما أردنا إيراده عن أشهر القبائل البائدة نجمل القول في الفقرة التالية عن القبائل البائدة الأخرى التي ورد ذكرها في كتب العرب.
بقية القبائل البائدة (أ )
قبيلة أميم ويقولون: إنها سكنت بادية أبار وهي تقع إلى الجنوب من اليمامة. (ب)
عبيل ويقال إنها سكنت موضع يثرب، ثم أخرجهم منها العماليق، فنزلوا موضع الجحفة بين مكة والمدينة. (ج)
عمليق وهي عدة قبائل عرفت بالعمالقة، وقد ورد ذكرها في التوراة، ويرى بعض المؤرخين المحدثين أنه كانت لهم دولتان كبيرتان إحداهما بالعراق والأخرى بمصر، وأن دولتهم في العراق هي دولة حمورابي، ودولتهم في مصر هي دولة الهكسوس التي قضى عليها أحمس الأول.
أما مؤرخو العرب فيقولون: إنهم قبائل عدة سكن بعضها أرض الحجاز وتهامة «وهي قبائل بني ليف وبني سعد وبني مطر»، وسكن بعضها نجدا «وهي قبائل بديل وغفار»، وسكن بعضها شمال شبه الجزيرة «وهي قبيلة بني هومر بن عمليق»، وسكن بعضها عمان «وهي جاسم»، وسكن بعضها فلسطين «وهم عمالقة التوراة الذين يقول عنهم العرب: الجبابرة.» (د)
جرهم وهم قبيلتان، جرهم الأولى ويقال إنها كانت على عهد عاد، وجرهم الثانية وهم الذين تزوج منهم إسماعيل عليه السلام. (ه)
عبد ضخم ويقال إنهم سكنوا الطائف. (و)
وبار ويقولون: إنها كانت مع عاد ... إلخ.
والعجيب من أمر هذه القبائل البائدة، أن مؤرخي العرب لم يذكروا من أخبارهم شيئا فيه غناء، عدا ما اختلفوا فيه من تفصيلات أنسابهم وبيان مواطنهم مما يحملنا على الاعتقاد بأن أمرهم لم يكن إلا ميثولوجية غير ناضجة، اللهم إلا إذا أماطت الكشوف القائمة الآن اللثام عن شيء من مواطنهم وأخبارهم.
وبهذه المناسبة نذكر أنه كانت هناك دولتان لم يسمع بهما العرب ولم يرد لهما ذكر في كتبهم، ونقصد بهما دولة بنط ودولة معين وقد ظهرتا في بلاد اليمن، وقد تكون دولة معين استمرارا لدولة بنط كما قد تكون دولة مستقلة عنها، ولا نستطيع أن نحدد تاريخا للدولة الأولى، ولكن الراجح أنها عاشت في القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، وأنها كانت تعاصر الأسرة الخامسة من أسرات التاريخ المصري القديم، أما الدولة الثانية، دولة معين، فلا نعلم متى بدأت أيضا، ولكن العلماء يحددون لسقوطها حوالي سنة 1000ق.م، ويرجحون أنها كانت تعاصر في تاريخ مصر القديم الأسرات من 17 إلى 24 بمقتضى تأريخ العلامة برستد للأسرات المصرية، وأن علاقات تجارية أو سياسية كانت تربط ما بينها وبين الأسرة 18 بصفة خاصة.
وسنعود إلى تفصيل الكلام عن هاتين الدولتين عند الكلام في تاريخ اليمن القديم، وإنما ذكرناهما هنا مجاراة لأسلوب مؤرخي العرب باعتبارهما من القبائل البائدة.
ونود أن نذكر أن تقسيم طبقات العرب إلى بائدة وعاربة ومستعربة لا يعني أن كل طبقة جاءت بعد الأخرى؛ إذ يجوز جدا أن تكون بعض القبائل التي نسميها بائدة قد ظهرت بعد ظهور العرب العاربة، ومما لا شك فيه أنه جاء وقت كانت تعيش فيه الطبقات الثلاث متعاصرة. (1-2) العرب العاربة
وتسمى أيضا العرب العرباء برغم أن لغتها لم تكن عربية، وأنها تعلمت العربية من البائدة، وتعرف أيضا بعرب الجنوب؛ لأنها اتخذت جنوب بلاد العرب مقرا لها، وقد يطلق عليها بسبب ذلك اسم العرب اليمنية أيضا، كما يطلق عليها أيضا اسم السبئية نسبة إلى أشهر دولها سبأ، وأكثر ما توصف به في كتب مؤرخي العرب هو القحطانية نسبة إلى جدها الأولى قحطان، فقد ورد في كتاب سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب للبغدادي الشهير بالسويدي أن قحطان هذا هو ابن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام، وأنه أنجب من الأولاد جرهم والسلف وحضرموت ويعرب الذي أنجب سبأ الذي أنجب حمير ... إلخ، والظاهر أن قحطان هو تحريف ليقطان
Joctan
الذي ورد ذكره في الإصحاح 10 آية 25، 26 من سفر التكوين في صدد الكلام عن قبائل بني نوح الذين تفرقت منهم الأمم في الأرض بعد الطوفان.
ولا نستطيع أن نجزم من أي بقعة من الأرض أتى هؤلاء القحطانيون قبل أن يستقروا في إقليم اليمن، فلقد كان يرجح - كما أشرنا آنفا - أنهم جاءوا من الحوض الأدنى لنهري دجلة والفرات حيث إقليم كلديا ، وأنهم كانوا يتكلمون بادئ ذي بدء إحدى اللهجات الكلدانية. وأنهم جاءوا عن طريق البر وما زالوا يضربون في الصحاري حتى أغراهم خصب اليمن بالاستقرار فيها، وقد تكانفوا مع بعض أعداء دولة معين حتى أسقطوها، وطبيعي أن هذا تم بعد أن عاشوا في اليمن على حالتهم البدوية مدة طويلة.
ولكن الأستاذ فلبي
آخر من كتب عن تاريخ العرب في عصر ما قبل الإسلام كتابا مستقلا صدر بالإسكندرية سنة 1943 يذهب إلى أن عرب الجنوب لم يجيئوا من مكان آخر، وأنهم الأصل في العرب بدليل أن العرب القدماء أنفسهم كانوا يطلقون على عرب الشمال لفظ المستعربة؛ أي الدخلاء في العروبة، وأن الهجرات بدأت منهم في الجنوب إلى أطراف الهلال الخصيب حيث العراق والشام وفلسطين وحتى مصر، وأن لغتهم - وقد فحص نحو 6000 نقش مكتوب بها - لا تختلف كثيرا عن العربية الشمالية، ولا تعدو أن تكون شكلا قديما للشمالية التي اختفت منها كلمات لم تعد مستلزمات الحياة تتطلبها تتعلق بآلهة الوثنية وأعمال الري والزراعة وتجارة البخور تلك التي كانت من مفاخر بلاد العرب القديمة (راجع كتابه «ظهير الإسلام»
Background of Islam ). ويجدر بنا أن نذكر هنا أن الأستاذ فلبي يعرف بلاد العرب الحديثة جيدا ويحذق من تاريخها القديم وجغرافيتها وتقاليدها ولغتها الدارجة ما لا يحذقه إلا الأقلون من المستشرقين.
كذلك لا نعرف في أي وقت سكنوا أرض اليمن، فقد اكتفى الدكتور «نلدكه»
Noldeke - وهو حجة في تاريخ العرب - في تاريخ المؤرخين للعالم بأن قال: إنه في الألف الثاني قبل الميلاد قد مهدت بلاد اليمن - مقر السبئيين والحميريين - بسبب صلاحيتها للزراعة السبيل لظهور مدنية خلفت وراءها آثارا ذات مبان ضخمة ونقوش عديدة لا تزال تثير إعجابنا، ثم إن اليونان والرومان كانوا على حق إذ سموا هذه الأقاليم بلاد العرب السعيدة، وأشار إلى نصوص كثيرة في التوراة تشير إلى عظمة السبئيين، وخص بالذكر قصة ملكة سبأ وزيارتها سليمان الواردة في الإصحاح العاشر من سفر الملوك الأول، ثم قال: إن الشطر الأكبر من غنى سبأ يرجع إلى اتجارها في بعض المواد ذات الرائحة الزكية، وخاصة البخور الذي كان يحتاج إليه في المعابد، والذي ورد ذكره في كثير من أسفار التوراة، ثم قال: إن هذه المتاجر كانت تنقل إلى الشمال في طرق القوافل وأنهم حصلوا أخيرا على بعض نقوش في شمال الحجاز تشير إلى أن السبئيين كانت لهم محطات تجارية ثابتة، وإلى أنهم كانوا يمارسون بعض النفوذ على بقية بلاد العرب إبان سطوتهم، وأن آثار ذلك النفوذ كانت واضحة وخاصة في الجزء الغربي حيث كانت تمر طرق القوافل.
ويرجع الدكتور نلدكه أسباب تدهور اليمن إلى عدة مسائل، وهو لا يرى فيما يقوله مؤرخو العرب من إرجاع ذلك إلى تصدع سد مأرب تعليلا كافيا للتدهور، وهو يعتقد أن تصدع السد لم يكن سببا للتدهور، إنما كان نتيجة له ولما صحب التدهور من إهمال شأنه، وهو جزء ضروري للري المنتظم، وهو يميل إلى الرأي القائل بأن هجرة اليمنيين إلى الشمال التي تمت في القرن الثاني الميلادي كانت من عوامل ذلك الانحلال.
وبعد أن أشار إلى الغزو الحبشي لليمن الذي تم سنة 525م، والغزو الفارسي الذي تم حوالي سنة 575م، قال: إن اليمن رغم ما توالى عليها من أحداث كانت مدنيتها لا تزال أعلى المدنيات في بلاد العرب، بدليل أنها ما فتئت تورد لها بعضا من المصنوعات الهامة مثل السيوف والأقمشة والملابس.
ثم يقول إن أهل اليمن كانوا يشعرون شعورا خفيا بمكانتهم العظيمة هذه وبما قام به أسلافهم من أعمال عظام لم يكونوا يعرفونها على وجه التحديد؛ لأنها لم تكن مدونة، وأنهم من أجل ذلك بعد أن تم الفتح الإسلامي تحت زعامة العرب القرشيين واستقرت شئون الإمبراطورية أرادوا ألا يكون لإخوانهم الشماليين فضل عليهم، وعمدوا إلى الإشادة بفضل أسلافهم، واخترعوا لذلك قصصا أسرف خيالهم فيها إسرافا بعيدا.
تلك وجهة نظر عالم كبير عن علماء التاريخ العربي لخصناها لنعطي صورة مصغرة من وجهات النظر الحديثة لتاريخ الطبقة الثانية من طبقات العرب، أما تاريخ دول اليمن وحضارتها ومظاهر تلك الحضارة في أدوارها المختلفة فسنفصل الكلام عنه في فصل تال. (1-3) العرب المستعربة
ويعرفون أيضا بعرب الشمال، أو العرب العدنانية، أو عرب الحجاز، أو العرب الإسماعيلية، ويغلب في تواريخ العرب تسميتهم بالعرب العدنانية نسبة إلى عدنان من سلالة إسماعيل عليه السلام.
ورد في كتاب سبائك الذهب للسويدي في سياق نسب العرب العدنانية أن عدنان هو ابن أد بن أدد بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وإذا نظرت في جداول النسب التي وضعها تجد أنه يواصل السلسلة إلى آدم أبي البشر، فيقول: إن إبراهيم هو ابن قارح بن ناحور بن شاروخ بن أرغو بن قالع بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح - عليه السلام - بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ بن اليارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام.
ولسنا نشك لحظة في أن هذه الأنساب لا تعتمد على أي أساس علمي، بل إن العلم ليتعارض مع الكثير منها، وإنما أوردناها هنا لبيان وجهة من وجهات النظر القديمة.
وعلى الرغم من أن العلماء المحدثين لا يؤمنون بصحة هذه الأنساب إلا أن الإجماع يكاد ينعقد بينهم على صحة نسب العرب المستعربة إلى إسماعيل عليه السلام.
وتتفق الروايات العربية مع التوراة في قصة إسماعيل عليه السلام في مجموعها مع اختلافات بسيطة، فالتوراة تقول: إن إخراج إسماعيل وأمه هاجر كان إلى برية بئر سبع على مقربة من خليج العقبة، والعرب يقولون: إن إسماعيل أقام بمكة.
وخلاصة قصة إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام أن إبراهيم ولد بالعراق في مدينة أور الكلدانية، لأب نجار كان يصنع الأصنام، فلما شب إبراهيم ساوره الشك في أمر الأصنام، فتغفل القوم وحطمها إلا كبيرها ثم فشل في هداية قومه، وكان نصيبه أن ألقي في النار فنجاه الله منها، ثم فر إلى فلسطين، ومعه زوجه سارة، وارتحل إلى مصر بها، ثم خرج منها وقد أعطاه ملكها جارية هي هاجر، وولدت له هاجر ابنه الأول إسماعيل، ثم ولدت له سارة ابنه إسحاق، وسوى إبراهيم في العطف بين ولديه إسماعيل وإسحاق، فغضبت سارة، فذهب بهاجر وابنها إسماعيل إلى وادي مكة القفر، ثم تفجرت بئر زمزم، وأغرى ذلك بعض القبائل اليمنية الرحل بالسكنى إلى جوار الماء، فسكنت قبيلة جرهم من عرب اليمن، وتزوج منهم إسماعيل زوجة سرحها، ثم تزوج جرهمية أخرى هي بنت مضاض بن عمرو، وولد لإسماعيل من هذا الزواج اثنا عشر ولدا هم آباء العرب المستعربة.
هذا هو هيكل القصة التي سنعود إليها بشيء من التفصيل عند الكلام على تاريخ الإمارة بالحجاز، وهي قصة كما قلنا يكاد ينعقد الإجماع على جملتها، ولكن يبرز لنا من ثناياها سؤال يحتاج إلى جواب وهو: لمن يصح أن تنسب هذه العرب المستعربة؟ أإلى العرب القحطانية؛ لأن زوج إسماعيل الجرهمية كانت منهم؟ أم إلى الكلدانيين؛ لأن أبا إسماعيل كان منهم؟ أم إلى العبرانيين؛ لأن إبراهيم أقام في فلسطين؟ أم إلى المصريين القدماء؛ لأن هاجر أم إسماعيل كانت مصرية قديمة؟
كذلك يبرز سؤال آخر: وهو أي لغة كان يتكلم إسماعيل حين تركه أبوه في مكة وهو بعد طفل رضيع على حد بعض الروايات؟ أكان يتكلم اللغة المصرية القديمة لغة أمه، أم كان يتكلم الكلدانية لغة أبيه؟ وذريته بعد أن تزوج وأنجب أي لغة كانوا يتكلمون، أهي اللغة الحميرية لغة أمهم، أم لغة أبيهم؟
وإذ كانت نظرية المغفور له الأستاذ أحمد كمال باشا الأثري المصري في العلاقة العظيمة بين اللغة العربية والمصرية القديمة التي مكنته من إرجاع معظم المفردات العربية إلى أصول مصرية قديمة - أو العكس لا أدري تماما - صحيحة فهل يلقي ذلك ضوءا على الغموض الذي يكتنف هذه الأسئلة؟
الحق يقال إن الإجابة على هذه الأسئلة وما سبقها في ظل ما تحت أيدينا من المراجع لا يمكن أن تكون إجابة حاسمة خالية من الحدس والتخمين.
على أنا قد نستطيع الإجابة على سؤال ثالث قد تكون محاولة الإجابة عنه ضرورية، وهو في أي عصر هبط إسماعيل مكة، وليس لنا مرجع في الإجابة عن هذا السؤال إلا التوراة، ولقد قلنا: إن إبراهيم غادر أور إلى فلسطين ثم هبط منها إلى مصر وخرج ومعه هاجر.
ولكن الآثار الكلدانية لا تتكلم، كذلك لا نجد في الآثار المصرية أدنى إشارة إلى هاجر أو إبراهيم، وحيال صمت الآثار هنا وهناك لا يجد المستشرقون بدا من القول بميثولوجية القصة من الناحية العلمية من أولها إلى آخرها، أما علماء التوراة فإنهم بمقارنة التواريخ والأعمار الواردة فيها أمكنهم أن يصلوا إلى ما يأتي: (1)
أن إبراهيم غادر أور الكلدانية سنة 1921ق.م. (2)
أن ولادة إسماعيل كانت سنة 1910ق.م. (3)
أن طرد هاجر مع ابنها إسماعيل كان حوالي 1871ق.م. (4)
أن وفاة إبراهيم كانت 1820ق.م. (5)
أن وفاة إسماعيل كانت 1773ق.م.
وعلى ذلك يمكننا أن نستنتج أن نشأة العرب المستعربة كانت تعاصر أواخر أيام الأسرة الثانية عشرة المصرية وأوائل عهد الهكسوس، وذلك بمقابلة هذه التواريخ بالتواريخ التي حددها العلامة برستد
Breasted
للأسرات المصرية، ونحب أن نذكر أيضا أن هذا فيه شيء غير قليل من الحدس والتخمين.
وسنتكلم في الفقرة التالية عن بعض الفوارق بين العرب القحطانية والعرب العدنانية.
بعض الفوارق بين عرب الجنوب وعرب الشمال
الفروق بين الشعبين كثيرة يرجع بعضها إلى البيئة الطبيعية أو نظام الاجتماع أو اللغة أو الدين أو غير ذلك، وقد رأينا أن نلخصها هنا قبل تفصيل الكلام لنسترشد بها كمبادئ أساسية أثناء دراسة تاريخ كل منهما؛ وأهم هذه الفروق ما يأتي: (1)
أن عرب الجنوب في الغالب أهل إقامة على عكس عرب الشمال الذين تغلب فيهم البداوة، الأولون يسكنون بيوتا مشيدة في مدائن، والآخرون يسكنون بيوتا من الشعر أو الجلد يضربونها حيث يطيب لهم المقام، وظاهر أن طبيعة كل من المنطقتين كانت ذات أثر في ذلك. (2)
أن لغة أهل الجنوب المعروفة بالحميرية وإن كانت لغة سامية إلا أنها تختلف عن لغة أهل الشمال العربية في الضمائر وأسماء الإشارة وغير ذلك من أحوال الاشتقاق والتعريف، حتى لقد كان أهل الجنوب لا يفهمون لغة نجد وأهل الحجاز التي انتشرت انتشارا كبيرا بالنسبة إلى اللغة الحميرية التي أصبحت في صدر الإسلام غير معروفة. (3)
أن الخط المسند الحميري الذي كان يكتب بحروف منفصلة، والذي كان مشتقا من الخط الفينيقي المأخوذ من الخط السينائي المأخوذ من الخط الهيروغليفي، كان يختلف عن خط أهل الشمال على الرغم من أنه مأخوذ منه. (4)
كان يشترك الشعبان في الوثنية وفي عبادة الأصنام، ولكن آلهة الجنوب كانت تمت بصلة إلى آلهة بابل على عكس آلهة الشمال. (5)
انفرد كل من الشعبين بأسماء تخالف أسماء الشعب الآخر، وكانت أسماء أهل الجنوب تشبه الأسماء البابلية على عكس أسماء أهل الشمال، التي كانت في الغالب مستمدة من مظاهر البداوة التي تحيط بهم. (6)
أهل الشمال مستطيلو الرءوس أشد شبها بأجناس البحر الأبيض، أما أهل الجنوب فمستديرو الرءوس يمتازون بالفك العريض والأنف الأقنى. (7)
وبين الشعبين فوارق خلقية أخرى، فأهل الجنوب أقرب إلى اسوداد اللون، وتشبه سحنهم من وجوه كثيرة سحن الأفريقيين من أهل الحبشة والصومال؛ أما أهل الشمال فإنا نجد الرجل منهم وبخاصة إذا كان بدويا فيه المميزات السامية كاملة، فنجده أسمر، ممدود القامة، تقاطيع وجهه واضحة، وهذا عدا فروقا أخرى مثل الشعر ووزن الجمجمة وغير ذلك. (8)
وأخيرا أنشأ أهل الجنوب حضارة بحكم استقرارهم، أما أهل الشمال فيرجع الفضل إلى الإسلام، في أن كون منهم دولة، ووحدهم لأول مرة في التاريخ.
والآن وقد انتهينا من الكلام على الشعوب العربية إجمالا فإنا نبدأ الكلام بشيء من التفصيل عن تاريخ دول اليمن.
الفصل الرابع
تاريخ اليمن
(1) تمهيد
لا يصح الاعتماد في كتابة تاريخ اليمن على المصادر العربية إلا قليلا.
أولا: لأنها لم تتعرض بشيء من العناية إلا لمعالجة العصور المتأخرة من تاريخ اليمن، أما العصور السابقة لتلك، فإن ما كتبوه إن كانوا كتبوا شيئا لا يجدر أن يسمى تاريخا، إنما هو إلى الخيال والخيال السقيم أقرب، وثانيا: لكثرة ما نلقاه من الاختلافات والتناقضات فيما كتبوا، ونضرب لذلك مثلا بما كتبوه عن الدولة الحميرية: فبينما يذكر المسعودي أن عدد ملوكها خمسة، إذا بابن خلدون يجعلهم ثمانية، وأبي الفداء يجعلهم أحد عشر ملكا، أما نشوان بن سعيد صاحب القصيدة الحميرية فإنه يعد في قصيدته أسماء ستة عشر ملكا.
ولا يتفق هؤلاء في أسماء الملوك ولا في تعاقبهم، وإنما يتفقون في أن أولهم حمير وأن آخرهم الحارث. أما حمزة الأصفهاني فإنه يقول: إن بين حمير والحارث 150 أبا، وطبيعي - وهذا الخلاف كما ترى فيما لا يكون عادة موضع خلاف بين المؤرخين - أن يكون أشد وأطغى في أعمال الملوك وأخبار الدولة.
وناحية أخرى تجعلنا نتردد في الاعتماد على ما كتبه معظم هؤلاء المؤرخين؛ تلك هي مدة الحكم التي نسبوها إلى بعض الملوك، ومن أمثلة ذلك ما ذكره حمزة الأصفهاني من أن أبرهة ذا المنار من ملوك التبابعة حكم 183 سنة، وأفريقش بن أبرهة حكم 164 سنة، والأقرن بن أبي مالك حكم 163 سنة، وأسعد أبا كرب حكم 120 سنة ... إلخ.
والظاهر أن هذا الخلط في التاريخ لم يلفت أنظار المحدثين فحسب؛ بل لفت أنظار بعض النابهين من المؤرخين القدامى كابن خلدون، فلقد ورد في مقدمته وهي الجزء الأول من تاريخه في صفحاتها الأولى، ما نصه: «ومن الأخبار الواهية للمؤرخين ما ينقلونه كافة في أخبار التبابعة ملوك اليمن وجزيرة العرب أنهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى أفريقيا والبربر من بلاد المغرب، وأن أفريقش بن صيفي من أعاظم ملوكهم الأول - وكان لعهد موسى عليه السلام أو قبله - بقليل غزا أفريقيا وأثخن في البربر، وأنه الذي سماهم بهذا الاسم حين سمع رطانتهم، وقال: ما هذه البربرة؟ وذكر المسعودي أن أسعد كرب ملك الموصل وأذربيجان لقي الترك فهزمهم وأثخن، ثم غزاهم ثانية وثالثة كذلك، وأنه بعد ذلك غزا ثلاثة من بنيه بلاد فارس إلى بلاد الصغد من بلاد أمم الترك وراء النهر وإلى بلاد الروم، فملك الأول البلاد إلى سمرقند، وقطع القارة إلى الصين، فوجد أخاه الثاني الذي غزا سمرقند قد سبقه إليها، فأثخنا في بلاد الصين ورجعا جميعا بالغنائم، وتركوا ببلاد الصين قبائل من حمير، فهم بها إلى هذا العهد، وبلغ الثالث إلى قسطنطينية فدرسها ودوخ بلاد الروم ورجع.» ثم يذهب ابن خلدون فيقول: «وهذه الأخبار كلها بعيدة عن الصحة عريقة في الوهم والغلط، وأشبه بأحاديث القصص الموضوعة؛ وذلك أن ملك التبابعة إنما كان بجزيرة العرب وقرارهم وكرسيهم بصنعاء اليمن، وجزيرة العرب يحيط بها البحر من ثلاث جهاتها، فبحر الهند من الجنوب وبحر فارس من الشرق وبحر السويس من الغرب كما تراه في مصور الجغرافيا، فلا يجد السالكون من اليمن إلى المغرب طريقا من غير السويس، والمسلك هناك ما بين بحر السويس والبحر الشامي، ويبعد أن يمر بهذا المسلك ملك عظيم في عساكر موفورة من غير أن تصير من أعماله، هذا ممتنع في العادة، ولم ينقل قط أن التبابعة حاربوا أحدا من هؤلاء الأمم ولا ملكوا شيئا من تلك الأعمال، وأيضا فالشقة من البحر إلى المغرب بعيدة والأزودة والعلوفة للعساكر كبيرة، أما غزوهم بلاد الشرق وأرض الترك وإن كانت طريقه أوسع من مسالك السويس إلا أن الشقة هنا أبعد وأمم فارس والروم معترضون فيها دون الترك، ولم ينقل قط أن التبابعة ملكوا بلاد فارس ولا بلاد الروم وإن كانوا يحاربون بلاد فارس على حدود بلاد العراق، فالأخبار بذلك واهية مدخولة، وهي لم تدخل في وجه صحيح.» ا.ه.
هذا هو رأي واحد من نابهي المؤرخين العرب فيما كتبه زملاؤه المؤرخون في تاريخ العرب، ولكن يجب أن لا يحملنا هذا على تصديق كل ما كتبه هو نفسه عن تاريخ اليمن.
والسبب في ذلك واضح، وهو أن ابن خلدون نفسه لم يعتمد في كتابته على نقوش أو آثار، إنما اعتمد على الرواية لغيره من المؤرخين، ولم يكن له فضل عليهم إلا غربلة الروايات وتمييز الغث من السمين في نظره، وليس أدل على ذلك من أن أسماء الملوك التي حصل عليها العلماء المحدثون لا يوجد لها ما يقابلها، بل هي تختلف اختلافا تاما عما أورده مؤرخو العرب، كما بين ذلك العلامة نيكلسون في كتابه تاريخ الأدب العربي الذي سنبين رأيه في الفقرة الثانية. (2) رأي الأستاذ نيكلسون
ورد في كتاب الأستاذ نيكلسون السالف الذكر ما خلاصته أن أسماء ملوك حمير وتعاقبهم لا يمكن أن يمت إلى الحقيقة بسبب، وأنه إن كانت هناك شخصيات تاريخية تحمل هذه الأسماء التي ذكرها مؤرخو العرب فلا يمكن أن ترجع إلى أزمنة متأخرة قبل ظهور الإسلام، ولعلها أسماء بعض الأمراء قليلي الأهمية الذين أضفت عليهم الأقاصيص ثيابا من البطولة، وعلى من يشك في صحة هذا أن يقارن تلك الأسماء التي أوردها المؤرخون بما حصل عليه المستكشفون من النقوش، ولقد جمع الأستاذ مولر من بينها قائمة تتضمن أسماء ثلاثة وثلاثين من ملوك سبأ.
ويشعر تكرار بعض الأسماء بأن البلاد كانت تحكمها أسرات مالكة، وكان للملوك ألقاب تضاف إلى أسمائهم، ومن بين هذه الأسماء ذمر علي - ويثغمر بين - وكرب إيل وتار يهنعم - وسمعهلي ينوف.
وعلاوة على ذلك فإن ملوك اليمن كانت لهم ألقاب مختلفة تشير إلى عدة فترات من التاريخ السبئي وهي: (1)
أمير سبأ «مكارب سبأ» ومكارب هذه تشير إلى الجمع بين الإمارة والكهانة. (2)
وملك سبأ. (3)
وملك سبأ وذو ريدان. (4)
ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنات. (5)
ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنات وعربهم في الجبال وفي تهامة.
وبهذه الطريقة صار من الممكن أن تعين على وجه التقريب العصور التي أسست فيها المباني المختلفة وحفرت فيها النقوش.
ويكاد المؤرخون يجمعون على أن معظم ما وصل إلينا من الآثار يرجع إلى القرن الثامن قبل الميلاد وما قبله. (3) أدوار التاريخ اليمني القديم
يمكننا أن نقسم تاريخ اليمن قبل الإسلام تسهيلا لمعالجته إلى الأدوار التاريخية الآتية: (1)
الدور الخرافي أو الدور الميثولوجي، وهو ليس من التاريخ الحقيقي في شيء، وعلى ذلك لا يمكن تحديد تاريخ له. (2)
الدور البنطي (؟-3000ق.م) ولا يمكن أن نحدد له مبدأ ولا نعرف له عاصمة. (3)
الدور المعيني (3000-1000ق.م) وكانت العاصمة قرناو وموضعها الحديث معين إلى الشمال الشرقي من صنعاء، أما العاصمة الدينية فكانت يثيل ومكانها اليوم براقش. (4)
الدور السبئي (1000-115ق.م) وكانت العاصمة في عهد المكارب صرواح، وفي عهد الملوك مأرب. (5)
الدور الحميري الأول (115ق.م-300م) وكانت العاصمة ظفار إلى الجنوب الغربي من صنعاء. (6)
الدور الحميري الثاني (دولة التبابعة 300-525م) وكانت العاصمة ظفار أيضا. (7)
الدور الحبشي (525-575م) وكانت العاصمة صنعاء. (8)
الدور الفاسي (575-632م) وكانت العاصمة صنعاء. (3-1) الدور الخرافي
من المعروف أن التاريخ الأسطوري «الميثولوجي» لأية دولة يسبق عادة تاريخها الحقيقي، وأن أول من يذكره مؤرخو العرب من ملوك اليمن قحطان بن عابر الذي ينسب إليه عرب الجنوب، ويربطون نسبه بسام بن نوح عليه السلام، ويقولون إنه اتخذ صنعاء اليمن دارا للملك ولبس التاج، وكان عادلا حسن السياسة.
ثم ملك بعده ابنه يعرب، الذي قيل إنه أول من تكلم العربية، وأول من قيل له: أنعم صباحا وأبيت اللعن، وينسبون إليه أنه كان كثير الفتوحات وأنه غزا الحجاز وتغلب عليها وولى عليها أخاه جرهما، كما ولى أخاه عاد بن قحطان على جبال الشحر، وعماد بن قحطان على أرض عمان، وينسبون إليه أيضا أنه كان كثير العمارة وأنه أول من اختط المدن، وهو الذي قال عنه حسان بن ثابت:
تعلمتمو من منطق الشيخ يعرب
أبينا فصرتم معربين ذوى نفر
وكنتم قديما مالكم غير عجمة
كلاما وكنتم كالبهائم في القفر
ويقال إنه لما حضرته الوفاة أوصى بنيه بحسن السيرة والسلوك بين الرعية وتعلم العلم، وترك الحسد، وإنصاف الناس، إلخ.
ولما مات ملك من بعده ابنه يشجب بن يعرب، وكان ضعيف الرأي واهن العزيمة خاملا، فاستبد أعمامه به واستقلوا بحكم ما كان في أيديهم.
ولما مات خلفه ابنه عبد شمس الملقب بسبأ. (3-2) الدور البنطي
لا نعلم متى ظهرت دولة بنط، ولكن التاريخ المصري القديم ينبئنا عن رحلات تجارية كانت تقوم إلى الجنوب عن طريق البر أو البحر للحصول على السلع الغالية القيمة التي كان يحتاج إليها للأغراض الدينية وغيرها، وأهمها البخور والصموغ الذكية الرائحة، والراتينج «القلقونية أو صمغ الصنوبر» والأخشاب العطرية.
وترجع هذه العلاقات التجارية إلى أيام الأسرة الخامسة المصرية؛ إذ تذكر النصوص أن الملك ساحورع من ملوك القرن السادس والعشرين قبل الميلاد قاد أول حملة بحرية في البحر الأحمر إلى أرض البخور أو بلاد بنط، التي كان يظن أنها بلاد الصومال الحديثة فحسب، ولكن ثبت أخيرا أن لفظ بنط كان يدل على الأرض الواقعة على الطرف الجنوبي للبحر الأحمر، أو على جانبي باب المندب بشقيه الأفريقي والآسيوي، وقد أيد هذا الرأي أخيرا البحوث التي قامت بها كلية الآداب بالجامعة المصرية سنة 1937م، كما أيدته أيضا بحوث الأستاذين رانجنز وفون وسمز، والتي نشرت في كتاب «في أعالي اليمن» لمؤلفه هيوسكوت «طبع لندن سنة 1942»، وقد كان هذا الرأي هو الذي نرجحه سنة 1929، وفي خريطة رسمناها للإمبراطورية المصرية القديمة في أقصى نفوذها وضعنا بلاد بنط على جانبي باب المندب (راجع الأطلس الجغرافي التاريخي لزكي الرشيدي ومبروك نافع طبعة دار الكتب بمصر سنة 1929 القسم التاريخي خريطة 17 ص69).
وقد ظل المصريون القدماء يطلقون لفظ بنط على هذه البلاد الجنوبية رغم تقلب الدول عليها، وكانت تسمى عندهم أيضا «نانتر» ومعناها أرض الله، ولقد أرسلت الملكة حتشبسيوت أول امرأة شهيرة في التاريخ وهي من ملكات الأسرة الثامنة عشرة المصرية (حوالي 1500ق.م) حملة إلى بلاد بنط مكونة من خمس سفن كبيرة للحصول على أشجار البخور والأخشاب الثمينة والجواهر وسن الفيل والعنبر، وعند وصول الحملة إلى «الأرض المباركة» أي بنط قابلهم أميرها باريهو هو وزوجته آني، ومعهما ابنتهما وولداهما مقابلة ودية للغاية، وبعد تبادل الهدايا عاد الأسطول محملا بالأشجار الغالية - ومن بينها شجرة المر - وبالتبر والذهب والحلقات المعدنية وأكوام من الصمغ النفيس وجلود الفهود وغير ذلك، وقد نجح سفراء حتشبسيوت - علاوة على الحصول على الأشجار الثمينة التي غرس بعضها في حديقة الإله آمون - في الحصول أيضا على طاعة أهل بنط، وتجد أخبار هذه القصة بأجمعها مدونة على جدران المعبد الكبير الذي أنشأته حتشبسيوت في الدير البحري. (3-3) الدور المعيني
يذكر بعض المؤرخين دولة معين في سياق كلامه عن السبئيين، ويعتبرها لذلك من الدول القحطانية، ولكن الكشوف الحديثة دلت على أن المعينيين سكنوا منطقة اليمن قبل السبئيين بعدة قرون، ومن المحتمل جدا أن تكون معين قد تعاصرت مع دولة بنط، وهي - على كل حال - أول دولة نستطيع أن نلمح بعض معالمها وسط ضباب التاريخ القديم لبلاد العرب الجنوبية، وقد ورد ذكرها في مؤلفات اليونان والرومان، فذكرها يلبني واسترابون وبطليموس وغيرهم، ونسبوا إليها الاشتغال بالتجارة، وأنها كانت مصدر غناهم، ولكنهم كانوا يعتبرونها تالية للدولة السبئية لا سابقة لها كما هو الواقع، أما كتاب الغرب فلم يرد لها ذكر في كتبهم، وصمتوا عنها صمتا تاما.
وفي عهد هذه الدولة كانت حملة حتشبسيوت التي أشرنا إليها في الفترة السابقة.
وقد أظهرت الكشوف الحديثة أسماء ما يزيد عن عشرين ملكا من ملوك معين، وبرغم ذلك فإنا لا نستطيع أن نكتب تاريخ معين السياسي.
أما أسماء ملوك التي عرفت فهي: (1)
يثعيل صادق - وقاه إيل يثيع - أيليفع يشير - حفنوم ريان. (2)
أيليفع يثيع - أبييدع يثيع - وقاه إيل ريام - حفنوم صادق - أيليفع يتوش. (3)
أيليفع واقه - وقاه إيل صادق - أبيكرب يثيع - عمييدع نابط. (4)
أيليفع ريام - هوفا عاثت. (5)
أبييدع - كليكرب صادق - حفن ياثع. (6)
يثعيل ريام - تبعكرب. (7)
أبييدع حفنوم.
وأما ما يمكن أن يستخلص من الحوادث المبعثرة عن تاريخ معين، فنذكره فيما يلي: (1)
أن التجارة كانت السبب الأول في ثراء معين؛ لأنها كانت تفرض ضرائب على البضائع التي تمر بها، والتي كانت تنفرد بنقلها على الطريق البري. (2)
أن النظام الحكومي فيها كان إقطاعيا، أو شبه ذلك. (3)
أن نفوذها السياسي كان يمتد إلى بلاد كثيرة، بما يقع على الطريق التجاري، أو يتفرع منه، بدليل أنهم حصلوا على بعض نقود ونقوش وأختام معينية في جنوب فلسطين وعلى طول نهر الفرات الأدنى. (4)
أنه كان يعيش إلى جوار معين بعض دويلات، مثل جمهورية قتبان التي كانت تطغى على أملاك معين. (5)
أن السبئيين كانوا قبائل من البدو تغير على قوافل المعينيين. (6)
أن السبئيين والقتبانيين تحالفوا على معين، وتمكنوا من إسقاطها. (7)
أن المعينيين كانوا يتكلمون نفس اللغة التي كان يتكلمها السبئيون باختلاف في اللهجة. (8)
أن نظام الوراثة في الحكم كان متبعا، كما يستنتج من تكرار بعض الأسماء الملكية. (9)
أن أسماء آلهة معين - وقد عرفوا منها الكثير - تشبه أسماء الآلهة البابلية، ومنها اسم ود، ولكن المعلومات عنها - على حد تعبير دائرة المعارف البريطانية - تلي الجهل بها. (10)
أن عاصمة معين كانت تسمى قرناو، وموضعها الحديث مدينة معين، التي تخلد ذكرى الاسم القديم، أما العاصمة الدينية فكانت يثيل، وموضعها مدينة براقش الحديثة، وكلتا البلدتين في الجوف الجنوبي إلى الشمال الشرقي من صنعاء عاصمة اليمن الحديثة. (3-4) الدور السبئي
حكمت الدولة السبئية زهاء تسعة قرون، وهي أشهر دولة من دول بلاد العرب الجنوبية، حتى ليطلق اسم السبئية من باب التساهل على كل الدول التي حكمت في جنوب بلاد العرب، وقد تعاصر حكام هذه الدولة الأول مع آخر الحكام المعينيين.
وينسب العرب تأسيسها إلى عبد شمس بن يشجب، الذي يقولون إنه لقب بسبأ؛ لأنه أكثر من الغزو في أقطار البلاد، وسبا خلقا كثيرا، وهو أول من سن السبي في العرب، فالسبئيون في نظرهم من سلالة القحطانيين، وهناك رأي يقول بأن السبئيين أصلهم من الأحباش، ولكن الأرجح أنهم قبائل من البدو وفدت من الشمال وسكنت اليمن إلى جوار المعينيين، فعاصروهم مدة كانوا يغيرون فيها على قوافل معين، حتى تمكنوا بمساعدة بعض الدويلات، مثل جمهورية قتبان، التي كانت قائمة إلى جوار معين من إسقاطها، وأقدم اشارة إلى السبئيين في الخارج، نقش يرجع إلى تجلات بلسر الثالث (745-727ق.م) مؤسس الإمبراطورية الأشورية الثانية، ونقش آخر يرجع إلى عهد سرجون الثاني (721-705ق.م) يشير إلى يثعمر السبئي، ونقش ثالث يرجع إلى عهد سنحاريب حوالي (685ق.م) يشير إلى كرب إيل السبئي، وتتحدث هذه النقوش عن هدايا كان يقدمها الحكام السبئيون إلى هؤلاء الملوك، يرى بعض المؤرخين أنها كانت جزية، ولكنها لم تعد الهدايا لتحسين العلاقات صيانة لمصالح العرب التجارية، وأورد الأستاذ فلبي في كتابه الأخير أنه توجد أدلة على أنه في عهد سليمان كانت توجد قبيلة عربية تسمى سبأ تسكن الأقاليم التي تقيم بها الآن قبيلتا شمر والرولة، وزعماء سبأ هذه هم الذين يعقل أنهم قدموا الهدايا إلى سرجون الثاني وسنحاريب.
وتذكر التوراة - في سفر الملوك الأول الإصحاح العاشر - ملكة سبأ وزيارتها لسليمان. كما نجد أيضا تفصيل قصة سبأ في القرآن الكريم في الآيات من 20 إلى 24 من سورة النمل، وقصة سيل العرم في الآيات من 15 إلى 19 من سورة سبأ.
وبمراجعة النقوش التي حصل عليها في بلاد اليمن، يمكننا أن نقسم تاريخ الدولة السبئية إلى قسمين: قسم يلقب فيه الحاكم بلقب مكارب سبأ، وقسم يلقب فيه الحاكم بلقب ملك سبأ.
وليست لدينا معلومات محددة عن أعمال كل من هؤلاء المكارب أو الملوك، ولا عن مدة حكم كل، ويتميز المكارب عن الملوك بأنهم كانوا يجمعون إلى الحكم الكهانة، أو الرئاسة الدينية، وكانت عاصمة المكارب قصر سراوح، ومكانة مدينة خريبة الحديثة إلى الشرق من صنعاء، أما عاصمة الملوك فكانت مدينة مأرب، التي تبعد نحو ستين ميلا إلى الشرق من صنعاء، وتحدد سنة 600ق.م تقريبا لخاتمة عصر المكارب، وبدأ عصر الملوك، والفترة الثانية كانت أزهر عصور التاريخ السبئي.
وفي أسماء المكارب والملوك يلاحظ - أكثر من مرة - تعاقب اسم كرب بعد يثعمر، كما نلاحظ إضافة بعض الألقاب إلى أسماء الحكام، مثل وتار ومعناها العظيم، وذرح ومعناها الشريف، وبين ومعناها الممتاز، وينوف ومعناها السامي، ويهنعم ومعناها المسخر. «كانت الكتابة اليمنية القديمة تدون بحروف منفصلة ساكنة ليست لها حروف حركة تحدد النطق بالكلمات، فهي من هذه الناحية تشبه المصرية القديمة، وضبط النطق بالألفاظ ليست إلا مسألة تخمينية، فلفظ مكارب مثلا كان يكتب م ك ر ب، ولفظ و ت ر يمكن أن ينطق وتار أو واتر، إلخ.»
وفيما يلي ثبت بأسماء مكارب سبأ وملوك سبأ التي حصل عليها:
المكارب (1)
زمر علي - سمهعلي ينوف - كرب إيل واتر - يثعمر بين. (2)
سمهعلي - يدغيل ذرخ - يثعمر واتر - سمهعلي ينوف - يثعمر واتر - يدعيل بين. (3)
يثعمر - كرب إيل بين - سمهعلي ينوف.
ملوك سبأ (1)
سمهعلي ذرخ - إيل شرح - كرب إيل. (2)
يثعمر - كرب إيل واتر - يدعيل بين. (3)
وهب إيل يحوز - كرب إيل واتر يهنعم. (4)
وهب إيل - أنماروم يهمين. (5)
زمر على ذارح - نشكرب يهمين - واتر واتروم يهمين - يكرب ملك واتر - يريم أيمن.
وبهذه المناسبة نذكر أن لقب مكارب كان يحمله الحكام الأول لقتبان التي كانت تتعاصر مع العهد الأول السبئي، وكانت عاصمتهم تمنع، وقد عرفت أسماء عدد من حكام قتبان نذكرها فيما يلي:
يدعب ذبيان - شهير يجول - هوفاعم - شهير يجول يهرحب - درويل غبلان يهنعم - أبيشيم - شهير غبلان - بعم - زمر علي - يدعب يفول.
وكانت أسرة همدان في ذلك العصر تتطلع إلى العرش، وقد كشفت النقوش عن أسماء بعض أفرادها نذكرها فيما يلي:
أوس لات رفشان - يريم أيمن - بارج يهرحب - علهان - شعير أوتر - يريم أيمن - والأخيران هما ولدا علهان.
وفي أواخر هذا العصر بدأت أسرة حمير تظهر لأول مرة كعدو خارجي لدولة سبأ، وقد كشفت النقوش عن أسماء بعض شخصياتها نذكرها فيما يلي:
فرع ينهب - إلي شرح يحضب - يزل بين «والأخيران ولدا الأول» - نشا كرب يمن يهرحب.
ملكة سبأ
لا يطعن عدم ذكر ملكة سبأ في النقوش ولا بين الأسماء التي ذكرناها آنفا في صحة وجودها؛ فلقد ورد ذكرها في التوراة والتلمود والقرآن الكريم، ففي التوراة ورد في الإصحاح العاشر من سفر الملوك الأول، الآيات من 1-14 ما خلاصته أن ملكة سبأ سمعت بخبر سليمان، فأتت إلى أورشليم بموكب عظيم، بجمال حاملة أطيابا وذهبا كثيرا وحجارة كريمة، وامتحنته بمسائل، فأخبرها بكل كلامها، وأنها لما رأت حكمة سليمان والبيت الذي بناه، وطعام مائدته، ومجلس عبيده ... إلخ. قالت إنها لم تصدق الأخبار حتى أبصرت بعينيها، وأنها رأت ضعف ما سمعت، وقدست إله إسرائيل، وأن الملك سليمان أعطاها كل مشتهاها الذي طلبت، فانصرفت وذهبت إلى أرضها هي وعبيدها، وفي الكتب الدينية اليهودية كالتلمود والترجوم تفصيلات وشروح مما ورد في التوراة.
أما القرآن الكريم فقد ورد فيه ذكر سبأ في موضعين، الأول في سورة النمل الآيات من 24-44 وفيه تفصيل لزيارة ملكة سبأ لسليمان، والموضع الثاني في سورة سبأ الآيات من 15-19 وفيه ذكر لسد مأرب وسيل العرم وتفرق القبائل، وهذا الموضع الثاني سنعود إليه عند الكلام عن سد مأرب.
أما قصة ملكة سبأ الواردة في سورة النمل، فخلاصتها أن سليمان عليه السلام تفقد الطير فلم يجد الهدهد، فلما جاء الهدهد قال لسليمان أنه جاء من سبأ، وأنه وجد امرأة تملكهم تسجد هي وقومها للشمس، وأن سليمان بعث معه بكتاب ألقاه للملكة يطلب فيه ألا تعلو الملكة عليه وأن تأتي إليه مسلمة، وأن الملكة جمعت قومها وشاورتهم في الأمر، فقالوا أنهم قوم أولو قوة وأنهم رهن أوامرها، وأنها أرسلت بعد ذلك إلى سليمان بهدية تصانعه بها، فلما وصلت الهدية «أو الرشوة» سليمان لم يقبلها وأظهر أنه أغنى منها، ثم هدد بأن يرسل إلى بلادها جنودا لا قبل لهم بها، وأنها على أثر هذا التهديد جاءت إلى سليمان الذي شيد لها صرحا ممردا من قوارير ووضع فيه عرشها، وأنها بعد أن رأت ما رأت، قالت:
رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين .
ويمكننا أن نستنتج من الآيات القرآنية التي وردت في ملكة سبأ ما يأتي: (1)
أن رسول سليمان عرف أخبار دولة جديدة على جانب من الغنى كانت تملكها امرأة. (2)
أن أهل هذه الدولة كانوا يعبدون الشمس
وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله . (3)
أن دولة سبأ كان نظام الحكم فيها غير استبدادي بل شبه شورى، بدليل ما ورد في الآية 23:
إني وجدت امرأة تملكهم ، ولم يقل تحكمهم، والحكم يفيد الحكم المطلق، والملك يفيد ولاية العرش فحسب، وبدليل ما ورد في الآية 32:
قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون . (4)
أن ملكة سبا تخوفت من سليمان وأرادت مسالمته بإرسال هدية إليه كأنما هي ترشوه. (5)
أن سليمان رفض الهدية «أو الرشوة» وهدد بغزو سبأ. (6)
أن الملكة أذعنت وجاءت إلى سليمان الذي أعد لها قصرا وعرشا أحاطه بما يأخذ بروعتها، وأنها في آخر الأمر آمنت بسليمان وأسلمت معه.
ويمكن أن نستنتج من ثنايا النصوص: (1)
أن دولة سبأ إبان هذه الفترة كانت ضعيفة النفوذ، بدليل أن الملكة تخوفت من سليمان وملك سليمان لم يكن يتجاوز القرن الغربي للهلال الخصيب إلا قليلا، وقد حدى هذا ببعض المؤرخين إلى القول بأن هذه الملكة لم تكن تحكم بلاد سبأ الأصلية إنما كانت تحكم إحدى المقاطعات الشمالية الواقعة على الطريق التجاري الذي كان يطرقه المعينيون والسبئيون، وأن إمارتها هذه كانت على مقربة من فلسطين مقر حكم سليمان. (2)
كما يمكن أن يستنتج أيضا أنها كانت تحكم في منتصف القرن العاشر قبل الميلاد؛ لأنها كانت تعاصر سليمان، وكان سليمان يحكم حوالي سنة 950ق.م. (3)
أنها كانت من المكارب الأول الذين كانوا يجمعون بين الرئاسة الزمنية والرئاسة الدينية.
ولم يرد في العهد القديم أو القرآن الكريم ذكر لاسم هذه الملكة، ولكن المفسرين وبعض المؤرخين من العرب وبعض شراح التوراة، قالوا: إنها هي بلقيس بنت شرحبيل، أو بنت الهدهاد، معتمدين في ذلك على بعض الإسرائيليات، والواقع أنه كانت هناك ملكة تسمى بلقيس، هي إحدى ملكات الطبقة الثانية من ملوك حمير المعروفة عند العرب بالتبابعة، حكمت في النصف الأول من القرن الرابع للميلاد، وكانت ذكراها لا تزال تعمر أذهان بعض الناس، فحسبوها الملكة المعنية في القرآن.
وقد يكون من المناسب هنا، أن نشير إلى ما يذكره مؤرخو العرب، عن الطريقة التي تولت بها بلقيس الحكم، إذ يقولون إن أحد التبابعة المسمى مالك، كان فاحشا فاسقا خبيثا، لا يبلغه عن بنت ذات جمال إلا أحضرها وفضحها، حتى أتى بنت عمه بلقيس في قصرها، وكانت أعدت له رجلين وأمرتهما بقتله إذا دخل عليها، ولما قتلاه أحضرت وزراءه وأصدقتهم الخبر، وفوضت لهم أن يختاروا رجلا يملكونه، فقالوا: لا نرضى بغيرك، وملكوها لما رأوا من شهامتها وإبائها، وذلك على رغم كراهية العرب لتولية النساء الحكم.
وقبل أن نختم الكلام عن ملكة سبأ، نرى أن نشير إلى أن بعض المفسرين وغيرهم من المؤرخين، يشيرون إلى أن سليمان تزوج من ملكة سبأ، وأنجب منها ولدا، وللأحباش أسطورة انفردوا بها في هذا الصدد؛ إذ يعتبرون أن بيتهم المالك يرجع في أصله إلى ذلك الولد الذي أنجبه سليمان من سبأ، وهذا هو السر في أن نجاشي الحبشة كان يلقب بالأسد الهابط من سبط يهوذا.
سقوط دولة سبأ
على الرغم من المبالغات التي تصحب الكلام عن غنى سبأ وحضارتها، إلا أنه مما لا شك فيه، أنها كانت في القرون السابقة للميلاد في أوج عظمتها وازدهارها، ولقد كان هذا الازدهار يعتمد على أساس واحد، هو التجارة؛ ذلك لأن الطرق البحرية بين ثغور بلاد العرب الشرقية والهند كانت عامرة منذ قديم الزمان، وكانت الحاصلات الهندية - وخاصة التوابل والحيوانات النادرة كالنسانيس والطواويس - تنقل إلى ساحل عمان ومن هناك كانت تنقل عن طريق البر، حتى في القرن العاشر قبل الميلاد، إلى خليج العرب «البحر الأحمر»، ومن هناك كانت تحمل في المراكب إلى مصر، حيث يشتريها الفراعنة والعظماء، وكانت صعوبة الملاحة في البحر الأحمر تجعل طريق البر مفضلا في نقل المتاجر بين اليمن والشام، فكانت طرق القوافل تبدأ من مدينة شبوة «سابوتا عند اليونان والرومان» في حضرموت، وتسير إلى مأرب عاصمة سبأ، ومنها إلى مكة، ومنها إلى البتراء «بطره» فغزة على ساحل البحر المتوسط، وقد ظل رخاء السبئيين مستمرا حتى تحولت تجارة الهند عن الطريق البري إلى طريق البحر، والراجح أن ذلك كان في أيام دولة البطالسة التي قامت في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد، بمشروعات تجارية ترمي إلى الأخذ بنصيب موفور من التجارة الشرقية، ومن المشروعات التي قاموا بها في تحقيق هذا الغرض، تعبيد الطريق بين قنا والقصير، وإعادة بطليموس الثاني (285-246ق.م) فتح القناة التي تصل النيل بالبحر الأحمر، وبذلك صارت السفن تأتي من الشرق رأسا إلى مصر، واستطاع التجار المصريون من البطالسة أن يخرجوا من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي، وأن ينافسوا التجار العرب منافسة خطيرة، فعملوا بذلك على تخفيض أثمان السلع تخفيضا واضحا، بعد أن كان أهل الغرب يضجون من شدة الغلاء، ومن الأثمان الباهظة التي كان يفرضها عليهم التجار من عرب الجنوب ثمنا لسلعهم، التي كانوا لا يجدون محيصا عن دفع أثمانها نقدا لشدة حاجتهم إليها في الأغراض الدينية أو الدنيوية.
وتذكر المراجع أن رجلا إغريقيا في أواخر العصر البطليموسي، أحاط علما بخفايا الطرق البحرية، وتغييرات الرياح الموسمية، يدعى هيبالس - ويلقبونه كولمبس تجارة البطالسة - نجح في الخروج إلى المحيط الهندي والعودة منه، وقد حمل معه حمولة من السلع المرغوب فيها، ذات القيمة العالية، ومن بينها القرفة والفلفل من الهند، وهي سلع كان الغربيون - بتمويهات التجار العرب - يعتقدون أنها من منتجات بلاد العرب الجنوبية، وقد قفى على أثر هيبالس هذا كثيرون غيره، فساهموا بذلك في ضرب الاحتكار العربي وتدميره، وترتب على ذلك أن انتقل ما كان بأيدي العرب إلى أيدي المصريين، وقلت إيرادات سبأ، فلم تعد تحتفظ بمنشآتها القديمة، كسد مأرب الذي أهمل، وانتهى به الأمر إلى أن يتصدع في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد (حوالي سنة 115ق.م) وكان تصدع سد مأرب، الذي كان من أعظم المباني السبئية العامة، والذي تكاتف أكثر من ملك سبئي على إقامته لأغراض اقتصادية، مؤذنا بسقوط دولة سبأ النهائي، وهجرة كثير من سكان اليمن إلى الشمال.
وحادث تصدع سد مأرب أو سيل العرم، هو الذي أشار إليه القرآن الكريم في الآيات من 15-19 من سورة سبأ.
هذا؛ ونظرا لأهمية سد مأرب، سنفرد للكلام عليه فقرات خاصة في آخر هذا الباب. (3-5) الدور الحميري
في الوقت الذي أخذت فيه دولة البطالسة في الازدهار، والاستيلاء على مقاليد التجارة العربية، كانت دولة سبأ في دور الاحتضار، وانتهى الأمر بسقوطها كما بينا، وعلى أثر سقوطها قامت مقامها الدولة المشهورة المسماة في التاريخ دولة حمير، ومن حسن حظ هذه الدولة، أن في الوقت الذي أخذت تظهر فيه، ابتدأت دولة البطالسة تضعف وتتلاشى أمام نفوذ دولة الرومان المتغلبة، وكانت نتيجة ذلك أن التجارة القديمة أخذت تعود إلى طريقها القديم طريق البر، كذلك كانت دولة القتبانيين قد سقطت أيضا في بلاد اليمن، فلم يكن للحميريين منازع في الطريق التجاري.
وقد عمرت دولة الحميريين نحوا من 640 سنة، يقسمها المؤرخون عادة إلى قسمين، معتمدين في ذلك على اختلاف ألقاب الملوك الواردة في النقوش، وهما: (1)
دولة حمير الأولى: من 115ق.م-300م. (2)
دولة حمير الثانية: من 300م-525م.
وكانت عاصمة كل من الدولتين مدينة ريدان، وهي المشهورة فيما بعد باسم ظفار، إلى الجنوب الغربي من صنعاء، وظفار هذه هي التي حلت محل مأرب عاصمة سبأ، وقرناو عاصمة معين.
وكان لقب الملوك في الدولة الحميرية الأولى «ملك سبأ وذو ريدان»، أما الدولة الحميرية الثانية «المعروفة عند العرب بدولة التابعية» فكان لقب ملوكها «ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنات»، وقد أضيف فيما بعد كلمات: «وعربهم في الجبال وفي تهامة.»
ومن ملوك العصر الحميري الأول كشفت البحوث عن الأسماء الآتية:
ياسر يهنعم - شمر يهرعش - زمر علي بين - كرب إيل وتار يهنعم - هالك زمر علي ذارح - لعز نوفان يهصدق - ياسر يهصدق - زمر علي يهبر - فرع ينهب - إيل شرح يحضب - يزل بين - نشا كرب يمن يهرحب.
ومن ملوك الدولة الحميرية الثانية كشفت النقوش عن الأسماء الآتية:
ملكيكرب يهمين - داري أمر أيمن - أبو كرب أسعد «وهذان الأخيران ولدا الأول» شرحبيل يعفور - شرحبيل يكف - لحيعت ينوف - ذو شناتر - معد يكرب ينعم - ذو نواس.
وبرغم كشف هذه الأسماء، فإنا لا نستطيع أن نكتب تاريخا خاصا لكل منهم، كما أنا لا نعرف على وجه الدقة مدة حكم كل.
الدولة الحميرية الأولى
حدثت في عصر هذه الدولة عدة حوادث، كان أهمها محاولة الرومان فتح بلاد العرب، وذلك أنهم حوالي سنة 24ق.م في عهد الإمبراطور أغسطس قيصر أرسلوا حملة خرجت من مصر، تحت قيادة حاكمها أيلوس جالوس
Aelius Gallus
كان قوامها عشرة آلاف مقاتل، وكان هدفها الاستيلاء على طرق النقل التي كان يحتكرها عرب الجنوب، واستغلال موارد اليمن لمصلحة روما، وقد ساعد الحملة وزير دولة الأنباط المسمى سيلوس، وبعد مضي عدة شهور من توغلهم إلى الجنوب، استولوا على نجران، وكادوا أن يصلوا إلى مأرب، ولكن يظهر أن دليل الحملة سيلوس أنبه ضميره على خيانة بني جلدته العرب، وأحس بأنه يرتكب إثما فظيعا في مساعدته للرومان، فتركهم يتيهون في الصحراء، التي لا يعرف مسالكها إلا العرب، واضطروا أن يتلمسوا طريقهم إلى ساحل البحر الأحمر، ومن ثم عبروا إلى الشاطئ المصري، وقد استغرقت عودتهم هذه ستين يوما، وكان يرافق هذه الحملة المؤرخ المشهور استرابون، الذي كان صديقا شخصيا لجالوس والذي صب جام غضبه على دليل الحملة سيلوس، وهكذا باء الجيش الروماني بفشل ذريع، ولم تفكر منذ ذلك الوقت روما ولا أية دولة غربية غيرها، في محاولة فتح بلاد العرب الصحراوية، وهذه الحملة تمت في عهد الملك إيلي شريح يحضب.
وفي عهد هذه الدولة أيضا، حدث أن هاجر جماعة من أهل اليمن إلى بلاد الحبشة، فأنشئوا مستعمرة هناك، ونجحوا في إقامة ثقافة لم يكن من المحتمل أن يستطيع الأحباش الوطنيون الوصول إليها، ولا نعلم علم اليقين الأهداف التي حملت هؤلاء اليمنيين والحضارمة على استعمار الحبشة، إنما يرجح أن التجارة التي أشربتها نفوس العرب كانت الباعث على هذا الاستعمار، ويعتبر هذا الغزو العربي لأفريقيا أسبق من الغزو الإسلامي لها فيما بعد.
وينسب إلى أحد ملوك هذه الأسرة، المسمى إيلي شريحا «ولعله ليشرح ابن يحضب الذي ذكره ياقوت في معجم البلدان» من ملوك القرن الأول المسيحي، أنه أسس قصر غمدان المشهور في صنعاء، الذي كان مكونا من عشرين طبقة، فكان بذلك أول ناطحة للسحاب روى التاريخ أخبارها، وقد شيد هذا القصر من الجرانيت والمرمر، وغطيت أعلى طبقة فيه بصفيحة واحدة من حجر المرمر، الذي بلغ من شفافيته أن يستطيع الإنسان النظر من خلاله والتطلع إلى السماء.
وكان الغرض من تأسيس هذا القصر وغيره من القصور، التي كانت شائعة في اليمن هو حماية الأمراء الحضر لأنفسهم من غارات البدو.
وكان نظام الحكم في هذا العصر الحميري الأول نظاما إقطاعيا في أساسه، ولكنه كان خليطا غريبا من النظام القبلي القديم ونظام الطبقات والأرستقراطية والملكية الإقطاعية.
قرب نهاية هذا العصر الحميري الأول ابتدأت قوة عرب الجنوب تنزل من عليائها، وقد كان ذلك نتيجة لتذبذبهم بين الطريقين البري والبحري في نقل المتاجر، يضاف إلى ذلك مزاحمة الرومان لهم في الطريق البحري مزاحمة خطيرة وخاصة بعد تنظيم المتاجرة البحرية خلال القرن الأول الميلادي، ولو أنهم ثبتوا على الطريق البري عبر الحجاز، الذي كان غاصا بالمحطات الحميرية، وكان آمنا لا يزاحمهم فيه آخرون، لكان خيرا لهم، وهذا الطريق البري بمحطاته المتعددة، هو الذي أشار إليه القرآن الكريم في سورة سبأ آية 18-19 في قوله تعالى:
وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين * فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور .
الدولة الحميرية الثانية
ولكن دولة حمير لم تلبث أن لمت شعثها حوالي سنة 300 ميلادية، وضمت إليها القبائل المجاورة من بدو وحضر، فأخضعت حضرموت وكل بلاد اليمن، وأصبح لقب الملك الحميري هو «ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنات»، وبعد مدة قليلة أضيفت ألقابا أخرى وهي: «وعربهم في الجبال وفي تهامة»، ويفهم من هذا أن الدولة الحميرية الثانية أصبحت أشبه بالإمبراطورية، تخضع بلاد كثيرة لسلطانها، وهذه الدولة هي المعروفة عند العرب باسم دولة التبابعة، ويرسم المؤرخون العرب إلى ملوكها قصصا أشبه بالخرافة منها بالتاريخ الحقيقي، وسنعود لذكرها في الفقرة التالية، أما النقوش فإنها تذكر لنا أسماء تسعة من ملوك حمير في ذلك العصر، وقد ذكرناها في فقرة [الدور الحميري].
ويمتاز هذا العصر الحميري الثاني بدخول المسيحية واليهودية إلى بلاد اليمن، ومحاولة زحزحة الديانة الوثنية، التي كانت تدور حوله عبادة النجوم والكواكب والشمس عنها، وقد بدأت المسيحية على المذهب المنوفستي القائل بأن المسيح له طبيعة واحدة تسلك سبيلها إلى الجنوب من الشام، وكانت روما تشجع هذه الديانة وتستعين بالأحباش الذين تنصروا أيضا على نشرها، وكان غرض روما من تشجيعها للمسيحية، غرضا سياسيا أكثر منه دينيا.
وانتشرت في الوقت نفسه الديانة اليهودية في بلاد اليمن، وكانت قد توطنت قبل ذلك في شمال بلاد العرب، وشجع الملوك الحميريون اليهودية، ليقاوموا المسيحية دين عدوهم السياسي والاقتصادي.
وفي منتصف القرن الرابع الميلادي، غزا الأحباش بلاد اليمن ولكنهم لم يلبثوا أن طردوا، وعاد الحكم إلى الحميريين، الذين ظلوا يحتفظون بلقبهم الطويل إلى الربع الأول من القرن السادس الميلادي.
واعتنق الملك التالي على العرش اليهودية، سياسة منه لكي يعارض السياسة الرومانية، ثم تولى بضعة ملوك كانوا يعتنقون اليهودية، وكان آخرهم ذو نواس، الذي يسميه المؤرخون اليونان ديمانوس، وهو الذي جعل اليهودية دين الدولة الرسمي، واضطهد النصارى في نجران كما سنبينه عند الكلام عن الدور الحبشي.
حمير والتبابعة عند العرب
اشتهرت هاتان الدولتان شهرة واسعة، إلا أن المبالغات التي ذكرها المؤرخون العرب جعلت من الصعب استخلاص شيء حقيقي مما ذكروه، ولا شك في أن نفوذ هذه الدولة التجاري جعلها تبسط سلطانها على بعض أجزاء الجزيرة العربية في الشمال، من ذلك أنها أقامت دولة في شمال شبه الجزيرة، تسمى دولة كندة، سنفرد لها فصلا خاصا، ونكتفي هنا بذكر أشهر ملوك حمير والتبابعة مع نبذ من أخبارهم، كما ورد في كتب العرب. (1)
حمير - وهو في نظر نسابة العرب ابن سبأ - هو أول ملوكهم، كان أجمل أهل زمانه وأفرسهم، وقيل إنه كان أول من تتوج بالذهب، وكان مقر حكمه مدينة مأرب، وقد مد حكمه إلى حدود الصين، وكان ملكه خمسا وثمانين سنة، وقيل: هو الذي أخرج ثمود من اليمن إلى الحجاز، ولما مات وثب أخوه كهلان على الملك، ولكن أبناء حمير استردوه، وظلت كهلان في الحدود فيما يلي الصحراء. (2)
ثم تعاقب عدة من الملوك كان أشهرهم في كتب العرب شداد بن عاد بن الملطاط، الذي قيل: إنه أخذ يغزو في البلاد حتى بلغ أقصى المغرب، وبنى مدنا كثيرة. (3)
ثم تولى آخرون، حتى آل الملك إلى عمرو بن عامر ماء السماء، المعروف بميزيقيا؛ لأنه كان يلبس كل يوم حليتين منسوجتين بالذهب، ويذكرون أن في عصره حدثت حادثة سيل العرم. (4)
ثم تولى آخرون، حتى آل الملك إلى الحارث الرائش، وهو أول التبابعة - ويقولون إن عددها 13 ملكا - وسمى بالرائش؛ لأنه أصاب غنائم كثيرة في غزواته وأدخلها أرض اليمن، فرشا الناس بالعطاء. (5)
ثم ملك بعده ذو القرنين، وسمي كذلك لضفيرتين من شعره، كان يرسلهما على قرنيه؛ أي جانبي رأسه، ويعتقدون أنه هو الذي ورد ذكره في القرآن الكريم. (6)
ثم تولى ذو المنار، وسمي كذلك لأنه كان يرفع المنارة ليهتدي بها. (7)
ثم تولى أفريقش، فغزا أرض المغرب، وبنى بها مدينة عظيمة. (8)
ثم تعاقب الملوك، حتى تولت بلقيس بنت شرحبيل، وقد فندنا ما ينسب إليها عند الكلام على ملكة سبأ. (9)
وأشهر التبابعة على الإطلاق هو أسعد أبو كرب، الذي زعموا أنه غزا أذربيجان وفارس، ولقي الترك وهزمهم، وقتل وسبا ثم رجع إلى اليمن، وهابته الملوك، وهادنه ملوك الهند، ثم رجع لغزو الترك، وبعث ابنه حسانا إلى الصغد، وابنه يعفر إلى الروم، وابن أخيه شمر يرعش إلى الفرس، وأن شمر لقي ملك الفرس فهزمه، وملك سمرقند - التي تذكر القصة أن اسمها مشتق من اسمه - فقتله، وجاز إلى الصين فوجد أخاه حسانا قد سبقه إليها، فأثخنا في القتل وانصرفا بما معهما من الغنائم إلى أبيهما، وبعث ابنه يعفر إلى القسطنطينية، فتلقوه بالجزية والإتاوة، فسار إلى رومية وحاصرها ... إلخ. (10)
ومن ملوكهم حسان بن تبع، وينسبون إليه أنه استباح طسما ونصر جديسا، كما بينا ذلك في فقرة [أقصوصة طسم وجديس]. (11)
ومن الملوك تبان أسعد، الذي يقال إنه بعد عودته من الغزو في المشرق مر بيثرب ليحاربها، لأنهم قتلوا ابنا له غيلة، فكان سكان المدينة - يثرب - يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل، فأعجبه ذلك، وكلمه حبران من أحبار اليهود فمال إلى دينهم واعتنقه. (12)
ومن الملوك حسن بن تبان أسعد أبي كرب، ويقال إنه سار بالجيش يريد أن يطأ بهم أرض الأعاجم، حتى إذا وصلوا العراق كرهت حمير المسير معه، فكلموا أخا له يقال له عمرو فقتله وملكه الجيش، ولم ينهه من الحميريين إلا ذو رعين، الذي كتب رقعة وختمها وأعطاها للملك. (13)
ومنهم عمرو بن تبان أسعد، الذي منع عنه النوم عندما ولي الملك بسبب وخز ضميره لقتل أخيه، فأخذ يقتل كل رجل أشار عليه بقتل أخيه حتى خلص إلى ذي رعين فقال له: إن لي عندك براءة، قال: وما هي؟ قال: الكتاب الذي دفعت إليك، فأخرجه فإذا فيه البيتان الآتيان:
ألا من يشتري سهرا بنوم
سعيد من يبيت قرير عين
فإما حمير غدرت وخانت
فمعذرة الإله لذي رعين (14)
وآخر ملوك التبابعة هو ذو نواس، وتتفق المراجع العربية مع الآثار والمراجع اليونانية في أخبار هذا الملك، ويقولون: إنه سمي ذو نواس؛ لأنه كان يرسل ذوائب من شعره على ظهره، وكان يهوديا، وهو صاحب حادثة الأخدود التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة البروج الآيات من 4 إلى 8، وتتلخص هذه الحادثة في أنه اضطهد النصارى، وحارب أهل نجران واقتحم مدينتهم، وقبض على عدد كبير منهم وأحرقهم بالنار، مما أدى إلى استنجادهم بالإمبراطور جوستنيان إمبراطور الدولة البيزنطية التي كانت تنتحل لنفسها حق الإشراف على النصارى، فكان أن أرسل الإمبراطور إلى ملك الحبشة لقربه من بلاد اليمن وبصفته نصرانيا، فأغارت الحبشة على اليمن، وأسقطت دولة التبابعة حوالي سنة 525 للميلاد كما سنبينه في الفقرة التالية: (3-6) الدور الحبشي من 525-575
ليست هذه أول مرة غزت فيها الحبشة اليمن، بل لقد سبق أن غزتها قبل ذلك مرتين أو ثلاثا، فقد عثر النقابون على أثر باللغة الحبشية تسمى به ملك الحبشة «ملك أكسوم وحمير وريدان وسلحين»، وقد أشرنا إلى غزو آخر في الفقرة السابقة.
ولم يكن الصراع بين الحبشة وحمير إلا صراعا بين اليهودية والمسيحية وكانت الحبشة المسيحية تعضدها الدولة البيزنطية، التي كانت تنتحل لنفسها حماية المسيحيين كما قدمنا. على أن هذا التعضيد من جانب الدولة البيزنطية لم يكن خالصا لوجه الدين؛ بل كان للعوامل الاقتصادية والرغبة في السيطرة على تجارة المشرق أثر كبير فيه، ولقد نجحت المحاولة في الآخر في سنة 525 إذا استمر خضوع اليمن للأحباش أكثر من نصف قرن، هذا ما تقوله المراجع اليونانية، ويميل إلى الأخذ به المستشرقون، أما المؤرخون العرب فيرجعون أسباب الغزو الحبشي إلى قصة أصحاب الأخدود، وهي في نظرنا تعتبر السبب المباشر للحرب ولا تنفي تطلع الرومان إلى ذلك من قبل، ونحن نلخصها في الفقرة التالية:
قصة أصحاب الأخدود
كان ذو نواس يهوديا، وبنجران بقايا من أهل دين عيسى بن مريم، لهم رئيس يقال له عبد الله بن التامر، وكان من بقايا أهل دين عيسى رجل صالح يقال له فيميون وكان سائحا لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى غيرها، فما زال يضرب في الأرض حتى وصل إلى نجران، فوجد القوم هناك يعبدون نخلة، فقال: لو دعوت إلهي الذي أعبده لأهلك النخلة، فقالوا: افعل، لئن فعلت دخلنا في دينك وتركنا ما نحن عليه، فصلى فيميون ودعا الله تعالى فأرسل عليها ريحا فجففتها وألقتها، فاتبعه عند ذلك أهل نجران.
وكان ذو نواس متعصبا لليهودية، وتابعته حمير عليها، كراهية منهم للأحباش الذين يعتنقون المسيحية، واتخذ ذو نواس من قتل غلامين يهوديين تكأة للفتك بنجران، فسير إليهم جيشا كبير العدد، ودخل مدينتهم وخيرهم بين اليهودية وبين القتل، فاختاروا القتل، فخد لهم الأخدود فحرق بالنار وقتل بالسيف حتى قتل قريبا من عشرين ألفا، ويرى الدكتور إسرائيل ولفنسن في كتابه «تاريخ اليهود في بلاد العرب»، أن عدد القتلى مبالغ فيه؛ إذ لم تكن نجران سوى بلدة صغيرة لا يزيد سكانها عن بضع مئات، وفضلا عن ذلك لم يقتل كل أهالي نجران، بدليل أن لهم ذكرا في أخبار صدر الإسلام، فليس من شك في أن عدد القتلى لم يدرك عشرين ألفا بوجه من الوجوه، فهي مبالغة ظاهرة سببها أن اضطهاد ذي نواس للنصارى كان عنيفا جدا، حتى إنه ترك آثارا أهاجت النفوس العربية في البادية والحاضرة، وقتلى نجران هم الذين أنزل الله تعالى فيهم قوله تعالى:
قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد (الآيات من 4 إلى 8 من سورة البروج).
ودفع ذو نواس ثمن اضطهاده غاليا؛ إذ فر رجل من نجران يسمى دوس ذو ثعلبان إلى إمبراطور الدولة البيزنطية، فاستنصره على ذي نواس وجنوده وأخبره بما فعل بهم، فقال له قيصر: بعدت بلادك عنا، ولكن سأكتب إلى النجاشي ملك الحبشة وهو على هذا الدين وقريب منكم، فكتب قيصر إلى ملك الحبشة يأمره بنصره.
غزو الحبشة لليمن
أرسل ملك الحبشة - وتسميه النقوش كلب إلى أصبحا - إلى بلاد اليمن سبعين ألف جندي، يقال إن مراكب من مصر هي التي حملتهم إلى شاطئ اليمن، وأمر على الجيش رجلا يقال له أرياط ومعه قائد يسمى أبرهة الأشرم «أبرهة شكل من اسم أبراهام» فساروا في البحر حتى نزلوا بساحل اليمن، وجمع ذو نواس جنوده والتقى بالحبشة عند ساحل عدن، ولكن جنود اليمن لم يكونوا مخلصين لذي نواس، فلم يلبثوا أن تفرقوا دون كبير قتال، ولما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه اقتحم البحر بفرسه فغرق، ودخل أرياط اليمن فهدم معظم حصونها وأذل حمير فقتل ثلث رجالهم، وبعث إلى النجاشي بثلث سباياهم، واتخذ أرياط صنعاء مقرا للمستعمرة الجديدة، وهكذا ضاع استقلال اليمن، وتحققت أطماع قيصر الروم، وكل ما بقي من الذكريات الرائعة لتلك الذكريات الحميرية هو تخليد اسمها في شخص قبيلة من عدن.
اليمن تحت حكم الحبشة
نذكر هنا نصا كاملا لما أورده الدياربكري نقلا عن ابن إسحاق في الجزء الأول من كتابه «الخميس في تاريخ أنفس نفيس» عن حكم الحبشة لليمن:
أقام أرياط السنين باليمن يحكمها باسم نجاشي الحبشة، ثم نازعه أبرهة الحبشي، حتى تفرقت الحبشة عليهما، فانحاز إلى كل واحد منهم طائفة منهم، ثم سار أحدهما إلى الآخر، فلما تقارب الناس أرسل أبرهة إلى أرياط: إنك لا تصنع أن تلقى الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئا بعد شيء، فابرز إلي وأبرز إليك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده، فأرسل إليه أرياط: أنصفت، فخرج إليه أبرهة وكان رجلا لحيما قصيرا وكان ذا دين في النصرانية، وخرج إليه أرياط وكان رجلا جميلا طويلا وفي يده حربة، وخلف أبرهة غلام له يمنع ظهره، فرفع أرياط الحربة فضرب بها أبرهة يريد يافوخه، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته، فبذلك سمي أبرهة الأشرم، وحمل الغلام على أرياط من خلف أبرهة فقتله وانصرف جند أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة باليمن، فلما بلغ ذلك النجاشي غضب غضبا شديدا، وقال: عدا علي وعدا على أميري فقتله من غير أمري. ثم حلف لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته، فحلق أبرهة رأسه وملأ جرابا من تراب اليمن ثم بعث به إلى النجاشي، ثم كتب إليه: أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك، اختلفنا في أمرك إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة، وأضبط لها وأسوس منه، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك وبعثت إليه بجراب من تراب أرضي ليضعه تحت قدميه فتبر قسمه في، فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضي عنه وكتب إليه أن اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري، وأقام أبرهة باليمن. (أ) محاولة أبرهة غزو الكعبة
لما دام ملك أبرهة باليمن وتمكن به بنى القليس - وهي تحريف للكلمة اليونانية إكليزيا ومعناها كنيسة - بصنعاء وهي كنيسة لم ير مثلها في زمنها، ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت كنيسة لم ير مثلها، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب، فلما تحدثت العرب بذلك غضب رجلان من قبيلة، فقيم فأتيا الكنيسة فدنسا قداستها ثم لحقا بأهلهما، فأخبر بذلك أبرهة وعرف أنهما وثنيين من أهل البيت الذي تحجه العرب بمكة، فغضب وحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه، وأمر الحبشة فتجهزت، وكان مع الجيش ثلاثة عشر فيلا بينها فيل كبير اسمه محمود «وكلمة محمود تحريف للفظ ماموث
Mammoth
ومعناها فيل»، وخرج على الجيش رجل من أشراف اليمن يقال له ذو نفر فقاتلهم، فهزم ذو نفر وأخذ أسيرا، ثم خرج عليه نفيل الخثعمي فانهزم نفيل وأخذ أسيرا، فضمن لأبرهة أن يدله على الطريق، ومر على الطائف فبعثت معه ثقيف أبا رغال ليدله على الطريق حتى أنزله المغمس، فلما نزله مات أبو رغال فرجمت العرب قبره، وبعث أبرهة نفرا إلى مكة فساق أموال أهلها وساق فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، ثم بعث واحدا من حمير إلى مكة فقال: سل عن سيد قريش وقل له: إنني ما جئت لحربكم بل جئت لهدم هذا البيت، وانطلق عبد المطلب مع الحميري إلى أبرهة فأذن له بالدخول، وكان عبد المطلب رجلا عظيما جليلا وسيما، فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه، فنزل عن سريره وأجلسه إلى جنبه على بساط وقال لترجمانه: قل له: ما حاجتك؟ فقال عبد المطلب: حاجتي أن يرد علي مائتي بعير أصابها لي. فقال أبرهة: كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في إبلك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه؟! فقال عبد المطلب: أنا رب الإبل وللبيت رب يمنعه، وأمر أبرهة برد إبله إليه، وانصرف عبد المطلب إلى قريش وأخبرهم الخبر، فأخذوا يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة، ثم انطلقوا إلى شعف الجبال فتحرزوا فيها، وحاول أبرهة توجيه الفيل إلى مكة، فألقى الفيل نفسه إلى الأرض، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام وإلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فسقط إلى الأرض، ثم أرسل الله عليهم طيرا أبابيل من البحر، يقول ابن الأثير: إنها أمثال الخطاطيف، مع كل طير منها ثلاثة أحجار تحملها، حجر في منقاره وحجرين في رجليه، فقذفتهم بها، وهي مثل الحمص والعدس ... إلخ.
وكانت النتيجة أن انهزم جيش أبرهة وفشلت حملته.
وكان سبب تدمير الجيش الحبشي انتشار الجدري، وهو الذي أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:
ترميهم بحجارة من سجيل
وهذا العام الذي حدثت فيه هزيمة الحبشة هو المعروف بعام الفيل نسبة إلى الفيل الذي رآه العرب لأول مرة في هذه الحملة، وفي هذا العام ويقابل 571 كان ميلاد النبي عليه الصلاة والسلام. (ب) سوء سيرة الأحباش في اليمن
لم يكد يعود أبرهة إلى اليمن حتى مات، فملك بعده ابنه يكسوم، فأساء السيرة في اليمن وأذلهم، وتولى بعده أخوه مسروق فسار على خطته، فلما اشتد البلاء على أهل اليمن فكروا في التخلص من الحبشة بأي ثمن كان، وقاد حركتهم هذه رجل من الأشراف يسمى ذو يزن كان قد اعتدى أبرهة على زوجه، فاستنصر عليه كسرى فأبطأ عليه حتى مات ببابه، وتولى ابنه سيف بن ذي يزن قيادة الحركة من بعده، وسيف بن ذي يزن هذا بطل من أبطال القصص والتاريخ معا، والظاهر أن الحركة الوطنية في اليمن ضد الأحباش لقيت في آخر الأمر تعضيدا من فارس؛ لأن الأحباش هم صنائع عدوتها بيزنطة، على أن الغريب في الأمر أن سيف بن ذي يزن، وهو يعتقد أن اليمن لا يمكن أن تتخلص من الأحباش إلا بتدخل أجنبي، لم يلتمس التدخل من فارس مباشرة، إنما لجأ إلى قيصر الروم بالقسطنطينية، وكان طبيعيا أن لا يعير قيصر الروم أمره اهتماما؛ لأنه هو الذي حرك الأحباش لغزو اليمن، فولى وجهه شطر النعمان بن المنذر ملك الحيرة يطلب إليه تقديمه لكسرى ملك الفرس لعرض قضيته، وقبل النعمان بن المنذر الوساطة. (3-7) الدور الفارسي
قال الدكتور هيكل باشا في كتابه «حياة محمد»: «فلما دخل النعمان على كسرى دخل سيف بن ذي يزن معه، وكان كسرى يجلس في إيوان مجلسه وقد جمع فيه أجزاء عرش دارا، وكانت موشاة بصور رسوم المجرة، فإذا كان في مشتاه وضعت هذه الأجزاء يحيط بها ستار من أنفس الفراء، تتدلى أثناءه ثريات من فضة وأخرى من ذهب ملئت بالماء الفاتر، ونصب فوقها تاجه العظيم، يضيء فيه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ بالذهب والفضة، مشدودا إلى السقف بسلسلة من الذهب، فما يلبث من يدخل إلى مجلسه أن تأخذه رهبته حين يراه، وكذلك كان شأن سيف بن ذي يزن، فلما تطامن وسأله كسرى عن أمره وما جاء فيه قص عليه أمر الحبشة وظلمها لليمن.»
وتروي كتب التاريخ الأخرى أن كسرى قال: بعدت بلادك مع قلة خيرها، فلم أكن لأورط جيشا من فارس بأرض العرب، لا حاجة لي بذلك، ثم أجازه بعشرة آلاف درهم، وخرج سيف فنثر ذلك المال على حاشية الملك، وسمع كسرى فاستدعاه وقال له: كيف تعمد إلى حباء الملك تنثره للناس، فقال: وما أصنع بهذا، ما جبال أرضي التي جئت منها إلا ذهبا وفضة، يقصد سيف أن يرغبه فيها، فنجحت حيلة سيف، فأرجأ الأمر حتى يستشير رجال دولته، فقال قائل منهم: أيها الملك، إن في سجونك رجالا قد حبستهم للقتل، فلو أنك بعثتهم معه فإن يهلكوا كان ذلك الذي أردت بهم، وإن يظفروا كان ملكا ازددته، فبعث معه كسرى من كان في سجونه وكانوا ثمانمائة رجل، واستعمل عليهم وهزر وكان ذا سن فيهم وأفضل أولئك المجرمين حسبا، وتقول القصة: إنه لطعنه في السن كانت جفونه مدلاة فوق عينيه، فكان إذا أراد الرمي عصبوا له جفنيه إلى أعلى حتى يتمكن من إصابة الهدف.
وأبحرت الحملة يرافقها سيف في ثمان سفائن، غرقت منها سفينتان ووصلت السفائن الست إلى شاطئ حضرموت وعليها الجيش الفارسي، وقد بلغت عدته ستمائة وانضم إليهم عدد كبير من اليمنيين، ووصلت أخبار الجيش إلى مسروق حاكم الحبشة، فخرج على رأس قوته ليلاقي الغزاة، ويقولون إنه أحرق سفنه حتى لا يفكر الجيش في العودة، ثم تصاف الجيشان، فقال وهزر: أروني ملكهم، فأشاروا إلى رجل على الفيل عاقد تاجه على رأسه، بين عينيه ياقوتة حمراء في حجم البيضة، وأطلق وهزر سهمه فصك الياقوتة التي بين عيني مسروق، فتغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه ونكص عن دابته، وكان سقوط الملك نذير الفشل في صفوف الأحباش الذين تفرقوا، فتعقبهم الفرس والعرب بالقتل والتذبيح، ودخل وهزر صنعاء بعد أن هدموا له بابها؛ لأنه لم يرد أن يدخلها منكسا رايته، وتختلف الروايات في تفصيل ما حدث بعد ذلك، فمعظم المراجع العربية تقول: إن وهزر أرسل إلى كسرى يعلمه بالفتح فبعث إليه بأموال، فكتب إليه أن يملك سيف بن ذي يزن، فعاد وهزر إلى فارس، وجلس سيف على سرير اليمن، واتخذ قصر غمدان مقرا له، وجاءته وفود العرب تهنئه ومن بينها وفد برئاسة عبد المطلب زعيم مكة الذي أكرم سيف وفادته وخصه بعشرة أمثال ما أعطى الآخرين، ثم أخذ سيف يطوف بلاد اليمن يطلب الأحباش فلا يقف على أحد منهم إلا قتله، وكان يبقر بطون النساء، ولم يبق من الأحباش إلا جماعة قليلة جعلهم عبيده، فكانوا يمشون بين يديه بالحراب حتى إذا خلوا به في الصحراء وقد خرج إلى الصيد انقضوا عليه بالحراب وقتلوه ثم هربوا، وبلغ الخبر كسرى فبعث إليهم وهزر ثانية في أربعة آلاف فارس، وأمره أن لا يترك باليمن حبشيا ولا سلالة حبشي من عربية، وفعل وهزر ما أمره كسرى فعينه كسرى حاكما على اليمن يبعث إليه بخراجها. هذه رواية معظم الكتب العربية. أما بعض المراجع الأجنبية فتقول بأن الفرس بسطوا نفوذهم على اليمن مباشرة، وكان وهزر مندوبا ساميا له الحكم الفعلي، ولسيف بن ذي يزن الحكم الرسمي إلى أن قتل.
ولما مات وهزر أقام كسرى مكانه ابنه المرزبان ثم حفيده، وكان خامس ولاة الفرس على اليمن وآخرهم باذان الذي اعتنق الإسلام في سنة 628م، وهي السنة السادسة للهجرة، وظل واليا عليها حتى سنة 632م، وهي السنة التي دخلت فيها في حوزة الإمبراطورية العربية، وبذلك انتهى حكم فارس.
وانتهت في نفس الوقت أهمية اليمن في مجرى التاريخ العربي؛ إذ حلت محلها الحجاز في استرعاء الانتباه العام.
ونصف في الفقرات التالية أهم مظاهر الحضارة في دول بلاد اليمن القديمة منذ أقدم العصور إلى أن ظهر الإسلام. (4) الحكومة والحالة الاجتماعية
كانت حكومات اليمن تقوم على قبائل لا تربط بينها روابط القربى بقدر ما تربط روابط المصلحة، وكان نظام الحكم ملكيا وراثيا في الأبناء أو الإخوة، وفي بعض الأحيان كان يشرك الملك ابنه معه في الحكم على غرار ما كان يصنع ملوك الأسرة الثانية عشرة المصرية، وكان للنساء حق وراثة العرش كالرجال، كما حدث في الدولة المصرية القديمة أيضا، ولكن الملكية لم تكن مطلقة، بل كانت مقيدة؛ إذ كانت توجد مجالس لها صفة نيابية تمد الملك بالمشورة والنصيحة وتساعده في المسائل التشريعية، تؤيد ذلك النقوش التي كشفت كما يؤيده القرآن الكريم في قصة سليمان وملكة سبأ التي أشرنا إليها آنفا؛ إذ قالت لما ألقي إليها كتاب سليمان يطلب إليها فيه أن تأتي مسلمة:
قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون (الآية 32 من سورة النمل). فالنقوش هنا تتفق مع ما جاء في القرآن تماما.
ثم إن نظام الحكم الذي كان في قتبان وفي غيرها من الحكومات كان يسمح لمجلس من الشيوخ بأن يهيمن إلى حد ما على تصرفات الملك ولو أن السياسة العامة كانت تقررها جمعية عمومية من رجال القبائل.
وكانت الأوامر الملكية تصدر على هيئة مراسيم، وتكتب في غالب الأحيان على لوحات من البرونز أو الحجر وتعرض في الطرق العامة أو المعابد ليراها الناس جميعا، وقد عثر المنقبون على مجموعة كبيرة من هذه اللوحات التي كثيرا ما كانت تزخرف من أعلاها أو أسفلها بنقوش مختلفة يمثل بعضها أبا الهول المجنح أو النخيل أو غير ذلك، وكان الملوك يلبسون مآزر محوكة بالذهب ويتحلون بأساور ثمينة في أذرعهم، ويمكننا أن نستنتج من رسوم الملوك على النقود أنهم كانوا يرسلون شعور رءوسهم ولا يرسلون شواربهم أو لحاهم، كما كان يفعل قدماء المصريين.
وساد الحكم الإقطاعي في اليمن، فكان الملك على رأس المملكة والبلاد تقسم إلى مخاليف «جمع مخلاف»، وكل مخلاف يقسم إلى محافد «جمع محفد»، وكل محفد يقسم إلى قصور أو حصون، وأصحاب المخاليف يسمون أقيال «جمع قيل»، وأصحاب المحافد يسمون أذواء «جمع ذو»، وفي الغالب كان المحفد ينسب إلى أشهر قصر فيه، والمخلاف إلى أشهر محفد فيه، وفي بعض الأحيان كان ينسب كل إلى إله المنطقة، وكثيرا ما كان يطغى أحد الأقيال على مخلاف جاره إذا أنس من نفسه قوة فيضمه إليه، بل وكان يطمع بعض الأحيان أحد الأقيال في الملك، فينزل الملك عن عرشه ويتولى مكانه، وكان يساعد هؤلاء أن الملوك قلما كانوا يعتنون بتنظيم الجند لقلة الحروب والفتوح، ويشبه هذا النظام كثير الشبه النظامي الإقطاعي الذي قامت عليه الأسرة الثانية عشر في تاريخ مصر القديم، أو النظام الإقطاعي في العصور الوسطى في أوروبا، وكانت طبقات الشعب تشبه طبقات النظام الإقطاعي فكان هناك أشراف وملاك ورقيق عدا جاليات الأجانب، وكانت تفرض على الأراضي ضرائب ثلاث، وليست لدينا معلومات عن قيمة هذه الضرائب، ولكن النقوش تدل على أنها كانت تحدد والمحاصيل في الحقول، وكان للكهنة الحق في فرض الضرائب وفي أخذ الزكاة، وكان يسخر الناس في تشييد المباني العامة.
وذكر استرابون أن الرياسة في العائلة كانت لأكبرها سنا، وأن أموال العائلة ومتاعها كان شركة بين أفرادها، وأن زواج الأخت وزواج الأم وجمع المرأة بين أزواج عدة كان معروفا، كما كان يعاقب بالموت من يتزوج من غير أسرته، وبعض هذا كان شائعا عند قدماء المصريين، فقد كان الأخ يتزوج أخته والابن يرث أباه في زوجاته، ولا نعلم مبلغ صحة ما ذكر عن اليمانيين. (5) التجارة والزراعة والصناعة والفنون
قامت حضارة بلاد اليمن على التجارة بحكم توسطها بين أمم العالم القديم، فكانت تأتي إليها المتاجر من الهند وجزائر الهند الشرقية وبلاد الصين وسواحل أفريقيا، فترسو بها السفن على شواطئ اليمن ثم تنقل إلى صنعاء أو مأرب حيث تحملها ظهور الإبل في قوافل ضخمة إلى الشام والعراق ومصر وحوض البحر الأبيض المتوسط، وكانت سبأ تتقاضى مكوسا وضرائب جمركية على البضائع المارة بها، وكانت قوافلها تحمل متاجر البلاد الشمالية إلى اليمن، كما كانت تحمل معها بعض الإماء من غزة أو يثرب أو غيرها للخدمة في المعابد، وكان أكثر ما تحمله القوافل إلى الشمال الذهب والقصدير والعاج والتوابل وريش النعام والقطن والحجارة الكريمة، وكان من بين ما تحمله إلى الشمال بعض ما تنتجه أرض اليمن نفسها كالبخور والمر واللادن والعطور والطيب والصموغ مما كان يحتاج إليه في المعابد، وكانت ترجع القوافل بحاصلات الشمال التي أهمها الحنطة والزيوت والخمور والمنسوجات والأصباغ والآنية وسبائك الفضة، وكانت التوابل والبخور من السلع المقدسة التي لا يجوز أن يتجر فيها كل إنسان، والتي كانت قاصرة - كما ذكر بليني - على ثلاثة آلاف عائلة من الأشراف كانوا يدفعون عنها زكاة لمعبد شبوة.
أما الصناعة فقد اشتهرت بها بلاد اليمن من قديم، فكانت تنسج المواد الخام التي كانت تستوردها من الهند، والبرد اليمنية مشهورة، وأكثر منها شهرة السيوف التي كانت تصنع هناك، وقديما كانوا إذا أرادوا امتداح سيف قالوا: «سيف يماني»، وكذلك كانت تدبغ الجلود وتصنع منها الدروع السميكة.
ووجه أهل اليمن قديما عناية للزراعة، ولم يكونوا يزرعون السهول المنبسطة فحسب؛ بل كانوا يزرعون سفوح الجبال أيضا بعد تهيئتها طبقات الواحدة تلو الأخرى ، وقد عنوا عناية كبيرة بمسائل الري وحفر القنوات لتوصيل الماء إلى مدرجات السفوح المنزرعة، كما أنشئوا مئات السدود لخزن الماء في أيام المطر ورفع مستواه ليصل إلى السفوح، وكانوا يعنون بوجه خاص بزراعة النباتات النادرة والفواكه والكروم، حتى لقد ذكر الهمداني صاحب كتاب صفة جزيرة العرب أسماء أكثر من عشرين صنفا من العنب.
وكان أهل اليمن الأقدمون مهرة في فن العمارة ونحت الأحجار، يدلنا على ذلك ما خلفوه وراءهم من سدود وقصور وحصون ومدائن ومعابد وحياض لخزن الماء، وإن ما ذكره الهمداني من وصف قصر غمدان ومن أنه كان عشرين طبقة بعضها فوق بعض، بين كل سقفين عشرة أذرع، ومن أن بانيه لما بلغ غرفته العليا أطبق سقفها برخامة واحدة شفافة ليس فيه مبالغة، ويدل على مهارتهم، وأن ما بقي من الآثار يصعب على الإنسان أن يرى الفواصل بين حجارتها، وكانت تزخرف مبانيهم نقوش كتابية ورسوم تمثل حيوانات أو زخارف من ورق الشجر، وهي تدل جميعها على مهارة في الحفر الغائر في الحجر. أما صناعة التماثيل فلم تكن متقدمة كما كانت عند المصريين واليونان أو حتى عند الآشوريين، فكان الجسم ينحت كتلة صماء، أما الوجه فكانت لا تجري فيه أية حياة ولا يعبر عن شيء، وكانت النسبة في معظم الأحيان بين أجزائه خاطئة، والظاهر أن القوة الفنية للابتكار لم تكن قوية فيهم، فإن أحسن نماذجهم الفنية في الآنية أو التماثيل يظهر فيها الأثر الأجنبي إن لم تكن صنعتها يد أجانب، وصكوا عملتهم في أول الأمر على غرار العملة اللاتينية، ولكن صناعتها تدهورت في آخر الأمر وكانت تقليدا ضعيفا للنقود الرومانية.
وكان لأهل اليمن نظام غريب في تشييد مدافنهم ومعابدهم، فمدينة مأرب عاصمة سبأ تدل أنقاضها الحالية على أنها كانت مستديرة الشكل تماما، ويرجح أن ذلك كان راجعا إلى اعتبارات دينية، وكان بعض مبانيهم بيضي الشكل كالأثر المعروف الآن باسم حرم بلقيس ولعله كان معبدا، ونلاحظ أن معظم المدائن اليمانية كانت تبنى على مرتفعات، وهذا طبيعي في بلاد حارة كبلاد اليمن .
وقد عرف اليمانيون العقد المدبب، ولا تزال كثير من الأحواض التي بنوها لخزن المياه مستعملة إلى الآن، أما قصور اليمن فقد أطنب شعراء العرب في التغني بها ووصفها في أشعارهم، ولا تزال أنقاض بعضها قائمة إلى الآن.
أما أشهر مباني العرب، فهو سد مأرب، ولأهميته سنفرد له فقرتين، نذكر فيهما تاريخه وتصدعه وما ترتب على ذلك. (6) اللغة والدين
كان أهل اليمن يتكلمون لغة سامية، ولكنها ليست اللغة العربية الشمالية التي نتكلمها الآن، وهي تمت إلى الحبشية بصلة، ويعتبرها علماء اللغات من لغات القسم الجنوبي للمجموعة السامية، وقد تفرعت إلى لهجات بحسب عصور الحكم، منها اللهجة المعينية واللهجة السبئية واللهجة الحميرية. والكتابة اليمنية القديمة ليست لها حروف حركة تحدد النطق بالكلمات، فهي من هذه الناحية تشبه الكتابة المصرية القديمة. وضبط النطق بالألفاظ فيها ليست إلا مسألة تخمينية. وحروف الكتابة لا تتصل، إنما يفصل بين الكلمات فاصل، وأبجديتها مثل الأبجدية الفينيقية مقتطعة من الأبجدية السينائية التي كشفت في السنوات الأخيرة في سرابيط الخادم بسيناء، وكان كل من تجار العرب والفينيقيين قد نقلوها من سينا، وهذه مأخوذة من الخط المصري القديم. ويعرف الخط اليمني القديم بالمسند، وهو اسم أطلقه علماء المسلمين عليه؛ لأن الحروف فيه تستند إلى أعمدة، وتتكون الأبجدية من تسعة وعشرين حرفا، هي الحروف الثمانية والعشرون للأبجدية العربية، تضاف إليها السين الثانية العبرية، وكان اليمنيون يكتبون من اليمين إلى اليسار، وبعض النقوش القديمة يقرأ منها سطر من اليمين إلى اليسار وسطر من اليسار إلى اليمين على التعاقب، وقد ظل الخط الحميري «المسند» يقرأ إلى صدر الإسلام، حتى أدخل الإسلام في بلاد اليمن مع العقيدة الدينية لغة القرآن «العدنانية المضرية أو القرشية الفصحى» ومحا محوا تاما كل اللهجات الجنوبية، التي كانت قد ضعفت لأسباب شتى، ونسي أهل اليمن مع نسيانهم للغتهم القومية أخبار أقوامهم السابقين (راجع تاريخ اللغات السامية، الدكتور إسرائيل ولفنسون، والجزء الأول من كتاب الأساس للدكتور العناني).
هذا؛ ولا يزال المستشرقون يجدون صعوبة كبيرة في ترجمة النقوش العربية الجنوبية، وأن معاني شطر كبير منها لا يزال موضع خلاف بينهم.
وقد ذكر الأستاذ فلبي في مقدمة كتابه الأخير عن عصر ما قبل الإسلام الذي أشرنا إليه آنفا أنه يستطيع أن يدعي أنه قد قرأ بقدر الاستطاعة وهضم بالفعل كل النقوش العربية الجنوبية، وعدتها نحو 6000 نقش، هي كل التي كشفت أو على الأقل نشرت ... وأنه عندما يعتزم تفصيل المختصر الذي كتبه عن تاريخ العرب قبل الإسلام بالتدريج وينتوي أن يؤيد آراءه بإضافة ملحق إلى الكتاب يتضمن ترجمة إنجليزية لكل النقوش العربية الجنوبية ذات الأهمية التاريخية.
ولا شك أن اليمانيين الأقدمين كانت لهم آداب؛ لأنهم ضربوا في المدنية بسهم وافر، ولكن لم يصلنا من آدابهم شيء، أما النقوش التي وصلتنا فإنها لا تتضمن إلا أدعية واستغفارات أو مراسيم ملكية تتعلق بالري أو الضرائب أو ما شاكل ذلك، وقد قسمها العلماء إلى الأقسام الستة التالية: (1)
نقوش معمارية وجدت على جدران المعابد وغيرها من المباني العامة تخليدا لذكرى بانيها أو من اشتركوا في إقامتها. (2)
نقوش تاريخية دونت عليها أخبار بعض المعارك، أو أعلن فيها ذكرى بعض الانتصارات. (3)
نقوش دينية محفورة على لوحات من البرونز أقيمت في المعابد قربانا للآلهة. (4)
نقوش جنائزية أو قبريات. (5)
قوانين عسكرية محفورة على أعمدة في مداخل المباني العامة أو المعابد. (6)
نقوش تتضمن وثائق قانونية تنم عن نظام دستوري طويل العمر.
أما ما ينسب إلى بعض ملوكهم من شعر أو غيره بالعربية الفصحى، فليس إلا بعضا من خيال المؤرخين والمتأخرين.
أما ديانتهم فقد نقلت إلينا النقوش أسماء معابد كثيرة، وأكثر من مائة إله، ولكن لا نعرف عن هذه الآلهة إلا أسماءها، ولا شك أن بعض الآلهة كان يعبد في كل البلاد، وأكبر آلهتهم الشمس، وكانت لها مظاهر متعددة في جهات مختلفة، ومن بين آلهتهم عطار الذي يدل على كوكب الزهرة، ولعل اسمه مشتق من أشتار البابلي أو عشتوريت الكنعاني، وكان القمر من بين آلهتهم الكبرى، ويرى بعض العلماء أنه كانت له الأفضلية على الشمس على اعتبار أنه المعبود الذكر، وأن الشمس الأنثى زوجته، وكان يسمى عندهم ورح أو شهر أوسين، وكان لكل منطقة إلهها المحلي، فكانت معين تعبد الإله ود، وقتبان تعبد الإله عم، وسبأ تعبد الإله المقاه، وهمدان تعبد الإله تعلب ريام، ولعل هذه الآلهة المحلية أو القبلية كانت مظاهر لإله القمر، وهناك في النقوش ما يشير إلى أن القمر والشمس والزهرة كانت تكون أسرة مقدسة، كما كان أوزوريس وإيزيس وحوريس يكونون ثالوثا مقدسا عند المصريين، وكان الثور وقرنا الثور والهلال تعتبر من رموز القمر كما كانت البقرة هاتور عند المصريين القدماء.
وفي بعض الأوقات كان الملوك يعبدون بعد موتهم بوصف كونهم آلهة، وكان اليمنيون يعتقدون أن الشعب هو سليل الملك، وأن الملك هو الابن البكر للإله، وكثيرا ما نرى عبارة «الإله والملك والشعب» على النقوش، ولم يكن للآلهة تماثيل كما كان عند المصريين القدماء، وكان الناس يتقدمون إلى الآلهة بتماثيل لأشخاصهم لكي تبارك أعمالهم، كما كانوا يقربون لهم قرابين من الضحايا والبخور، وكانوا يؤدون الحج في فصول معلومة من السنة، وكان شهر الحج يسمى ذو الحجة أو ذو المحجة، وعرفنا أيضا أسماء بعض شهورهم، ويمت عدد منها بصلة إلى الزراعة، وكان اسم الكاهن في لغتهم «رشو» ولعل معناها المعطي.
وزاد النفوذ اليهودي في أواخر أيام دولة الحميريين، وتهود بعض ملوكهم، وكان من آثار اليهودية أن شاع ذكر اسم «الرحمن» في النقوش دلالة على الله.
ودخلت النصرانية بلاد اليمن قبل الغزو الحبشي، وانتشرت بعد ذلك الفتح، ولكنها لم تلق قبولا؛ وذلك لأنها كانت تعتبر دليلا على السيطرة الأجنبية، وأسس أبرهة كنيسة القليس المشهورة في صنعاء، ولكنها لم تلق ارتيادا كبيرا، أما الفتك بالنصارى في نجران فكانت له أسباب سياسية كما كانت له أسباب دينية. (7) سد مأرب أو سد العرم
أشار القرآن الكريم إلى سد مأرب وتصدعه في قوله تعالى:
لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور * فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور (سورة سبأ الآيات من 15 إلى 17).
وغني عن البيان أن القرآن الكريم في هذه الآيات يشير إلى تصدع واحد من التصدعات التي أصابت السد أكثر من مرة، فيما بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن السادس بعده، وكان منها ذلك الذي حدث سنة 115ق.م، والذي حدث سنة 450م، وسنة 540م، ولا نعلم علم اليقين إلى أيها يشير القرآن الكريم.
وكتب الهمداني في كتاب «الإكليل» منذ عشرة قرون عن السد ما ملخصه: «سبأ كثيرة العجائب، والجنتان عن يمين السد ويساره، وهما اليوم غامرتان، وإنما عفتا لما اندحق السد، أما مقاسم الماء من مداخر السد فيما بين الضياع فقائمة كأن صانعها فرغ من عملها بالأمس.» ولقد ظل الناس في شك من أمر السد بعد رواية الهمداني حتى تمكن المستشرق الفرنسي أرنو من الوصول إلى مأرب سنة 1843م، وشاهد آثاره ورسم له خريطة ووصفه وصفا جاء مطابقا في مجموعة لما قاله الهمداني.
ورد في الجزء الثاني من «رحلة إلى بلاد العرب السعيدة» للأستاذ نزيه العظم آخر من زاروا مأرب ما خلاصته:
على مسافة 145 كيلومتر تقريبا إلى الشرق الشمالي من صنعاء، تجتمع سيول اليمن الغربية مع السيل الذي يأتي من الشمال، والسيل الذي يأتي من الجنوب، وتؤلف جميع هذه السيول شبه بحيرة كبيرة مستديرة ومرتفعة من جهة الغرب والشمال والجنوب، ومنخفضة من جهة الشرق حيث تسير جميعها شرقا في مجرى سيل واحد يطلق عليه اسم أكبرها أي اسم ذنه «إذنه» وتدخل جميعها في واد كبير في جبل يقال له: بلق، فنقسمه إلى جبلين؛ الشمالي ويقال له: بلق الأيسر، والجنوبي ويطلق عليه: بلق الأيمن؛ لأنه واقع على يمين الآتي إلى مأرب، ويزداد اتساع الوادي بين البلقين كلما سار الإنسان إلى جهة الشرق إلى أن يبلغ عرضه 500 متر، ثم يأخذ في الضيق إلى أن يبلغ نحو 175 مترا في مخرجه بآخر الجبلين بمكان يقال له مربط الدم، وهو المكان الذي بني فيه سد العرم، ولم يبق سيل للعرم للسد ههنا أثرا غير مخرج الماء، وهو كناية عن جدار مبني بالتوازي إلى جانب جبل بلق الأيمن، وفيه مخرج واحد للماء قائم إلى جانب الجبل وعرضه أربعة أمتار ونصف تقريبا، وجداره الواحد هو عبارة عن صخرة عظيمة في جانب الجبل عليها بعض الكتابة الحميرية الآتي نص ترجمتها: «يثعمر بين بن سمهعلي ينوف حاكم سبأ، ثقب الحجر الرخامي في حوض حبايض في الجهة الشمالية.»
هذا خلاصة بعض ما كتبه آخر رائد، استطاع أن يظفر من إمام اليمن بتصريح بزيارة مأرب في سنة 1936. (7-1) وصف السد والغرض منه وتصدعه
ليست ببلاد اليمن أنهار دائمة الجريان، ولكن تنزل بها أمطار غزيرة في فصل واحد من فصول السنة هو الصيف، فتخلف الأمطار سيول عظيمة تنساب في الأودية بين الجبال، فيجري بعضها إلى البحر، وينساب بعضها في الصحاري، وتكون في بعض الأحيان هذه الأمطار بغزارة حتى تكون خطرا على الزراعة، فإذا ولى فصل المطر ظمئ القوم وجفت زروعهم، فدفعتهم الحاجة - وهي أم الاختراع كما يقولون - إلى اتقاء خطر الغريق وخطر الحريق فأقاموا الخزانات لضبط المياه واختزانها ورفعها إلى سفوح الجبال وتوزيعها على قدر الحاجة. وقد ذكر الهمداني أسماء عدة لسدود كان أهمها سد مأرب، وسد مأرب عبارة عن حائط ضخم أقيم في عرض وادي أذنه، ويبلغ طوله 800 ذراع وعرضه من أسفل 150 ذراعا، وارتفاعه بضعة عشر ذراعا، وكان ينتهي من أعلى بسطحين مائلين على زاوية منفرجة، تكسوهما طبقة من الحصى، والظاهر أنه بني بالتراب والحجارة، وكانت به منافذ ينصرف منها الماء إلى الجنتين اليمنى واليسرى، وكانوا يقفلونها بعوارض ضخمة من الخشب أو الحديد ويفتحونها متى شاءوا.
وتقع مدينة مأرب إلى الشمال الشرقي من السد، وبينها وبينه متسع من الأرض تبلغ مساحته 300 ميل مربع كان قفرا قاحلا، فأصبح بعد تدبير الماء بالسد غياضا وبساتين هي المعبر عنها بالجنتين اليمنى واليسرى.
وقد اختلف مؤرخو العرب فيمن بنى السد؛ فقيل: بنته بلقيس. وقيل: حمير. وقيل: سبأ. وقد أشرنا في الفقرة السابقة إلى ترجمة النقش الذي نقله الأستاذ نزيه العظم، ومنه يستنتج أن يثعمر بين بن سمعهلي ينوف اشترك في بناء السد، وقد ترجم الأستاذ مولر نقشا وجد على الجانب الأيسر نص ترجمته «أن سمهعلي ينوف بن زمر على مكارب سبأ اخترق بلق وبنى رحب لتسهيل الري.» وسمهعلي هذا هو والد يثعمر المذكور، ويستنتج أن كلا منهما بنى حائطا، وكلاهما من ملوك القرن الثامن قبل الميلاد، ولعلهما أول من قام ببناء السد، ولكنهما لم يتمكنا من إتمامه، فأتمه أخلافهما الذين ذكرت أسماء بعضهم في أماكن متعددة من السد، وإذن نستطيع أن نقرر أن السد لم يتم في عهد ملك واحد، شأن كل مشيدة ضخمة، وليس لروايات العرب في ضوء هذه النقوش نصيب من الصحة.
أما تصدع السد فالظاهر - كما قال الأستاذ الخضري في الجزء الأول من تاريخ الأمم الإسلامية - أنه لما تطاولت الأزمان على ذلك السد أهمل من شأنه فتصدعت جوانبه، ولم يحمل هجمات السيول المتواردة عليه والمياه المحجوزة خلفه فانكسر، وفاضت المياه على ما أمامه من القرى والمزارع فأتلفتها، وكان ذلك حوالي سنة 115 أو 120 قبل الميلاد كما قاله العالم سيديو؛ أي قبل الهجرة بسبعة قرون ونصف قرن تقريبا، وكان تصدعه الحد الفاصل بين سقوط سبأ وقيام دولة حمير، وقد أثبتت الكشوف الحديثة أن السد رمم بعد ذلك التصدع المشهور عدة مرات، بدليل أنهم حصلوا على نقش بين أنقاض ذلك السد يرجع إلى عهد أبرهة الحبشي في منتصف القرن السادس الميلادي في سنة 542م أو 543م، وخلاصته أن أبرهة جاءه النبأ بتهدم السد فبعث إلى القبائل بإيفاد الحجارة والأخشاب والرصاص لترميمه، فرمم واستغرق العمل في ذلك زهاء السنة.
وللمؤرخين من العرب قصة طريفة تتعلق بتصدع السد؛ إذ يقولون إن الملك عمرو بن عامر ماء السماء الملقب ميزيقيا قالت له زوجته المسماة ظريفة، وكانت امرأة كاهنة، إذ حلمت حلما أن كارثة ستحدث، فقالت له: اذهب إلى السد فإن رأيت الجرذ ينخب بمخالبه، ويحمل الحجارة الكبيرة بقدميه الخلفيتين، فتأكد بأن الكارثة حادثة، فذهب عمرو إلى السد، ولشد ما كانت دهشته؛ إذ رأى فأرا يحرك صخرة هائلة لا يقدر على زحزحتها من موضعها خمسون رجلا، فتيقن عمرو من أن السد لا بد متصدع، فاستقر عزمه على أن يبيع ممتلكاته ويبرح مع أسرته، ولكي لا يرتاب الناس في أمره دبر الحيلة الآتية؛ إذ دعا زعماء قومه إلى مأدبة فاخرة، واتفق مع ابنه على أن يلطمه في أثناء الحفل، وفعل الابن ما طلب أبوه، فصاح عمرو: يا للعار، وأقسم أن لا يقيم في بلد يلطم فيها وجهه، ثم عرض كل أملاكه للبيع فتهافت الناس على شرائها، ولما تم له بيع ممتلكاته أخبر الناس بالخطر الذي يهددهم، ثم بارح مأرب على رأس جمهور صغير منهم إلى الشمال، ولم تمض أيام على رحيله حتى جاء السيل ففزعت البلاد ولم يبق من الأرضين والكروم إلا ما كان في رءوس الجبال، وتفرق القوم أيدي سبأ. وبصرف النظر عما تنطوي عليه هذه القصة من خرافة فإنها تشير إلى أن الهجرة حصلت قبل التصدع، وهناك رأي يقول بأن الهجرة إنما كانت بعد أن خرب السد وأتلف الأرض والزرع، ويرجح الأستاذ الخضري في الجزء الأول من محاضراته الرأي الثاني لسببين، أولهما أن مفارقة البلاد والنزوح كلية عن الوطن ليس بالأمر الهين، ولا يقدم عليه قوم لمجرد تكهن كاهنة، والثاني ما جاء في القرآن الكريم في سورة سبأ الآيات من 15 إلى 19 مما يدل بوضوح على أن سيل العرم أصابهم، وبدل في شكل أرضهم وهم يقيمون بها. وممن سار على هذا الرأي العلامة الفرنسي سيديو.
ولا حاجة بنا إلى القول بأن تصدع السد لم يكن إلا السبب المباشر لمجموعة من الأسباب التاريخية الطويلة بين اقتصادية واجتماعية وسياسية خارجية وداخلية أدت إلى تفكك المجتمع العربي الجنوبي وسقوطه النهائي، كان يجهلها المؤرخون القدامى فتلمسوها في قصة وضعوها عن ذلك الفأر الذي جعلوه يحدث ذلك الانقلاب الخطير في التاريخ. (7-2) تفرق قبائل اليمن في الشمال بعد تصدع السد
بعد تصدع السد ترك أهل مأرب اليمن، وبدءوا يرتادون مواضع من الجزيرة تصلح لسكناهم - هكذا تقول الروايات العربية التي لا يسلم بصحتها معظم المؤرخين المحدثين - ونحن نثبت هنا خلاصة ما أورد العرب عن أشهرهم. (1)
بنو ثعلبة بن عمرو بن عامر؛ الذين منهم الأوس والخزرج، ساروا نحو يثرب وبها جماعة من بني إسرائيل متفرقون في نواحيها فاستوطنوها معهم وأقاموا بها حتى غلبوهم عليها. (2)
بنو حارثة بن عمرو؛ وهم خزاعة الذين ساروا إلى مكة، وافتتحوا الحرم وأجلوا عنه سكانه وهم جرهم. (3)
عمران بن عمرو؛ وقد انعطف نحو عمان فنزلها، واستوطنها هو وبنوه وهم أزد عمان. (4)
بنو جفنة بن عمرو؛ وهذا سار مع أولاده إلى الشام، وهم الذين أصبحت أبناؤهم الملوك الغساسنة، وغسان ماء في تهامة نسب هؤلاء إليه. (5)
لخم بن عدي؛ الذين منهم نصر بن ربيعة أبو الملوك المناذرة بالحيرة، وأول من اتخذها منهم منزلا عمرو بن عدي بن نصر الذي ملك بعد جذيمة الوضاح. (6)
طي، وهؤلاء نزلوا جبلي أجا وسلمى لما رأوه هناك من الخصب. (7)
كلب بن وبرة؛ من قضاعة، أقامت ببادية السماوة إلى الشمال من نجد.
هؤلاء هم أشهر الذين تحركوا، وقد بقي باليمن كثير من قبائل حمير وكندة ومذحج وغيرهم، وكانت السيادة لحمير التي كونت الدولة الحميرية كما بينا آنفا.
الفصل الخامس
تاريخ الأنباط
(1) تمهيد
لم يكن عرب الجنوب الذين تكلمنا عن تاريخهم في الفصل السابق هم وحدهم الذين يسيطرون على شئون بلاد العرب التجارية والسياسية، بل عاصر بعض دولهم في شمال شبه الجزيرة ووسطها عرب آخرون، أقاموا دولا - أو بالحرى دويلات - صغيرة في عصر ما قبل الإسلام، وكانت هذه الدويلات العربية الشمالية - شأن دول الجنوب - تستمد قوتها في الغالب من التجارة، وتلعب في شمال بلاد العرب الدور الذي لعبته دول الجنوب في تجارة العالم القديم، وكانت هذه الدول أكثر اتصالا بالشعوب الساكنة في غرب آسيا وشرق البحر الأبيض المتوسط، بحكم مجاورتها لها واستهلاكها للمتاجر الآتية من الجنوب، وكانت هذه الدول الشمالية شأن دول الجنوب تستمد قوتها في الغالب من التجارة، ولم تكن - لا عند نشأتها ولا عند تطورها - دولا حربية، ولكن هذا لا ينفي أنها كانت تلعب دورا سياسيا آخر؛ إذ كان بعضها يقوم بمثابة الدول الحاجزة، تفصل ما بين حدود الدول العظمى المتصارعة في الشرق والغرب، مثل دولتي فارس وروما، والدول التي سلفتهما، أو تحمي حدود هذه الدول من غارات البدو في الصحراء، وهذه الدول - بحسب ترتيب ظهورها أو تعاصرها - هي:
دولة الأنباط - دولة تدمر - دولة المناذرة - دولة الغساسنة - دولة كندة. (2) دولة الأنباط
كانت أقدم تلك الدول الشمالية، وقد ذكرنا في فقرة [موطن الجنس السامي الأول وهل هو بلاد العرب] أنهم هاجروا من وسط شبه الجزيرة حوالي سنة 500ق.م إلى الشمال الشرقي من شبه جزيرة سينا، واستعمروا المنطقة التي تفصل ما بين بلاد الشام وبلاد العرب، وتمتد من نهر الفرات إلى البحر الأحمر، وكان الأقدمون من اليونان والرومان يطلقون على بلادهم اسم بلاد العرب الصخرية، وقد استولى الأنباط من الآدوميين على مدينة البتراء واتخذوها عاصمة لهم، وهيمنوا منها على المنطقة المجاورة، وتقع البتراء «بطرة» إلى الشرق من وادي عربة في منتصف المسافة تقريبا ما بين رأس خليج العقبة والبحر الميت، وكانت تهيمن على طرق القوافل الممتدة منها إلى غزة في الغرب وإلى بصرى ودمشق في الشمال، وإلى أيلة «العقبة» في الجنوب، وعبر الصحراء إلى الخليج الفارسي في الشرق، والبتراء «بطرة» كلمة يونانية معناها صخر، وهي ترجمة للكلمة العبرية سلع، ويقابلها في اللغة العربية الرقيم، وهذا الاسم الأخير، هو الذي كان يطلقه الأنباط على مدينتهم، كما ذكر المؤرخ يوسفيوس، أما اسمها الحديث فهو وادي موسى، وهي تقع عن سطح هضبة عالية، وهي محصنة من نواحيها الشرقية والغربية والجنوبية، لا يمكن اقتحامها ولا يدخل إليها إلا من طريق ضيق متعرج، تبلغ سعته في أضيق نقطة اثني عشر قدما فقط، وفي الصخور والشواهق التي تحيط بها من كل ناحية كشف النقابون عن جبانة شاسعة منحوتة في الصخر يستطيع الرائي أن ينظر في طبقاتها - ذات الحجر الرملي - معظم ألوان قوس قزح، وقد زينت معظم القبور بوجهات منحوتة في الصخر لا تزال بحالة حفظ جيدة، كما كشفوا أيضا عن بقايا مسرح منحوت في الصخر يسترعي الإعجاب، وتعتبر المدينة البقعة الوحيدة بين نهر الأردن وأواسط بلاد العرب التي كان يوجد فيها الماء الصافي بكثرة، وفي هذه البقعة كان عرب الجنوب في رحلات قوافلهم إلى الشمال يحصلون على بدل جديد من الإبل والحداة، وبذلك كان الأنباط يكونون حلقة هامة في السلسلة التجارية التي كانت عاملا على ازدهار بلاد العرب الجنوبية.
ولا نعلم من تاريخ الأنباط شيئا يرجع إلى ما وراء سنة 312ق.م وهي السنة التي استطاع فيها الأنباط أن يصدوا حملتين وجههما ضدهم أنتيجونوس الأول، الذي خلف الإسكندر كملك على الشام وأن يعودوا منتصرين إلى عاصمتهم الصخرة، وقد انتفع الأنباط من تدهور السلوقيين أخلاف الإسكندر، فمدوا حدودهم إلى الشمال صوب المنطقة الأكثر خصبا، الواقعة إلى الشرق من نهر الأردن، لقد احتلوا حوران، وحوالي سنة 85ق.م أصبح ملكهم الحارث «حاريثة أو أريتاس» سيدا على دمشق وما يجاورها من بلاد الشام، ومنذ ذلك الوقت اتصل الأنباط بالرومان - لأول مرة - اتصالا وثيقا، وفي سنة 47ق.م طلب يوليوس قيصر إلى مالك «مالكو أو ملخوس الأول» أن يمده بالفرسان لحرب الإسكندرية، وفي عهد عبيدة «عبيدات أو أوبوداس الثاني» اشترك وزيره سيلوس في الحملة التي قادها إيليوس جالوس في عهد الإمبراطور أغسطس قيصر لغزو بلاد العرب الجنوبية سنة 24ق.م كما بينا في فقرة [الدولة الحميرية الأولى]، وقد وصلت دولة الأنباط إلى أقصى نفوذها في عهد الحارث الرابع (9ق.م-40م) إذ كانت تمتد إلى الشمال حتى دمشق وإلى الجنوب حتى الحجر أو مدائن صالح في شمال الحجاز، بما في ذلك سواحل البحر الأحمر المجاورة لهذه المنطقة، وقد أخذت مدينة بطرة منذ ذلك الحين تصطبغ بالصبغة الرومانية، حتى إذا كانت 106م اهتضمتها الإمبراطورية الرومانية، بسبب جشع الإمبراطور تراجان وقصر نظره، وكان ذلك في عهد آخر حاكم مستقل لها، وهو ربيل الثاني، ومنذ ذلك اليوم فقدت دولة الأنباط استقلالها، وأصبحت مقاطعة نظامية من مقاطعات الرومان، تعرف باسم بروفينسيا أرايبيا «أي مقاطعة بلاد العرب»، ولولا سوء تصرف تراجان هذا لاستمرت بلاد الأنباط تعمل حاجزا بين روما وغارات البدو من سكان الصحراء على أقاليمها.
واستمرت بطرة كمركز تجاري في عهد الاحتلال الروماني، ولكن عندما بلغ رخاء المدينة أقصاه في النصف الأول من القرن الثالث الميلادي أبطل سك العملة فجأة، وربما كان ذلك بسبب اشتداد غارات البدو وتحريض الدولة الساسانية التي كانت حديثة الظهور إذ ذاك، ثم لا ننسى أن مدينة تدمر أخذت - في نفس الوقت - تزداد أهمية، وتجتذب إليها التجارة العربية، فأدى ذلك إلى تدهور بطرة التجاري. (2-1) حضارة الأنباط
كان الأنباط عربا كما تدل على ذلك أسماء بعض ملوكهم التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة، ولكنهم اندمجوا مع الآراميين، وبرغم أنهم كانوا يتكلمون العربية الدارجة، إلا أنهم كانوا يستعملون الحروف الآرامية، التي كان يستعملها جيرانهم الشماليون، وذلك بسبب عدم وجود الخط العربي في ذلك التاريخ البعيد، ثم إنهم كانوا يستعملون اللغة الآرامية كلغة للعلم، ولكن الأغلاط التي كانت تحدث في النقوش الآرامية، واستعمال بعض التعبيرات العربية فيها، ينم عن اللغة العربية الأصلية لمؤلفيها.
وقد استمد الأنباط خطهم من الخط الآرامي، وفي القرن الثالث الميلادي تحول هذا الخط النبطي إلى الخط الذي استعمل في تدوين اللغة العربية الشمالية لغة القرآن ولغة الوقت الحاضر، وقد حول إلى الخط المستدير المعروف بالنسخي تمييزا له عن الخط ذي الزوايا المعروف بالكوفي، ومن أقدم النقوش العربية نقش النمارة في شرق حوران، وهو يرجع إلى سنة 328م، وقد أقيم كلوحة تذكارية على قبر امرئ القيس أحد ملوك الحيرة اللخميين، وبمناسبة الخط النبطي الذي هو الأصل في الخط العربي، نذكر هنا أن كل هذه الخطوط التي استعملتها الشعوب العربية الشمالية، وكذلك شعوب بلاد العرب الجنوبية إنما هي مستمدة جميعا من الخط السينائي المأخوذ من الهيروغليفي، الذي هو الأصل في الأبجديات المستعملة في أوروبا الآن وفي بلاد الشرق.
وآثار البتراء القائمة إلى الآن عظيمة، وهي تجذب عددا كبيرا من السائحين وتعتبر موردا هاما من موارد الدخل لحكومة شرق الأردن، وأهم هذه الآثار هي المعروفة بخزنة فرعون المنحوتة في جانب الصخر، وكان في البتراء معبد يشبه الكعبة، يضم عدة أصنام على رأسها ذو الشرى «ذو شرا أو دوسارس ومعناها سيد الشراء»، وكان يعبد على شكل حجر أسود مستطيل ويعتبر إله الخير، ومن بين الآلهة نذكر أيضا اللات ومن بين الآثار أيضا النجر، ويبدو أنه جبل مقدس، وعلى مقربة منه تمتد بعض مذابح لتقديم القرابين، وتنتشر في الجدران الجبلية المحيطة بالمدينة القبور المحفورة في الصخر على شكل بروج، وبعض هذه الآثار يرجع إلى عصر الاستقلال القديم والبعض الآخر يرجع إلى العصر الروماني، وقد دخلت المسيحية إلى البتراء منذ العصور القديمة، واتخذت من بعض المقابر كنائس، وما زالت على المسيحية حتى اكتسحها - مع بقية بلاد العرب الشمالية - دين الإسلام، فيما بين سنتي 629، 632 ميلادية.
الفصل السادس
تاريخ تدمر
دولة تدمر «بلميرا - بالمرينا»
تطلق كلمة بلميرا في اليونانية واللاتينية على بلد شهير، يقع إلى الشمال الشرقي من مدينة دمشق، في منتصف الصحراء الشامية، واسمها عند العرب والشاميين «تدمر»، وهي واحة خصيبة كانت تقع بين الإمبراطوريتين المتنافستين بارثيا وروما، وتعتمد في سلامتها على حفظ التوازن بين هاتين الدولتين، ووقوفها موقف الحياد منهما، وعندما فتح العرب هذه المدينة لم يكن الرواة يذكرون من أخبارها شيئا، فنسبوا بناءها إلى الجن الذين بنوها - كما اعتقد أولئك القصاص العرب - للملك سليمان.
قال النابغة الذبياني في معلقته يمدح النعمان بن المنذر:
ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه
ولا أحاشي من الأقوام من أحد
إلا سليمان إذ قال الإله له
قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
وفي سفر الأيام الثاني 8 : 4 تقرأ أن سليمان بنى مدينة تدمر في البرية، وهو غلط؛ لأن أقدم ذكر لهذه المدينة تقرؤه في نقش يرجع إلى أيام تجلات بلسر الأول (حوالي 1100ق.م).
والظاهر أنه في حوالي القرن السادس قبل الميلاد - بعد سقوط الإمبراطورية البابلية - أخذت بعض القبائل العربية تسكن في شرق إقليم كنعان، وبدأت تتعلم الكلام والكتابة باللغة الآرامية، التي كانت شائعة في المنطقة الواقعة إلى الغرب من نهر الفرات.
وأول ذكر للمدينة في المراجع الرومانية كان عندما حاول مارك أنطوني في سنة 42-41ق.م محاولة فاشلة الاستيلاء على مغانمها، وأقدم نقش في المدينة يرجع إلى سنة 9ق.م، وهو مكتوب بالخط الآرامي، وكان ذلك في الوقت الذي أصبحت فيه مدينة تدمر مركزا هاما للتجارة بين الدولتين الرومانية والبارثية.
وسرعان ما ارتقت الواحة من محطة للقوافل إلى مدينة من الطبقة الأولى ومركز للعبادة أكبر آلهته الشمس مع عدد من الآلهة الصغرى .
ولقد كانت أشهر سلع العالم القديمة الفاخرة هي الحريريات والمجوهرات واللآلئ والعطور والبخور وما شابه ذلك، كلها تأتي من الهند والصين وبلاد العرب الجنوبية، وكانت المتاجر تسير في طريقين أحدهما عبر البحر الأحمر ومصر والإسكندرية، والآخر من الخليج الفارسي عبر الصحراء الشامية، وهذا الطريق الثاني كان في مبدأ الأمر في أيدي الأنباط سكان بطرة، ولكن عندما سقطت بطرة سنة 105 ميلادية انتقل ما كان بأيديهم إلى التجار من أهل تدمر، فكانت قوافلهم التجارية تعبر الصحراء الشامية إلى بعض المراكز التجارية على ضفات نهر الفرات، ولقد كانت هذه التجارة ذات نفع عظيم لا للتجار فحسب بل للمدينة نفسها التي كانت تفرض الضرائب على كل ما يمر بها من صادرات أو واردات.
ولما كانت المتاجر تتعرض أثناء الطريق لعدة أخطار، منها انتهاب قبائل الصحراء أو اعتداءات البارثيين، لذلك كان أمر تأمين التجارة والوصول بها سالمة من المسائل التي تهم الدولة، ولذلك نجد أن النقوش القديمة يكثر فيها ذكر رئيس القوافل ورئيس السوق، على اعتبار أنهما من زعماء المواطنين، ولم تكن الصناعات المحلية بذات أهمية كبيرة؛ ذلك لأن شغل سكان المدينة الأكبر كان في قيادة قوافل التجارة والإشراف على آبار الماء في الطريق، والقيام بأعمال «السكرتارية» وما شابه ذلك من الشئون المتعلقة بالتجارة.
ولعبت تدمر في التاريخ القديم لبلاد العرب دورا سياسيا، إلى جوار أهميتها التجارية؛ إذ كانت كل من دولتي روما وبارثيا يرقبان بعناية تامة موقفها بينهما، ويخشيان أن ترجح كفة إحداهما عن الأخرى، أما أزهر عصور تدمر فكان في الفترة بين سنتي 130، 270 ميلادية، وإلى هذه الفترة ترجع معظم الآثار التي تحمل نقوشا، ولقد أزاح سقوط بطرة سنة 105م من أمام تدمر كل منافسة في التجارة الشرقية، وكان الإمبراطور هدريان يعاملها برعاية خاصة، وعلى أثر زيارته للمدينة سنة 130م. أطلق عليها اسم هدريانا بلميرا، ثم أعلنت في عهد هذا الملك نفسه تعريفة جمركية جديدة، حلت محل نظام الضرائب القديم الذي كان شائعا، وقد أخذ النفوذ الروماني منذ ذلك الوقت يتغلغل في تدمر، فلم يكد ينتهي القرن الثاني، حتى كانت تدمر تنحدر إلى مستوى المستعمرة، ولكنها كانت تتمتع باستقلال إداري مع الاعتراف الاسمي فقط بالسيادة الرومانية، وبعد ذلك الوقت بدأ التدامرة يضيفون إلى أسمائهم ألقابا رومانية.
وبرزت تدمر إلى الأمام إبان الحروب البارثية في القرن الثالث، وأصبحت سيدة الصحراء لفترة قصيرة، فلقد كان الشرق إذ ذاك يضطرب بالصراع بين الإمبراطوريتين البارثية في ثوبها الجديد الساساني والرومانية، وكان على التدامرة أن يختاروا الانضمام إلى إحدى الدولتين، فآثروا أن ينضموا إلى روما؛ ذلك لأن الإمبراطور الروماني كان - بسبب بعد روما - أقل خطرا عليهم من الإمبراطور الساني القريب منهم.
واغتنم أهل تدمر فرصة هزيمة الرومان، ونجاح شابور الأول ملك فارس، في التوغل في سوريا، والقبض على الإمبراطور فالريان الروماني، فظهر زعيم أذينة «واسمه عند الرومان أوديناتوس» فحارب شابور وتعقبه إلى أسوار عاصمته طيشفون «المدائن» سنة 265م، وبعد موت فالريان منح الإمبراطور جالينوس أذينة لقب الإمبراطور واعترف به سيدا على كل الكتائب الرومانية في الشرق، ولكن حدث - بعد ذلك بعام واحد «سنة 267» - أن قتل أذينة غدرا هو وابنه الأكبر في مدينة حمص، فانتقلت بعد ذلك مصائر تدمر إلى أيدي زوجته زينوبيا «اسمها بالآرامية باث زباي وبالعربية الزباء وأيضا زينب» التي كانت تشارك زوجها في نشاطه وتؤيده في سياسته التي ترمي إلى اغتنام الفرصة وتكوين إمبراطورية عربية، لقد أثبتت زينوبيا أنها خير خلف لزوجها، وتولت الحكم بالنيابة عن ابنها الصغير وهب اللات «أي عطية اللات واسمه باليونانية أثينودورس»، ثم نادت بنفسها ملكة على الشرق، مستخفة - إلى حين - بالإمبراطورية الرومانية، لقد كانت تدمر تضم في أيام بلاد الشام وبلاد العرب، ولكن جنود زينوبيا التي قيل إن عددهم كان 70000 قد تقدمت الآن لاحتلال مصر، كما احتلت أيضا جزءا كبير من آسيا الصغرى، التي دفعت الحاميات الرومانية فيها إلى ما وراء أنقرة سنة 270، بل وحاولت أن تبسط نفوذها عند خلقدونة على ضفاف البسفور قبالة بيزنطة، وقد احتلت جنودها في نفس العام - مدينة الإسكندرية ثاني مدائن الإمبراطورية، ونودي بابنها الأصغر ملكا على مصر، فأصدر عملة أسقط منها رأس أورليان، وأطلق على نفسه لقب الإمبراطور، وكذلك فعلت أمه زينوبيا، وفي سنة 271 ميلادية أقام القائدان التدمريان العظيمان زبدا وزباي تمثالا للملك المقتول أذينة، ولقباه - في نقش على قاعدة التمثال - بملك الملوك، وإلى زباي وزبدا هذين يعزى الفضل - إلى حد كبير - في نجاح زينوبيا في ساحة الوغى.
ولم يكن من الطبيعي أن تصبر روما على هذه الاستهانة بأمرها طويلا، فتشجع أورليان في آخر الأمر وأعد حملة لغزو تدمر مصدر الخطر كله، فجاء عن طريق آسيا الصغرى، وهبط إلى بلاد الشام، فلاقته جيوش تدمر، تحت قيادة زبدا عند مدينة أنطاكية، ولكنها هزمت، وعند مدينة حمص لاقت جيوش تدمر هزيمة أخرى، وأصبح الطريق الآن مفتوحا إلى تدمر، فاستولى عليها أورليان في ربيع سنة 272، وأصدر عفوا عن كل سكانها، ولم يعاقب بالقتل إلا كبار الموظفين والمستشارين، وفرت الملكة المتكبرة - وقد تملكها اليأس - على ظهر هجين سريع إلى الصحراء، ولكنها أسرت هي وولدها في آخر الأمر، وقيدت في سلاسل ذهبية أمام عربة المنتصر الذي أراد أن يفخر بها أثناء دخوله روما مظفرا.
وعرف أورليان ولم يكد يعبر الدردنيل في طريقه إلى روما أن أهل تدمر ثاروا وقتلوا الحامية الرومانية التي أقامها في المدينة، ونادوا بأحد زعمائهم رئيسا عليهم، فعاد أدراجه بمنتهى السرعة، دون أن يتوقع عودته أحد، وفاجأ المدينة فأكمل دمارها وأسلم أهليها إلى السيف، ثم نقل تحف معبد الشمس الرائعة وحلية الغالية، إلى المعبد الذي أقامه في روما لإله الشمس في الشرق، تخليدا لذكرى هذا الانتصار، ولم تنهض المدينة من كبوتها من ذلك اليوم، ولا استردت مجدها وأهميتها، وتركت المدينة أنقاضا هي نفس الأنقاض التي نراها في الوقت الحاضر، وهكذا غربت شمس المجد التدمري، وكانت كشهاب أضاء لحظة ثم انطفأ.
الحضارة التدمرية
كانت الحضارة التدمرية مزيجا لطيفا من عناصر مختلفة، بين يونانية وسورية وإيرانية، ولا جدال في أن أهل تدمر كانوا من الأرومة العربية؛ يدل على ذلك أسماء أعلامهم العربية، وكثرة ترداد الكلمات العربية في نقوشهم الآرامية، وكانت اللغة التي يتكلمونها لهجة من اللهجات الآرامية الغربية، وهي تنتمي إلى الأصل الذي استمدت منه النبطية أو الآرامية المصرية، وهي تضم كثيرا من المصطلحات الحكومية اليونانية التي صبغها أهل تدمر بصبغتهم، كما أن فيها بضع كلمات لاتينية صبغت بالصبغة الآرامية أيضا، وأما الخط الذي كانوا يكتبون به فهو تطور للخط الآرامي القديم، وأسماء الشهور عندهم هي نفس الأسماء البابلية التي كان يستعملها الأنباط والسوريون واليهود المتأخرون، وكانوا يحسبون تواريخهم من العصر السلوقي، الذي يبدأ بأكتوبر سنة 312ق.م.
أما ديانة أهل تدمر فلا تختلف كثيرا في أصولها عن ديانة أهل شمال سوريا والقبائل العربية الضاربة في الصحراء الشرقية، وكان أشهر آلهتهم إله الشمس ويسمى عندهم سمس أو شمش ومعناها شمس، وبقايا معبد الشمس الكبير لا تزال قائمة في أنقاض تدمر الآن، وكانوا يعبدون القمر أيضا، ويسمونه عجلى بل، وكانت أشهر الإلهات الأنثيات الإلهة اللات المشهورة عند العرب القدامى، ومن بين الآلهة بعل شمين «أو سيد السموات» ومن بين الآلهة إله يحمل هذا الاسم العربي الواضح، وهو «شيعا القوم»، وكانوا يصفونه بأنه إله الخير الطيب الذي لا يشرب الخمر، ومعنى شيعا القوم أي حامي أو مرافق القوم، وهو الذي يرعي القوافل في سيرها، هذا وقد كشفت النقوش عن أسماء نحو اثنين وعشرين إله في تدمر.
وبسقوط مملكة تدمر انتقل الطريق التجاري مرة أخرى إلى الجنوب فحلت بصرى وغيرها من المدائن الغسانية محل تدمر وورثتها كما ورثت تدمر بطرة من قبل.
ولكن تدمر انتعشت قليلا في أواخر القرن الثالث الميلادي عندما اتخذها دقلديانوس محطة حربية، وقبيل ذلك الوقت سلكت المسيحية سبيلها إليها، بدليل أننا نجد ذكرا لبعض التدامرة بين الآباء الدينيين الذين حضروا مجمع نيقية سنة 325م، وفي سنة 527م أمدها جاستنيان بقناطر لجلب الماء، وأقام فيها حائطا لا تزال آثاره باقية.
وعند الفتح الإسلامي للشام سلمت تدمر لخالد بن الوليد، ولكن أهلها لم يعتنقوا الإسلام، ثم تحولت المدينة إلى معقل إسلامي يأوي إليه الكثيرون من المستعمرين العرب.
الفصل السابع
تاريخ الحيرة
(1) تمهيد
في أوائل القرن الثالث للميلاد، تجمعت عدة قبائل في منطقة البحرين يقول عنها مؤرخو العرب إنها من القبائل اليمانية، التي تفرقت على أثر تصدع سد مأرب، فأخذت تغير على أطراف الدولة الفارسية في العراق، وذلك في فترة الاضطراب التي تلت سقوط الدولة البارثية وتأسيس الدولة الساسانية سنة 226م، ولا تستطيع أن تفعل الدولة الفارسية معهم شيئا؛ لأنهم كانوا بعد إتمام غارتهم يعتصمون بالصحراء، التي يعبر عنها بأنها حصن العرب الحصين، والتي لا يعرف مسالكها الفرس ولا غيرهم، وبخاصة لأن فارس في ذلك الوقت لم تكن فيها حكومة مركزية مهمة؛ لأن الإسكندر المقدوني لما غزا فارس سنة 333 قبل الميلاد، جزأ الإمبراطورية الفارسية إلى دويلات صغيرة، يحكمها ملوك يعرفون بملوك الطوائف، وقد اتبع الإسكندر هذه السياسة، حتى لا تقوى الفرس مرة أخرى على الإغارة على اليونان، واستمر الحال كذلك حتى 266م؛ إذ تمكن أردشير بن بابك، من تأسيس الدولة الساسانية التي يعرف ملوكها بالأكاسرة، فوحد بذلك كلمة الفرس، وأعاد سلطانها إلى الأراضي العربية المتاخمة للبادية كالحيرة والأنبار، ولما وجد أنه لا قبل له بصد غارات العرب المستمرة، رأى من السياسة أن يبيح لهم السكنى في منطقة الحيرة، ومنحهم شبه استقلال لغرضين: الأول أن يتخذ منهم درءا يقي بلاده شر غارات البدو، وهم أقدر الناس على ذلك، فكانوا بذلك يكونون ما يعرف في الاصطلاح التاريخي باسم مملكة حاجزة، والثاني ليستعين بهم على الرومان، الذين كانوا في حروب مستمرة مع فارس.
وقد قلنا: إن مؤرخي العرب يقولون: إن عرب الحيرة من عرب الجنوب «قضاعة والأزد»، ولكن بعض المؤرخين المحدثين والمستشرقين، يرجحون أنهم من العرب الشمالية، ويستدلون على ذلك بعدة براهين، بعضها لغوية؛ لأن لغة عرب الحيرة تنطبق على العدنانية، ولا تمت إلى الحميرية الجنوبية بشيء، ومنها الأسماء التي تشبه في مجموعها أسماء عرب الشمال، وكذلك العادات والدين فإنها كلها أكثر انطباقا على عادات وديانة عرب الشمال، ونحن نميل إلى هذا الرأي، وإن كان لا يزال موضع افتراض وتمحيص بين المؤرخين. (2) مدينة الحيرة وسكانها
تقع الحيرة على نهر الفرات، على مقربة من أنقاض بابل، وعلى بعد ثلاثة أميال إلى الجنوب من الكوفة، وقيل إن العرب هم الذين سموها هذا الاسم من الحيرة أو الضلال، ولكن الصحيح أن اللفظ سرياني، مأخوذ من كلمة حرتا ومعناها الحصن أو الدير، وقد بدأت هذه المدينة صغيرة شأن كل المدن، ثم ازدهرت على مر الأيام في عهد دولة المناذرة آل نصر اللخميين.
أما سكانها فقد قسمهم ابن الكلبي إلى ثلاثة أقسام: (1)
تنوخ: وهؤلاء هم العرب الذين نزحوا من البحرين، والذين ذكرنا أنهم مختلف في أصلهم، هل هم عدنانيون أم قحطانيون؟ (2)
العباد: وهؤلاء هم الفريق الأصلي، الذي كان متوطنا في تلك المنطقة، والذين يؤخذ من تاريخهم أنهم كانوا نصارى على المذهب النسطوري، وأنهم كانوا أهل قراءة وكتابة وعلم بالإنجيل، وكانوا يزاولون الصناعة والتجارة أيضا، وربما سموا بالعباد؛ لأنهم كانوا يعبدون الله «أو المسيح». (3)
الأحلاف: وهم بعض أفراد من العرب، هجروا بلادهم لسبب من الأسباب، ونزلوا على تنوخ والعباد، وارتبطوا معهم برباط حلف، فسموا لذلك الأحلاف.
ونلاحظ أن السيادة كانت للعنصر العربي، كما كانت له السيطرة العسكرية، أما العباد فهم الذين كانوا يزاولون شئون الحياة العامة. ذلك كان تقسيم السكان منذ القرن الثالث الميلادي، وقد كونوا وحدة سامية، وكونوا دولة المناذرة التي كان لها أثر كبير في الحضارة العربية، والتي كان أهلها يجوبون أجزاء الجزيرة العربية يحملون المتاجر، وأصبحوا ركنا هاما في نشر العلوم بتعليمهم القراءة والكتابة كما ساعدوا على نشر النصرانية في بلاد العرب على أثر اعتناق ملوكهم لها، وظلوا كذلك حتى اكتسح الإسلام بلادهم سنة 632م، وتاريخ ملوك هذه الدولة أوضح في مجموعه من تاريخ الغساسنة، وما ذكره مؤرخو العرب عنهم يتناسق مع ما ورد في التواريخ الفارسية، على عكس ما ذكروه عن ملوك غسان، ولعل ذلك يرجع إلى أن ملوك الحيرة كانوا يدونون أخبارهم، ويودعونها في البيع والأديرة، التي كانت منتشرة في منطقتهم، وقد ذكر المؤرخون أسماء أكثر من خمسة وعشرين ملكا، تعاقبوا الحكم على الحيرة يكون الأربعة أو الخمسة الملوك الأول منهم التاريخ الميثولوجي للحيرة، وسنلخص أخبار هذا الدور الميثولوجي أولا، ثم بعد ذلك نكتفي بالكلام عن أشهر ملوك الحيرة الحقيقيين. (3) الدور الميثولوجي (1)
مالك بن فهم الأزدي: هو أول من حكم الحيرة في نظر مؤرخي العرب، حكم عشرين سنة، ثم مات على أثر سهم رماه به سليمة، وهو ابنه في رواية، وأحد خواصه الذين رباهم في رواية أخرى. فقال في ذلك شعرا جرى مجرى الأمثال:
جزاني لا جزاه الله خيرا
سليمة إنه شرا جزاني
أعلمه الرماية كل يوم
فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي
فلما قال قافية هجاني (2)
عمرو بن فهم: تولى بعد أخيه ولم يذكر عنه شيء ذو بال. (3)
جذيمة الأبرش أو الأبرص أو الوضاح: هو ابن عم عمرو بن فهم، وقيل ابن أخته، قالوا: إنه كان متكبرا وكان لا ينادم أحدا في الشراب اكتفاء بمنادمة الفرقدين وهما نجمان، وكان له غلام يسمى عدي بن نصر، أخذه من أياد التي سرقت صنميه المسميين الضيزنين، وردتهما بعد تهديده مع عدي، هذا وكان عدي له جمال وظرف فوقعت في هواه رقاش أخت جذيمة، وحملته على أن يطلب زواجه منها إذا سكر جذيمة، ونجحت حيلة رقاش وتزوجت من عدي، وفي الصباح عرف جذيمة الأمر فاستنكره، فبعث إلى أخته، وكان شاعرا بالأبيات الآتية:
خبريني رقاش لا تكذبيني
أبحر زنيت أم بهجين
أم بعبد فأنت أهل لعبد
أم بدون فأنت أهل لدون
فقالت له: لا ولكنك زوجتني امرأ عربيا نسيبا، ولم تستأمرني في نفسي، ولم أكن مالكة لأمري، فكف عنها، وولدت رقاش غلاما أسمته عمرا، وتبناه جذيمة وألبسه طوقا من فضة، واختفى الغلام عمرو فجأة، ولم يوقف له على أثر، وأخيرا عثر عليه الأخوان مالك وعقيل وقدماه هدية للملك الذي سر كثيرا، وقبل أن ينادمهما، وكان لا ينادم إلا الفرقدين كما سبق.
وجذيمة هو صاحب قصة الزباء ملكة تدمر، ولأهمية قصتها في كتب التاريخ العربية والأدب العربي نفرد لها الفقرة التالية.
قصة الزباء
نلخص هذه القصة عن المراجع العربية فيما يلي:
كان جذيمة رجلا ميالا إلى الحروب، فجمع جيشا وسار إلى مشارف الشام، فحارب عمرو بن الظرب ملك تدمر فقتله، ثم انكفأ راجعا بجنوده إلى الحيرة، وملكت الزباء - واسمها ليلى وفي رواية نائلة - مكان أبيها عمرو، وكانت امرأة حازمة ذات رأي، وكان ملكها يمتد من الفرات إلى تدمر، فلما استحكم ملكها صممت على أن تثأر لأبيها، فنصحت لها أختها - وتسمى زبيبة - بالعدول عن الحرب وإعمال الحيلة، فنزلت الزباء عند رأي أختها وكتبت إلى جذيمة تقول له: إن ملك النساء قبيح، وتطلب إليه أن يتزوجها وأن يضم ملكها إلى ملكه وأن يقدم إليها، واستشار جذيمة رجال دولته، فأجمعوا على أن يسير إليها إلا واحدا يسمى قصيرا، اقترح أن يكتب إليها لتجيء هي إليه فقالوا: «لا يسمع لقصير رأي»، واستخلف جذيمة على ملكه ابن اخته عمرو بن عدي، وسار إلى الزباء في وجوه أصحابه، فاستقبلته رسل الزباء بالهدايا والتحف، ولم تلبث خيلها أن أحاطت به، وأدرك قصير الخطر فركب فرسا لجذيمة تسمى العصا وفر؛ فقال جذيمة: «إني أرى حزما على متن العصا»، ولما وصل جذيمة إلى الزباء أجلسته على نطع، وأحضرت طستا من الذهب، وأمرت جواريها أن يقطعوا راهشيه، وهما عرقان في الذراع، وقالت للجواري: لا تضيعوا دم الملك؛ فقال جذيمة «دعوا دما ضيعه أهله»، ولما ضعف الملك سقطت يداه، فقطر من دمه قطرة في غير الطست، فتشاءمت الزباء وخافت أخذ الثأر.
أما قصير فإنه قدم على عمرو بن عدي بالحيرة، وطلب إليه أن يستعد للثأر لخاله، ثم جدع قصير أنفه ودق ظهره وخرج كأنه هارب، وأتى الزباء ورأته على هذه الحالة فقالت: «لأمر ما جدع قصير أنفه»، ثم أخبرها أن عمرا فعل به ما ترى؛ لأنه اتهمه بممالأتها ضد خاله، فانخدعت ووثقت به، وبعد مدة قال لها: إن لي بالعراق أموالا فائذني لي لأحمل مالي وأحمل لك من طرف العراق ومتاجرها، فدفعت له أموالا وجهزت له عيرا، ورجع بما طلبت فأعجبها وسرها، ثم جهزته مرة أخرى بأكثر من الأولى فرجع، وفي المرة الثالثة أرسلته في عير كبيرة، فأخبر عمرا الخبر ، وجمع له عمرو ثقاة أصحابه وحمل كل جمل رجلين في جوالقين، وكان بين الرجال عمرو نفسه، وتقدم قصير فبشر الزباء بوصول العير وبكثرة ما حمل من الثياب والطرف، وخرجت الزباء فرأت الإبل تتهادى في أحمالها فقالت:
ما للجمال مشيها وئيدا
أجندلا يحملن أم حديدا؟
أم صرفانا تارزا شديدا
أم الرجال قبضا قعودا؟
ودخلت الإبل المدينة، وحدث أن آخر جمل نخس أحد جوالقيه حارس المدينة بمنخسه في يده، فصرخ من في الجوالق، وصاح الحارث «شر في الجوالق»، ولكن الأمر كان قد انقضى؛ إذ أنيخت الإبل، وخرج الرجال من الجوالق، وقام عمرو على باب نفق أعدته الزباء للهروب، ووضع رجاله السلاح في أهل المدينة، وخرجت الزباء تريد النفق، فوجدت عمرا عنده بإرشاد قصير، فعرفت عمرا بصورة كان عملها لها مصور أرسلته خفية إلى الحيرة، فعرفته وأيقنت بالهلاك فآثرت أن تنتحر، فمصت سما كان في خاتمها وقالت: «بيدي لا بيد عمرو.»
هذه هي قصة الزباء رأينا أن نصوغها في أقصر عبارة، وتجد تفصيلها في الأغاني والطبري والمسعودي وغيرها من كتب الأدب والتاريخ، وقد وضعنا بعض العبارات بين قوسين وهي العبارات التي سارت مسير الأمثال، والقصة في مجموعها طريفة والخيال فيها منسجم، ويحاول كثير من المؤرخين أن يقول: إن الزباء هي زينوبيا ملكة تدمر زوجة أذينة ملك تدمر الذي ساعد الرومان في حرب الفرس، وتمكن في أواخر القرن الثالث الميلادي من مطاردة الفرس حتى أسوار المدائن عاصمتهم ، والزباء - لا شك - شخصية خرافية لا تمت بصلة إلى زينوبيا التي ذكرنا في الفصل السابق أنها بعد قتل زوجها أذينة حاولت أن تقيم إمبراطورية شرقية، مقلدة في ذلك كليوبترا، وأنها تمكنت من دخول مصر وإخضاعها فترة، ولكن الرومان لم يمهلوها؛ إذ تغلب عليها القائد أورليان، وقادها أسيرة أمام مركبته الحربية في شوارع رومة سنة 274م.
والآن وقد انتهينا من الكلام عن الدور الخرافي - سنتكلم في الفقرات التالية عن أشهر ملوك الحيرة وأهمهم: (1)
امرؤ القيس بن عمرو. (2)
النعمان الأول. (3)
المنذر الأول. (4)
المنذر الثالث. (5)
عمرو بن هند. (6)
النعمان الثالث. (7)
إياس بن قبيصة الطائي. (4) امرؤ القيس بن عمرو 288-328م
ويسمى بامرئ القيس البدء هو ابن عمرو بن عدي، وهو ثاني ملوك الحيرة، إذا اعتبرنا أن عمرو بن عدي - الذي ذكرنا شطرا مما يقال عنه في الفقرة السابقة - أولهم، وتنحصر أهميته في أن النقابين عثروا في حوران على حجر كبير من البازلت، عليه نقوش باللغة العربية الشمالية، مكتوبة بالخط النبطي، ترجمتها - نقلا عن تاريخ العرب قبل الإسلام لجورجي زيدان - ما يأتي: (1)
هذا قبر امرئ القيس بن عمرو ملك العرب كلهم الذي تقلد (2)
التاج وأخضع قبيلتي أسد ونزار وملوكهم، وهزم مذحج إلى اليوم، (3)
وقاد الظفر إلى أسوار نجران مدينة شمر، وأخضع معدا واستعمل (4)
بنيه على القبائل وأنابهم عنه لدى الفرس والروم فلم يبلغ ملك (5)
مبلغه إلى اليوم ...
والظاهر أنه كان في رحلة إلى حوران فمات ودفن بها. (5) النعمان الأول 400-418م
هو النعمان بن امرئ القيس، ويلقب بالأعور، ويشتهر في التاريخ؛ لأنه هو باني الخورنق والسدير، وسبب بناء الخورنق أن يزدجرد الأول ملك فارس لم يعش له ولد، فسأل عن منزل بريء مريء صحيح من الأدواء والأسقام، فدل على ظاهر الجبل، فدفع ابنه بهرام حور إلى النعمان، وأمره ببناء الخورنق مسكنا له، وأن ينزله إلى بوادي العرب، وكان الذي بنى الخورنق مهندس بيزنطي يقال له سنمار، فلما فرغ من بنائه تعجبوا من حسنه وإتقان صنعته، فقال: لو عرفت أنكم توفونني أجري وتصنعون بي ما أنا أهله ، لجعلته بناءا يدور مع الشمس حيثما دارت. فقال النعمان: وإنك لتقدر على أن تبني ما هو أفضل منه ثم لم تبنه؟ وأمر به فطرح من رأس الخورنق.
وهناك رواية أخرى تتعلق بمصرع سنمار، وهي أنه قال للنعمان أنه يعرف في القصر حجرا واحدا وأنه لو حرك من مكانه لتردى القصر، ثم عرف الملك موضع الحجر، وخشي أن يدل سنمار آخرين عليه، فأمر به فردي من أعلى القصر. وهي رواية ظاهرة الخرافة، وعلى كل فإن ما صنعه النعمان بسنمار سار مسير الأمثال، حتى قيل في نكران الجميل «جزاه جزاء سنمار.» وقال الشاعر في ذلك:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر
وحسن فعل كما يجزى سنمار
ونعرض الآن لناحية أخرى من نواحي النعمان وهي تنسكه، روى الدكتور حسن إبراهيم في كتابه تاريخ الإسلام السياسي نقلا عن حمزة الأصفهاني - ما نصه: «لما أتى على الملك النعمان ثلاثون سنة علا مجلسه على الخورنق، وأشرف منه إلى النجف وما يليه من البساتين والجنان والأنهار مما يلي المغرب، وعلى الفرات مما يلي المشرق، فأعجبه ما رأى في البر من الخضرة والنور والأنهار الجارية، ولفاظ الكمأة ورعي الإبل وصيد الظباء والأرانب، وفي الفرات من الملاحين والغواصين وصيادي السمك، وفي الحيرة من الأموال والخيول ومن يموج فيها من رعيته، ففكر وقال: أي درك في هذا الذي قد ملكته اليوم ويملكه غيري غدا؟ فبعث إلى حجابه ونحاهم عن بابه، فلما جن الليل التحف بكساء وساح في الأرض فلم يره أحد، وفيه يقول عدي بن زيد يخاطب النعمان بن المنذر:
وتدبر رب الخورنق إذ أش
رف يوما وللهدى تفكير
سره ماله وكثرة ما يم
لك والبحر معرضا والسدير
فارعوى قلبه فقال وما غا
ية حي إلى الممات يصير
ثم بعد الفلاح والملك والنع
مة وارتهمو هناك القبور
ثم صاروا كأنهم ورق جف
فألوت به الصبا والدبور
وتذكر بعض الكتب أن ما حمله على التنسك هو أنه سأل يوما وزيره وهو في مجلسه هذا: هل رأيت أحسن مما نحن فيه؟ فأجاب الوزير: لا لو أنه يدوم، فسأل النعمان: وما يدوم؟ فرد الوزير قائلا: ما عند الله، فسأل: وكيف الوصول إلى هذا؟ فقال الوزير: بالانصراف عن الدنيا، وعبادة الله والتماس ما عنده، فكان ما كان من أمره.
وذكر الأستاذ نكلسون أن ما يقوله مؤرخو العرب في اعتناق النعمان للنصرانية، لا يقوم على أساس، ولكن هناك ما يؤيد أنه كان يحسن معاملة رعاياه النصارى، ويسمح لهم بحرية تامة في ممارسة شعائرهم الدينية، بدليل وجود أسقف مسيحي في الحيرة منذ سنة 410 ميلادية. (6) المنذر الأول 418-462م
خلف أباه على العرش الذي تركه، وسد الفراغ الذي خلفه أبوه، وتنحصر أهميته التاريخية في أنه تدخل في شئون فارس، فنصر بهرام جور في النزاع الذي قام بينه وبين الكهنة عند توليته العرش، كما أنه أعان بهرام جور في حربه مع الروم، التي قامت بسبب اضطهاده للنصارى. (7) المنذر الثاني 505-554م
ويعرف باسم المنذر ابن ماء السماء؛ وماء السماء كان لقبا لأمه مارية أو ماوية، وقد عاصر قباذ وابنه أنو شروان من ملوك الفرس، وعاصر جستنيان من الروم، والحارث بن أبي شمر الغساني، والحارث بن عمرو الكندي، وسيتناول الكلام عليه المسائل الآتية: (1)
منافسة كندة. (2)
مزدك. (3)
حربه مع الحارث بن جبلة الغساني. (4)
حربه مع الروم. (5)
يوم البؤس ويوم النعيم. (1)
كان حكم المنذر زاهرا، ولكن اعترضته سحابات من الاضطراب بسبب امتداد نفوذ كندة «وسنفرد للكلام عليها الفصل التاسع» وتقرب الحارث ملكها من قباذ منافسة للمناذرة، وساعده على ذلك أن المنذر رفض اعتناق مذهب مزدك فكانت النتيجة أن الحارث اعتنقه بعد رفض المنذر ذلك، ثم غزا الحارث بمساعدة قباذ الحيرة وطرد المنذر منها. (2)
أما مزدك هذا فهو رجل فارسي ظهر في عهد قباذ، وكان صاحب مبدأ شيوعي خطير، خلاصته كما ورد في الجزء الثاني من الشاهنامة صحيفة 119 «أن الذي يمنع الناس من سلوك طريق السداد منحصر في خمسة أشياء لا غير، وهي الغيرة والحقد والغضب والحرص والفقر، وإذا قمعت هذه الأخلاق الشيطانية استقام طريق الحق، ومنشؤها كلها من شيئين: المال والنساء، فينبغي أن يجعلا على الإباحة بين الخلق أجمعين حتى تأمن الآفات الخمس.» فاستهوى هذا المبدأ العامة وتبعه خلق كثير، وازداد قوة وانتشارا لما أتبعه قباذ، ولكن كسرى أنوشروان لأسباب خاصة لا محل لذكرها تمكن - وهو لا يزال وليا للعهد - من قتل مزدك ومن تبعه، ولما آل إليه الملك بعد أبيه قباذ تعقب المزدكية في كل مكان، حتى طهر منهم بلاد فارس، وكان من نتيجة القضاء على المزدكية أن طرد الحارث الكندي من الحيرة وأعيد المنذر إلى الحكم. (3)
ولقد قامت حرب بين المنذر والروم - بتحريض من كسرى - تمكن فيها المنذر من اجتياح بلاد الشام، حتى وصل إلى أنطاكية، ورأى جستنيان نفسه مضطرا إلى اللجوء إلى الحارث بن جبلة الغساني لصد تيار المنذر. (4)
وهنا بدأت سلسلة حروب بين المنذر والحارث، فكان كل منهما يعتدي على أرض الآخر، وكان النزاع في الغالب يقوم على الأرض المسماة استراتا
Strata «وهي الممتدة على جانبي الطريق الحربية من دمشق إلى ما بعد تدمر»؛ إذ كان كل من الفريقين يدعي السلطة على القبائل العربية النازلة بها، وكان النزاع لا يلبث أن يسوى حتى يقوم مرة أخرى - بلا شك - بتحريض من قيصر الروم، وفي إحدى هذه الحروب أسر المنذر ابنا للحارث ثم ذبحه في الحال تقربا إلى الإلهة العزى، كما يقال إنه في حرب أخرى تقرب بأربعمائة مسيحي إلى نفس الإلهة.
ثم انتهت هذه الحروب بمعركة قامت في مقاطعة قنسرين، هي المعروفة باسم يوم حليمة، وهي التي تمكن فيها الحارث - بحيلة من حيله - من القضاء على خصمه المنذر، ويوم حليمة هذا هو الذي يضرب به المثل، فيقال: «وما يوم حليمة بسر»، وحليمة هي ابنة الحارث التي قيل إنها عطرت بيدها قبل المعركة مائة بطل من الغساسنة. (5)
ونختم الكلام عن المنذر بحكاية مشهورة في كتب الأدب، ولكنا لا نعلم مدى صحتها من الناحية التاريخية ونقصد بها قصة الغريين ويوم البؤس ويوم النعيم ونحن نلخصها فيما يلي:
كان للمنذر نديمان، أحدهما يسمى خالد بن المضلل، والآخر عمر بن مسعود، فحدث - وهم على الشراب - أن أغضباه، فأمر بهما فدفنا حيين، وفي صبيحة اليوم التالي افتقدهما، وتذكر الخبر فندم أشد الندم، وأمر ببناء صومعتين عليهما، وجعل لهما يوم نعيم ويوم بؤس، فكان لا يطلع عليه في يوم بؤسه أحد إلا أمر بذبحه، وبأن يطلي بدمه الغريان، أما أول من يطلع عليه في يوم نعيمه فإنه يعطيه مائة من الإبل، ولقد ذهب ضحية يوم البؤس كثير من الناس من بينهم عبيد بن الأبرص الشاعر، وذات يوم طلع عليه في يوم بؤسه حنظلة الطائي، وكان له على المنذر فضل، لم ينفع هذا الفضل حنظلة إلا في إرجاء التنفيذ إلى عام بضمانة واحد من حاشية المنذر يسمى شريك بن عمرو، ولما حان الموعد ولم يظهر حنظلة كان المنذر على وشك أن يقتل كفيله شريكا، ولكن ظهر فجأة شبح من بعد، فلما وصل عرف أنه حنظلة، فأعجب المنذر بوفاء حنظلة وتضحية شريك، فقال: لا أكون ألأم الثلاثة، وأغدق عليهما، وأبطل من يومه هذه العادة السيئة. (8) عمرو بن هند 554-569م
هو ابن المنذر الثالث، وأمه هند بنت الحارث الكندي وهي عمة امرئ القيس الشاعر، وكان يعاصر كسرى أنو شروان، وقد أصبحت الحيرة في عصره مركزا هاما للأدب، يزور بلاطه فيها الشعراء المشهورون مثل طرفة وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة، وكان رجلا ظالما تهابه العرب، شديد الزهو والكبرياء، يدلك على ذلك الحكاية التالية، التي تذكرها كتب الأدب، والتي كانت - فيما يقولون - سببا في قتله:
قال عمرو بن هند يوما لجلسائه، هل تعلمون أن أحدا من العرب تأنف أمه من أن تخدم أمي؟ قالوا: ما نعرفه إلا أن يكون عمرو بن كلثوم التغلبي، فإن أمه ليلى بنت مهلهل بن ربيعة وعمها كليب بن وائل وزوجها كلثوم وابنها عمرو، فسكت مضرط الحجارة «وهو لقب عمرو بن هند» على ما في نفسه، وبعث إلى ابن كلثوم يستزيره، ويأمره أن تزور أمه أمه، فقدم ابن كلثوم في فرسان من تغلب ومعه أمه ليلى، فنزل على شاطئ الفرات، وبلغ عمرو بن هند قدومه، فأمر بسرادق فضرب بين الحيرة والفرات، وأرسل إلى وجوه أهل مملكته، وصنع لهم طعاما، وجلس عمرو بن كلثوم وخواص أصحابه في السرادق، وجلست هند هي وليلى أم عمرو بن كلثوم في قبة، وكان عمرو بن هند قد قال لأمه: إذا فرغ الناس من الطعام ولم تبق إلا الطرف نحي خدمك عنك فإذا دنت الطرف استخدمي ليلى، ففعلت، ولما فرغ الناس من الطعام قالت: يا ليلى ناوليني ذلك الطبق، فقالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فألحت عليها، فصاحت ليلى: وا ذلاه، يا لتغلب، فسمعها ولدها ابن كلثوم، فثار الدم في رأسه، ونهض إلى سيف ابن هند وهو معلق في السرادق ولم يكن هناك غيره، فأخذه وضرب به عمرو بن هند، ونادى في بني تغلب، فانتهبوا جميع ما في السرادق، واستاقوا النجائب وسبوا النساء وانصرفوا.
هذه حكايته مع عمرو بن كلثوم، وهي حكاية يتعذر على الإنسان أن يؤمن بها على علاتها.
هذا؛ ويقال إنه صاحب يوم أوارة الثاني، وخلاصته أن جماعة من زرارة قتلوا ابنا أو أخا له، فأقسم ليقتلن منهم مائة، فسار يطلبهم حتى بلغ أوارة، فتفرقوا، فبث سراياه فيهم، فأتوه بتسعة وتسعين رجلا وتعذر عليه إتمام المائة، فلما كان آخر النهار أقبل رجل من البراجمة - وهم قوم من تميم - يقال له عمار كان قد شم رائحة الدخان «وكان عمرو قد ألقى بالقتلى في النار» فظن أن هناك مأدبة، فأسرع حتى أناخ إلى عمرو، فسأل عمرو: ممن الرجل؟ فقال: من البراجمة. فقال: «إن الشقي وافد البراجم» فذهبت مثلا، ثم أمر بالرجل فألقي بالنار، فصار ذلك عارا لبني تميم. قال الشاعر:
إذا ما مات ميت من تميم
وسرك أن يعيش فجئ بزاد
بخبز أو بلحم أو بتمر
أو الشيء الملفف بالبجاد
تراه ينقب البطحاء حولا
ليأكل رأس لقمان بن عاد
والحكاية في مجموعها ظاهرة الطرافة، وإن كانت لا تمت إلى التاريخ بصلة، وهذا هو رأينا في كل أيام العرب إلا القليل منها. (9) النعمان الثالث 580-602م
هو آخر ملوك الحيرة اللخميين، وأكثرهم شهرة في كتب الأدب، وهو ابن المنذر الرابع، وكنيته أبو قابوس، عاصر كسرى أبرويز، وكان المنذر الرابع قد خلف ثلاثة عشر ولدا قيل لهم الأشاهب لجمالهم، وفيهم قال الأعشى:
وبنو المنذر الأشاهب بالحيرة
يمشون غدوة بالسيوف
والظاهر أن ملوك الحيرة أصبحوا من الضعف بحيث أصبح ملوك فارس يضعون على عرش الحيرة من شاءوا، وأخيرا ظفر بعرش الحيرة النعمان الثالث بمساعدة عدي بن زيد العبادي «لأنه من عباد الحيرة»، وكان يتولى الترجمة في بلاط فارس، وكان المنذر أبو النعمان قبل أن يرسله إلى المدائن قد عهد إليه بتربية ابنه النعمان، وغضب لتولية النعمان بعض إخوته، وحقدوا على عدي بن زيد، وما زالوا بأخيهم يوغرون صدره ضد عدي حتى حملوه على أن يستقدمه، وأرسل النعمان إلى ابن زيد، فاستأذن كسرى فأذن له، فلما أتى الحيرة أمر النعمان بحبسه، وطال حبسه، وعلم كسرى بخبره، فأرسل إلى النعمان أن يطلق سراحه، فتظاهر النعمان بالطاعة وأمر بقتل السجين، وكان لعدي بن زيد ابن يسمى زيدا وصل إلى مركز الترجمة في بلاط فارس بدل أبيه ولما كبر أراد أن يثأر لقتل أبيه، فما زال بكسرى يوغر صدره على النعمان ملك الحيرة حتى أفلح، فاستقدم كسرى النعمان، فلما أحس بقرب يومه استودع أمواله وسلاحه رجلا من قبيلة بكر، ثم انصرف إلى كسرى ليبدي له براءته مما اتهم به، فأمر به كسرى فحبس حتى مات في الحبس سنة 602 على بعض الروايات، وعلى أثر موته زال الحكم عن أسرة المناذرة، وولي مكانه إياس بن قبيصة الطائي، وأشرك معه في الحكم رجلا فارسيا اسمه النخيرجان. (10) بعض أخبار النعمان الثالث
يتداعى إلى الذهن - إذا ذكر اسم النعمان بن المنذر - اسم النابغة الذبياني الشاعر المشهور، ولا غرو فقد كان النعمان راعيا للأدب والشعر، وكان بلاط الحيرة في أيامه يموج بالشعراء، الذين كان من أحبهم إليه النابغة الذي هرب من الحيرة على أثر وشاية قام بها أحد منافسيه من الشعراء عقب قصيدته المشهورة التي وصف فيها المتجردة زوج النعمان وزوج أبيه من قبل، وهي مشهورة في كتب الأدب.
والنعمان هو صاحب يوم طفخة ويوم السلان، والأول كان بينه وبين بني يربوع بسبب الردافة وهي بمنزلة الوزارة، والثاني - وهو الأشهر - كان بينه وبين بني عامر بن صعصعة، وسببها غضب النعمان من أجل لطيمة لكسرى «قافلة تجارية» أرسلت لتباع بعكاظ فاعتدى عليها بنو عامر، ورغم تنكر الجيش الذي بعثه النعمان في زي التجار فإن الدائرة دارت عليه. (11) إياس بن قبيصة الطائي 602-611م
قلنا من قبل إن كسرى لما حبس النعمان حتى مات في السجن استعمل مكانه إياس بن قبيصة الطائي، ونضيف هنا أن كسرى طلب من إياس أن يجمع ما خلفه النعمان ويرسله إليه فأرسل إلى هانئ بن مسعود يطلب ما استودعه النعمان فأبى، فغضب كسرى وأشار عليه أحد أعداء بكر بن وائل أن ينتظر ريثما ينزلون مياه ذي قار وقت القيظ، فيبعث من يأخذهم بالقوة، فصبر كسرى حتى نزلوا المكان، فبعث إليهم بمن يخيرهم بين الحرب أو تسليم ما خلفه النعمان، فآثروا الحرب، وقاد إياس بن قبيصة جنود الفرس والعرب، وأراد هانئ بن مسعود - بعد أن فرق سلاح النعمان في رجاله - أن يفر، ولكن رجلا اسمه حنظلة بن ثعلبة أنبه، فرد هانئ الناس وقطع ودن الهوادج وضرب على نفسه قبة وأقسم ألا يفر حتى تفر القبة، وثبت العرب ثباتا جميلا، وانهزم الفرس بصفوفهم وخيولهم على الرغم من كثرة عددهم، وتعرف هذه المعركة في تاريخ العرب بيوم ذي قار، وروي أن النبي عليه السلام - وهو في مكة بعد البعثة - لما بلغه انتصار العرب قال ما معناه: «هذا أول يوم انتصف فيه العرب من العجم»، وقد حقد سائر العرب على إياس، وكانت هذه المعركة نذيرا بزوال النفوذ الفارسي وفألا حسنا للعرب.
وبعد موت إياس تولى ملك الحيرة من قبل فارس اثنان كان آخرهما المنذر الخامس الملقب بالمغرور، ثم سقطت الحيرة تحت أقدام خالد بن الوليد في سنة 13 هجرية أيام الخليفة أبي بكر الصديق.
والآن - وقد انتهينا من الكلام عن أشهر ملوك الحيرة - يجدر بنا أن نلقي نظرة سريعة على تحضر هذه الدولة ومبلغ ما أفاد منها العرب أو الفرس. (12) حضارة دولة الحيرة
كانت دولة الحيرة في سطوتها تشمل المنطقة الواقعة غرب الفرات، ابتداء من مجراه الأوسط إلى منتصف الخليج الفارسي، وكان نفوذها يمتد إلى كافة القبائل الضاربة في هذه المناطق، وكانت الدولة مستقلة استقلالا يكاد يكون تاما، وقد استمرت زهاء أربع قرون وربع قرن ابتداء من أوائل القرن الثالث، وكان على رأس الدولة ملك له بلاط يكاد يكون صورة مصغرة من بلاط المدائن، وله وزير يسمى الرديف، وتحت تصرفه قوة عسكرية بعضها نظامي وبعضها غير نظامي، وكان الجند النظامي كتيبتين إحداهما فارسية يقال لها : الشهباء، وأخرى عربية يقال لها: دوسر. أما القوة غير النظامية فكانت تنظم القبائل الموالية التي كان معظمها يستنفر وقت الحرب، وكان أهمها كتائب الرهائن والصنائع والرضائع، وكانت لهذه الكتائب كلها حصون تعرف بالمسالح «جمع مسلحة».
ويبدو أن الحضارة العربية في الحيرة، التي كانت تواجه فارس لم تصل إلى الدرجة العالية، التي وصلت إليها الحضارة العربية في بطرة وتدمر وأرض الغساسنة، تحت التأثير البيزنطي السوري.
وكان عرب الحيرة يتكلمون العربية الشمالية في حاجاتهم اليومية، ولكنهم في الغالب كانوا يستعملون السريانية في كتابتهم، وهم من هذه الناحية يشبهون الأنباط والتدامرة، الذين كانوا يتكلمون العربية ويكتبون الآرامية، وقد أدت هذه الدولة خدمة كبيرة للغة العربية، بما احتضنت من الشعراء، كما أنه كان لها فضل كبير - فيما بعد - في تعليم الخط العربي، وفي إغناء اللغة العربية بكثير من الألفاظ الفارسية، التي تعبر عن أشياء لم يكن العرب يعرفونها.
وكان الملوك في الشطر الأول من الدولة وثنيين، أما في الشطر الثاني فقد اعتنق معظمهم النصرانية، وسبب عدم اعتناق الأولين منهم للنصرانية - ديانة البيزنطيين - يرجع إلى أن ملوك الحيرة، وجدوا - من حسن السياسة - أن يظلوا على صداقتهم مع الفرس، وكان معظم النصارى في الحيرة من النسطوريين، وطبيعي أن النصرانية انتقلت إليهم من الشام، حيث كان أصحاب المذهب النسطوري مضطهدين، وكان المذهب النسطوري «مذهب شرق الشام» أقل مذهب يلقى اعتراضا في الفرس ، وإلى نصارى الحيرة - والعباد أهم فرقة فيهم - يرجع الفضل في نشر المسيحية في بعض الأجزاء التي انتشرت فيها في بلاد العرب، كما يرجع إليهم الفضل أيضا في تعليم العرب الوثنيين القراءة والكتابة والدين، وتذكر بعض الروايات أن قريشا تعلمت من الحيرة فن الكتابة والزندقة.
ويجب أن لا ننسى أثرهم أيضا في حمل بعض مظاهر الحضارة الفارسية إلى بلاد العرب، ولا ما شيدوه من أبنية رائعة كالخورنق والسدير.
الفصل الثامن
تاريخ الغساسنة
تمهيد
قامت دولة الغساسنة للروم مقام دولة المناذرة للفرس، بمعنى أنها كانت دولة حاجزة، اتخذ منها الروم مجنا يقيهم شر هجمات البدو عليهم من أطراف الصحراء من جهة، وليثيروهم ضد الفرس ويستعينوا بهم عليهم من جهة أخرى، وتاريخ هذه الدولة غامض، ولا تتفق المراجع العربية مع المراجع اليونانية إلا في النزر اليسير، والمؤرخون العرب أنفسهم يختلفون في عدد الملوك وأسمائهم وسني حكمهم، فهم عند حمزة الأصفهاني 32 ملكا، وعند ابن قتيبة 11، وعند الجرجاني 9، وعند المسعودي 10، ويرى الأستاذ نلدكه - وهو حجة في تاريخ الغساسنة - أن عدد الملوك لا يتجاوز عشرة حكموا مدة لا تتجاوز قرنا وبعض قرن، بينا يحدد حمزة الأصفهاني لهم ستة قرون، وتقصي هذه الروايات ليس فيه كبير غناء ما دامت لا توجد آثار تتكلم، والغسانيون عند مؤرخي العرب من عرب الجنوب كالمناذرة، ولكن العلماء المحدثين لا يزالون يشكون في هذا، ويرجحون أنهم من عرب الشمال كما بينا سابقا.
ولا نستطيع أن نحدد بدء قيام هذه الدولة بالضبط بسبب الخلافات التي أشرنا إليها، وأقصى ما يمكن أن نستخلصه من المراجع العربية أنه في الوقت الذي هاجرت فيه بعض القبائل إلى العراق، سارت فيه قبائل من قضاعة إلى الشام، فنزلوا في الإقليم المعروف الآن باسم «شرق الأردن» وكانت تسكنه قبائل تعرف بالضجاعمة، فساكنوهم مدة، ثم لم تلبث أن هاجرت قبائل أصلها من أزد اليمن، أقامت مدة في تهامة في ماء يسمى غسان، فعرفوا بأزد غسان. وقبل أزد غسان أن يدفعوا الإتاوة لقيصر الروم، يجبيها منهم الضجاعمة، الذين كانوا عمالا لقيصر على الشام، ولكن - بعد قليل - قامت حرب بين الضجاعمة والغسانيين، بسبب الخلاف على الإتاوة، وانضم الروم إلى الضجاعمة، ولكن الغسانيين صمدوا، فلما رأى ملك الروم صبرهم، وأنهم أقوى من الضجاعمة، آثرهم عليهم وجعلهم عمالا، وبذلك صارت لهم رئاسة العرب في هذه المنطقة، وتعهد الروم بأن يمدوا الغسانيين بأربعين ألف جندي من جند الروم، وتعهدت غسان بأن تمد الروم بعشرين ألف مقاتل إذا اعتدى الفرس على الروم، والظاهر أن الغسانيين - قبل أن يتصلوا بالروم - كانت لهم ملوك، ولكنا لا نعرف من أخبارهم شيئا.
وتكاد تجمع الروايات التاريخية، وما ورد في كتب الأدب على أن جفنة هو جد أسرة الغساسنة، وكان ملكهم يشمل المنطقة الواقعة إلى الشرق من نهري العاصي والشريعة «الأرنت والأردن»، ومن أطراف العراق بالشمال إلى خليج العقبة في الجنوب.
وسنكتفي بالكلام على ثلاثة من ملوكهم، هم الحارث بن جبلة، والمنذر بن الحارث، وجبلة بن الأيهم.
الحارث الثاني بن جبلة 529-569م
يلقبه مؤرخو العرب بالأعرج، وهو أول شخصية صحيحة في تاريخ الجفنيين، وكان يعاصر الإمبراطور جستنيان وكسرى أنو شروان والمنذر الثالث ملك الحيرة، وقد رقاه الإمبراطور إلى رتبة بتركيوس وفيلارك أو ملك، وهي ثاني رتبة في الدولة بعد لقب الإمبراطور، والظاهر أنه كان يقصد بذلك أن يقيم منه خصما قويا في وجه المنذر ملك الحيرة.
وكان جستنيان قد تهادن مع كسرى أنو شروان، حتى يتمكن من تنفيذ أغراضه في إعادة مجد الدولة الرومانية القديمة بالفتح في أفريقيا وأوروبا، ونجح بلساريوس قائد جستنيان في حروبه، فأدرك أنو شروان أنه تورط في هذه المهادنة فأوحى إلى المنذر الثالث أن يتحرش بالحارث بن جبلة، فادعى ملك الحيرة أن القبائل العربية النازلة على الطريق الحربية بين دمشق وتدمر خاضعة لسلطانه، ونازعه الملك الغساني هذه السلطة، فكان من أمرهما ما بيناه سابقا، وجر النزاع بين التابعين - إذا صح هذا التعبير - إلى النزاع بين الدولتين الكبيرتين، فحمل كسرى على سوريا وآسيا الصغرى وكاد أن يفتح القسطنطينية، فانزعج القيصر جستنيان واستنهض قائده بلساريوس واستنصر بعرب غسان، فمشى جند الروم بقيادة هذين البطلين فأوغلا في أرض الجزيرة، وكأنما أراد بلساريوس أن ينال شرف الانتصار وحده، فخلف الحارث وراءه ولم يتصل به، فدارت الدائرة على الروم واضطر القيصر إلى طلب الصلح.
وقد ذكر المؤرخ تيوفانيس أن الحارث زار بلاط جستنيان في سنة 563م، وكان ظهوره بزيه البدوي ذا أثر في نفوس أتباع الإمبراطور، وقد استطاع الحارث أثناء إقامته في القسطنطينية أن يظفر بتعيين الأسقف يعقوب البردعي المنوفستي العقيدة أسقفا على عرب الشام، وقد عرفت الكنيسة الشامية المنوفستية من ذلك الوقت باسم الكنيسة اليعقوبية.
المنذر بن الحارث
ويعرف في المراجع البيزنطية باسم «المنداروس» ذكر الدكتور حسن إبراهيم في كتابه «تاريخ الإسلام السياسي» نقلا عن أمراء غسان للأستاذ نلدكه: أنه في عهد المنذر بن الحارث بن جبلة، وقع شيء من الجفاء بين غسان والروم انقطع على أثره وصول المدد ثلاث سنوات، فانتهز عرب الحيرة هذه الفرصة وأغاروا على سوريا، فاضطر الروم إلى استرضاء الأمير الجفني، وعقدت محالفة بين إمبراطور الروم وملك الغساسنة، ثم ارتاب فيه الإمبراطور ونفاه إلى القسطنطينية ثم إلى صقلية، ولكن المنذر لم يلبث طويلا في منفاه؛ فقد سخط على الإمبراطور أبناء المنذر الأربعة، وشقوا عصا الطاعة على دولة الروم، ثم أوغلوا تحت قيادة أخيهم الأكبر النعمان في الصحراء، وأخذوا يشنون الغارات على أراضي الدولة، غير أن القائد البيزنطي تمكن من القبض على النعمان وأخذه أسيرا إلى القسطنطينية سنة 583م، وقد تفرقت كلمة العرب في سوريا بعد أن حمل المنذر أسيرا إلى عاصمة الروم، وفككت عرى وحدتهم، فاختارت كل قبيلة منهم أميرا لها، وكان من أثر ذلك أن التحق بعضهم بالفرس، ولما كثر التنازع والتطاحن بين القبائل العربية بعد فقد أميرها، أقام الروم مكان المنذر عاملا.
وتستطيع أن تستنتج مما ذكره نلدكه أن رواية واحدة كانت تمثل على مسرحين: أحدهما في دمشق والآخر في الحيرة، فليس عزل النعمان الثالث وتعيين إياس بن قبيصة الطائي بدله على عرش الحيرة بمختلف عن أسر المنذر بن الحارث، وتعيين عامل جديد بدله، وإن اختلف ممثلو الرواية في كل حالة.
جبلة بن الأيهم
كان غزو الفرس للروم والاستيلاء على دمشق وأورشليم «613-614» هو الضربة القاضية على نفوذ الغساسنة.
وقد حدث سنة 629م لما استرد هرقل بلاد الشام من الروم، أن ظهر أحد الغسانيين وهو جبلة بن الأيهم، وهو آخر ملوك الغساسنة، وقد أتى الإسلام على ملكه بعد سقوط الشام في أيدى المسلمين.
وقد انضم إلى جانب الروم في أثناء الفتح الإسلامي للشام ولكنه أسلم على أثر انتصار العرب في معركة اليرموك سنة 636م في عهد الخليفة عمر، «واستشرف أهل المدينة لمقدمه حتى تطاول النساء من خدورهن لرؤيته لكرم وفادته، وأحسن عمر منزلته وأجله بأرفع رتب المهاجرين. ثم - على حد تعبير ابن خلدون - غلب عليه الشقاء، ولطم رجلا من بني فزارة وطئ فضل إزاره وهو يسحبه في الأرض، ونابذه إلى عمر في القصاص فأخذته العزة بالإثم، فقال له عمر: لا بد أن أقيد منك، فهرب إلى قيصر، ولم يزل بالقسطنطينية حتى مات سنة 20ه.» وتذكر المراجع أنه ندم على فراره وارتمائه في أحضان بيزنطة، وينسبون إليه في ذلك شعرا قاله.
والآن وقد أتينا على تاريخ آخر الغساسنة يجمل بنا أن نشير إشارة خفيفة إلى حضارتهم.
حضارة الغساسنة
لا شك في أن درجة الثقافة التي وصل إليها الغساسنة جيران البيزنطيين كانت أعلى مما استطاع منافسوهم عرب الحيرة الوصول إليه، وكانت دولتهم تمتد في الطرف الشمالي الغربي من بلاد العرب، إلى الشرق من نهر الأردن، ابتداء من المنطقة الواقعة على مقربة من بطرة في الجنوب، إلى ما يجاور الرصافة في الشمال الشرقي.
ويبدو أنه في عهد حكم الغساسنة، وأثناء الحكم الروماني السابق له، قد نمت حضارة عربية، وتطورت على طوال الحدود الشرقية لسوريا، وكانت مزيجا من العناصر العربية والشامية واليونانية، وكان من مظاهر ذلك ما يشيدونه من المدن والقرى والقصور والقلاع، التي كانت تعرف بالمسالح، والتي كانت تكون خط دفاع في أطراف حوران، يفصل بينها وبين البادية، ومن أشهر القصور التي بنوها القصر الأبيض والقلعة الزرقاء وقصر المشتى ، وكذلك شيدوا عدة أقواس نصر، وحمامات عامة، وقناطر للمياه، ومسارح وكنائس، حتى لقد كانت السفوح الشرقية والجنوبية لحوران عامرة بما يقرب من ثلاثمائة مدينة وقرية لا نجد قائما في أيامنا هذه منها إلا بضع خرائب وأنقاض.
وكان ملوك غسان يقتنون كثيرا من الجواري الروميات، ويكثر في قصورهم المغنون من مكيين وبابليين ويونانيين، والموسيقيون من كلا الجنسين، وكانوا يسرفون في شرب الخمر، وإذا صح ما رواه أبو الفرج في «الأغاني» من أن جبلة كان إذا جلس للشراب فرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين، وضرب له العنبر والمسك في صحاف الفضة والذهب وأوقد له العود الندي إن كان شاتيا، وإن صائفا بطن بالثلج ، وأتى هو وأصحابه بكساء صيفية يتفضل «يمتاز» هو وأصحابه بها، وفي الشتاء بالفراء وما يشبهها، نقول - إذا صح هذا - كان دليلا على ما تمتع به الغساسنة من ترف وحضارة، وقد وجد عدد كبير من شعراء العرب في ملوك غسان أعظم رعاة لهم، وعندما نشب الخلاف بين النابغة الذبياني والملك الحيرى وجد النابغة في بلاط غسان خير ملجأ له، وقد حارب لبيد أحد أصحاب المعلقات في جانب الغساسنة في معركة حليمة كما زار بلاطهم، وامتدحهم في الجاهلية حسان بن ثابت الشاعر المدني قبل أن يصبح شاعر النبي عليه السلام.
أما ديانة الغساسنة فكانت - بحكم جوارهم للروم - النصرانية، ولكنها كانت على المذهب المنوفستي الذي كان شائعا في منطقتهم، والذي عرف فيما بعد باسم المذهب اليعقوبي نسبة إلى يعقوب البرادعي الرهوي.
أما لغتهم فكانت العربية، ولكنهم أيضا اتخذوا لغة الشام الآرامية لغة ثانية لهم فكان شأنهم في ذلك شأن كل القبائل العربية التي سكنت أرض الهلال الخصيب كالتدامرة والمناذرة، أعني أنهم كانوا مزدوجي اللغة.
ولم تكن عاصمة الغسانيين واحدة كما كانت عاصمة المناذرة الحيرة، وفي مبدأ دولتهم كانت عاصمتهم معسكرا متحركا، ثم اتخذ لهم فيما بعد عاصمة ثانية في الجابية، وقد ذكر بعض المؤرخين أن عاصمتهم كانت دمشق أو جلق القريبة منها، وقال آخرون: البلقاء، وقال غيرهم: تدمر، وقال بعضهم: صفين، ومهما يكن من أمر فمما لا شك فيه أنهم أقاموا بجلق فترة غير قصيرة من الزمن، وتقع جلق إلى الجنوب الغربي من دمشق وإلى الشمال من نهر اليرموك.
الفصل التاسع
تاريخ كندة
تمهيد
ذكر الأستاذ نيكلسون في كتابه «تاريخ الأدب العربي» أن دولة كندة كانت لتابعة اليمن ما كان اللخميون لملوك الفرس.
ودولة كندة هذه هي التي كانت تنتظم معظم بلاد نجد مما يلي الحجاز شرقا وتمتد إلى طرف الشام والعراق من ناحية الشمال، وتمارس نفوذا على قبائل عمان في الجنوب، ولم تكن دولة على غرار دولتي المناذرة والغساسنة، بل كانت عبارة عن اتحاد أو تحالف يجمع عدة قبائل، ولقد بدأ ظهورها في منتصف القرن الخامس الميلادي، واستمرت قائمة أكثر من قرن ونصف قرن.
والكنديون قد يكون أصلهم من عرب الجنوب، والظاهر أن التبابعة لجئوا إليهم ليهيمنوا لهم على الطرق التجارية الشمالية التي كانت ترتادها قوافل اليمن التجارية حتى يأمنوا اعتداء قبائل البدو الشمالية عليها، ولم يكن للكنديين مدن كما كان للمناذرة والغساسنة، ولكن الظاهر أنهم - بعد أن توطد سلطانهم - أصبحوا منافسا خطرا لهاتين الدولتين، وخاصة دولة المناذرة التي تمكنوا بممالأة الفرس من طرد ملكها المنذر الثالث، وضمها إلى حلفهم العظيم كما سيأتي.
ولا نجد ذكرا في النقوش اليمنية للكنديين؛ ولكن الذي نستخلصه مما كتبه العرب هو: أن الكنديين كانوا يعيشون في الأصل في بلاد اليمن، ثم تفرقوا فنزلوا إلى حضرموت، وساكنوا الحضرميين في موضع يعرف بكندة وهو الذي ينسبون إليه، ثم حدث بينهم وبين الحضرميين خلاف وحروب كادت تأتي عليهم، ثم ضعفت كندة وظهر عجزها عن مواصلة الحرب، فهاجروا إلى الشمال، وتصادف في ذلك الوقت أن خلافا وقع في قبيلة بكر التي تسكن شمال نجد فغلب السفهاء فيها على العقلاء، وأكل القوي الضعيف، فلجأ زعماؤها إلى تبع اليمن حسان، وطلبوا إليه أن يولي عليهم ملكا، فاختار حجر بن عمرو زعيم الكنديين وكان أخاه من الرضاع أو أخا غير شقيق له، وكان ذا رأي ووجاهة، وهو أول ملوك الكنديين في أغلب الروايات.
حجر بن عمرو الملقب بآكل المرار حوالي 480م
قدم حجر إلى نجد وكان المناذرة قد ملكوا كثيرا منها، ولا سيما مواطن البكريين فحاربهم واستخلصها منهم، فأجمع القوم على احترامه، وما زال كذلك حتى مات، ويقال إنه لقب بآكل المرار؛ لأنه بلغه أمرا أغضبه فاستشاط غضبا، وجعل يأكل المرار (وهو نبات مر إذا أكلته الإبل تقلصت مشافرها).
وبعد موت حجر ولي ابنه عمرو بن حجر مكانه، ولم يضف إلى المملكة أو الحلف قبائل جديدة ومن أجل ذلك سمي بالمقصور.
الحارث بن عمرو
ولي بعد أبيه عمرو، وهو أشجع ملوك كندة، كان معاصرا لقباذ ملك الفرس وكان ملكا كثير المطامع، في أيامه فتح الأحباش اليمن، وأذهبوا دولة التبابعة، فضعف شأن ملوك كندة؛ لأنهم إنما كانوا يستمدون نفوذهم من اليمن، فوجه الحارث التفاته إلى المناذرة، وما زال يحسدهم على تقربهم من الأكاسرة، ويترقب الفرص لضم الحيرة إلى دولته حتى حانت عندما تغير قباذ ملك الفرس على المنذر الثالث وطرده من الحيرة بسبب رفضه اعتناق المزدكية، فاعتنقها الحارث وظفر من قباذ بتوليته الحيرة بدلا من المنذر كما بينا ذلك آنفا؛ ولقد رحبت قبائل معد وغيرها بملكه على الحيرة وتقربوا إليه بالطاعة، وطلبوا إليه أن يولي عليهم من أبنائه من يحكمهم ليبطل ما قام بينهم من القتل، ففرق أولاده فيهم على النحو الآتي: (1)
حجر بن الحارث على أسد وغطفان. (2)
شرحبيل بن الحارث على بكر بن وائل بأسرها. (3)
معد يكرب بن الحارث على قيس عيلان بأسرها. (4)
سلمة بن الحارث على تغلب والنمر بن قاسط.
على أن مقام الحارث في الحيرة لم يطل، فما هو إلا أن مات قباذ سنة 531م وآل الملك إلى أنو شروان حتى أعاد المنذر الثالث وطرد الحارث، ففر بماله وأولاده فتبعتهم خيل المنذر، ولحقتهم بأرض كلب؛ فهرب الحارث تاركا ماله وإبله فانتهبها المنذر، وأسر ثمانية وأربعين من بني آكل المرار من بينهم عمرو ومالك ابنا الحارث، فأمر المنذر بهم فقتلوا في ديار بني مرين، وفيهم يقول امرؤ القيس الشاعر الكندي:
ملوك من بني حجر بن عمرو
يساقون العشية يقتلونا
فلو في يوم معركة أصيبوا
ولكن في ديار بني مرينا
ولم تغسل جماجمهم بغسل
ولكن في الدماء مرملينا
تظل الطير عاكفة عليهم
وتنتزع الحواجب والجفونا
أما الحارث فظل في بني كلب حتى قتل، وقيل: مات عقب تتبعه ظبيا مدة ثلاثة أيام.
أما أبناؤه قد ظلوا على ما خلفهم أبوهم عليه، ولكن المنذر الثالث أخذ يسعى بينهم بالوقيعة انتقاما لنفسه منهم ومن أبيهم حتى تحاربوا، فقتل شرحبيل ملك بكر في معركة تعرف عند العرب بيوم الكلاب «وهو ماء بين البصرة والكوفة» قتله رجال أخيه سلمة الحاكم على تغلب، وبلغ أخاه معد يكرب قتله فجزع، وكذلك أدرك سلمة في الآخر نوايا المنذر السيئة، فخرج من تغلب، والتجأ إلى بكر بن وائل فأذعنت له، وقالوا: لا يملكنا غيرك، فبعث إليهم المنذر الثالث يدعوهم إلى طاعته فأبوا، فسار إليهم وكانت بينه وبينهم المعركة المعروفة عند العرب بيوم أوارة الأول الذي انتصر فيه المنذر عليهم، وأسال دمهم على جبل أوارة، وأحرق النساء.
وكان طبيعيا بعد قتل الأخوين سلمة وشرحبيل أن يضعف أثر ملوك كندة ويتضعضع نفوذهم، وأول ما ظهر ذلك كان في خروج بني أسد على حجر بن الحارث ونبذهم طاعته ورفضهم دفع الإتاوة إليه، فحاربهم عليها وأخضعهم، وأباح أموالهم، وحبس أشرافهم، وكانت النتيجة أنهم حقدوا عليه، واغتنموا فرصة فقتلوه.
امرؤ القيس بن حجر الكندي
كان حجر قبل موته قد عهد إلى أحد أصحابه أن يدفع بتركته من سلاح وخيل إلى أي واحد من أبنائه الكثر لم يجزع لموته، ونفذ الصديق الوصية فمر على أبناء حجر الواحد بعد الآخر، وروى لهم حكاية مقتل حجر، فكل جزع، حتى إذا أتى امرأ القيس وكان ببعض أرض اليمن يلعب النرد مع بعض أصحابه فلم يجزع، وانتوى الثأر لأبيه على الرغم من أن أباه كان مهملا له في صباه بسبب قوله الشعر وتشبيبه بالنساء، فأسلم إليه الصديق المال والسلاح، وأخذ امرؤ القيس يطوف بقبائل العرب يستنصرها على قتلة أبيه بني أسد ، فمنهم من كان يمده، ومنهم من كان يرفض خشية بطش بني أسد، وإغضاب المناذرة والفرس، حتى انتهى به الأمر إلى أن يستودع أمواله ودروعه الشاعر اليهودي السموأل الذي كتب له كتابا إلى الحارث بن أبي شمر الغساني يطلب إليه فيه أن يتوسط لامرئ القيس عند قيصر الروم ليساعده على الانتقام من قتلة أبيه وبخاصة لأن ملوك الحيرة - وهم عمال الفرس أعداء قيصر - ساعدوهم.
وقبل الحارث ما أشار به السموأل، وسار امرؤ القيس يقصد قيصر، ولكنه مات في الطريق عند أنقرة في خبر تجد تفصيله في كتب الأدب، فارجع إليه.
ولم يبق بعد موت امرئ القيس من ملوك كندة إلا معد يكرب على قيس عيلان وبعض أمراء صغار لهم شبه سيادة على بعض قبائل العرب التي كانت ضمن مملكة كندة قبل تضعضعها، وما زال الأمر كذلك حتى جاء الإسلام فاكتسح هذه الدويلات إن صح هذا التعبير، كما اكتسح دولتي المناذرة والغساسنة فلم نعد نسمع عنها شيئا في التاريخ.
وليس للكنديين حضارة خاصة؛ لأنهم كما أسلفنا كانوا بدوا ليس لهم مدائن أو حصون، والشيء المهم في قيام دولتهم القصيرة العمر هو أنه كان أول محاولة في داخل بلاد العرب لتوطيد مجموعة من القبائل حول سلطة مركزية لها زعيم واحد، ولم تخلد أو تنجح هذه المحاولة؛ لأن التوحيد العام نجح على يد نبي الإسلام محمد عليه السلام.
وسينطبق كلامنا عن حال العرب الاجتماعية في الشمال على الكنديين؛ لأنهم على الرغم من إرجاع معظم المؤرخين أصلهم إلى الجنوب، لا يختلفون عن عرب الشمال في كثير أو قليل.
الفصل العاشر
تاريخ الحجاز
(1) تمهيد
ليست لدينا معلومات مؤكدة عن تاريخ الحجاز القديم قبيل البعثة النبوية، وكل ما كتبه المؤرخون العرب إنما كتب في القرن الثامن الميلادي وما تلاه من القرون، وقد عمدوا إلى بعض ما أجمله القرآن، فوسعوه من عندهم معتمدين فيما كتبوا على بعض ما ورد في التوراة، ومحاولين كما يقول الأستاذ نكلسون: إن يضفوا على تاريخ مكة قبل الإسلام ثوبا إسلاميا، فنظروا إلى مكة قبل الرسول بآلاف السنين في ضوء كالذي ظهرت فيه بعد الرسول.
وقد يعجب الإنسان إذا عرف أن هذا الجزء الأوسط من جزيرة العرب قضى قرونا متطاولة لا نعلم مقدارها، وهو في شبه عزلة عن العالم المتمدين، بينا جنوب الجزيرة وشمالها قد سجل التاريخ لنا من أخبارها وتمدينها شيئا كثيرا، ولكن جدب الحجاز، وجفاف تربته، ووعورة المسالك إليه لم يجذب الفاتحين العظام - مثل تحتمس الثالث في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، والإسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد، وأغسطس قيصر في القرن الأول الميلادي، وملوك الفرس في إبان عظمة دولتهم - لفتحه، بل وأرجع بعضهم فاشلا. فكانت هذه العوامل الطبيعية من الأسباب التي أبعدت الحجاز عن الاحتكاك بالدول، وجعلت نشاطه داخليا، وأبقت عليه حالة البداوة التي نشأ أهله عليها، ولم يخرج من هذه البداوة إلا مكة وبعض المدن التي هاجر إليها اليهود، وخاصة في القرون الأخيرة قبل الميلاد والأولى بعده فرارا من اضطهاد حكم الرومان، كما كان لهجرة أهل اليمن بعد سيل العرم بعض الأثر في تحويل بعض أهل الحجاز من البداوة إلى الحضارة.
ولقد عالجنا في فقرة [العرب المستعربة] ما أورده العرب في نسب العرب العدنانية، وأبدينا رأينا في صحة هذه الأنساب، ثم لخصنا قصة إسماعيل عليه السلام، وسنعالج في هذا الباب التاريخ الأسطوري لمكة وتأسيسها، حسبما ورد في كتب العرب، ثم ما يمكن أن يسمى تاريخا لها؛ لأن الأمر - من الناحية العلمية - لا يزال تحقيق نظرياته موضع جدل بين العلماء ورهن ما يمكن الكشف عنه من مستندات ووثائق تلقي على الموضوع ضوءا يجلو غوامضه ومعمياته.
وكان الأستاذ فلبي «في كتابه عن عصر ما قبل الإسلام الذي صدر أخيرا سنة 1947 والذي أشرنا إليه آنفا» آخر من ناقش أصل العرب وقصة إبراهيم عليه السلام مناقشة علمية في فصل عقده بهذا العنوان ذكر فيه أن الباحثين كشفوا عن ألواح بابلية ذكرها تدل دلالة تامة على أن أسرة من أسرها المالكة عدد ملوكها ثلاثة حكمت قرنا من الزمان، وكانوا ساميين موحدين، وأنهم استولوا على أسفل بابل حتى طردهم السومريون - وهم وثنيون غير موحدين - ثم ذكر أنه بالموازنة الدقيقة بين نصوص التوراة ونصوص الألواح البابلية وبمقارنة التواريخ في كليهما «القرن العشرين قبل الميلاد» تأكد لديه أن آخر ملوك هذه الأسرة ليس شخصا آخر غير إبراهيم نفسه، وأن اسمه كما ورد في الألواح «دمقي إيليشو»، وأن ترجمة الاسم هي «خليل الله» وهو اللقب الذي يطلق في المراجع الإسلامية على إبراهيم الخليل عليه السلام ثم ذكر أنه بسبب سقوط هذه الأسرة السامية وعقب سقوطها هاجر إبراهيم إلى فلسطين ... إلخ.
وظاهر مما ذكرناه الآن في هذا الصدد وما ذكرناه من قبل في مواضع أخرى من هذا الكتاب أن الكشوف العلمية الحديثة تؤيد روايات القرآن باستمرار، هذا وسنعالج بشيء من الإسهاب في الفقرات التالية تاريخ الإمارة في مكة، ونقفي على أثرها بشيء من تاريخ الإمارة في المدينة. (2) إسماعيل وتأسيس مكة
تقع مكة في واد منحصر بين الجبال، تربطه عدة طرق بالشمال وبالجنوب، ولا نعلم على وجه التحقيق متى أسست هذه المدينة المقدسة، ولكن الراجح أن هذا الموضع كان قبل تأسيس مكة محطا لرجال القوافل، يضربون فيه خيامهم، سواء في ذلك القادمون من اليمن قاصدين فلسطين، والقادمون من فلسطين قاصدين اليمن، ويتبادلون فيه متاجرهم، ويقيمون فيه أياما بسبب ما كان فيه من عيون الماء.
وتنسب الرواية العربية - وتؤيدها بعض آي القرآن في ذلك - تأسيس مكة إلى إبراهيم عليه السلام، ولا يذكر القرآن أكثر من الواقعة مجردة، أما الرواية العربية فإنها تقول: إن هاجر وهي تجوب الصحراء مع ولدها إسماعيل، تصل في آخر الأمر إلى مكة، ولما أدركها الظمأ هي وولدها أخذت توسع الخطى بين تلين صغيرين، هما الصفا والمروة، بحثا وراء الماء، وفيما هي تسعى بين التلين إذا بإسماعيل الذي تركته يبكي على الأرض، يضرب الأرض بقدمه فيتفجر منها ماء حلو صاف، ذلك الماء هو بئر زمزم، فيغري هذا البئر بعض العمالقة والقبائل اليمانية فتقيم إلى جواره، ويشب إسماعيل بين هذه القبائل، ويتزوج من ابنة زعيمهم، وتنفيذا لبعض الرؤى التي رآها إبراهيم نجده يهم بذبح ابنه على مرتفع من الأرض هناك، ولكن الله يفتديه بذبح عظيم، وفي زيارة أخرى لإبراهيم نسمع أنه بمعاونة أبيه يقيم بيتا لله، ويبدأ شعائر الحج الأولى، ولنفصل الآن هذه القصة معتمدين على ما ورد في كتب التاريخ العربية وتفاسير القرآن. (3) نشأة إبراهيم الأولى
نشأ إبراهيم في مدينة أور من بلاد الكلدان، لأب نجار كان ينحت الأصنام ويبيعها لقومه الذين كانوا يعبدونها، وأدرك إبراهيم أن الأصنام لا تنفع ولا تضر، فساوره الشك في أمرها، فسأل أباه كيف يعبدها وهي من صنع يده، وتحدث بذلك إلى الناس، فخشي أبوه بوار تجارته، وأدرك أنه يريد الكيد للأصنام، ولم يلبث إبراهيم أن اغتنم غفلة من الناس فكسرها إلا كبيرها، فحاكموه وحكموا عليه بالتحريق، وأشعلوا لذلك نيرانا ألقوه في وسطها، فأنجاه الله منها، ورأى أنه لا ينجح في هداية قومه، وقد فشلت كافة الوسائل لإقناعهم، فهاجر إلى فلسطين هو وزوجه سارة التي آمنت به، ومعه لوط ابن أخيه الذي آمن به أيضا، وحاول أن يهدي أهل فلسطين إلى عبادة الله، ولكنه فشل فارتحل إلى مصر وحمله على ذلك - في رواية البعض - جدب أصاب فلسطين إذ ذاك. (4) إبراهيم في مصر
دخل إبراهيم ومعه زوجه سارة أرض مصر، في القرن العشرين قبل الميلاد، إبان حكم الهكسوس، كما يستنتج من تواريخ التوراة، ومن سياق الأقصوصة التالية، وكان من شأن ملوك الهكسوس - كما تقول القصة - أن يأخذوا النساء الجميلات ممن يهبطن أرض مصر، وكانت سارة كما يقول ابن الأثير «من أحسن النساء وجها، وكانت لا تعصي إبراهيم شيئا، ولما وصفت لفرعون أرسل إلى إبراهيم، فقال: من هذه التي معك؟ فقال: أختي، خشية أن يقتله الملك ليتخذها زوجا، فقال له: زينها وأرسلها إلي، فأمر بذلك إبراهيم فتزينت وأرسلها إليه فلما دخلت عليه أهوى بيده إليها.
وكان إبراهيم حين أرسلها قام يصلي، فلما أهوى إليها أخذ أخذا شديدا، فقال: ادعي الله ولا أضرك، فدعت له فأرسل، فأهوى إليها فأخذ أخذا شديدا، فقال: ادعي الله ولا أضرك ، فدعت له فأرسل، ثم فعل ذلك الثالثة، فذكر مثل المرتين، فدعا أدنى حجابه وقال له: إنك لم تأتني بإنسان وإنك أتيتني بشيطان، أخرجها وأعطها هاجر.» فأقبلت بهاجر الجارية المصرية إلى إبراهيم وأزمع الكل الرحيل.
ولما كانت سارة قد سلخت السنين الطوال ولم تلد لإبراهيم فإنها وهبته هاجر، وقالت: خذها لعل الله يرزقك منها ولدا، فدخل بها فلم تبطئ أن ولدت إسماعيل، وبعد أن شب إسماعيل وترعرع حملت سارة وولدت له إسحاق. (5) إسماعيل في مكة
وكانت إقامة إبراهيم في الطرف الجنوبي من بلاد فلسطين، فلما كبر الغلامان إسماعيل وإسحاق اختصما، فغضبت سارة على هاجر، وقالت: لا تساكنيني في بلد، فأوحى الله إلى إبراهيم أن يأتي مكة، وليس بها يومئذ نبت، فجاء إبراهيم بإسماعيل وأمه هاجر فوضعهما بمكة، فلما مضى نادته هاجر: يا إبراهيم من أمرك أن تتركنا بأرض ليس فيها زرع ولا ماء ولا زاد ولا أنيس، قال: أمرني ربي، قالت: فإنه لن يضيعنا، فلما ظمئ إسماعيل جعل يدحض الحجر برجله، وانطلقت هاجر حتى صعدت الصفا لتنظر هل ترى شيئا، فلم تر شيئا، فانحدرت إلى الوادي فسعت حتى أتت المروة، فاستشرفت أن ترى شيئا فلم تر شيئا، ففعلت ذلك سبع مرات، ثم جاءت إلى إسماعيل وهو يدحض الأرض بقدميه وقد نبعت العين وهي زمزم فجعلت تفحص الأرض بيدها عن الماء حتى لا يضيع في الرمال «وهي تقول: زم زم، فسمي لذلك زمزم.»
وكانت جرهم بواد قريب من مكة، ولزمت الطير الوادي حين رأت الماء، فلما رأت جرهم الطير لزمت الوادي، قالوا: ما لزمته إلا وفيه ماء، فجاءوا إلى هاجر، فقالوا: لو شئت فكنا معك فآنسناك والماء ماؤك، فقالت: نعم، فكانوا معها حتى شب إسماعيل، وماتت هاجر، فتزوج إسماعيل منهم، ويقول ابن الأثير الذي ننقل عنه هذه الرواية: إنه تعلم العربية منهم هو وأولاده، واستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل، فقدم وقد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل، فقال لامرأته: «أين صاحبك؟» قالت: ليس ها هنا، ذهب يتصيد، وكان إسماعيل يخرج يتصيد ثم يرجع، قال إبراهيم: «هل عندك ضيافة؟» قالت: «ليس عندي ضيافة وما عندي أحد»، فقال إبراهيم: «إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له فليغير عتبة بابه»، وجاء إسماعيل فقال لامرأته: «هل عندك أحد؟» قالت: «جاء لي شيخ كذا وكذا» كالمستخفة بشأنه، فعرف أنه أباه، قال: «فما قال لك؟» قالت: «قال: أقرئي زوجك السلام وقولي له فليغير عتبة بابه» فطلقها وتزوج جرهمية أخرى هي بنت مضاض بن عمرو، فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له فجاء حتى انتهى إلى بيت إسماعيل قال لامرأته: «أين صاحبك؟» قالت: «ذهب يتصيد وهو يجيء الآن فانزل يرحمك الله» فقال لها: «هل عندك ضيافة؟» قالت: «نعم». قال: «فهل عندك خبز أو شعير أو تمر؟» قال: فجاءت باللبن واللحم فدعا لهما بالبركة، فقالت: انزل حتى أغسل رأسك.» فلم ينزل فجاءته بالمقام بالإناء فاغتسل فقال لها: «إذا جاء زوجك فقولي له: قد استقامت عتبة بابك»، فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه، فقال لامرأته: «هل جاءك أحد؟» قالت: «نعم شيخ أحسن الناس وجها وأطيبهم ريحا فقال لي كذا وكذا وقلت له كذا وكذا، وغسلت رأسه، وهو يقرئك السلام، ويقول قد استقامت عتبة بابك.»
هذه القصة نقلناها عن ابن الأثير بتصرف يسير، وهي لا تختلف في جوهرها عما أورده كافة مؤرخي العرب ومعظم المستشرقين، ولا يعترض إلا بعض هؤلاء الآخرين، ونخص بالذكر منهم الأستاذ موير الذي ينفي القصة من أساسها، ويرى أنها بعض الإسرائيليات ابتكرها اليهود قبل الإسلام ليربطوا بها بينهم وبين العرب بالاشتراك في أبوة إبراهيم لهم أجمعين فإن كان إسحاق أبا لليهود فإذن كان أخوه إسماعيل أبا للعرب، فهم إذا أبناء عمومة توجب على العرب حسن معاملة النازلين بينهم من اليهود، وتيسر لتجارة اليهود في شبه الجزيرة. ويستند المؤرخ الإنجليزي في رأيه هذا إلى أن أوضاع العبادة في بلاد العرب لا صلة بينها وبين دين إبراهيم؛ لأنها وثنية مغرقة في الوثنية، وكان إبراهيم حنيفا مسلما. ويرى الدكتور هيكل أن تعليل الأستاذ موير ليس كافيا لنفي واقعة تاريخية، وأن وثنية العرب بعد موت إبراهيم وإسماعيل بقرون كثيرة لا تدل على أنهم كانوا كذلك حين جاء إبراهيم إلى الحجاز وحين اشترك وإسماعيل في بناء الكعبة، وأنه لا يوجد ما يمنع أن يدعو إبراهيم إلى الوحدانية فلا يستمع العرب لدعائه، فقد سبق أن دعا إليها في العراق وفي فلسطين فلم ينجح (راجع صفحتي 89 و90 من كتاب حياة محمد للدكتور هيكل باشا).
وننتقل من هذه القصة إلى قصة أخرى قام عليها الخلاف بين اليهود والمسلمين ونعني بها قصة الذبيح. (6) من الذبيح؟ إسماعيل أم إسحاق؟
تتلخص قصة الذبح هذه في أن الله تعالى أراد أن يمتحن إبراهيم، فرأى إبراهيم في منامه أن الله يأمره أن يذبح ولده، فعرض الأمر على الولد، فأعلن خضوعه لما يأمر به الله، فأخذ إبراهيم الغلام وألقاه على عنقه وخده وهم بذبحه، ففداه الله بذبح عظيم (سورة الصافات الآيات من 101 إلى 112)، ولم يذكر القرآن أي ابني إبراهيم كان الذبيح أهو إسماعيل أم إسحاق؟ كما أنه لم يذكر الموضع الذي حدثت فيه الحادثة، أكان ذلك بفلسطين أم بالحجاز؟ وقد اختلف من أجل ذلك المؤرخون والمفسرون المسلمون، فمنهم من قال: إن الذبيح هو إسماعيل، ومنهم من قال: إن الذبيح هو إسحاق، فابن مسعود ومجاهد وعكرمة وقتادة وابن إسحاق يقولون: إن الذبيح هو إسماعيل، أما ابن عمر وابن عباس والحسن وعبد الله بن أحمد فيقولون: إنه إسحاق. أما التوراة فإنها تنص في الآيات من 1 إلى 14 من الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين على أن الذبيح هو إسحاق، ويرى الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار في كتابه «قصص الأنبياء» مستدلا من القرآن في سورة الصافات، ومن التوراة نفسها في الآيات السالفة الذكر، على أن الذبيح هو إسماعيل، قائلا: إن لفظ إسحاق الذي ورد فيها بعد قوله: «خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق واذهب إلى أرض الموريا ... إلخ.» إنما حشر حشرا في الآية، حرصا من اليهود على أن يكون أبوهم هو الذبيح الذي جاد بنفسه في طاعة ربه.
وجمهور المؤرخين المسلمين يعتقد أن الذبح والفداء كانا فوق جبل من جبال مكة، أما سياق القصة سواء أكان الذبيح إسماعيل أم إسحاق فيرجح أن الذبح والفداء كانا في فلسطين، وينكر بعض المستشرقين القصة برمتها، بينما بعض المؤرخين المسلمين ينسج حولها خيوطا رائعة من خيال مؤثر، فيزعمون أن الشيطان تمثل رجلا فجاء أم الغلام فقال لها: «أتدرين أين ذهب إبراهيم بابنك؟» فقالت له: «ذهب به يحتطب لنا من هذا الشعب»، قال الشيطان: «والله ما ذهب به إلا ليذبحه»، قالت الأم: «كلا»، قال الشيطان: «إنه يزعم أن الله أمره بذلك»، قالت الأم: «فليطع أمر ربه»، ثم كان حديث بين الشيطان والأب والابن، كان جوابهما عليه كجواب الأم، فنكص الشيطان على عقبيه خزيان محنقا. ثم يصف ابن الأثير الموقف بين الأب والابن وصفا مؤثرا شعريا، فيلقي على لسان الابن أنه قال: «يا أبت إن أردت ذبحي فاشدد رباطي لئلا يصيبك من دمي شيء فينقص أجري فإن الموت شديد، واشحذ شفرتك حتى تريحني، فإذا أضجعتني فكبني على وجهي، فإني أخشى إن نظرت في وجهي أن تدركك رحمة، فتحول بينك وبين أمر الله، وإن رأيت أن ترد قميصي إلى أمي فعسى أن يكون أسلى لها عني فافعل.» فقال إبراهيم: «نعم المعين أنت أي بني على أمر الله»، فربطه كما أمره ثم حد شفرته وتله للجبين، ثم أدخل الشفرة لحلقه فقلبها الله لقفاه، ثم اجتذبها إليه ليفرغ منه فنودي: «أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، هذه ذبيحتك فداء لابنك فاذبحها.» ويرى الدكتور هيكل باشا أن قصة الذبح والفداء هي قصة الإسلام لأمر الله غاية الإسلام، والتسليم لقضائه كل التسليم.»
وننتقل الآن إلى بناء إبراهيم وإسماعيل للبيت الذي بمكة. (7) تاريخ الكعبة
صحب تأسيس الكعبة أساطير عدة لا تعتمد على سند من تاريخ أو دين، وقبل أن نعالج هذه الأساطير يجب أن نذكر هنا قوله تعالى في سورة آل عمران آيتي 96، 98:
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ، وقوله تعالى في سورة البقرة الآية 127:
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم
فهذه الآيات وغيرها تحملنا على الجزم بأن بناء البيت من عمل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وأنهما قصدا ببنائه عبادة الله تعالى ونشر الوحدانية، ولا يطعن في ذلك أن التاريخ يروي لنا أن معابد كثيرة أسست قبل هذا المعبد في مصر أو أشور أو فلسطين، فإن هذه المعابد إنما أسست في ظل الوثنية لعبادة آلهة متعددة، ولا شك أن المعبد الذي بناه إبراهيم كان أقدم من المعابد التي أسسها نبي الفراعنة إخناتون ببضعة قرون، وإخناتون في أرجح الأقوال من الأنبياء والموحدين، أما الأساطير التي ابتكرها المؤرخون والمفسرون من العرب، رغبة منهم في إضفاء قداسة عليها أكثرها مما ورد في القرآن فنحن نلخصها فيما يلي: (1)
أن الكعبة بنيت في السماء، على غرار أنموذج لا يزال موجودا، يسمى البيت المعمور، وذلك قبل أن تخلق الدنيا بألفي سنة، وأن آدم عليه السلام أقامها على الأرض تحت الموضع الذي يقابل أنموذجها تماما. (2)
أن الله أمر الملائكة من سكان الأرض، أن يبنوا في الأرض بيتا على غرار البيت المعمور وأمر من في الأرض أن يطوفوا به، كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور. (3)
أن آدم عندما هبط إلى الأرض مع زوجه من الجنة، لم يسمع أصوات الملائكة حول العرش، فأقبل آدم حتى وصل مكة، وساعدته الملائكة فبنى البيت، متخذا أحجاره من خمسة جبال، هي: جبل طور سيناء، وطور زيتاء، ولبنان، والجودي، وحراء. (4)
أن البيت المقدس أغرق في طوفان نوح، وأن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام أن يعيد بناءه، وأن إسماعيل ساعد أباه في البناء، فكان يجيء بالحجارة وإبراهيم يبني حتى رفع القواعد من البيت. (5)
أن إبراهيم لما أمره الله ببناء البيت لم يعرف موضعه، فبعث الله سحابة على قدر الكعبة ، فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وافت مكة ووقفت على موضع البيت، فنودي منها يا إبراهيم أن ابن على ظلها لا تزد ولا تنقص. (6)
أن إبراهيم لما أمر بالبناء أقبل على البراق ومعه السكينة، وهي ريح لها رأسان تشبه الحية، يتبع أحدهما صاحبه، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة، فتبعها إبراهيم حتى أتيا مكة، فتطوقت السكينة على موضع البيت كتطوق الحية، فكنست ما حول البيت عن الأساس.
وتختلف الأقاويل في أصل الحجر الأسود، وقد ذكر ابن الأثير أن إبراهيم قال لإسماعيل: ائتني بحجر حسن أضعه على الركن فيكون للناس علما، فناداه أبو قبيس «جبل بمكة» أن لك عندي وديعة، وقيل: بل جبريل أخبره بالحجر الأسود فأخذه ووضعه مكانه، وتذكر بعض الروايات أن هذا الحجر من حجارة الجنة، وأنه عندما هبط إلى الأرض كان أبيض كاللبن ثم اسود من خطايا الناس، ولا نستطيع أن نجزم بنوع مادة هذا الحجر، ففريق من العلماء يقول: إنه حجر بركاني يشبه الحجر الخفاف، وآخرون يقولون إنه نيزك، بل أكبر نيزك هبط من السماء.
وبعد أن أتم إبراهيم بناء البيت أذن في الناس بالحج.
أما بقية تاريخ الكعبة فيتلخص فيما يأتي:
وعندما مات إسماعيل وقعت الكعبة في يد الجراهمة، وظلت في أيديهم زهاء ألف سنة، ثم انتقلت بعد ذلك إلى أيدي بني خزاعة، الذين أقاموا عليها أكثر من مائتي سنة، وكثيرا ما كانت تدمر بسبب السيول التي تجتاحها، ثم أعاد بناءها قصي بن كلاب الذي جعل لها سقفا، وكانت حتى زمنه مكشوفة لا سقف لها، وفي خلال هذه القرون الطويلة تطورت العبادة في الكعبة، حتى أصبحت موئل الأصنام وعبادتها، بعد أن كانت بيتا لعبادة الله جل وعلا، ولا يحدثنا التاريخ المعتمد عن الأدوار التي مر فيها هذا التطور، إنما يذكر مؤرخو العرب أن عمرو بن لحي الخزاعي كان أول من أدخل الأصنام إلى بلاد العرب، وأنه جلب أول صنم إليها وهو هبل من مدينة «هيت» في العراق، ومن ذلك الوقت أصبحت الكعبة «بانثيون » لكل القبائل؛ أي مجمعا ومقرا لأصنامها، وكان قصي أول من بنى حول الكعبة بيوتا، ولم يترك بين البيوت والكعبة إلا قدر المطاف، وأشرفت قريش على الكعبة بعد قصي فأصابها حريق، فأعادوا بناءها في حجم أصغر من حجمها الأصلي وأقاموا بداخل البناء ستة أعمدة ليعتمد عليها السقف، ثم وضعوا تمثال هبل إلى جدار في داخل الكعبة، وروى الأزرقي أن صور العذراء والمسيح وإبراهيم وإسماعيل وبعض الملائكة كانت منقوشة على بعض عمد الكعبة.
وقبيل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام أصاب الكعبة سيل أوهن جدرانها فهدمها القوم بعد تردد، ثم أعادوا بناءها، حتى إذا وصلوا إلى مكان الحجر الأسود اختلفوا، وكادت تنشب حرب أهلية بينهم، لولا أنهم احتكموا إلى أول داخل من باب الصفا فكان محمد عليه السلام، فرأى بحكمته أن يفض النزاع، بأن وضع الحجر على ثوبه، ثم كلف أهل القبائل المختلفة برفعه ووضعه في المكان بيده.
وبعد فتح مكة طهر النبي الكعبة من كل أثر للوثنية، فحطم الأصنام وطمس الصور، وأعاد إليها بساطة التوحيد.
وفي أيام يزيد بن معاوية حاصر قائده الحصين بن نمير السكوني مكة ورمى الكعبة بالمنجنيق فتناثرت حجارتها واشتعلت فيها النيران؛ لأن بناءها إذ ذاك كان مدماكا من حجر ومدماكا من خشب، ولما مات يزيد فك الحصار عن مكة، فرأى عبد الله بن الزبير أن يعيد بناء الكعبة، فهدمها وشرع في بنائها على قواعد إبراهيم.
وفي أيام عبد الملك بن مروان حاصر الحجاج مكة، وقتل عبد الله بن الزبير، واستأذن عبد الملك في أن يعيد بناء الكعبة، ويرجعها إلى ما كانت عليه أيام رسول الله فأذن له.
وأراد هارون الرشيد أن يهدم الكعبة ويردها إلى بناء ابن الزبير، فنهاه الإمام مالك عن ذلك، وقال: «لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك، لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها»، فترك الرشيد الكعبة كما هي.
وفي سنة (1040 هجرية/1630 ميلادية) هطل بمكة مطر عظيم، ثم ارتفع حتى وصل الكعبة ووهن بناءها، وأخذت الحجارة تتساقط، فهلع الناس واضطربوا، وأرسل والي مصر محمد باشا الألباني جماعة من المهندسين والمعلمين المصريين، فهدموا بقية الجدران، وابتدءوا يبنونها عمارة جديدة، وربطوا الحجر الأسود بسوار من الفضة؛ لأنه كان قد تصدع ولما فرغ القوم من بناء الكعبة كتبوا محضرا أرسلوه إلى مصر فيه شهادة المكيين بحسن عمارة البيت.
وبناء الكعبة القائم الآن، هو البناء الذي شاركت فيه مصر بالحظ الأوفر، وأنفقت بعد أن أرسلت جميع ما يلزم من أدوات للعمارة ستة عشر ألفا من الجنيهات لإتمامها.
وهو يبلغ من الارتفاع 15 مترا، وطول جداره الشمالي 9,92 مترا، والجنوبي 10,25 مترا، والشرقي 11,88 مترا، والغربي 12,25 مترا، وفي الجدار الشرقي بابها، ويرتفع عن الأرض مقدار مترين، وعتبة مصفحة بصفائح الفضة، وكذلك مصراعا الباب، إلا أن صفائحهما الفضية مطلية بالذهب، ويلاصق جدران الكعبة من الخارج بناء من الرخام يسمى الشاذروان، ارتفاعه عن الأرض قليل، وقد أقيم تقوية للجدران، وفي الركن الجنوبي الشرقي الحجر الأسود وهو مبدأ الطواف، ويرتفع عن الأرض مترا ونصف متر، وعلى مقربة من الكعبة نجد بئر زمزم المشهورة.
والآن وقد استطردنا فأتينا على تاريخ الكعبة ووصفها، فإنا نرجع بالقارئ إلى حالة مكة بعد بنائها، وانصراف إبراهيم عليه السلام عنها إلى الشمال. (8) بنو إسماعيل في مكة
بعد أن تم بناء البيت وعاد إبراهيم إلى فلسطين، أقام إسماعيل في مكة التي أخذت أفئدة الناس تهوي إليها، ونخص بالذكر منهم الجراهمة، الذين كانوا يقيمون إلى جوار مكة قبل أن ينبع الماء في زمزم، وظل إسماعيل يدعو الناس إلى عبادة الله في مكة وما جاورها حتى مات، وقام أبناؤه من بعده - إذا تساهلنا في التعبير - على السلطة الزمانية في مكة وعلى خدمة البيت، وقد سبق أن قلنا إن إسماعيل تزوج من السيدة فاطمة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، ومن هذه السيدة أنجب أبناءه الاثني عشر، الذين هم أجداد العرب الإسماعيلية، ولم يلبث أولادهم أن انتشروا في أنحاء الجزيرة، وخاصة في شمالها، وليست أسماء القبائل التي تنسب إلى إسماعيل إلا أسماء هؤلاء الأولاد أو أحفادهم.
وأشهر أعقاب إسماعيل هو عدنان، الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد ، والذي يقال إنه تزوج - كجده من قبل - من جرهمية، ونحن لا نستطيع أن نجزم بصحة ما أورده النسابون في سلسلة النسب التي تربطه بإسماعيل، أما أبناء عدنان، فأنسابهم إلى حد ما مضبوطة، لا يختلف فيها مؤرخو العرب، ويعترف بها معظم المستشرقين، ونخص بالذكر منهم نزار بن معد بن عدنان.
وقد أنجب نزار ولدين، أحدهما ربيعة والآخر مضر، ومن أشهر أعقاب ربيعة بكر وتغلب، أما مضر فأشهر أعقابه عبس وذبيان وسليم وهوازن وتميم وهذيل وخزيمة، ومن بني خزيمة كنانة وأسد، وأشهر بني كنانة فهر أو قريش، وهي القبيلة التي ستشغل أكبر حيز من كلامنا في هذا الباب.
وتاريخ بني إسماعيل في هذه الفترة الطويلة من الزمن، غامض غموضا شديدا، ولا يعرف حتى المؤرخون العرب كيف يملئون فراغ هذه القرون المتطاولة، ولا تبزع شمسهم - مشبحة بالغيوم - فوق أفق التاريخ الحقيقي إلا من عهد قصي، في منتصف القرن الخامس الميلادي، على أن هذا لا يمنعنا من أن نذكر بناءا على ما رواه مؤرخو العرب، أن الذين قاموا على الحكومة والبيت في مكة بعد أولاد إسماعيل مباشرة هم الجراهمة أخوالهم، ومن بعدهم الخزاعيون.
ونثبت في كل من الجدولين الآتيين سلالة ربيعة ومضر، كما استخلصت من كتب الأنساب، مع ملاحظة أن الخط المنقط يدل على إهمال حلقة أو أكثر من سلسلة النسب: (9) الجراهمة في مكة
لما ضعفت قبضة بني إسماعيل في مكة، نحاهم أخوالهم الجراهمة، الذين آثروا المقام في مكة، بينا هاجر معظم بني إسماعيل، وقد احتفظ الجراهمة بسدانة البيت، ولقبوا أنفسهم بالملوك، وممن يذكرهم مؤرخو العرب من الجراهمة، مضاض الجرهمي الأصغر الذي نازعه بعض أهل مكة السلطان فانتصر عليهم، ولا يذكر المؤرخون شيئا جديرا بالذكر إلا أن جرهما بغت مكة واستحلوا حرمة البيت، وظلموا من دخل مكة من الحجاج وغيرهم، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى إليها، وظهر فيهم الفسق والفساد حتى كانوا يأتون الفحشاء في جوف الكعبة، وما زال أمرهم يضعف حتى تمكنت خزاعة من التغلب عليهم، والاستيلاء على مكة.
وقبل أن يبرح آخر ملوكهم - وهو عمرو بن الحارث بن مضاض - مكة يقال إنه رمى في بئر زمزم كل تحفه وذخائره، ومن بينها غزالتان من الذهب وسيوف ودروع سنعود إلى الكلام عنها في الفقرات التالية، كما تذكر بعض الروايات أنه دفن الحجر الأسود أيضا، ثم طم البئر على ما دفن.
وتذكر بعض كتب الأدب والتاريخ أشعارا يتجلى فيها حزن الجراهمة على ما فقدوا من ملك وجاه، وأغلب الظن أنها موضوعة.
أما أين ذهب الجراهمة بعد طردهم من مكة فذلك ما لا نعرفه، وإن كان بعض المؤرخين يذكر أنهم انصرفوا إلى اليمن، وهذا ما لا نستطيع أن نجزم به. (10) الخزاعيون في مكة
في القرن الثاني الميلادي أخذت عدة قبائل من القبائل اليمانية تهجر بلادها إلى الشمال بعد تصدع سد مأرب، وكان معظم هذه القبائل يقصد المدينة والشام والحيرة، ولكن بني حارثة بن عمرو، وهم خزاعة تخلفوا في مكة، وآثروا المقام فيها، وهم الذين استطاعوا أن يجلوا الجراهمة عنها في القرن الثالث الميلادي، وقد ظلوا سادة مكة زهاء مائتي سنة، لهم ما يشبه السلطة الزمنية، وأهم الوظائف الدينية؛ إذ لم يتركوا لأهل مكة من هذه الوظائف إلا أصغرها، وتذكر بعض الكتب أن خزاعة لم تخرج جرهما من مكة منفردة، بل تولت هذا الأمر معها كنانة، ويذكر لنا المؤرخون من الخزاعيين عمرو بن لحي، الذي يقال إنه أول من أدخل عبادة الأصنام، ولقد ذكر ابن الكلبي في كتاب الأصنام «أنه مرض مرضا شديدا فقيل له: إن بالبلقاء من الشام حمة إن أتيتها برئت، فأتاها فاستحم بها فبرئ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه؟ فقالوا: نستسقي بها المطر ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا، فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة.» وقد سبق أن قلنا: إن الصنم الذي حمله هو هبل.
وآخر من ولي من خزاعة هو حليل الذي جعل ولاية البيت إلى ابنته حبي، فقالت إنها لا تقدر على فتح الباب وإغلاقه، فجعل أبوها الفتح والإغلاق إلى رجل من خزاعة يقوم لها اسمه أبو غبشان، فكانت له سدانة الكعبة قبل قريش، فاجتمع مع قصي في شرب بالطائف، فأسكره قصي ثم اشترى مفاتيح البيت الحرام منه بزق خمر، وأشهد عليه، ودفع المفاتيح إلى ابنه عبد الدار وطيره إلى مكة، فلما أفاق أبو غبشان ندم على المبيع، فضرب به المثل في الحمق والندم وخسارة الصفقة، فقالوا: «أخسر من صفقة أبي غبشان» وتلا ذلك حرب بين خزاعة وقريش، انتهت بانتصار قريش، وزوال ملك خزاعة عن مكة كما سنبينه، وآل أمر البيت إلى قريش ورثة إسماعيل الحقيقيين. (11) قصي زعيم النهضة القرشية
تذكر بعض الروايات أن حليلا أوصى لزوج ابنته قصي بحكم مكة وولاية البيت من بعده، ولكن خزاعة أبت، وسواء أكانت هذه الرواية أو الرواية السابقة أصح فإن حربا قامت بين قريش وخزاعة، وقد انضمت كنانة إلى قريش، وانضم بنو بكر إلى خزاعة، واستنجد قصي ببعض إخوته لأمه من بني عذرة في الشمال، وظلت الحرب بين الفريقين سجالا حتى تداعى القوم للصلح، وحكموا بينهم واحدا من كنانة فقضى لقصي بولاية الكعبة وحكم مكة، فأصبح رئيسا كما يقول بعض المستشرقين للجمهورية المكية وزعيما لديانتها، وقبل أن نتكلم عن حكومة قصي وأعماله الإصلاحية نذكر لمحة عن حياته الأولى:
كان لكلاب بن مرة القرشي ولدان، زهرة وزيد، وكان زيد طفلا عندما مات أبوه، وسرعان ما تزوجت أمه فاطمة من رجل اسمه ربيعة بن حرام من بني عذرة في حدود الشام، وأخذت زيدا معها، فنشأ زيد بعيدا عن موطنه الأصلي، ومن ذلك سمي قصي «تصغير قاص» ولما بلغ مبلغ الرجولة وعرف أصله الحقيقي عاد إلى مكة، حيث كان النفوذ الديني والمدني في أيدي الخزاعيين، وملكهم إذ ذاك حليل بن حبشية، وعز على قصي أن يرى الأجانب سادة بني قومه القرشيين، الذين تجري في عروقهم دماء أبيهم الأكبر إسماعيل، فصمم على أن ينتزع السلطان له من خزاعة، وبدأ ينفذ خطته بالتدريج، فتزوج من حبي ابنة حليل بأمل أن يرث من حميه امتيازاته، ولكن حليلا قبل موته أوصى بمفاتيح الكعبة لقريبه أبي غبشان، فابتدأ قصي يرمي شباكه حول أبي غبشان، فأسكره واشترى منه مفاتيح الكعبة بزق خمر كما بينا، ولم يرتح الخزاعيون بطبيعة الحال لضياع المفاتيح من أيديهم، وادعى أبو غبشان أنه رهن المفاتيح ولم يبعها، وكان قصي يعلم أن هذا الأمر لا يمر بسلام، فاتخذ للحرب عدتها من قبل، ونال نصرا حاسما كما بينا، وبذلك أصبح سيد البيت والمدينة، وكان ذلك في منتصف القرن الخامس الميلادي، ثم بدأ يقوم بأعماله الإصلاحية التي سنشرحها في الفقرة التالية. (11-1) إصلاحات قصي (1)
كانت أول خطوة خطاها قصي أن جمع أفراد قريش المبعثرين في نواح متعددة إلى وادي مكة، فأظفره ذلك بلقب «المجمع»، وجعل لكل بطن حيا خاصا على مقربة من الكعبة ، وكان الناس قبل ذلك لا يجرءون على البناء بجوار الكعبة مبالغة في تقديسها، وكانت حجة قصي في ذلك أن يقيم على مقربة من البيت حماة له، يتعهدونه بالصيانة ويدفعون عنه الخطر، ولم يترك بين الكعبة والبيوت التي بنتها بطون قريش إلا بمقدار ما يسمح بالطواف، وقد أنشأت هذه البطون أحياء حصينة حول الكعبة من نواحيها الأربع. (2)
وابتنى قصي لنفسه قصرا جعل بابه يؤدي إلى الكعبة مباشرة، وكان هذا القصر يسمى دار الندوة، فكان قصي يتولى رئاسة هذه الدار، التي جعل من اختصاصها البت في كل الشئون العامة من تجارية وحربية وغيرها بعد مناقشتها، وكان لا يسمح بدخول هذه الدار إلا لمن بلغ عمرهم الأربعين سنة، إلا إذا كان من سلالة قصي، أو كان حكيما ومفوها، وكان القرشيون إذا أزمعوا حربا يتلقون اللواء من يد قصي أيضا، كما كان قصي يعقد رقاعا من القماش الأبيض على أطراف الحراب ويقدمها بنفسه أو يبعثها مع أولاده إلى زعماء قريش، وقد ظل هذا الإجراء الذي يسمى عقد اللواء منذ أن أنشأه قصي إلى آخر أيام الفتوح العربية.
ولم تكن مهمة دار الندوة مقصورة على المسائل العامة التي بيناها، بل كان يبت فيها في المسائل الشخصية أيضا، فكان لا يتزوج رجل ولا امرأة إلا في تلك الدار، ولا تدرع جارية من قريش إلا فيها، فيشق صاحب الدار درعها ويدرعها بيده، وكانوا يفعلون ذلك ببناتهم إذا بلغن الحلم. (3)
وقد نجح قصي في إثارة عاطفة الكرم والضيافة فيهم، وأخبرهم قائلا: إن الحاج ضيف الله وهم أحق الضيف بالكرامة، فحمل الناس على دفع ضريبة سنوية تسمى الرفادة، كان يقصد منها المعاونة على إطعام الحجاج الفقراء وغيرهم ممن يهبطون مكة في أيام منى، فجرى الأمر على ذلك في الجاهلية والإسلام، وهو الطعام الذي يصنعه الخلفاء والسلاطين كل عام بمنى.
ورئاسة قصي لدار الندوة وعقده اللواء وجمعه الرفادة، تقابل في الاصطلاح الحديث رئاسته للسلطات التشريعية والحربية والمالية، مع شيء من التساهل. (4)
وكان قصي يهيمن إلى جوار ذلك على ما يعرف بالسقاية، والمقصود بالسقاية تدبير الماء وحمله من آبار مكة المجاورة بالمزاود والقرب، ووضعه في أحواض لسقاية الحاج، وما زال ذلك الشأن حتى أعيد حفر زمزم، وفي بعض الأحيان كان يحلى ذلك الماء بشيء من التمر أو الزبيب. (5)
كذلك كانت لقصي الحجابة أو السدانة، ويقصد بها حفظ مفاتيح الكعبة، لا يفتحها إلا هو، ولا تقام شعائر دينية إلا بإذنه، وبذلك كانت لقصي السلطة الروحية أيضا إلى جوار السلطات السالفة الذكر.
وخلاصة القول أن قصيا جمع في شخصه كل الوظائف الرئيسية، دينية كانت أم مدنية «سياسية» فكان - مع شيء من التجاوز - ملك بلاد العرب ورئيسها الديني الأعلى، وقد أضفى نفوذه هذا على قبيلة قريش مجدا وجاها عظيمين، ومنذ أيام قصي وقريش تتمتع بمركز ممتاز بين بقية أعقاب إسماعيل.
ومات قصي حوالي سنة 480 ميلادية، بعد أن عمر أكثر من ثمانين سنة، وترك من الأبناء عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى. (11-2) الحالة بعد قصي
وقبل أن يدركه الموت أقام أكبر أبنائه عبد الدار خليفة له، وبعد أن مات تمتع عبد الدار بما كان يتمتع به أبوه من قبل، دون أن ينازعه في ذلك أحد من قريش، ولما مات عبد الدار تولى أبناؤه الوظائف من بعده، ثم تولى أحفاده من بعدهم، ولكن قام بين هؤلاء الأحفاد نزاع، واحتدمت بينهم وبين بني عبد مناف الخصومة، وانقسمت بطون قريش وحلفاؤهم وجيرانهم إلى معسكرين: معسكر يعاضد بني عبد الدار، وآخر يعاضد بني عبد مناف، وعقد كل فريق حلفا مؤكدا على ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا، وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا ووضعوها عند الكعبة، وتحالفوا وجعلوا أيديهم فيها، فسمي حلفهم حلف المطيبين، وتعاقد بنو عبد الدار ومن معهم وتحالفوا فسموا الأحلاف، ثم تعبأ الفريقان للقتال، وكان زعيم بني عبد مناف ابنه عبد شمس أكبرهم، ثم تداعى الفريقان للصلح على أن تكون: (1)
السقاية والرفادة لعبد شمس بن عبد مناف. (2)
وأن تظل الحجابة والندوة واللواء في أيدي بني عبد الدار.
ولما كان عبد شمس فقيرا ذا عيلة، وكان فوق ذلك كثير الأسفار، فإنه تنازل عن السقاية والرفادة لأخيه هاشم الذي كان موسرا، وكان يستطيع الاضطلاع بهما لما يكلفان من مال.
ونلاحظ في التقسيم السالف الذكر أن ما أفاده بنو عبد مناف أكسبهم ذكرا ومجدا خارج قريش، في حين أن ما أفاده بنو عبد الدار أكسبهم نفوذا وسلطانا في مكة نفسها. (12) ازدهار مكة في عهد هاشم بن عبد مناف
ولد هاشم بن عبد مناف في سنة 464، وقد قلنا إن منصبي الرفادة والسقاية آلا إليه بعد تنازل أخيه عبد شمس، وكان هاشم غنيا أصاب ماله - شأن السواد الأعظم من المكيين - من التجارة، وقد استعان على القيام بمنصبيه بما كان يخرج عنه من ماله الكثير، مضافا إليه ما كان يجمعه من الضرائب التي سبق أن فرضها قصي على القرشيين لإطعام الحاج وضيافتهم، ولم يقتصر هاشم على إطعام الفقراء من الحجاج فحسب، بل كان يطعم الحجاج جميعا في موسم الحج، حتى يصدر عن مكة، كما أنه أمر بحياض من أدم فجعلها في موضع زمزم، وفي الطريق إلى عرفات، ثم يسقي فيها من الآبار المجاورة لمكة.
وكان توزيع الطعام يبدأ من اليوم الذي يتحرك فيه الحجاج إلى منى وعرفات، ويستمر إلى أن يتفرقوا إلى بلادهم، وكان يقدم لهم خلال هذه المدة - وهي تتراوح بين خمسة أو ستة أيام - الثريد واللحم والخبز والزبدة والشعير والتمر، ويقال إن أمية ابن أخيه عبد شمس حسده على رياسته وإطعامه، فتكلف أن يصنع صنيع هاشم فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش، وتنافر هو وهاشم، وانتهى الأمر بجلاء أمية عن مكة عشر سنين، فكان ذلك أول خلاف بين هاشم وأمية.
وهاشم هو أول من نظم لمكة رحلتي الشتاء والصيف، الأولى إلى اليمن والثانية إلى الشام.
وأكبر مفخرة لهاشم، هو إطعامه أهل مكة جميعا في سنة أصابهم فيها قحط؛ إذ جلب إليهم من الشام قافلة محملة بالدقيق، ونحر الإبل وأطعمهم من جوع.
وقد ازدهرت الحياة في مكة في عهده ازدهارا كبيرا، وأصبحت تعج بالتجار من الشمال والجنوب، حتى لقد سماها بعض المستشرقين بندقية بلاد العرب «فينيسيا»، وذكر المستشرق «أوليري» في كتابه «بلاد العرب قبل الإسلام» ما خلاصته: «أصبحت مكة مركزا للصيرفة، يمكن أن يدفع فيه التجار أثمان السلع التي ترسل إلى بلاد بعيدة، كما كانت عملية الشحن والتفريغ لهذه التجارة الدولية تتم هناك، كذلك كان يتم التأمين على المتاجر وهي تجتاز الطرق المحفوفة بالمخاطر.» واستطاعت مكة أن تحتكر النقل في الطريق الذي يصل ما بين مكة والشمال، وتتقاضى على ذلك أجورا لا تقل عن أثمان المتاجر التي تحملها، وكان للدول المجاورة بيزنطة وفارس، ممثلين في قلب مكة نفسها «ذكر ذلك الواقدي وأيده الأستاذ لامنس»، وملأت الأعمال التجارية فراغ كل المكيين، حتى لم يكن من أهل مكة من كان يرى أن ينفق وقتا في القيام بأعمال الشرطة والجيش، ومن أجل ذلك كانوا يستأجرون مرتزقة - من أفريقيا هم الأحباش - للقيام بحراستهم، ولكثرة ما كانت تعج به مكة من أفراد من أمم مختلفة اصطبغت بصبغة دولية؛ ودوليتها هذه تفسر لنا - إلى حد كبير - ما دخل لغة قريش من ألفاظ رومية أو فارسية أو حبشية أو غيرها.
وبفضل هذا الازدهار والغنى، استطاع بنو عبد مناف أن يعقدوا معاهدات ومحالفات مع جيرانهم، فلقد روي أن هاشما نفسه عقد مع البيزنطيين وأمراء غسان معاهدة، وأن إمبراطور الدولة البيزنطية أعطى قريشا - في شخص هاشم - حق التجوال في سوريا في أمن وطمأنينة. وكذلك تمكن عبد شمس من أن يعقد معاهدة تجارية مع نجاشي الحبشة، كما دخل نوفل والمطلب في محالفة مع ملك فارس، سمح لهما فيها ولتجار مكة بالتجول في العراق وفارس، وتمت كذلك محالفة مع ملوك حمير، تعهدوا فيها بتشجيع المتاجر القرشية في اليمن.
وفي ظل هذا الرخاء والازدهار توطد نفوذ هاشم في مكة، فلم يجرؤ على منافسته أحد، إلا ما كان من أمر أمية بن عبد شمس الذي بيناه، والذي خرج معه هاشم منتصرا وأكثر نفوذا.
وتقدمت السن بهاشم، وبينما هو في إحدى رحلاته إلى الشام؛ إذ عرج على المدينة مع جماعة من قريش، فاسترعت نظره امرأة جميلة، تشرف على قوم يتجرون لها، فأعجب بها هاشم، ولما عرف أنها غير متزوجة خطبها لنفسه، فقبلت على أن تكون عصمتها بيدها - تلك السيدة هي سلمى بنت عامر الخزرجية - وقد صحبت هاشما إلى مكة، ثم عادت إلى يثرب، حيث ولدت له غلاما سمته شيبة ظل معها في يثرب. (13) عبد المطلب بن هاشم
وخرج هاشم في رحلة تجارية إلى غزة بعد ذلك ببضع سنين، حوالي سنة 510م، فمات في غزة ولم ينجب غير ابنه هذا، فانتقل منصبا الرفادة والسقاية إلى أخيه المطلب، الذي كانت قريش تسميه الفيض لسماحته وكرمه، وتذكر المطلب يوما شيبة ابن أخيه هاشم، فانصرف إلى المدينة لإحضاره، ولما عاد إلى المدينة - وقد أردف الغلام وراءه - حسبه الناس في مكة عبدا اشتراه المطلب، فصاحوا: هذا عبد المطلب، فقال لهم المطلب: هذا ابن أخي هاشم، ومن ذلك الوقت غلب اسم عبد المطلب على شيبة.
ولما بلغ عبد المطلب أشده أقام على ما كان لأبيه، وفي أثناء رحلة المطلب إلى اليمن مات فيها حوالي سنة (520م) فخلفه على المناصب عبد المطلب، ولكن عمه نوفل أبى أن يقيمه على حكومة مكة، ووضع يده على أموال هاشم، ولجأ عبد المطلب إلى أهل مكة، فرفضوا أن يدخلوا بين العم وابن أخيه، فكتب بعد ذلك إلى أخواله بني النجار في المدينة، فجاء لنصرته منهم ثمانون فارسا خرج عبد المطلب لاستقبالهم ودعوتهم إلى بيته، ولكن كبيرهم رفض أن ينزل عن فرسه حتى يرد نوفل الحق لعبد المطلب، وأمام التهديد اضطر نوفل إلى رد مال عبد المطلب إليه، وقام عبد المطلب في مناصب هاشم له السقاية والرفادة، ولكنه كان يلقى عنتا في السقاية؛ إذ كان الماء يجلب إلى الحياض من آبار مبعثرة حول مكة، ولم يكن لعبد المطلب ولد إلا الحارث. (14) حفر عبد المطلب لزمزم
ولكي يسهل عبد المطلب أمر السقاية ظل يحفر في أرض الحرم، عله يحصل على موضع زمزم، التي طمها الجراهمة كما بينا، حتى اهتدى إلى مكانها بين وثني إساف ونائلة، فأخذ يحفر مستعينا بولده الحارث حتى نبع الماء، وظهرت غزالتا الذهب والأسياف والدروع التي دفنها الملك الجرهمي قبل ذلك بثلاثة قرون، وحسدت قريش عبد المطلب، فطلبت نصيبها من هذا الكنز، مدعية أن البئر لها؛ لأنها من سلالة إسماعيل، ولم يكن عبد المطلب من القوة بحيث يمنع نفسه من قريش، فقبل الاحتكام إلى صاحب القداح عند هبل في جوف الكعبة، وجاءت الغزالتان من نصيب عبد المطلب، ولم تخرج القداح لقريش شيئا، فرضخت قريش لحكم هبل، وضرب عبد المطلب غزالتي الذهب ألواحا حلى بها باب الكعبة، وعلق الأسياف على الباب، ويسر ماء زمزم لعبد المطلب سقاية الحجاج، وتصاعدت سمعة عبد المطلب وازداد نفوذه، ونذر عبد المطلب: لئن ولد عشرة بنين ثم بلغوا معه أن يمنعوه من مثل ما لقي حين حفر زمزم، لينحرن أحدهم عند باب الكعبة، وكرت الأعوام، وألفى عبد المطلب حوله عشرة بنين أشداء، فتذكر نذره ودعا الأبناء إلى الوفاء بالنذر فأطاعوا، فاقتادهم إلى صاحب القداح عند هبل، حيث كتب كل واحد من الأبناء اسمه على قدح. (15) افتداء عبد الله بمائة من الإبل
وضرب صاحب القداح قداحه، ليختار كبير الآلهة هبل من بينهم من ينحره أبوه فخرج القدح على عبد الله، وكان أصغر أبناء عبد المطلب وأحبهم إليه، واقتاد عبد المطلب ابنه الذي اختاره الإله لينحره بين صنمي إساف ونائلة، فبكت بنات عبد المطلب وتعلقن بأخيهن، وقامت قريش كلها تطلب إلى عبد المطلب ألا يفعل، وهنا سأل عبد المطلب ما عساه يفعل ليرضي الإله. قال ابن الأثير: «فقال له المغيرة المخزومي: لا تذبحه حتى تعذر فيه، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه، وقالت له قريش وبنوه: لا تفعل وانطلق إلى كاهنة بالحجر فسلها، فإن أمرتك بذبحه ذبحته، وإن أمرتك بمالك وله فيه خراج قبلته، وانطلقوا إليها وهي بخيبر، فقص عليها عبد المطلب خبره، فقالت: ارجعوا اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله، فرجعوا عنها ثم غدوا عليها، فقالت: نعم، قد جاءني الخبر، فكم الدية فيكم؟ قالوا: عشرة من الإبل، قالت: ارجعوا إلى بلادكم، وقربوا عشرا من الإبل، واضربوا عليه وعليها بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا عشرا حتى يرضى ربكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم، فخرجوا حتى أتوا مكة، فلما أجمعوا لذلك قام عبد المطلب يدعو الله، ثم قربوا عبد الله وعشرا من الإبل، فخرجت القداح على عبد الله، فما برحوا يزيدون عشرا وتخرج القداح على عبد الله، حتى بلغت الإبل مائة، ثم ضربوا فخرجت القداح على الإبل، فقال من حضر: قد رضي ربك، وقال عبد المطلب لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات، فضربوا ثلاثا فخرجت القداح على الإبل فنحرت، ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع.»
تلك هي قصة الفداء ذكرتها كل كتب السيرة، ولكنها لم تبين لنا إن كان عبد المطلب قد دفع الإبل المائة من ماله أم ساهمت في دفعها مكة، على أن الذي تجمع عليه هذه الكتب: أن مكانة عبد الله ارتفعت في مكة بعد هذا الفداء، وكان عبد الله وسيما جميل الطلعة، قد ناهز الرابعة والعشرين من عمره، فتطلعت فتيات مكة إلى الزواج منه، فرأى عبد المطلب أن يزوجه من آمنة بنت وهب سيد بني زهرة، وفي الوقت نفسه خطب عبد المطلب لنفسه ابنة عمها هالة التي أنجبت له ولده حمزة عم النبي وتربه.
وكانت السنة التالية لزواج عبد الله مليئة بالحوادث الجسام، التي أهمها محاولة أبرهة الأشرم غزو مكة، وقد روينا بعض أخبار هذه المحاولة عند الكلام على تاريخ الحبشة في اليمن في فقرة [محاولة أبرهة غزو الكعبة] من هذا الكتاب، ولكنا سنعود إليها لنبين أثر فشل هذه الحملة في مكة أيام عبد المطلب، وقبل الكلام على ذلك نرى أن نشرح نظام الحكم في الجمهورية المكية في عصر عبد المطلب الذي لا يقل ازدهارا عن عصري كل من هاشم وقصي. (16) نظام الحكم في الجمهورية المكية
كان عبد المطلب زعيم مكة التي يصفها الأستاذ درمنجهم بأنها كانت جمهورية تجارية بلوتقراطية، والمقصود من كلمة بلوتقراطية: أنها حكومة الأغنياء، وكان يشرف عليها الأعضاء البارون من بني قصي، وعندما كشف عبد المطلب بئر زمزم، واستقر النزاع بخصوص الهيمنة على هذه البئر، أصبح الإشراف على الحكومة المكية بيد عشرة من الأشراف، وزعت بينهم مناصب الدولة، وكانت هذه المناصب وراثية في أكبر أفراد البيت، وهذه المناصب هي: (1)
الحجابة أو السدانة، والمقصود بها حراسة مفاتيح الكعبة، وكانت وظيفة دينية هامة، وضعت في يد بني عبد الدار، ولما أسلمت مكة بعد الفتح ظلت السدانة في يد عثمان بن طلحة من بني عبد الدار. (2)
السقاية، ويقصد بها الإشراف على بئر زمزم المقدسة، وسقاية الحجاج، وهذه وضعت في بيت هاشم، وكانت في يد العباس بن عبد المطلب في وقت فتح مكة. (3)
الديات وتسمى الأشناق، وهي من الوظائف الهامة، وكان صاحبها إذا احتمل شيئا فسأل فيه قريشا صدقوه، وكانت الديات في يد بني تيم بن مرة، وعند ظهور النبي كان يقوم عليها عبد الله بن أبي قحافة «أبو بكر». (4)
السفارة، وكان صاحبها ذا حق مطلق في البت في شئون الصلح، بعد الحرب أو الخلافات التي تقوم بين قريش والقبائل الأخرى، أو بينهم وبين الأجانب، وكان يقوم على هذا المنصب عمر بن الخطاب. (5)
اللواء، وكان صاحبه يعتبر كبير القواد، ويسير أمام الركب في أسفارهم للقتال أو التجارة، وكان اللواء في بني أمية وصاحبه منهم في أول الإسلام أبو سفيان بن حرب والد معاوية. (6)
الرفادة، وهي الإشراف على الضريبة التي تخصص لإطعام الفقراء، وكانت قريش تخرج في كل موسم إلى صاحب الرفادة فيصنع منه طعاما لفقراء الحجاج مقيمين أو مسافرين؛ لأن الدولة كانت تعتبرهم ضيف الله، وكانت الرفادة لعبد المطلب، ثم نقلت إلى أبي طالب، ونقلت بعد ذلك إلى بني نوفل بن عبد مناف، وفي عهد الرسول كان القائم عليها الحارث بن عمرو. (7)
الندوة ورئيس دار الندوة، يعتبر رئيس الجمعية الوطنية وكبير مستشاري الدولة، لا تصدر قريش عن أمر إلا بموافقته، وكان الأسود من بني عبد العزى بن قصي هو القائم على هذا المنصب في أيام الرسول. (8)
الخيمة، ويقصد بها حراسة قاعة المجلس، وكان هذا المنصب يبيح لصاحبه الحق في دعوة الجمعية، وحتى حق حشد الجنود، وكان يتولاها خالد بن الوليد من بني مخزوم بن مرة. (9)
الخازنة أو إدارة الأموال العامة، وكانت في بني حسن بن كعب، ويقوم عليها الحارث بن قيس. (10)
الأزلام «جمع زلم» وهي التي يشرف صاحبها على السهام، والعرب يستقسمون بها للاستخارة لمعرفة رأي الآلهة والإلهات، وكان القائم عليها صفوان أخا أبي سفيان بن أمية.
وكان العرف المقرر يقضي بأن أكبر أصحاب المناصب العشرة سنا، هو الذي يتولى الرياسة، ويلقب بسيد القوم، وكان أسنهم في أيام النبي هو العباس بن عبد المطلب.
وعلى الرغم من توزيع الامتياز والسلطان في الحكومة بين العشرة الذين ذكرناهم آنفا، فإن عبد المطلب كان يتمتع لمناقبه العالية وصفاته الشخصية بمركز ممتاز لا يتطرق إليه الشك.
وننتقل الآن إلى كلمة أخيرة في تاريخ عبد المطلب تلك هي محاولة أبرهة الحبشي غزو مكة وأثر فشله في نفوس المكيين. (17) أثر الغزو الحبشي في أهل مكة
ذكرنا في فقرة [محاولة أبرهة غزو الكعبة] ما كان من أمر بناء أبرهة حاكم اليمن من قبل النجاشي لكنيسة القليس، ومحاولته صرف الحجاج إليها بدل الكعبة، ثم ما كان من أمر تدنيسها من جانب بعض المكيين، واعتزام أبرهة - لأغراض تجارية ودينية - هدم الكعبة، ثم ما كان من أمر فشل جيشه وعودته إلى صنعاء دون أن يظفر بما أراد، ونضيف هنا: أن فشل أبرهة لم يكن نتيجة لمقاومة المكيين؛ لأن موقفهم كان سلبيا، وإنما كان الفشل نتيجة لأسباب خارجة عن إرادتهم، فلقد ذكر ابن الأثير وغيره: أن عبد المطلب لما أمر المكيين بالخروج من مكة والتحرز في رءوس الجبال، قام فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
يا رب لا أرجو لهم سواكا
يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا
امنعهمو أن يخربوا فناكا
وقال أيضا:
لا هم إن العبد يم
نع رحله، فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم
ومحالهم أبدا محالك
ولئن فعلت فإنه
أمر تتم به فعالك
أنت الذي إن جاء با
غ نرتجيك له فذالك
ولوا ولم يحووا سوى
خزي وتهلكهم هنالك
لم أستمع يوما بأر
جس منهم يبغوا قتالك
جروا جموع بلادهم
والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم
جهلا وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكع
بتنا فأمر ما بدا لك
وسواء أصحت نسبة هذه الأشعار إلى عبد المطلب أم لم تصح، فإن الثابت: أن سهما واحدا لم يطلقه المكيون في سبيل الدفاع عن بيتهم المقدس، ولكن هذا لم يمنع المكيين بعد هزيمة أبرهة من أن يملئوا العالم العربي افتخارا بما أصابوا من ظفر، وأخذت قبائل العرب تنظر إلى قريش نظرة الاحترام والإجلال، وارتفعت مكانتها في كل القبائل، وادعت هي لنفسها مكانا ممتازا، فقالوا: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرم، وولاة البيت، وقاطنوا مكة، فليس لأحد من العرب مثل منزلتنا، ولا يعرف العرب لأحد مثل ما يعرف لنا فهلموا فلنتفق على ائتلاف أننا لا نعظم شيئا من الحل كما نعظم الحرم، فتركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها جزء أساسي من دين إبراهيم، يتحتم على الآخرين القيام به، وكذلك رفضوا أن يعملوا الجبن والزبد وهم في ملابس الإحرام، كما رفضوا أن يدخلوا بيوت الشعر واستبدلوها ببيوت الأدم، وفرضوا قواعد جديدة على الحجاج والعمار في سبيل توسيع نفوذهم، فمنعوهم أن يأكلوا في الحرم طعاما أحضروه من الحل، وأجبروا هؤلاء أيضا على الطواف حول الكعبة إما عراة أو في ملابس يقدمها المتحالفون، الذين أطلقوا على أنفسهم اسم الحمس «من الحماسة وهي الشدة».
وكانوا يضمون عدا قريش بني كنانة وخزاعة وعامر، وخضعت العرب لما افترضه المكيون عليهم، وازدادت قداسة الكعبة، ودانت العرب للمكيين، لما شاهدوه من هزيمة جيش أبرهة، وما فتئت قريش تتمتع بهذا النفوذ العظيم زهاء نصف قرن، وتحمل - حتى النساء - على الخضوع لما فرضوا. قال ابن الأثير: وأما النساء فكانت المرأة تضع ثيابها كلها إلا درعها مفرجا، ثم تطوف فيه.
فكانوا كذلك حتى بعث الله محمدا فنسخه، فأفاض من عرفات، وطاف الحجاج بالثياب التي معهم من الحل، وأكلوا من طعام الحل في الحرم أيام الحج، وأنزل الله تعالى في ذلك:
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ، وأنزل الله تعالى في اللباس والطعام الذي من الحل وتركهم إياه في الحرم:
يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ... إلى قوله:
لقوم يعلمون ، وقبل أن نختم الكلام على عبد المطلب نشير إلى أمر الأحزاب في آخر أيامه. (18) الحزب الهاشمي والحزب الأموي
بدأ الانقسام في بيت قصي - كما بينا - بعد موته؛ إذ انقسم إلى قسمين: قسم تمثله سلالة ولده عبد الدار، والقسم الآخر تمثله سلالة ولده عبد مناف.
أما بيت عبد الدار فكان يتمتع بكافة المناصب الأصلية في مبدأ الأمر، ولكنهم - أثناء النزاع مع هاشم - انتزع منهم الكثير من المناصب الأقل أهمية، ولا شك أن المناصب التي احتفظوا بها لم تكن بدون أهمية، ولكنها وزعت بين أفراد من الأسرة، وبذلك ضاعت فائدة تجمعها في يد واحدة، ولم تكن هناك محاولة متحدة ترمي إلى الحصول على نفوذ اجتماعي وسياسي هام.
أما سلالة عبد مناف - فإنها احتفظت بالزعامة الحقيقية بمكة، وانقسم بنو عبد مناف بدورهم إلى حزبين: هما بيت ابنه هاشم، وابنه عبد شمس ولقد احتفظ البيت الهاشمي بمنصبي الرفادة والسقاية، فكسب بذلك نفوذا ثبته حسن إدارة المطلب، ثم ابن أخيه عبد المطلب من بعده، الذي اعتبرته مكة - كما اعتبرت أباه هاشما من قبل - زعيم شيوخ مكة.
أما فرع أمية بن عبد شمس فإنه كان كثير العلاقات بالبيوت الأخرى، وأكسبته علاقاته هذه نفوذا، ولكنه كان شديد الغيرة من النفوذ الذي وصل إليه الهاشميون، وطالما حاول أن يذلهم، وأن يحط من قدر مكانتهم العالية، واحتفظ هذا البيت بمنصب هام - هو القيادة في الحرب التي ظلت منحصرة فيه، وأكسبته مجدا عظيما، ويجب أن لا ننسى أن الأمويين كانوا أكثر غنى ونجاحا في المتاجر من الهاشميين، مما حدا بعض المؤرخين إلى القول بأن نفوذ البيت الأموي وسلطانه كان أقوى من نفوذ الهاشميين.
وبلغ التنافس بين البيتين أشده إبان البعثة النبوية، ولكن باعتناق مكة الإسلام اختفت هذه المنازعات إبان الحماس الديني والفتوح الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، ولكن لا إلى الأبد، بل لتظهر في ثوب آخر في عصر الدولة الأموية. والآن لكي يسهل على القارئ تتبع هذه العلاقات بين أبناء قصي نضع تحت بصره الجدول الآتي مبينا فيه تواريخ الميلاد - على وجه التقريب - نقلا عن كتاب حياة محمد للأستاذ موير:
والآن - وقد فرغنا مما أردنا إيراده عن تاريخ الإمارة بمكة - فإننا نذكر فيما يلي فذلكة صغيرة عن تاريخ المدينة. (19) تاريخ المدينة
تقع المدينة على سهل مرتفع في طرف الهضبة الغربية من الشمال، وإلى الغرب منها تنحدر الأرض انحدارا سريعا إلى ساحل البحر الأحمر، ويمتد الوادي منها إلى الجنوب حتى يصل إلى مكة التي تقع على خط طولها تقريبا ولما كان البحر الأحمر ينعطف إلى الغرب في قسمه الشمالي كانت المسافة بين المدينة وبين البحر أطول من المسافة بين مكة والبحر.
والمدينة هي الاسم الذي أطلقه رسول الله عليه الصلاة والسلام عليها، وكانت قبل هجرته إليها تسمى يثرب، وقد سبق أن قلنا: إن أصل هذا الاسم غير معروف تماما، ويطلق على المدينة طيبة أيضا، كما يطلق عليها مدينة رسول الله، وهي تقع على الطريق التجاري من الجنوب إلى الشمال، ونظرا لأنها تقع في أوطى موضع من السهل المذكور، كانت تتجمع إليها المياه المنصبة أيام الشتاء في برك بالقرب منها فتركد، ولذلك كانت تتفشى فيها الحميات، والأرض المحيطة بها - في المجموع - خصبة؛ لأن تربتها بركانية وإن كانت تشوبها الأملاح في بعض النواحي، وهي - بهذا الوصف - كانت تعتبر في الجاهلية من مراكز الزراعة، على عكس مكة، التي كانت تعتبر من مراكز التجارة.
والمدينة أو يثرب من أهم مدن بلاد العرب بلا جدال، وازدادت أهميتها بعد أن أصبحت مهجر النبي عليه الصلاة والسلام، وضمت جثمانه الشريف، ولقد ظلت عاصمة الجمهورية الإسلامية الأولى إلى أن انتقل مقر الملك في عهد الأمويين إلى دمشق.
وتاريخ المدينة القديم غامض لا يعرف أوله، وأول ما سمعنا عنها - في التاريخ الصحيح - أنها كانت واحة سكنها اليهود، ثم ساكنهم فيها بعد ذلك بعض القبائل التي هاجرت من اليمن.
أما مؤرخو العرب فإنهم يقولون: إن أول من نزل المدينة كان العمالقة ثم نزلها بعدهم اليهود، ذكر الدكتور ولفنسون في كتابه تاريخ اليهود في بلاد العرب، نقلا عن الجزء 11 من الأغاني ما يأتي: «كان ساكنو المدينة - في أول الدهر قبل بني إسرائيل - قوما من الأمم الساحقة يقال لهم العماليق، وكانوا قد تفرقوا في البلاد، وكانوا أهل غزو وبغي شديد، وكان ملك الحجاز منهم يقال له: الأرقم ينزل ما بين تيماء وفدك، وكانوا قد ملئوا المدينة ولهم بها نخل كثير وزرع، وكان موسى بن عمران قد بعث الجنود إلى الجبابرة من أهل القرى يغزونهم، فبعث موسى إلى العماليق جيشا من بني إسرائيل، وأمرهم أن يقتلوهم جميعا ولا يستبقوا منهم أحدا، فقدم الجيش الحجاز، فأظهرهم الله على العماليق، فقتلوهم أجمعين إلا ابنا للأرقم، كان وضيئا جميلا فضنوا به على القتل، وقالوا: نذهب به إلى موسى فيرى رأيه فيه، فرجعوا إلى الشام فوجدوا موسى قد توفي، فقالت لهم بنو إسرائيل: ما صنعتم، فقالوا: أظهرنا الله عليهم فقتلناهم ولم يبق منهم أحد غير فلان، كان شابا جميلا فنفسنا به على القتل، وقلنا نأتي به موسى فيرى فيه رأيه، فقالوا لهم: هذه معصية، قد أمرتم ألا تستبقوا منهم وألا تدخلوا علينا الشام أبدا، فلما صنعوا ذلك قالوا: ما كان خيرا لنا من منازل القوم الذين قتلناهم بالحجاز نرجع إليها فنقيم بها، فرجعوا على حاميتهم فنزلوها، فكان ذلك الجيش أول سكنى اليهود بالمدينة.» وقال الدكتور ولفنسون: «ويضيف ابن خلدون إلى هذه الرواية أنه يشك في صحتها؛ لأنها لم توجد عند اليهود، ولأن اليهود لا يعرفون هذه القصة»، ويعود الدكتور ولفنسون فيذكر أن عناصر إسرائيلية يظن أنها قد هاجرت من ديارهم إلى الأقاليم العربية، في عصور مختلفة ولأسباب شتى، غير أنها بادت كما بادت قبائل عربية كثيرة ولم يبق من آثارها سوى اسمها، ثم أخذت جموع كثيرة من اليهود في القرن الأول والقرن الثاني بعد الميلاد تهاجر إلى الأرجاء العربية عموما، وإلى الربوع الحجازية بنوع خاص لأسباب يمكن تلخيصها فيما يأتي: (1)
زيادة عدد اليهود في فلسطين زيادة مضطردة، جعلت البلاد تضيق عن أن تسعهم وتنفسح لعملهم في سبيل الحياة. (2)
حدث حوالي القرن الأول ق.م أن هاجمت الدولة الرومانية بلاد فلسطين، وقوضت أركان الدولة اليهودية المستقلة فيها ... فاضطر من لم يكن يستطيع البقاء مع هذه الأحوال القاسية أن يلجأ إلى أرض الجزيرة العربية، التي كانت أحب إليهم من غيرها؛ نظرا لأنظمتها البدوية الحرة، ونظرا لوجود أقاليم رملية بعيدة، تعوق سير القوات الرومانية وتمنع توغلهم. (3)
بعد حرب اليهود والرومان (70م) - التي انتهت بخراب فلسطين ودمار هيكل بيت المقدس، وتشتت اليهود في أصقاع العالم - قصدت جموع أخرى من اليهود بلاد العرب للمزايا السالفة.
ولم يلبث اليهود الذين نزحوا إلى المدينة أن استفادوا بذكائهم: فاقتنوا الضياع والأموال، وأصبحت تجارة المدينة بأيديهم، وتكاثر عدد النازحين منهم إلى المدينة، وظهر منهم عدة قبائل، أشهرها قريظة والنضير، ثم نزل المدينة بعد ذلك الأوس والخزرج بعد سيل العرم، واستوطنوها إلى جوار اليهود، وعاشوا في ضنك من العيش، وهوان وإذلال من اليهود، وكان على اليهود ملك شديد ، استبد بالنازحين فاستجاروا بالتبابعة في رواية، وبالغساسنة في رواية أخرى، فجاءوا لنصرتهم، فكانت بين الفريقين حرب انتهت بقتل زعماء اليهود وأشرافهم بالخديعة، وأصبح الأوس والخزرج بعد ذلك أعز أهل المدينة، وتحالفوا مع اليهود، ثم دب دبيب الخلاف بين الأوس والخزرج، وتنازعوا السلطان، فجرت بينهم الوقائع، وكانت بينهم حروب طويلة، أشهرها المعروفة بيوم سمير ويوم السرارة ويوم حاطب ويوم بعاث.
وما زال الخلاف قائما بينهم، يستعين فيه بعضهم ببعض قبائل اليهود على بعض، حتى كان اعتناقهم للإسلام، وهجرة النبي
صلى الله عليه وسلم
إليهم سنة 622م؛ فآخى بينهم، وتناسوا ما كان بينهم من عداوة وأحقاد كادت أن تأتي عليهم.
ونحن نلخص في الفقرات التالية أشهر هذه الحروب أو الأيام كما أطلق عليها مؤرخو العرب. (19-1) يوم سمير
سببه: أن رجلا يقال له: كعب بن العجلان من بني ذبيان - نزل على مالك بن العجلان زعيم الخزرج محالفه، وأقام معه، فخرج كعب يوما إلى السوق، فرأى رجلا من غطفان ومعه فرس وهو يقول: «ليأخذ هذا الفرس أعز أهل يثرب.» فقال رجل: فلان الأوسي، وقال غيره: فلان الخزرجي، وقال ثالث: فلان اليهودي أفضل أهلها، وقال رابع: مالك بن العجلان. فدفع الغطفاني الفرس إليه، فقال كعب: ألم أقل لكم إن حليفي مالكا أفضلكم، فغضب لذلك رجل من الأوس يقال له سمير وشمته وافترقا، ثم حدث بعد ذلك أن كعبا قصد سوقا لهم بقباء، فقصده سمير وانتظر حتى خلت السوق فقتل كعبا، وأخبر مالك بن العجلان بقتله، فأرسل إلى آل سمير يطلب قاتله، فقالوا: لا ندري من قتله، وترددت الرسل بينهم، هو يطلب سميرا وهم ينكرون قتله، ثم عرضوا عليه الدية فقبلها، وكانت دية الحليف فيهم نصف دية النسيب، فأبى مالك إلا أخذ دية كاملة، ولج الأمر بينهم حتى آل إلى المحاربة، فاجتمعوا والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا وافترقوا، ثم التقوا مرة أخرى واقتتلوا، حتى حجز الليل بينهم، وكان الظفر يومئذ للأوس، ثم أرسلت الأوس تطلب أن يحكم بينهم المنذر بن حرام الخزرجي جد حسان بن ثابت الشاعر ، وأجابهم إلى ذلك، وحكم المنذر بأن يعطوا كعبا حليف مالك دية الصريح، ثم يعودوا إلى سنتهم القديمة، وفرحوا بذلك وحملوا الدية، وافترقوا وقد تمكنت البغضاء والعداوة في نفوسهم. (19-2) يوم السرارة
وسببه أن رجلا من بني عمرو من الأوس قتله رجل من بني الحارث من الخزرج، فعدا أهل القتيل على القاتل وقتلوه غيلة، وعرف ذلك أهله، فكانت حرب بين الفريقين شديدة، حمل راية الخزرج فيها عبد الله بن سلول، وراية الأوس حضير بن سماك، وصبر القوم بعضهم لبعض أربعة أيام، ثم انصرفت الأوس إلى دورها، ففخرت الخزرج بذلك. (19-3) يوم حاطب
توالت الحروب بعد يوم السرارة، حتى إذا مرت مائة سنة من يوم سمير - إذ بحرب تعرف بيوم حاطب وقعت بين فريقين، وسببها: أن حاطبا الأوسي - وكان شريفا سيدا في قومه - أتاه ضيف من بني ثعلبة، ثم غدا يوما إلى سوق بني قينقاع، فرآه يزيد الخزرجي، فقال لرجل من اليهود: لك ردائي إن كسعت هذا الثعلبي، فأخذ الرداء وكسعه، فنادى الثعلبي: يا لحاطب، كسع ضيفك وفضح؛ وعرف حاطب بالأمر، فجاء وضرب اليهودي بالسيف فقتله، وعلم يزيد الخزرجي فأسرع خلف حاطب فلم يدركه، فقتل رجلا من أهله، فقامت الحرب بين الأوس والخزرج، وسعى بينهما جماعة من فزارة بالصلح فلم تفلح مساعيهما، واستمرت الحرب بينهما سجالا، يوما للأوس ويوما للخزرج، حتى انتهت بظفر الخزرج؛ وتجددت الحرب بعد ذلك، وكان الفريقان يتصالحان على الديات، وطال أمر الحرب حتى سئمت الأوس، فصارت إلى قريش بمكة تطلب محالفتها، فأجابت قريش طلب الحلف، ثم تحللت منه، فطلبت الأوس إلى بني قريظة وبني النضير الحلف على الخزرج، فأجابوهم إلى ذلك - ثم عادوا فنقضوا. (19-4) يوم بعاث
وتجدد الحلف بين قريظة وبني النضير من جهة، وبين الأوس من جهة أخرى، وأشعلوها حربا على الخزرج، انضمت فيها إلى الأوس طوائف أخرى من اليهود وغيرهم، وانضم إلى الخزرج جهينة، وتداعى الفريقان إلى القتال، فكان بينهما يوم بعاث - وهو ناحية من أعمال قريظة على طريق مكة من المدينة غربا، وكان على الأوس حضير بن سماك «والد أسد بن حضير»، وعلى الخزرج عمرو بن النعمان، وكان حضير يحقد على الخروج أشد الحقد، فلما بدأ القتال دارت الدائرة على الأوس، ففروا نحو نجد فعيرهم الخزرج، فلما سمع حضير تعييرهم - برك وطعن بسنان رمحه فخذه وصاح: والله لا أعود حتى أقتل فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا، فعاد الأوس إلى القتال مستبسلين مستيئسين حتى هزموا الخزرج شر هزيمة، وأخذوا يحرقون نخلهم ودورهم، وإن كادوا ليهلكوهم - لولا أن صاح صائح فيهم: يا قوم إن جوارهم خير من جوار الثعالب، فانتهوا عنهم ولم يسلبوهم، وإنما سلبهم قريظة والنضير، وحملت الأوس زعيمها حضيرا مجروحا فمات، وكذلك مات عمرو بن النعمان رئيس الخزرج، واستعادت اليهود بعد هذا مكانها بيثرب، وأضحى الأوس والخزرج أجراء عند اليهود، فأدركوا أنهم أخطئوا في تطاحنهم، وفكروا في عاقبة أمرهم، وتطلعوا إلى إقامة ملك عليهم يجمع شملهم، وحدث أن نفرا من الخزرج خرجوا إلى مكة في موسم الحج، فلقيهم محمد عليه السلام، فسألهم عن شأنهم ودعاهم إلى الله فعرفوا أنه النبي الذي كانت تواعدهم به اليهود، فأجابوا دعوته وأسلموا.
وكانت وقعة بعاث هذه آخر الحروب بين الأوس والخزرج - إلى أن جاء الإسلام، وأجمع الفريقان أمرهم على نصرته، وهاجر إليهم النبي من مكة، وآخى بينهم، كما وادع اليهود، وعاهدهم بما يدخل شرحه في تاريخ السيرة النبوية، فلا حاجة إلى ذكره هنا. (19-5) أيام العرب الأخرى
والآن - وقد أتينا على أهم ما كان بين الأوس والخزرج من حروب - فإنا نرى أن نذكر في هذا الباب أيضا أهم أيام العرب العدنانية في غير يثرب، ونريد أن نذكر هنا أن أيام العرب هذه أو حروبهم - لم تكن حروبا بالمعنى المعروف لدينا الآن؛ بل كانت لا تعدو أن تكون غارات - يقصد منها السلب والنهب والأسر دون أن تراق في معظمها الدماء، ولقد ذكر الأستاذ نيكلسون في كتابه «تاريخ الأدب العربي» أن كتابة تاريخ حقيقي لهذه الغارات المشهورة أمر يكاد يكون مستحيلا، وذكر أن السيوطي المؤرخ العربي المعروف كان إذا استعلم من أعرابي عن حادثة من الحوادث التاريخية - لا يرتاح حتى يدعمها العربي له بأبيات من الشعر، ويرى نيكلسون أن الشعر - الذي كان يعتبر في مبدأ الأمر مؤيدا للحوادث التاريخية - قد انعكس به الأمر، فأصبح هو النواة التي أخذت تلفق حولها الروايات، وتخترع بمهارة أو بغير مهارة ما ينسجم مع الأشعار المروية من قصص وأخبار.
على أن هذا لا يعني أن كل ما روي من أيام العرب لا أصل له؛ إذ من الثابت المؤكد أن البيئة البدوية كانت لا تخلو من أمثال هذه الحروب والغارات، بل كان العجيب أنها تخلو منها، وعلى أي حال فإن ما ذكره المؤرخون من أخبار أيام العرب - وإن كان لا يتضمن وقائع ثابتة - فإنه يلقي ضوءا، ويصف بأمانة كبيرة، الطريقة التي كانت تدار بها هذه المنازعات القبلية، فوق أنه يلقي ضوءا على بعض صفات العرب ومميزاتهم.
ونحن نلخص لك هنا بعضا من أهم هذه الحروب المشهورة في التاريخ والأدب العربي، ونخص بالذكر منها حرب البسوس وحرب داحس والغبراء.
حرب البسوس
هي الحرب التي قتل فيها كليب زعيم بني تغلب، وقبل أن نتكلم على سبب هذه الحرب وأدوارها، نرى لزاما علينا أن نذكر كلمة صغيرة، عن مكانة قبيلة تغلب وبكر، في أواخر القرن الخامس الميلادي.
في القرن الخامس الميلادي تجمعت عدة قبائل عدنانية تحت راية واحدة واحتكرت المقام في المنطقة التي تمتد من الخليج الفارسي إلى بادية الشام، تحت رعاية إحدى الدول الكبرى، فتدخل في حوزة الفرس على يد المناذرة، أو الروم على يد الغساسنة، أو حمير على يد كندة، وكان أكثر خضوعها لدولة حمير باليمن - يؤدون لها الإتاوة كل عام، وتولي عليها حمير أميرا من أمراء القبائل، وأشهر من تولى على بدو الشمال - تحت رعاية دولة اليمن - زهير بن جناب الكلبي، في أواسط القرن الخامس للميلاد، وكان شجاعا ذا عقل وسداد، وبسط نفوذه على بكر وتغلب من ربيعة، فكان يحكم فيهم، ويتقاضى الإتاوة أو الخراج منهم، في مقابل النعجة والكلأ والمرعى.
وحدث ذات عام أن أمحلت الأرض ، فتأخروا عن الدفع، فأغلظ عليهم، فشقوا عصا الطاعة، وشجعهم على ذلك ما أصاب اليمن في حروبها مع الحبشة، وقاد حركة انفصالهم هذه واحد من فرسانهم المشهورين - يسمى كليبا، من قبيلة تغلب التي كان مقامها في المنطقة الممتدة من المرتفعات الوسطى إلى بادية الشام، في شمال بلاد العرب، ونجح كليب في تكوين حلف من قبيلة تغلب وبكر وغيرها من القبائل، انتصر بهم نهائيا على اليمن - وهزموهم، ولم يدفعوا إليهم إتاوة أو خراجا، وارتفع بذلك صيت كليب؛ فملكته قبائل معد عليها، وأصبح نفوذه مضرب الأمثال، فكان لا توقد نار مع ناره، ولا يرد أحد مع إبله، وكان يحمي مواقع السحاب، ويقول: وحش أرض كذا في جواري فلا يصاد، وكان كليب بن ربيعة هذا متزوجا من بكرية، تسمى جليلة بنت مرة، أخت جساس بن مرة - الذي يسمى الحامي الجار، وكان لجساس خالة تسمى البسوس، ونزل بالبسوس رجل يسمى سعد الجرمي، له ناقة اسمها سراب، وكانت ترعى مع نوق جساس، وحدث أن كليبا خرج يوما يتعهد الإبل.
وكانت إبله وإبل جساس مختلطة، فنظر إلى سراب فأنكرها، فقال جساس - وهو معه: هذه ناقة جارنا الجرمي. فقال كليب: لا تعد هذه الناقة إلى هذا الحي، فقال جساس: لا ترعى إبلي إلا وهذه معها، فقال كليب: لئن عادت لأضعن سهمي في ضرعها، فقال جساس: لئن وضعت سهمك في ضرعها، لأضعن سنان رمحي في لبتك، ثم تفرقا، وقال كليب لامرأته: أترين في العرب رجلا مانعا مني جاره؟ فقالت: لا إلا أخي جساسا، ثم إن كليبا خرج إلى الحمى وجعل يتصفح الإبل، فرأى ناقة الجرمي، فرمى ضرعها، فولت - ولها رغاء - حتى بركت بفناء صاحبها، فلما رأى ما بها صرخ بالذل، وسمعت البسوس صراخ جارها، فخرجت إليه فلما رأت ما بناقته وضعت يدها على رأسها وصاحت، فسمعها جساس، فخرج إليها وقال لها: اسكتي إني سأقتل غلالا أفحل إبل كليب، وكان لكليب عين يسمع ما يقولون، فقال: لقد اقتصر من يمينه على غلال، ولم يزل جساس يطلب غرة كليب، حتى إذا خرج يوما آمنا ركب جساس فرسه وأخذ رمحه وأدرك كليبا فوقف كليب، فقال له جساس: يا كليب الرمح وراءك، فقال: إن كنت صادقا أقبل إلى أمامي، ولم يلتفت إليه، فطعنه فأرداه عن فرسه، وطلب كليب شربة ماء فلم يغثه، ولكنه أمر رجلا كان معه فجعل عليه أحجارا لئلا تأكله السباع، وانصرف جساس حتى أتى أباه مرة، وقال له: طعنت طعنة يجتمع بنو وائل غدا لها رقصا؛ لقد قتلت كليبا، فجعل مرة يتهيأ للحرب مع قومه، فشحذوا السيوف وقوموا الرماح.
ولما علم قوم كليب بمقتله دفنوه - وقد شقوا الجيوب وخمشوا الخدود وخرجت الأبكار وذوات الخدور والعواتك وقمن للمأتم، وقلن لأخت كليب: أخرجي جليلة امرأة كليب عنا فإنها أخت قاتلنا ، فخرجت تجر أعطافها وأتت مرة، وكان لكليب أخ اسمه مهلهل، وهو الفارس الشاعر المشهور، وكان وقت مقتل كليب يشرب مع همام بن مرة أخي جساس، فلما أفاق مهلهل وعرف بمقتل أخيه، جز شعره وقصر ثوبه، وهجر النساء وترك الغزل، وحرم القمار والشراب، وجمع إليه قومه، وأرسل رجالا منهم إلى مرة والد جساس، وهو في نادي قومه، فقالوا له: إنكم أتيتم عظيما بقتلكم كليبا بناقة وقطعتم الرحم وانتهكتم الحرمة، وإنا نعرض عليكم خلالا أربعا لكم فيها مخرج، ولنا فيها مقنع، إما أن تحيي كليبا، أو تدفع إلينا قاتله جساسا نقتله به، أو أخاه هماما فإنه كفؤ له، أو تمكننا من نفسك فإن فيك وفاء لدمه، فقال لهم مرة: «أما إحيائي كليبا فلست قادرا عليه، وأما جساس فإنه غلام طعن طعنة على عجل وركب فرسه ولا أدري أي بلاد قصد، وأما همام فإنه أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة كلهم فرسان قومهم فلن يسلموه بجريرة غيره، وأما أنا فما هو إلا أن تجول الخيل جولة فأكون أول قتيل، فما أتعجل الموت؛ ولكن لكم عندي خصلتان: أما إحداهما، فهؤلاء أبنائي الباقون فخذوا أيهم شئتم بصاحبكم، وأما الأخرى فإني أدفع إليكم ألف ناقة سود الحدق حمر الوبر، فغضيوفقنا إلى خير ما نرجو، وأن ب القوم وقالوا : لقد أسأت، تبذل لنا صغار ولدك وتسومنا اللبن من دم كليب، ثم نشبت الحرب بينهم ودامت أربعين سنة، وقال مهلهل عدة قصائد يرثي كليبا فيها ويطلب ثأره.
وكانت أول واقعة فيهم دارت الدائرة فيها لبني تغلب، ثم التقوا يوم واردات فاقتتلوا قتالا شديدا فظفرت تغلب أيضا، وكثر القتل في بكر؛ فقتل همام أخو جساس فمر به مهلهل، فلما رآه مقتولا قال: والله ما قتل بعد كليب أعز علي منك، وتالله لا تجتمع بكر بعدكما على خير أبدا، ووقعت بينهما وقعات أخرى كان الظفر فيها لتغلب، وكانت تغلب تطلب جساسا أشد الطلب، فقال له أبوه، الحق بأخوالك بالشام، فامتنع، فألح عليه أبوه فسيره سيرا في خمسة نفر، وبلغ الخبر إلى مهلهل، فندب أبا نويرة ومعه ثلاثون رجلا من شجعان أصحابه فساروا مجدين فأدركوا جساسا فقاتلهم، فقتل أبو نويرة وأصحابه، ولم يبق منهم غير رجلين، وجرح جساس جرحا شديدا مات منه، وقتل أصحابه فلم يسلم غير رجلين أيضا، فعاد كل واحد إلى أهله، فلما سمع مرة قتل ابنه جساس قال لمهلهل: إنك قد أدركت ثأرك وقتلت جساسا، فاكفف عن الحرب ودع اللجاج والإسراف، وأصلح ذات البين فهو أصلح للحيين وأنكى لعدوهم؛ فلم يجب إلى ذلك، وكان الحارث بن عباد قد اعتزل الحرب فلم يشهدها، فلما قتل جساس وهمام ابنا مرة أرسل بجيرا ابنه وكتب معه إلى مهلهل: أرسلت ابني إليك، فإما قتلته بأخيك وأصلحت بين الحيين، وإما أطلقته وأصلحت ذات البين، فقد مضى من الحيين في الحروب من كان بقاؤه خير لنا ولكم، فلم يكن من المهلهل إلا أن أخذ بجيرا فقتله، وقال: «بل بشسع نعل كليب»، وعرف الحارث الخبر، فأقسم لا يصالح تغلبا حتى تأكله الأرض، وأتوه بفرسه النعامة، وكان ولي أمر بكر، وكان أول يوم شهده هو يوم تحلاق اللمم «سمي بذلك لأنه أمر بكرا بحلق رءوسهم حتى يميزهم النساء الذين حملوهم معهم ليقتلوا جرحى تغلب ويعنوا بجرحى بكر»، وقد انتصر البكريون في هذا اليوم، وأسر الحارث مهلهلا وهو لا يعرفه ثم خلى عنه. ثم كان بين القومين أيام أخرى أهمها يوم النقبة ويوم الفصيل لا داعي إلى شرحها، ويكفي أن نذكر أنه في تمام السنة الأربعين لبدء الحرب تدخل المنذر الثالث ملك الحيرة لإنهاء ذلك الصراع.
وهكذا انتهت تلك الحرب التي استمرت أربعين سنة مات في أثنائها الشيوخ، وشاخ الشبان وشب الولدان، وولدت طبقة من الناس لم تكن في الحسبان، وكان سببها حادثة تافهة، هي قتل الناقة سراب، التي ضرب العرب بها المثل، فقالوا: «أشأم من سراب» كما قالوا: «أشأم من البسوس»، ولا تزال أسماء الزعماء من التغلبيين والبكريين تجرى على ألسنة الناس في البلاد المتكلمة بالعربية.
هذا؛ وإذا صح التقدير فإن هذه الحرب تكون قد استمرت من سنة 490 إلى 530 ميلادية.
ونلخص الآن حربا أخرى، جرت بين فرعين من بني غطفان، هما عبس وذبيان؛ تلك هي حرب داحس والغبراء.
حرب داحس والغبراء
السبب الذي قامت هذه الحرب من أجله بين عبس وذبيان يرجع إلى سوء تصرف قام به الذبيانيون في حفلة سباق أقيمت بين خيول عبس وخيول ذبيان؛ وداحس اسم حصان كان يملكه زعيم من عبس، والغبراء اسم لفرس كان يملكها شيخ ذبيان، وخلاصة النزاع أن صاحبي الحصان والفرس اتفقا على أن يجرياهما، وجعلا الرهان مائة ناقة، ويكون منتهى الغاية مائة غلوة، والمضمار أربعين يوما، ثم أرسلاهما إلى رأس الميدان وكان في موضع الغاية شعاب كثيرة؛ فأكمن صاحب الغبراء فتيانا اعترضوا داحس الذي كان سابقا ثم ردوه عن الغاية، حتى برزت عليه الغبراء، وقد قام ذلك النزاع في النصف الثاني من القرن السادس، بعد أن عقد الصلح في حرب البسوس بفترة قصيرة، وظل الفريقان تخمد بينهما الحرب وتقوم مدة طويلة استمرت إلى ما بعد ظهور الإسلام، وفي هذه الحرب اشتهر عنترة بن شداد العبسي بجولاته الصادقة، وقد عاش عنترة فيما بين سنتي 525-615 تقريبا، وهو يعتبر من أعظم أبطال العرب، وأشهر شعراء العصر الجاهلي، ولا يخفى أن قبيلتي عبس وذبيان، كانتا تسكنان في وسط بلاد العرب، وكانت تجمع بينهما صلات القربى؛ إذ كانا ينتميان - كما تقول الرواية العربية - إلى الجد الأكبر غطفان.
وكنا نريد أن نذكر حرب الفجار، التي وقعت في الأشهر الحرم في أواخر القرن السادس الميلادي وما تبعها من حلف الفضول، ولكنا آثرنا أن نرجئ الكلام عنهما إلى كتابنا الثاني عن تاريخ العرب في عهد النبي؛ لأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد شهد كلا من الحرب والحلف في شبابه قبل البعثة، فالحرب - وإن كانت من تاريخ ما قبل الإسلام إلا أنها كانت ذات أثر في حياته عليه السلام بعد الإسلام.
والآن وقد انتهينا من ذكر أشهر أيام العرب، فإنا نختتم هذا الفصل في تاريخ الحجاز، ونعقد فصلا جديدا للحجاز في فجر الإسلام، نعالج فيه الحالة الدينية والاجتماعية في البيئة العربية الشمالية، ونضمنه شتات ما عساه أن يكون فاتنا من تاريخ عرب الشمال، لنمهد بذلك لتاريخ بلاد العرب على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الذي سنعالج حوادثه البارزة في كتاب ثان إن شاء الله تعالى.
ولسنا في حاجة إلى القول بأن كلامنا في هذا الفصل، سينصب في مجموعه على عرب الشمال، وإن كان سيلمس عرب الجنوب أيضا الذين لخصنا تاريخهم في الفصل الرابع من هذا الكتاب؛ وذلك لأنا سنعالج بلاد العرب - فيما يلي - كوحدة واحدة قبيل ظهور الإسلام، أو في العصر المعروف بعصر الجاهلية الذي يشمل القرن أو القرنين السابقين مباشرة لظهور الإسلام.
الفصل الحادي عشر
الحجاز في فجر ظهور الإسلام
وثنية العرب وأصنامهم
لم يكن عرب الشمال - وغالبيتهم العظمى من البدو - شديدي التأثر بالدين، كما كان عرب الجنوب - الذين وصفنا الحالة الدينية عندهم في فقرة [اللغة والدين] من هذا الكتاب فارجع إليها، والعرب - كما يقولون - أمة شعراء، الشعر سجل أعمالهم، ولكنك قل أن تجد فيما وصل إلينا من الشعر الجاهلي ما يعكس لك صورة واضحة عن الحالة الدينية في بلاد العرب، وقد يكون السبب في ذلك أن الشعر الديني - بسبب اعتناق العرب للإسلام - قد حظرت روايته فضاع، ويبدو أن العربي لم يكن يهتم للدين كثيرا، يدلنا على ذلك ما رواه صاحب الأغاني من أن امرأ القيس بن حجر الكندي عندما قتل أبوه مر بمعبد ذي الخلصة، ليستقسم بالسهام، فلما أخرج السادن سهم النهي ثلاث مرات قذف امرؤ القيس بالسهام في وجه الصنم، وقال: لو كان أبوك الذي قتل لما نهيتني عن طلب الثأر له.
وفيما عدا الشعر فإن مراجعنا في وثنية العرب قبل الإسلام تكاد تنحصر فيما ورد عن الوثنية في القرآن الكريم - الذي يصور لنا الحياة الجاهلية في نواحيها المتعددة من دينية واجتماعية أصدق تصوير وأروعه - وفي بعض ما كتب من الأدب الإسلامي، ونخص بالذكر منه كتاب الأصنام للكلبي (المتوفى حوالي سنة 820م).
وكانت معبودات العرب في الجاهلية تختلف ما بين الصنم والوثن والنصب، فأما الصنم فما كان على صورة إنسان من معدن أو خشب، والوثن ما كان على شكل الإنسان من حجر، أما النصب فهو حجر غفل ليس على صورة معينة.
ولعل الوثنية العربية كانت أبسط شكل للمعتقدات السامية، فهي لم تترق كما ترقت وثنية عرب الجنوب، التي كانت لها معابد فاخرة، وشعائر معقدة مما تتطلبه حالة الإقامة، على عكس عرب الشمال، الذين كانوا في الغالب بدوا، وتشبه وثنية العرب معظم الوثنيات الأخرى، في وجود آلهة خاصة بالقبائل، تنفرد كل قبيلة بعبادة إلهها، وتشترك معظم القبائل في عبادة الإله الأكبر.
وكانت المناطق الزراعية تعبد إلها يمت إلى الشمس بصلة، وأوضح أمثلة لعبادة الشمس كانت في مدينة تدمر ومدينة البتراء، ولا يخفى أن سكان الأقاليم الزراعية قد أدركوا ما بين حرارة الشمس ونماء الزرع من علاقة «قارن هذا بعبادة المصريين القدماء لرع إله الشمس.»
وكان بعض قبائل البدو يدينون الطوطمية، ويعبدون الحيوانات، وتفسير هذا يمكننا أن نرجعه إلى ما كان يعود عليهم من نفع من الحيوان المعبود ومدى ارتباطهم به «قارن هذا أيضا بعبادة الحيوان عند قدماء المصريين.»
وكانت آلهة المناطق الزراعية - في الغالب - من الآلهة الخيرة، التي تجلب النفع للناس، أما آلهة المناطق الجرداء فكانت من الآلهة الشريرة والشياطين، وهذه كانت تعبد دفعا لأذاها ولاتقاء شرورها، كما كانت تعبد الأولى استجلابا لرضاها واستدرارا لنفعها.
وعبد العرب أيضا بعض مظاهر الطبيعة، التي كانت تحيط بهم، فعبدوا بعض الأشجار وعيون الماء والكهوف والحجارة، ولكن عبادتهم لهذه الأشياء كانت كوسيلة لتقريبهم إلى الآلهة التي كانت - حسب ما يعتقدون - تتخذ مقارها في بعض هذه الأشياء، ولسنا ندري إن كانت بئر زمزم قد عبدت قبل الإسلام، ولكن القزويني يذكر أن بئر عروة - كان الناس إذا مروا بها أخذوا من مائها يهدونه إلى أهليهم، أما الكهوف فكانت قداستها ترجع إلى أنها تتصل بقوى الآلهة السفلية، وقوى باطن الأرض التي لا يرونها، ومن أمثلة ذلك كانت غبغب في نخلة، حيث كان العرب يقربون للإلهة العزى.
كذلك عبد العرب بعض الأجرام السماوية، ولعلهم تأثروا في ذلك بالمجوس جيرانهم، فعبدوا القمر، وكانت عبادته شائعة في مناطق الرعي، كما كانت عبادة الشمس شائعة في مناطق الزراعة، ويجب أن نذكر هنا أن ضوء القمر كان يهدي بالليل، وكان ظهوره ينظم لهم مواقيتهم، وقد ورد في القرآن ذكر ود، وهو أحد آلهة القمر، وكان أهم إله يعبد في معين ببلاد اليمن.
وقد سبق أن أشرنا في تاريخ اليمن في فقرة [قصة أصحاب الأخدود] عند الكلام على قصة أصحاب الأخدود خبر نخلة في نجران، كان القوم يعبدونها هناك، ولهذه النخلة نظير في شجرة العزى، المسماة بذات أنواط في نخلة، والتي كان يهرع إليها أهل مكة كل عام، فيقدمون القرابين لها كما كان يقدم أهل نجران لنخلتهم قرابين من الأسلحة والملابس وغيرها، وكانت اللات في الطائف يمثلها حجر مربع، وذو الشرى في البتراء يمثله كتلة مستطيلة من حجر أسود غير منحوت، يبلغ ارتفاعه أربعة أقدام وعرضه قدمان، وكان لكل من هذه الآلهة حمى من أرض المراعي المحيطة به، لا يعتدى عليه ولا يعتدى فيه.
وكان البدو يؤمنون بأن الصحراء مسكونة بمخلوقات لها طبيعة الوحوش، يطلقون عليها أسماء الجن والشياطين، وكان الجن - في نظرهم - يختلفون عن الآلهة من حيث طبيعتهم من جهة، ومن حيث علاقتهم بالإنسان، فالآلهة في نظرهم كانت بصفة عامة أصدقاء لهم، أما الجن فكانوا لهم خصوما؛ ولعل ما تنطوي عليه الصحراء من هول، وما يعمرها من وحوش - هو الذي دفعهم إلى هذا الاعتقاد، وأرض الآلهة هي الأرض التي يطرقها الإنسان، أما أرض الجن فهي أرض البرية التي لم يطرقها أحد، ولعل لفظ المجنون بالعربية معناه الذي أصابه الجن.
ولسنا ننكر الجن؛ فقد ورد ذكرهم في أكثر من موضع في القرآن وفي مناسبات متعددة، ولكن المقصود بهم كان يختلف عما ذهب إليه العرب في الجاهلية.
وقد ورد ذكر اللات والعزى ومناة في القرآن، وهذه الإلهات الثلاث كان العرب يسمونها بنات الله، وكن يعبدن في المنطقة التي أتيح لها أن تكون مهد الإسلام فيما بعد ، وقد ورد ذكرهن في القرآن في سورة النجم الآية 19 وما بعدها:
أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى (راجع قصة الغرانيق في الفصل السادس من كتاب حياة محمد للدكتور هيكل باشا).
فأما اللات «ولعلها مشتقة من كلمة الإلهة» فقد كان حماها وحرمها على مقربة من الطائف، وكان أهل مكة يحجون إليها ويقدمون لها القرابين، وكان لا يجوز أن تقتلع أشجار من حماها ولا يصاد ولا يراق دم آدمي فيه، وقد ذكر هيرودوت في تاريخه اسم «أليلات» من بين آلهة الأنباط.
وأما العزى «وهي مؤنث الأعز وكان يقصد بها الزهرة «فينوس» نجمة الصباح» فكانت تعبد في نخلة إلى الشرق من مكة، وقد ذكر الكلبي: «أن قريشا كانت تقدسها أعظم تقديس، وأن النبي عليه السلام وهو حدث قدم لها بعض القرابين.» (في ذلك شك)، وكان حرمها يتكون من ثلاث أشجار، وعبادتها تتطلب تقديم القرابين البشرية، وكان اسم عبد العزى من الأسماء الشائعة المحببة عند العرب وقت ظهور الإسلام.
أما مناة «من المنية وهي القضاء المحتوم» فكانت إلهة القضاء والقدر، ولعلها كانت من أقدم الإلهات عند العرب، وكان حرمها عبارة عن صخرة سوداء في قديد، على الطريق بين مكة ويثرب، وكان أعظم عبادها الأوس والخزرج، الذين ناصروا النبي عليه السلام في هجرته من مكة، ولا يزال النظامون العرب يشكون المنية والدهر في قصائدهم إلى يومنا هذا.
ونستطيع أن نقرر - بمناسبة هذه الإلهات الثلاث - أن عبادة الإناث كانت أسبق من عبادة الذكور في بلاد العرب؛ لأن العرب - شأن كل الساميين الأخر - كانوا يعلقون أهمية على دم الأمومة أكثر من دم الأبوة.
وكانت الكعبة مقر أوثان أكثر العرب وأصنامهم، وكان هذا من الأسباب الذي جعلت لمكة وقريش الصدارة على كل مدن الحجاز وقبائله، أما أشهر آلهة الكعبة، فكان الإله هبل «واسمه مشتق من لفظ آرامي معناه الروح»، وكان صنم هبل على صورة إنسان، ذكر المؤرخون أنه كان من العقيق الأحمر مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك، فجعلت له يدا من ذهب، وكان تمثاله أعظم صنم معلق على الكعبة، التي كان بداخلها صنمان يمثلان إبراهيم وإسماعيل، وكان إلى جوار صنم هبل الأزلام وهي القداح أو السهام التي كان أهل الجاهلية يستقسمون بها، وكان الكاهن «وهو لفظ مأخوذ من الآرامية أيضا» يقرر مصائر الناس بوساطة هذه السهام، وقد ذكر ابن هشام في سيرته أن عمرو بن لحي الخزاعي هو الذي أحضر هذا الصنم من مؤاب أو العراق إلى مكة، ولقد أصاب بقوله هذا كبد الحقيقة؛ لأن اسم الإله يحمل ذلك الاسم الآرامي، ويقال أيضا: إن عمرو بن لحي هذا هو الذي أتى بإساف ونائلة من أرض الشام، ووضعهما في داخل الكعبة فعبدا، على أن هناك رواية أخرى تذكر أن إسافا ونائلة كانا رجلا وامرأة أتيا الفاحشة في داخل الكعبة فأحالتهما الآلهة أصناما، أما بقية القصة التي تقول إن عمرو بن لحي كان أول من أدخل عبادة الأصنام إلى بلاد العرب بنقله هبل، وأن العرب كانوا لا يعبدون أصناما قبل هذا - فهي بعيدة بعدا كبيرا عن الحقيقة، وقد لقي هبل هو والثلاثمائة وستون صنما التي كانت معلقة حول الكعبة مصرعها الأخير يوم الفتح على يد النبي
صلى الله عليه وسلم .
ولا يجولن بالخاطر أن ما ذكرناه عن وثنية بلاد العرب - يستلزم أنهم كانوا لا يعبدون إلا الأوثان أو الأصنام؛ إذ الثابت أن الشطر الأكبر منهم - إن لم يكن جميعهم - كانوا يعبدون هذه الحجارة والأصنام، لا على أنها صاحبة الحول والطول، بل على أنها وسيلة تقربهم إلى الإله الأكبر الذي كانوا يؤمنون به، فكانوا كما قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه:
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . فأنت ترى أن الله تعالى كان معروفا لديهم، وكلمة «الله» هي صورة من صور لفظ الإله المضاف إليها أداة التعريف، مما يفهم منه أنه الإله الرئيسي، وقد عثر النقابون على نقوش قديمة فيها لفظ «الله»، وقد عثر على نقش في الصفا يرجع عهده إلى قبل الإسلام بخمسة قرون ورد فيه لفظ الجلالة على هذا الشكل «هالله»، ومعروف أن والد النبي عليه السلام كان يسمى عبد الله، وكان أهل مكة قبل الإسلام - يعتبرون أن الله هو الخالق المعطي القاهر فوق عباده، وهو الذي يفزع الناس إليه إذا اشتد الخطب، كما يستدل على ذلك من آيات كثيرة في القرآن نذكر من بينها قوله تعالى:
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ، لقمان آية 25، وقوله تعالى:
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ... إلخ.
ولم يحل وقوع مكة في واد غير ذي زرع، وفي مناخ لا يوافق الصحة كثيرا، دون أن يكون الحجاز بسببها أهم مركز ديني في شمال بلاد العرب.
أما فيما يتعلق بآلهة بلاد العرب الأخرى - فإنا نذكر منها «نسرا» وكان على هيئة نسر، و«عوف» وكان على هيئة طير كبير، و«يغوث» وكان على صورة أسد، و«يعوق» وكان على هيئة فرس وغيرها من الحيوان والطير مما يذكرنا بآثار الطوطمية الأولى.
ولا نستطيع أن نستنتج من ثنايا الأدب القديم الموثوق بصحته - ما يوضح لنا عقيدتهم في الدار الآخرة توضيحا كبيرا، أما ما ورد على ألسنة بعضهم من ذكر للدار الآخرة، فأكبر ظننا أنه كان صدى للمعتقدات المسيحية التي اتصلوا بها.
ونريد أن نذكر في هذا الصدد أيضا - أن العرب قد توافقوا فيما بينهم على أن يجعلوا من بين شهور السنة أربعة أشهر حرم، لا يحل فيها القتال، وكان غرضهم من ذلك أن يتيحوا لذوي الرأي فرصة يصلحون فيها ذات البين، وهذا عدا حرصهم على الاطمئنان على متاجرهم، وعدم تعريض سلعهم للبوار والضياع، وتشبه هذه الشهور الحرم - وهي شهور ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ثم رجب الفرد - الهدنة الربانية التي كانت معروفة في أوروبا في العصور الوسطى. وكانت الشهور الثلاثة الأولى تخصص للعبادة، فيذهب الناس فيها من كافة أنحاء الحجاز وغيره إلى مكة، ويقدمون القرابين من إبل وأغنام إلى آلهتهم، أما الشهر الرابع فكان يخصص للتجارة، ولا يخفى أن الحجاز - بوقوعه على طريق التجارة الرئيسي بين الشمال والجنوب - كان يتيح فرصة صالحة للنشاط الديني والنشاط التجاري، وهذا هو السبب الذي من أجله قامت أسواق العرب في الجاهلية، ونخص بالذكر منها عكاظ، التي كان فيها سوق أسبوعية تقوم يوم الأحد للبيع والشراء، وسوق سنوية ينزلون به في أول ذي القعدة ويستمرون عشرين يوما، تجتمع فيها قبائل العرب فيتناشدون الأشعار، ويتعارفون ويتحابون ويفدون أسراهم، ويرفعون مظالمهم إلى من يقوم بأمر الحكومة، ثم يتوجهون منها إلى مكة، فيقفون بعرفة ويقضون مناسك الحج، ثم يرجعون إلى أوطانهم.
ومثل سوق عكاظ أسواق أخرى، كسوق مجنة قرب مكة، وسوق ذي المجار خلف جبل عرفات.
ونريد - قبل أن نختتم كلامنا عن ديانة العرب الوثنية قبل الإسلام - أن نذكر أنه كان هناك أفراد منهم يطلق عليهم الحنيفيون أو الأحناف «أي المنحرفون عن العبادة العامة» لم تكن تلك العبادات التي وصفناها تعجبهم ويرون أن هناك حقيقة غابت عنهم، وأن طرائقهم التي هم عليها لا توصلهم إلى الله، ويقولون في أنفسهم: ما معنى التوسل إلى الله بحجارة لا تضر ولا تنفع؟ ومن أشهر هؤلاء ورقة بن نوفل الذي استحكم في النصرانية، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو، وعبيد الله بن جحش، وأمية بن أبي الصلت، وقس بن ساعدة الإيادي، وغيرهم ممن ترك عبادة الأوثان، وإن كان لم يعتنق دينا سماويا، ووجود أمثال هؤلاء يدلنا على أنه كانت هناك حركة دينية قبيل البعثة النبوية، تبحث عن دين إبراهيم الحنيف، وتسب الأصنام ولا ترى في عبادتها غذاء روحيا يرضي عقلاء العرب، ولكنها لم تكن حركة منتجة؛ لأنها لم تؤد إلى شيء ما من التغير في عبادة الأوثان، ولا إلى شيء من إصلاح أحوال العرب، ولكنها - دون جدال - عبدت الطريق، وجعلت في بعض الأنفس شيئا من الاستعداد لقبول الإسلام، ويطلق بعض المؤرخين على أولئك الذين ذكرنا اسم الحنفاء.
المسيحية ببلاد العرب
ذكرنا في كلامنا على حضارة بلاد اليمن أخبار المسيحية فيها فارجع إليها، ونذكر هنا أن المسيحية كانت منتشرة في قبائل تغلب وغسان في الشمال، ولسنا في حاجة إلى القول بأن قرب هذه المناطق من أرض البيزنطيين كان من العوامل التي جعلت هذه الديانة تنتشر في تلك الجهات، على أنا لا نعدو الحقيقة إذا قررنا أن المسيحية لم ترسخ أقدامها ولم تجد لها أنصارا بين عرب الشمال؛ لأن مبادئها وما انطوت عليه من حب للسلام لا يتفق مع طبيعة أولئك البدو، وقد يكون من العوامل التي عاقت انتشار المسيحية، أن الأباطرة لم يسعوا سعيا جديا في نشرها؛ كما أن ما كان بين المسيحيين من خلاف وانقسام إلى فرق متناحرة، وما تسلل إلى المسيحية من بعض مظاهر وثنية، وكذلك مقاومة اليهود خفية لها، لما كان بينهم وبين المسيحيين من خصومة - كان من العوامل التي أوقفت تقدمها، وجعلت العرب يؤثرون وثنيتهم عليها، وأشهر مذاهب المسيحية التي اعتنقها العرب مذهبان: مذهب النساطرة وكان شائعا في الحيرة، ومذهب اليعاقبة وكان شائعا في غسان، وغيرها من قبائل العرب الضاربة في صحراء الشام.
اليهودية في بلاد العرب
كانت اليهودية أرسخ قدما في بلاد العرب من المسيحية، وقد ذكرنا في تاريخ بلاد اليمن كيف تهود بعض ملوكهم في أواخر دولة الحميريين، وقلنا: إن تهودهم كان لأغراض سياسية، وهي مقاومة النفوذ البيزنطي، وكراهيتهم للأحباش ، الذين كانوا يعتنقون المسيحية، ونذكر هنا أن اليهودية دخلت بلاد العرب في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد، وقد ذكر المؤرخون العرب - لدخول اليهود إلى بلاد العرب - أسبابا أقرب إلى الخيال منها إلى التاريخ الصحيح، ويكاد يجمع المؤرخون المحدثون على أن اليهود جاءوا إلى جزيرة العرب مهاجرين من فلسطين عندما ضاقت عليهم سبل الرزق فيها، فهاجر فريق منهم إلى العراق، وآخرون إلى مصر، وغيرهم إلى بلاد العرب، ولما قضى الرومان على دولة اليهود، واستولوا على فلسطين، قامت عدة ثورات ضد نفوذ الرومان فيها، أطفأها الرومان بشدة لم يستطع فريق من اليهود صبرا عليها، فخرج من لم يستطع البقاء منهم إلى شبه جزيرة العرب، التي كانت إذ ذاك بعيدة عن خطر الرومان، ولما قامت الحروب اليهودية الرومانية حوالي سنة 70ق.م شتت كثير من اليهود، فانتشروا في أصقاع الأرض - وكانت بلاد العرب بعض الجهات التي ذهبوا إليها [راجع فقرة تاريخ المدينة].
وأشهر المستعمرات التي أقاموا فيها هي يثرب وتيماء وفدك وخيبر ووادي القرى، وكان يهود يثرب ثلاث قبائل: هم بنو النضير، وبنو قينقاع، وبنو قريظة، وقد اصطبغ اليهود بالصبغة العربية، فعلى الرغم من كثرة عددهم كانوا يتكلمون العربية، وكانت أسماؤهم عربية، مما حدا ببعض المؤرخين إلى القول بأنهم كانوا عربا تهودوا، وأنهم لم يكونوا مزودين بمعلومات كافية في التوحيد، ولو أنهم كانوا شديدي التمسك بدينهم.
ولا يخفى أن اليهود كانوا - في شمال الحجاز إبان البعثة النبوية - قوة كبيرة تعادل قوة قريش في الجنوب، وكانوا أكثر من العرب ثروة وغنى وأوفر سلاحا، وكانت بلدانهم حصينة، وفي منطقة المدينة لم يكن الأوس والخزرج سوى أجراء لهم، يعملون على تنمية زراعتهم ويخدمونهم بالأجر.
المجوسية والصابئية
بقيت كلمة واحدة عن أديان العرب قبل الإسلام، وهي كلمتنا عن المجوس الذين اتخذوا النار إلها لهم؛ لأنها في نظرهم أساس الأرض، بما عليها من وديان وجبال، ومهد المجوسية الأصلي بلاد فارس، ومنها انتشرت - بحكم الجوار - إلى المناطق المجاورة، فوصلت إلى بلاد البحرين، وانطبعت هناك بالطابع العربي، فكانت عبادة الأجرام السماوية أهم مظاهرها، وقد شيدت لها بيوت لعبادتها كان يتجه إليها للحج.
أما الصابئة فقد ورد ذكرهم في القرآن في ثلاث مناسبات، وكانوا يعرفون فيها باليهود والمسيحيين دائما، ومرة واحدة بالمجوس أيضا، وقد ورد في دائرة المعارف البريطانية: أنهم طائفة نصف مسيحية، كانت تسكن في بابل وتشبه ما يعرفون «بمسيحيي القديس يوحنا المعمدان (يحيى بن زكريا)» ... وربما كان لفظ الصابئة مشتقا من لفظ آرامي معناه المغتسلة؛ أي الذين يغسلون أنفسهم، وهناك رأي يقول: إنهم كانوا عباد النجوم، ويذهب معظم المفسرين إلى القول بأنهم كانوا يمثلون دينا وسطا بين اليهودية والمسيحية، يقول بالوحدانية، ولكنه يعبد الملائكة.
وقد اختلف المؤرخون والمفسرون في اعتبارهم من أهل الكتاب، ولكن الأغلبية ترفض أن تعاملهم معاملة أهل الكتاب، ولا ينفي هذا أنهم اعتبروا في فترة ما - لأغراض سياسية - من أهل الكتاب.
وعلى الرغم من أن القوتين اللتين كانتا تحيطان ببلاد العرب - من الشرق وهي قوة المجوسية، ومن الغرب وهي قوة المسيحية - كانتا أعظم قوتين في ذلك العصر، إلا أنهما ضعيفتي الأثر، ومن أعجب الأمور أن تظل شبه الجزيرة وكأنها واحة حصينة آمنة من انتشار الدعوة الدينية مسيحية أو مجوسية، إلا في قليل من قبائلها.
ونختم كلامنا عن ديانة العرب قبل الإسلام بهذه الآية الشريفة رقم 17 من سورة الحج التي جمع الله فيها أنواع الأديان في جزيرة العرب وهي قوله تعالى:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد .
وننتقل الآن إلى الكلام عن وصف الحالة الاجتماعية بين عرب الشمال قبيل الإسلام.
حياة البدو
جعلت طبيعة الأرض السكان في الشمال قسمين: حضر وبدو، فأما الحضر: فهم الذين كانوا يسكنون المدن، وقد ذكرنا في الفصل العاشر تاريخ أهم مدائنهم مكة والمدينة، ونظام الحكم فيهما، وحالتهما الاجتماعية، ونريد أن نذكر هنا أن الفروق بين البدو والحضر لم تكن محددة تماما؛ فقد كانت هناك حالة نصف بدوية وحالة نصف حضرية؛ ذلك لأن فريقا من البدو كانوا في الأصل حضرا، وفريقا من الحضر كانوا في الأصل بدوا، والحضر هم سكان المدن، أما البدو فهم سكان البادية، الذين ليست لهم مدائن يقيمون فيها، وكانوا قبائل، لكل قبيلة رئيس أو شيخ يحكمها، حسب العرف الذي كان يقوم عندهم مقام القانون الذي كان يرجع إليه الحضر، وكانت طبيعة البيئة التي تحيط بهم تحدوهم دائما إلى التقاطع وغزو بعضهم بعضا، فكانت كلمتهم متفرقة، على أنه كان يحدث أن تتحالف جملة قبائل، فتصبح تحت لواء واحد، وتكون الكلمة العليا فيها لمن بيده هذا اللواء، وكان الوصول إلى رئاسة القبيلة أو القبائل المتحالفة إنما يكون بالغلبة أو بالحزم أو بالمال أو بالدسائس، وكان رئيس القبيلة يمارس على أفراد قبيلته نفوذا لا حد له ، فكلمته أمر يطيعه الجميع، وكثيرا ما كان يستبد رؤساء القبائل استبدادا شديدا، كما يستدل على ذلك من أخبار بعض أيام العرب [راجع فقرة حرب البسوس]، وكانت العصبية بين أفراد القبيلة عظيمة جدا، حتى إن القبيلة كانت تقوم بأجمعها انتصارا لفرد من أفرادها، وينصرونه ظالما أو مظلوما، فإذا تغلب العقل على بعض أفرادها كان ذلك وصمة عار لا تمحى، ويلي الاهتمام بالعصبية الاهتمام بالنسب، ويدخل في باب النسب الولاء؛ فللمولى من الحقوق ما للنسيب، والنسب يكون في بني الأب الواحد، فإذا تشعبت البطون وافترق بنو الأب إلى قبائل - انحلت روابط القرابة، وحصل التنازع بين القبيلتين، ويقوم مقام النسب الحلف وهو بين قبائل العرب كالمعاهدات السياسية في الوقت الحاضر - ويكون بين أهل النسب الواحد أو بين القبائل المتباعدة في النسب، ومن أشهر أحلافهم التي رواها التاريخ: حلف المطيبين، وحلف الفضول، ويقوم مقام النسب والحلف الجوار، وهذا يجب الدفاع عنه والوفاء له، ولو أدى إلى سفك الدماء، وبذل الأموال.
وكانت طبقاتهم في النسب كالآتي: (1)
الشعب: وهو النسب الأبعد. (2)
والقبيلة: وهي الفرع من فروع الشعب. (3)
والعمارة: وهي قسم من القبيلة. (4)
والبطن: وهم فريق من العمارة. (5)
والفخذ: وهم فريق من البطن. (6)
والفصيلة: وهم فرقة من الفخذ.
وكان يشترط في شيخ القبيلة أو الزعيم - إطلاقا - خمس صفات هي: الشجاعة والكرم والحلم والثروة وكثرة الأنصار، وكان توافر هذه الشروط من الأمور التي تستلزمها طبيعة الحياة البدوية، فالشجاعة كانت مطلوبة؛ لأن البيئة البدوية بيئة غزو وغارات؛ لأنها بيئة قليلة الموارد، فالقبيلة التي كانت لا تملك شيئا ترى من حقها أن تأخذ ممن يملك، إن لم يكن بالتفاهم فبالغزو، حتى لقد أصبح الغزو حالة عقلية مزمنة، فإذا لم يجد البدوي من يغزوه، غزا أصدقاءه، ولقد صدق الشاعر - القطامي - الذي قال:
نغير من الضباب على حلول
وضبة إنه من حان حانا
وأحيانا على بكر أخينا
إذا ما لم نجد إلا أخانا
ولم يكن البدو حريصا - رغم هذا - على إراقة دم أخيه أو إراقة دمه، فإذا استطاع أن يصل إلى ما يريد دون إراقة دم فبها ونعمت، والكرم والضيافة - أيضا - من مستلزمات هذه البيئة، فقد كانا يخففان من شرور الغزو، وكان الامتناع عن إكرام الضيف في أرض ليس فيها حانات ولا فنادق، أو الإضرار به بعد قبوله ضيفا - يعتبر جريمة من الجرائم ضد مبادئ الأخلاق والشرف المعترف بها في البادية، وأما الحلم فكانت تستلزمه البيئة أيضا؛ لأن الجميع ولدوا في مهاد الديموقراطية، فترى البدوي يقابل شيخه وقد وقف معه على قدم المساواة؛ لأن المجتمع الذي ولد فيه قد سوى بين الجميع وكما كان البدوي ديموقراطيا، كذلك كان أرستقراطيا، يعتقد أنه أعلى مثل للخليقة، والأمة العربية في نظره هي أفخر الأمم وأكثرها نبلا، والرجل المتمدين أو ساكن الحضر أقل منه سعادة ودونه في الرتبة؛ وقد يكون سبب ذلك أن الصحراء عصمت البدو من الاتصال بالعالم الخارجي، وكانت من العوامل التي أبقت على البدوي نقاء دمه، وخلوص لغته، وقداسة تقاليده.
والثروة لازمة لشيخ القبيلة؛ لأنها تسهل له القيام بواجباته الأخرى كالكرم، ولكي يحفظ البدو على الشيخ أمواله كانوا إذا أصابوا غنائم في غارة من غاراتهم استخلص الزعيم لنفسه ما يأتي: (1)
الصفي: وهو ما يصطفيه لنفسه قبل القسمة. (2)
النشيطة: وهو ما يصيبه في الطريق قبل أن يصل إلى من يريد غزوهم. (3)
المرباع: وهو ربع الغنيمة. (4)
الفضول: وهو ما لا تصح قسمته على عدد من الغزاة كالبعير والفرس.
وقد جمعها بعضهم في قوله:
لك المرباع منها والصفايا
وحكمك والنشيطة والفضول
وقل أن كنت تجد من بين أهل الصحراء سمينا مترهلا، والسبب في ذلك يرجع إلى قلة الغذاء، وإلى إقفار ما حولهم من أرض، لقد كان البدو - على حد تعبيرهم - مجموعة أو حزمة من الأعصاب والعظام والعضلات الدقيقة، وكان طعامهم اليومي من التمر المخلوط بالدقيق أو القمح المحمص مع الماء واللبن، كذلك كان لباسهم بسيطا كطعامهم، فكانوا يلبسون ثوبا هو عبارة عن قميص طويل يتمنطقون عليه ويضعون فوقه عباءا، أما لباس الرأس فكان الكوفية يحيط بها العقال، ولم يكونوا يلبسون السراويل، وقل أن كانوا يلبسون النعال . وكان أشهر صفات ذلك البدوي الصبر والمروءة، وهي في نظرهم وليدة فضيلتين هما الشجاعة والكرم، وخير ضروب الشجاعة ما كان دفاعا عن القبيلة.
وكانت كل أسرة تعيش داخل خيمة واحدة قد تكون من الوبر أو الجلد، فإذا اجتمعت عدة خيام في معسكر واحد أطلق عليها اسم الحي، وأعضاء الحي الواحد يطلق عليهم اسم القوم، وإذا تجمع عدة أقوام تربطهم صلة القربى كونوا ما يعرف باسم القبيلة، ويعتبر أفراد القوم الواحد أنفسهم أبناء دم واحد يخضعون لرئيس واحد، هو في الغالب أسن أعضاء القوم ويتداعون إلى الحرب بقولهم: يا بني فلان، وفي بعض الأحوال يدعون بيا بني فلانة، مما يدل على بقايا نظام الأمومة الذي كان أسبق على نظام الأبوة، وكان البدوي لا يملك ملكا خاصا إلا خيمته، وما تنطوي عليه من متاع متواضع، أما الماء والمرعى والأرض الزراعية - إن وجدت - فكانت ملكا للقبيلة بأجمعها، وإذا ارتكب أحد أفراد القبيلة في داخلها جريمة القتل - لم يجد من يحميه، فإذا فر عد طريدا أو خارجا على القانون، فإذا حدثت جريمة القتل خارج القبيلة احتمل أي فرد من القبيلة الجناية، كما لو كان هو الجاني، وكان العرف القائم في الصحراء ينص على أن الدم لا يغسله إلا الدم، ولقد كان هذا المبدأ هو الأساس في كثير من أيام العرب التي وصفنا بعضها سابقا، وكان في بعض الأحيان تقبل الدية.
وننتقل الآن إلى نقطة طال فيها الخلاف والجدل، وهي مركز المرأة، ثم حالة العربي الأسرية.
المرأة العربية
اختلفت الأقوال في المرأة عند العرب؛ فمن قائل: إنها كانت في طبقة تلي طبقة الرجل، وإن منزلتها كانت منحطة عن منزلة الرجل، ويستدلون على ذلك بأن البيئة البدوية بيئة حرب، والمرأة قليلة الغناء في الحروب التي هي أساس حياتهم، ويستدلون على ضعة مركزها: بما كان يحدث من وأد البنات وحرمان النساء من الإرث، والفريق الثاني يقرر: أن الرجل ما كان ينظر إلى المرأة نظرة الاستخفاف أو الاستهانة، وأن فريقا من العرب كان يفتخر بانتسابه إلى أمه كما يفتخر بانتسابه إلى أبيه، ويدللون على صدق نظريتهم بما ورد في الشعر العربي - الذي هو ديوان أخبارهم - من أن الرجل إذا أراد أن يتمدح بالكرم والشجاعة لم يكن يخاطب إلا المرأة، اعتقادا منه أنها إن رضيت عنه فقد رضي الناس عنه جميعا. (راجع أشعار حاتم الطائي وعنترة العبسي)، ودليل ثان: هو فخر العربي بأنه المدافع عن الحريم الحامي للشرف، ودليل ثالث: هو بدء معظم الشعراء قصائدهم بالنسيب، ورابع: رقتهم في عتاب المرأة أو جدلها إذا هي عذلتهم على السرف وأشارت عليهم بالقصد، ودليل خامس: هو تلقيبها - وهي زوج أو أم - بخير الألقاب مثل يا ربة القوم ويا أم مالك، ولا شك أن الكنية فيها شيء من التعظيم، ودليل سادس: هو استشارة الرجل امرأته وبناته فيمن يأتي إليه خاطبا، ونحن لا نستطيع أن نستشف من بين أقوال الفريقين ما يجعلنا نميل الميل كله إلى رأيه، وأكبر ظننا أن احترام المرأة أو احتقارها، لم يكن أمرا عاما عند كل الناس، ولا في جميع الطبقات، ونرى - لزاما علينا - أن نقرر هنا أن الإسلام كان له الفضل الأكبر في رفع مستوى المرأة ووضعها في المركز اللائق بها.
الزواج والأسرة
كان العرب يعددون الزوجات، ولم يكن هناك حد معروف لعددهن، ولعل ذلك كان نتيجة لزيادة عدد النساء على الرجال بسبب قتل الرجال في الحروب، وكانوا يطلقون، فإذا أراد الرجل أن يطلق زوجته يقول لها: الحقي بأهلك، أو ما يماثل ذلك، وكان للمرأة في بعض الأحيان الحق في أن تطلق نفسها، وطلاق المرأة كان يعرف بأن تحول باب بيتها المصنوع من الشعر أو الوبر أو الجلد إلى جهة عكس جهته الأصلية، ولكن الجمهور كان يجعل حق الطلاق للرجل، وكان الرجل يرتبط بالمرأة بعقد زواج، بعد رضائها ورضاء أوليائها، وبعد أن يتفقوا على مهر معين، وكان بعضهم يتغالى في مهر البنات حتى يبلغ مبلغا عظيما.
وقد كانت هناك بعض أنكحة فاسدة أبطلها الإسلام نخص بالذكر منها: (1)
نكاح البغايا. (2)
نكاح الاستبضاع. (3)
نكاح الجمع. (4)
نكاح المقت: وهو أنه إذا مات الرجل وترك زوجة وله أولاد كبار قام أكبرهم ووضع عليها ثوبه، فيرث بذلك زواجها، فإذا لم يكن راغبا في نكاحها زوجها إلى من يريد من إخوته الباقين بمهر جديد. (5)
أنكحة أخرى شاذة: كنكاح الأمهات والبنات والجمع بين الأختين، ولكن هذا كان نادرا، ولعله تسرب إليهم عن طريق المجوس، وقد أطلق في الإسلام على كل هذه الأنكحة السابقة اسم السفاح، ونحن نميل إلى الاعتقاد بأن ذلك كان مقصورا على فئات خاصة منهم؛ لأن ما عرف عن العرب من المحافظة على الأنساب والغيرة على العرض والشرف - يجعلنا نعتقد أن ذلك لم يكن شائعا إلا في أحط الأوساط، وكانت لدى العرب بعض العادات المستهجنة، من ذلك: أن الرجل كان إذا قابل آخر ليس من قبيلته - ومعه ظعينة - تقاتلا، فإن غلبه أخذ الظعينة، واستحلها لنفسه.
كذلك كان بعض العرب يئدون بناتهم أحيانا، وقد اختلف الباحثون في البواعث التي كانت تحملهم على الوأد، ففريق منهم يقول: إن الباعث كان الإملاق وعدم القدرة على تربية الأولاد، وآخرون كانوا يقولون: إن الباعث كان الحرص على صيانة العرض، وخشية أن تجر البنت العار على عشيرتها في المستقبل، وقد وصل الدكتور علي عبد الواحد أستاذ الاجتماع بكلية الآداب إلى رأي جديد يقول: إن وأد البنات كان لدافع ديني بحت؛ ذلك لأن العرب كانوا يعتقدون أن البنات رجس من خلق الشيطان، أو من خلق آلهة غير آلهتهم، ينبغي التخلص منهن، ونحن نرى أن هذه الأسباب مجتمعة قد تكون السبب في الوأد، ونذكر في هذه المناسبة أن الوأد لم يكن قاصرا على البنات، بل كان يشمل الأولاد الذكور أيضا، وأنه كان شائعا في بعض الطبقات المنحطة، وقليل الشيوع بين الطبقات الراقية.
وكانت معاملة العربي لابنه تنطوي على الحنان والمحبة، يربيه ليكون درعا يتقي به العدو، ولذلك كانوا يتخيرون لأبنائهم شر الأسماء، مثل: أسد وكلب وثور وفهر وصخر.
أما معاملته لأخيه وابن عمه فكانت تنطبق على المثل الجاهلي - الذي أشرنا إليه آنفا - وهو انصر أخاك ظالما أو مظلوما، وكانوا يسيرون عليها بمعناها الحقيقي لا المعنى الذي تعورف عليه بعد الإسلام؛ بأن نصرة الظالم تكون بالأخذ فوق يديه.
بعض عادات العرب ومعتقداتهم الميثولوجية
نعدد فيما يلي بعض العادات التي يصادفها الباحث - مفصلة ومبينة في أخبار العرب وأشعارهم: (1)
كان إذا مرض أحد الملوك أو الزعماء - حملته الرجال على أكتافها يتعاقبون. (2)
تحريم الخمر على أنفسهم حتى يثأروا لقتيلهم. (3)
التعقية أو سهم الاعتذار، وأصل هذا: أن يتقدم جماعة من أهل القاتل إلى أولياء المقتول - إن كانوا من غير ذوي البأس - فيطلقون سهما نحو السماء، فإن رجع مضرجا بالدم امتنعوا عن أخذ الدية، وإن رجع كما صعد مسحوا لحاهم وصالحوا على قبول الدية. «قال ابن الإعرابي: ما رجع قط إلا نقيا، ولكنهم يعتذرون به عند الجهال.» (4)
الخلع واللعن، فأما الخليع فهو الذي خلعه أهله وتبرءوا منه لخبثه، فكان الرجل يأتي بابنه إلى الموسم، فيقول خلعت ابني هذا فإن جر لم أضمنه وإن جر عليه لم أطلبه.
وأما اللعين: فهو تمثال الرجل الغادر، كان يجعل من طين وينصب، وقد أبطل الإسلام هاتين العادتين. (5)
جز النواصي: فكانت العرب إذا أنعمت على الرجل الشريف بعد أسره جزوا ناصيته «وهي الشعر في مقدم الرأس فوق الجبهة» فتكون الناصية عند الرجل الآسر يفتخر بها. (6)
شد اللسان: وذلك أنهم كانوا إذا أسروا أسيرا وكان شاعرا ربطوا لسانه بنسعة «سير منسوج». (7)
خضاب نحور الخيل: فكانوا إذا أدرك خيلهم الصيد يخضبون نحر السابق بدم الصيد، وقد بطلت هذه العادة بعد الإسلام. (8)
وأد البنات وقتل الأولاد وقد تكلمنا عنهما في الفقرة السابقة. (9)
حبس البلايا في الولايا: وذلك أن الرجل إذا مات - كانوا يشدون ناقته إلى قبره، ويقبلون برأسها إلى ورائها، ويغطون رأسها بولية «برذعة» فإذا أفلتت لم ترد عن ماء ولا مرعى، ويزعمون أنهم إذا فعلوا ذلك حشرت معه في الميعاد ليركبها. (10)
الهامة: كانوا يزعمون أن الإنسان - إذا قتل ولم يطالب بثأره - خرج من رأسه طائر كالبومة يسمى الهامة، وصاح اسقوني اسقوني حتى يطالب بثأره. (11)
تصفيق الضال: كان الرجل - إذا ضل في الفلاة - قلب ثيابه ، وحبس ناقته، وصاح في أذنها بكلمات خاصة، وصفق بيديه، ثم يحرك الناقة، فيزعمون أنها تهتدي إلى الطريق. (12)
ضرب الثور ليشرب البقر: كانوا يزعمون أن الجن تركب الثيران فتصد البقر عن الشرب، فيضربون الثور ليشرب البقر. (13)
مسح الطارف عين المطروف: كانوا يزعمون أن الرجل إذا طرف عين صاحبه فهاجت، فمسح الطارف عين المطروف سبع مرات سكن هيجانها. (14)
كي السليم من الإبل ليبرأ الجرب منها: كانوا يزعمون أن الإبل إذا شمت رائحة كي الصحيح، برئت من جربها. (15)
ذهاب الخدر من الرجل: كانوا يقولون: إن الرجل إذا خدرت رجله، فذكر أحب الناس إليه ذهب الخدر. (16)
رمي سن الصبي المثغر في الشمس، يقولون: إن الغلام إذا أثغر فرمى سنه في عين الشمس بسبابته وإبهامه، فقد أمن على أسنانه العوج والفلج والثغن. (17)
العياقة: وهي زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها واتجاهاتها وممراتها، وبذلك يتشاءمون ويتفاءلون. (18)
النهيق لاتقاء الوباء: كانوا يعتقدون أن الرجل إذا قدم قريته، وخشي وباءها، ونهق قبل أن يدخلها مثل الحمار، لم يصبه الوباء. (19)
التفقئة والتعمية: وذلك أنه كان إذا بلغت إبل أحدهم ألفا، فقأ عين الفحل، فإذا زادت عن الألف فقأ عينه الأخرى، ويزعمون أن ذلك يكف العين عنها.
ونجتزئ بهذا القدر من عادات العرب وخرافتهم، ونلفت النظر إلى أن بعض هذا شائع في البيئة المصرية، وأن التاريخ والبحث أثبت أنه متوارث من أيام الفراعنة.
وننتقل الآن إلى ما نريد أن نختم به هذا الكتاب الأول، وهو وصف الحالة الثقافية في الحجاز قبيل الإسلام، ومدى ما كان لسبأ والحبشة وفارس والغساسنة واليهود من آثار فيها.
تأثر الحجاز بثقافات الأمم المجاورة
على الرغم من أن الحجاز لم يكن قبيل الإسلام واقعا في مجرى التيار العالمي من ناحية الثقافة، إلا أنه لم يكن بمنأى عنها فلقد تسربت إليه من بلاد العرب الجنوبية بعض الآثار الثقافية، مما لقحت به لغة العرب الشماليين، ونقصد بها لغة قريش التي تمكنت في هذا القرن السابق على الإسلام من أن تسود لغات العرب أجمعين، وتصبح لها الصدارة بين كل لهجاتهم ، فألفاظ الرحمن والرحيم وشرك وكفر وغيرها هي ألفاظ جنوبية، سلكت سبيلها إلى الحجاز واستعملت في المعاني التي كانت تطلق عليها في الجنوب كما تدل على ذلك النقوش التي كشفت حديثا.
كذلك كان لسكان الحبشة الساميين أثر في ثقافة الحجاز، وقد سبق أن درسنا أن الحبشة كانت تشترك مع دولة حمير في احتكار تجارة التوابل والأفاوية في العالم القديم، التي كان الحجاز طريق نقلها الهام، ودرسنا أيضا بأنه في الخمسين سنة السابقة لميلاد النبي عليه السلام، كانت الحبشة تحكم اليمن، وأنه في عام ميلاده - أي عام الفيل - كانوا يهددون مكة والكعبة بالغزو، وكانت مكة نفسها مقرا لكثير من الأحباش الذين كانوا - في الغالب - يعتنقون المسيحية، وكان بلال مؤذن الرسول عبدا حبشيا، وفي القرآن الكريم إشارات كثيرة إلى البحر وركوبه وأمواجه، وكان العرب يعرفون هذا بسبب علاقاتهم البحرية مع الحبشة، وفي تاريخ السيرة: أن المسلمين المضطهدين من قريش الوثنية، هاجروا هجرتهم الأولى إلى الحبشة.
وإذا تعقبنا الألفاظ العربية التي ترجع إلى أصل حبشي، وجدنا فيها ما يثبت لنا ذلك التأثر الثقافي، ومن هذه الألفاظ نذكر الكلمات الآتية: برهان - حواريون - جهنم «وأصلها عبري» - مائدة - ملك «أحد الملائكة وأصلها عبري» - محراب - منبر - مصحف - شيطان، وقد أورد السيوطي في كتابه الإتقان الكثير من الكلمات الأعجمية التي وردت في القرآن.
وفي القرن السابق لتأسيس الإسلام كان كل من فارس والحبشة يتنازعان السيطرة على اليمن، ولقد انتقلت فنون فارس الحربية إلى الحجاز عن طريق اليمن، كما انتقلت - أيضا - عن طريق الحيرة، ومن المعروف أن سلمان الفارسي هو الذي أشار على الرسول
صلى الله عليه وسلم
بحفر خندق حول المدينة في غزوة الأحزاب، وكانت الحيرة من العوامل التي نشرت الثقافة الفارسية في بلاد العرب، كما كان لها أثر في نقل بعض مظاهر الثقافة الآرامية النسطورية قبل أيام الرسول، ولما كان النساطرة أنفسهم متأثرين بالحضارة الإغريقية، فقد كانوا أيضا واسطة في نقلها مع ثقافتهم والثقافة الفارسية إلى قلب بلاد العرب الوثنية، ومن الألفاظ الفارسية التي دخلت إلى اللغة العربية لفظ الفرند «السيف» - والفردوس - وسجيل «حجارة» - والبرزخ - وزنجبيل - وخندق - وغيرها.
وكما كان لنساطرة الحيرة هذا الأثر الثقافي في الحجاز، كذلك كان ليعاقبة الغسانيين أثر في شعب الحجاز أيضا، وقد نقلوا إليه ما تأثروا هم به بحكم جوارهم لبيزنطة، ومن الأسماء التي شاع استعمالها نقلا عنهم أسماء داود - وسليمان - وعيسى وغيرها من الأسماء التي شاعت إلى حد ما قبيل الإسلام في بلاد العرب، على أننا يجب ألا نغالي كثيرا في هذا الأثر من اليعاقبة والنساطرة؛ لأن المسيحية - كما بينا في فقرة [المسيحية ببلاد العرب] - لم ترسخ أقدامها في بلاد العرب، ومن الألفاظ التي نقلها مسيحيو الغساسنة إلى اللغة العربية ما يأتي: كنيسة - وبيعة - ودمية - وصورة - وقسيس - وصدقة - وناطور - ونير - وفدان - وقنديل «وهذه مأخوذة من أصل لاتيني هو كنديل» - وقصر «وهذه مأخوذة من كسترم اللاتينية التي تحولت إلى قسطرا السريانية وقصر الآرامية.»
وتأثرت بلاد العرب بالتوحيد اليهودي، كما تأثرت بالتوحيد المسيحي؛ وقد سبق أن قلنا: إنه كان لليهود مستعمرات زاهرة في المدينة، وبعض الواحات الخصبة في شمال الحجاز، ومن الألفاظ التي دخلت العربية عن طريق العبرية لفظ جبريل - وصورة - وجبار، وقد أورد الجمحي في كتابه طبقات الشعراء تراجم الكثير من شعراء اليهود في المدينة، كما روى صاحب الأغاني كثيرا من أشعار اليهود ، ولكن الشاعر الوحيد اليهودي الذي وصلنا ديوانه - هو السموأل «صمويل» صاحب الأبلق قرب تيماء، وهو معاصر لامرئ القيس الكندي، على أنا لا نستطيع إذا تصفحنا شعره أن نتبين فيه ما يميزه عن بقية الشعر الوثني، وهذا هو الذي حدا بكثير من النقاد إلى الشك في يهودية السموأل، وقد سبق أن قلنا: إن اليهودية أصبحت في عهد ذي نواس دين الدولة الرسمي في اليمن.
وقصارى القول وحماداه أنا نستطيع أن نقرر باطمئنان أن بلاد الحجاز كانت في القرن السابق لبعثة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، تدوي بأصداء من تأثرات مختلفة بين عقلية ودينية ومادية، منعكسة من بيزنطة والشام وفارس والحبشة، سلكت سبيلها من ناحية الغساسنة واللخميين واليمن، ولكن إلى جوار ذلك نستطيع أن نقرر أيضا أن الحجاز لم تكن اتصالاتها بهذه النواحي من الحيوية بحيث تستطيع أن تطبع نفسها بذلك الطابع العالي لهذه الحضارة الشمالية.
ويخيل إلينا أن وثنية شبه الجزيرة قد وصلت - في هذا الدور - إلى درجة فشلت معها في أن تكون غذاء روحيا للشعب العربي، وكانت كافة الملابسات - وبخاصة بعد أن فشلت اليهودية والمسيحية في تثبيت أقدامها - تنبئ بأن تغيرا لابد أن يحدث، لقد كان الناس جياعا إلى الغذاء الروحي وعافت نفوسهم ما قدمته إليهم المسيحية واليهودية، فتلمسوا ذلك الغذاء الروحي في الحنيفية القديمة دين إبراهيم، ولكنهم كانوا حيارى، لقد عمت الفوضى في عالمي السياسة والدين، وكانت لحظة رهيبة، وكان العالم العربي بأجمعه، أو الشطر الأكبر منه على الأقل في حالة نفسية رائعة، كأنما كان ينتظر بفارغ الصبر ظهور دين عظيم، وزعيم قومي كبير، وإذا بالعناية الإلهية، المطلعة على خلجات الصدور، وخفايا الآلام، تبعث بالزعيم العربي ونبي الإسلام سيدنا ومولانا محمد عليه أفضل صلاة وأزكى سلام.
অজানা পৃষ্ঠা