شكر وتقدير
مقدمة
1 - بحث الكاميرا في العالم
2 - استكشاف المحرر للشكل
3 - آلة العرض بوصفها مصباحا للمشاهد
4 - تطور موضوعات السينما
شكر وتقدير
مقدمة
1 - بحث الكاميرا في العالم
2 - استكشاف المحرر للشكل
3 - آلة العرض بوصفها مصباحا للمشاهد
4 - تطور موضوعات السينما
ما هي السينما!
ما هي السينما!
من منظور أندريه بازان
تأليف
دادلي أندرو
ترجمة
زياد إبراهيم
مراجعة
جلال الدين عز الدين علي
إلى ديفيد بروموفيتش وفرانشيسكو كاسيتي.
شكر وتقدير
جاء هذا الكتاب ثمرة الحلقات النقاشية التي قدمتها ضمن برنامج الدكتوراه في دراسات السينما في جامعة ييل. يعرف المشاركون في هذا البرنامج، على مدار السنوات الخمس الماضية، مقدار ما شاركوا به في تصميمه، وفي نقاشه، سواء أأعجبهم هذا أم لم يعجبهم. خضنا نقاشات حماسية حول ما كانت عليه السينما، وما يمكن أن تصبح عليه في حياتهم. أعرف أنهم استفادوا - وإن لم يكن بما يداني استفادتي - من قراءة أعمال كل من: جاريت ستيورات وماري آن دون وديفيد رودوفيك وفيفيان سوبشاك وديفيد بوردويل وفريدريك جيمسون ويوري تزيفيان وجيمس لاسترا وفيل روزين وروبرت راي وكريستيان كيثلي وتوم جاننج وإدوارد برانيجان، ومن مقابلتهم. كما استفادوا بقدر أكبر من زملائي الذين جعلوا برنامج ييل الناشئ نابضا بالحياة والنشاط. كما صقلت أفكاري بفضل المحادثات المستفيضة مع كثير من هؤلاء، وخصوصا: فرانشيسكو كاسيتي ونوا ستايماتسكي وجون ماكاي وتشارلز ماسر وبريدجيت بوكر وديفيد جوسليت. كانت مدينة تورونتو الموطن الثاني الذي ترعرعت فيه أفكار هذا الكتاب؛ إذ تبلور هذا الكتاب عام 2004 في مركز الدراسات الإنسانية في جامعة تورونتو؛ حيث نظم تشارلي كيل حلقة نقاشية مكثفة بحضور ستة طلاب موهوبين. وانتهى الكتاب عام 2009 في جامعة يورك؛ حيث دعتني تيمينوجا تريفونوفا لاختبار الفصول التي كتبتها، في مناخ فكري مثالي. وخلال تحضيري لكل هذه الحلقات النقاشية، نشأت أهم الأفكار التي عنت لي في حوار مثير مع أنجيلا دالي فاتشي، ومن محادثات مستمرة مع جيمس تويدي وناتاشا دوروفيكوفا ودانيل مورجان وبراكاش يانجر ولويس شوارتس. ثم يأتي دور توماس إلسيسر الذي كان دائما صاحب إدراك حاد، وذكاء بلا حد ، في ييل وعبر العالم. وينبغي أن يكون التبادل الأكاديمي دائما غزيرا ومفيدا هكذا.
علمني كثير من الباحثين الفرنسيين، بالمثال كما بالنقاش، أهمية وجود أكثر من توجه لنظرية الفيلم، ومن هؤلاء: ريموند بيلور وروجيه أودان وجاك أومو وميشيل لاني ومارك فرنيه وميشيل ماري وفيليب دوبوا. منذ سنوات مضت، شجعني جون ناربوني، وكذلك أندريه لابارت، فيما كتبته عن الناقد الفرنسي أندريه بازان، وكان رائعا البقاء على تواصل معهم. ذكرني حضورهم بغياب جانين بازان التي كانت صديقة عزيزة. يحزنني ألا أستطيع أن أرسل إليها ما كتبته. أود شكر كل من في دورية «كاييه دو سينما» التي زرتها مرارا كي أستحضر عبق تقاليدها، وأتحدث مع كلودين باكو وإيمانويل بوردو وجون ميشيل فرودون، الذين واصلوا ذلك التقليد على نحو مبهر ووسعوه، حتى حينما كانت ملكية الصحيفة تتبدل. ولعلها تصمد وتستمر في الإسهام في ثقافة فرنسا السينمائية الفريدة. ولسعادتي، قابلت جون ميشيل في أنحاء مختلفة من العالم، وخصوصا في نيو هيفن؛ حيث كان برفقته أكثر من مرة - بفضل دلفين سيل وساندرين بوتو، العاملتين في مكتب الخدمات الثقافية الفرنسية في نيويورك - أرنو ديبليشان الذي أصبحت أكثر إعجابا بأفلامه بعد أن سمعته يتحدث باعتزاز شديد عن بازان وتروفو وداني. لكن الفضل الأكبر أدين به لهيرفي جوبير-لورينسان؛ لمساهمته فيما نعرفه عن بازان، والطريقة التي سنفكر بها فيه في المستقبل. لا أدين له فقط بكثير من الأفكار المكونة لجوهر هذا الكتاب، ولكن أيضا بالطموح للبحث عن جانب من فكر بازان أكثر مدعاة للحيرة، ثم قراءة أعماله في ضوء معايير الماضي المحافظة، وبكامل عطائه. أخذني هذا المسعى إلى أماكن كثيرة، وأفلام كثيرة، وظل يفعل ذلك سنوات كثيرة - وإن لم يكن هذا كافيا بعد - بصحبة ستيفاني.
دعيت لاختبار بعض من هذه الأفكار بصورة مبدئية في معاهد عدة. دعوني أخص بالذكر بعض المحادثات التي لا تنسى في جامعة بيتسبرج مع كولين ماكيب، وفي جامعة ستانفورد مع سكوت بوكاتمان وبافلي ليوي، وفي جامعة كونكورديا مع مارتن لوفيفر، وفي جامعة فاندربيلت مع سام جرجس ، وفي جامعة كامبريدج مع ديفيد تروتر.
طبعت أقسام مختلفة من هذا الكتاب في مطبوعات مثل: «فيلم كوارترلي» المجلد 57 (العدد 3) والمجلد 61 (العدد 4)، و«سينماز» المجلد 17 (العدد 2)، وكتاب «عتبات السينما» (شيكاجو: أودين، 2007).
أما غلاف النسخة الإنجليزية من الكتاب والمأخوذ من كتاب «جمهورية الصور» لآلان وليامز، فهو مهدى من دار نشر جامعة هارفرد؛ وجميع حقوق الطبع محفوظة للرئيس وللزملاء في هارفرد كوليدج. وأعيدت طباعة غلاف كتاب «السينما الفرنسية: من بداياتها حتى الآن» لريمي فورنييه لانزوني بإذن من مؤسسة كونتنيووام؛ وحقوق الطبع محفوظة لكونتنيووام إنترناشونال بابليشينج جروب، 2004.
دادلي أندرو
مقدمة
هدف دراسات السينما
لا يظهر جوهر أي شيء في البداية، ولكن في منتصف الطريق، أثناء تطوره، حينما تتأكد قوته.
جيل دولوز، «السينما 1»
1
ما هي السينما؟ دعوني أريكم!
هذه هي المهمة السامية لهذا «البيان»، وهي مهمة أود إنجازها بالاستعانة بأمثلة كثيرة؛ ففي نهاية المطاف، تجسد سعي بازان في 2600 مقال «راجعت»، بكل ما تعنيه الكلمة، عددا ضخما من الأفلام من جميع الأنواع. لكن لهذا الكتاب مهمة أخرى؛ فحتى لو كانت هناك مساحة كافية، فلن أذكر الكثير من الأفلام؛ لأنه ليس أي عنوان ننتزعه من آلاف العناوين التي تتدفق كل عام عبر أجهزة العرض يفي بالغرض؛ وليست كل لفة من أشرطة السيليولويد المصورة تنتمي إلى صنف «السينما» وفق فهمي لتعريفها.
بالطبع، يتعلق الأمر بالتعريف. لذا، دعوني أتحدث بطريقة مباشرة: أخذت السينما شكلها المحدد عام 1910 تقريبا، وبدأت تتشكك في تكوينها في وقت ما في أواخر ثمانينيات القرن العشرين. لست أول من أصدر هذا الإعلان المتأخر عن ميلادها؛ فقد فعل ذلك إدجار موران عام 1956 في كتابه «السينما أو الإنسان الخيالي»؛ إذ عنون أحد فصوله «تحول السينماتوغراف إلى سينما».
2
والواقع أن موران كان يذكر بتوسع فكرة طرحها أندريه مالرو في مقاله في عام 1940 بعنوان «مخطط لسيكولوجية السينما» الذي ميز بفعالية بين العروض «التقديمية» الجذابة التي أنتجها اختراع الأخوين لوميير وبين «التمثيلات» المكونة من تجميع لقطات تستغرق المشاهد، لكنها تبدو مستقلة عنه.
3
وقد برر جيل دولوز في عام 1983 رفض هنري برجسون في عام 1908 للآلة، بالإصرار على أن الفيلسوف لم يأخذ في اعتباره إلا آلة «السينماتوغراف»، ولم يكن قد شعر بعد بالفرق الذي تمثله السينما التي انبثقت بعد ذلك بفترة قصيرة بوصفها طفرة كاملة.
4
صمم دولوز مصنفه المذهل لأنواع الأفلام، مصرحا بمزاعم كبرى عن براعة هذا الفن، مع بدء إدخال العمليات الرقمية في أساليب الإنتاج في الاستوديو، وحينما كانت شرائط الفيديو قد بدأت في تغيير ملامح التوزيع والعرض. بعد دولوز، ظهرت طفرة جديدة سميت إجمالا «الوسائط الجديدة»، وهي التي وضعت هيمنة السينما المتفاخر بها موضع الشك، على أقل تقدير.
والواقع أن دراسات السينما التقليدية تمر بحالة دفاعية؛ لأن «فكرة السينما» آخذة في التغير من حولنا. يجمع الدارسون الشباب، وهم يراهنون على المستقبل، ببلوجرافيات تتحدث عن «اضمحلال السينما وموتها»؛ ويستخلصون دروسا من كتاب سيجفريد زيلينسكي المعنون بجرأة ب «رؤى سمعية: السينما والتليفزيون بوصفهما محطتين في التاريخ».
5
هل مرت السينما بالفعل بتحول لا علاج له؛ لكونها حساسة جدا للتغيرات في التكنولوجيا والثقافة (أكثر حساسية من الرواية على سبيل المثال؟) حتى لو كان هذا صحيحا، فأنا أعتبر أن السينما مميزة داخل نطاق الظواهر السمع-مرئية. يهدف هذا التمهيد إلى فك بعض الخلط في الأفكار المتبقية عقب موجة المد الرقمي. بعد ذلك، يمكنني رسم مخطط جمالي للسينما لا يدين بأي شيء لما هو رقمي، وإن كان من الممكن أن يتعايش مع التكنولوجيات الجديدة ويستفيد منها. في حقيقة الأمر، ليس المد الرقمي موضع نقاش في هذا الكتاب بقدر «خطاب المد الرقمي» الذي قد يقلل بعضه بتكبر من مركزية السينما نفسها أو يتجاوزها.
لا أقصد هنا تنفير المخلصين لمقولات ما بعد الفيلم أو ما قبل السينما بالقول إننا ندرك ما الذي كانت السينما تظنه عن نفسها حينما كانت تتقدم دون أن يتساءل أحد عن هويتها وقدرتها، وحينما حققت إدراكا مكتملا لمكانتها وإمكانياتها، وزادته تفصيلا. يستطيع المرء أن يشير إلى التنوع الكبير في الصيغ التي تندرج تحت أسماء مثل «بدايات السينما» و«الوسائط الجديدة» ويتمتع بتميزها؛ ويركز في الوقت نفسه مع ذلك على ما أصبحت عليه السينما في أيام مجدها وما لم تزل عليه، كما سأوضح. لذا، دعونا نضع المعيار العام نصب أعيننا، ونركز على الهدف دون أن نبدي حنينا إلى الماضي أو نكوصا. فالأفلام التي طورت شكلا متماسكا بعد الحرب العالمية الأولى، واستمرت فوق القمة سبعين عاما، بوصفها الشكل الفني الأشهر والأكثر حيوية، تبرز بقوة للمشاهدة والمراجعة. ما هو المرشح الآخر الذي يمكن أن يعرفه زيلينسكي بأنه «محطة في التاريخ»، باستثناء الفيلم الروائي الطويل القوي الذي يرى أنه سد الباب لفترة أطول مما ينبغي، مانعا دخول أي وسائط أخرى؟ ماذا أيضا في أذهان النقاد حينما يقولون إن السينما في اضمحلال فيما عدا الأفلام الروائية الطويلة كما عرفناها ودرسناها؟
بالطبع، طالما كانت هناك أنواع أخرى من الأفلام التي تمثل «أفكارا عن السينما» مختلفة عن هذا النوع السائد. ماذا سنسمي منتجات العقد الأول من عمر وسيط السينما، حينما لم تكن كلمة «مبتكر» تنطبق فقط على من يطلبون براءات الاختراع، ولكن أيضا على الحرفيين الذين صنعوا الأفلام، ورواد الأعمال الذين مولوها، ووجدوا جماهير (أو كونوها)؟ أيا ما كان الاسم الذي أطلق على هذا الوسيط، فقد تطور مرتبطا بالممارسات الصحفية والترفيهية والعلمية، وحتى الروحية، التي أثر كل منها في صناعة الأفلام الوليدة وفي مشاهدتها، كل بطريقته. يحدد اسم «سينما العروض الجذابة» فكرة ما عن السينما، كانت منتشرة في تلك الفترة. ويتضمن وينظم استخدامات معينة للتكنولوجيا، وممارسات معينة لصناع الأفلام والعارضين، فضلا عن عادات المتفرجين ورغباتهم التي تتجلى في شهادات كتبها صحفيون ومعلقون ثقافيون؛ بل إنه يتضمن بالفعل، وعلى نحو خاص، البروتوكولات والقوانين التي أرسيت لتنظيم هذه الظاهرة الجديدة.
أصبحت «سينما العروض الجذابة» منذ تطويرها في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، فكرة قوية ومميزة عن السينما. وبغض النظر عن النتيجة، فإن التنوع الرائع الذي ضمته هذه الفكرة المتميزة، حل محله تدريجيا نمط قصصي منظم، أو حول إلى هذا النمط، ثم أصبح بعد ذلك ما سمي «النظام الكلاسيكي»، أو «نظام الاستوديو». ولا تنطبق هذه الفكرة فقط على صناعة ترفيه متكاملة، ولكن على تصور لناتج هذه الصناعة البراق، وهو الفيلم الروائي الطويل. وسواء أصدر هذا الفيلم من أحد استوديوهات هوليوود الثمانية، أم أنتج في أي مكان في العالم، في صورة «الأفلام الاعتيادية»، فإن السينما الكلاسيكية سيطرت على فترة ما بين الحربين العالميتين؛ وبالفعل، مثلت النمط السائد بعد ذلك بفترة طويلة (ولم تزل تعرض، وتستحوذ على نصيب كبير من الشاشات في مجمعاتنا السينمائية اليوم). لكن بحلول عام 1965، أدرك أي شخص له اهتمام عميق بالسينما قيود المفهوم الكلاسيكي. حتى في عقدي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، تنافس كثير من الأفلام «غير الاعتيادية» مع الأنواع السائدة، وعادة ما كانت تدعمها الأفكار السياسية أو الجمالية للمنتجين المستقلين أو مؤسسات الدولة. وبمزيد من الإلحاح، سألوا: كيف ينبغي أن تعمل الأفلام في المجتمع؟ وكيف ينبغي أن تصنع وتشاهد؟ وكيف ينبغي أن يكون شكلها وصوتها؟ منذ عشرينيات القرن العشرين حتى ظهور «الموجة الجديدة». كانت هذه الأسئلة يجاب عنها ببدائل جريئة ومتحفظة في آن واحد، حادت بعيدا عن العرف السائد الذي كان هناك إحساس مع ذلك بأنه مهيمن، إن لم يكن حتميا.
وخلال العصر الذهبي لنظام الاستوديو، بقيت أقوى الأفكار البديلة عن السينما، باستثناء الرسوم المتحركة، حية في أنماط غير روائية؛ مثل: الوثائقيات والأفلام التجريبية والأفلام القصيرة، وكذلك في الأفلام التعليمية والصناعية وأفلام الهواة. كل تلك الأنواع، وكذلك الأفكار المستفيضة المتعلقة باستخدامات السينما وقدراتها التي وضعت موضع التطبيق، تجبرنا على النظر إلى الوسيط السينمائي نظرة شاملة وواسعة؛ حيث تحتفظ بمساحة يمكننا رسم مخطط لها على هيئة دوائر متحدة المركز، تقع على مسافات مختلفة من الهدف المركزي، وهو الفيلم الروائي الطويل. هنا، نتبع خطى أندريه بازان الذي ربما أعجبته «عبقرية النظام»، وكتب بكثرة عن تشارلي تشابلن وبريستون ستورجس ووليام وايلر، فضلا عن أفلام الغرب، لكنه شعر بأنه يجب عليه بالقدر نفسه الاحتفاء بالرسوم المتحركة (مثل أعمال نورمان ماكلارين) والمجموعات الأرشيفية (باريس 1900)، وأفلام جون بانلوفي العلمية الغريبة القصيرة. مع ذلك، فإن التركة النقدية - التي منحت طابعا مؤسسيا - المحيطة بالأفلام الروائية الطويلة، تسببت في أكثر النقاشات حدة وقوة في نظرية الفيلم، وهذا بلا شك بسبب التبعات الاجتماعية لشيوع هذ الأفلام، وتداخلها السهل مع جماليات الرواية والمسرح، وكذلك ارتباطها بسوق الترفيه في العالم كله.
مثل هذه النقاشات، سواء أكانت بسبب أفكار آتية من داخل عالم الفيلم الروائي التخيلي، أم بفعل تحدي النماذج التي تحيط به من الخارج، جعلت دراسات السينما أحد أكثر المجالات المفعمة بالنشاط في العلوم الإنسانية على مدار العقود الخمسة الماضية. واحتمال اضمحلال هذه النقاشات هو أدعى للقلق من التحول المحتمل لموضوعها؛ ذلك لأن فهمنا المتزايد النضج للطريقة التي عملت بها الأفلام، وكيف أصبحت تعمل بهذه الطريقة، يمكن أن يرشد دراسة أي «سمع مرئيات» تجذب انتباهنا، سواء تلك التي كانت موجودة قبل ظهور الأفلام أو تلك التي ظهرت في هذا القرن الجديد. ومثل عامة الجمهور، انجذب الدارسون والمفكرون نحو السينما الروائية بسبب حجمها الكمي المجرد، وبسبب آثارها النفسية الاجتماعية، وبسبب الجهود الإبداعية الذي بذلها أولئك الذين سعوا لتغيير مسيرتها من داخل الوسيط أو من خارجه. انحرف كثير من أفضل العقول في العلوم الإنسانية عن مساعيهم الأدبية أو الفلسفية أو الثقافية الاجتماعية أو التاريخية لتفسير طبيعة أكثر وسائط القرن العشرين مهابة. لقد أنتجوا في الكثير من الأحيان مقولات ومواقف معقدة وإبداعية وحماسية، كما أنتجوا طريقة في التفكير، ونموا غريزة للنظر والاستماع. وحتى إذا كان معظم ما كتب يمكن تجاهله بلا خسارة حقيقية، فإن هذا الخطاب - هذا الدفع لفهم كيفية عمل الفيلم الروائي - قيم. وسيكون معنى إدراج هذا داخل فكرة أشمل عن تاريخ السمع مرئيات، أو تبديده في مجال الدراسات الثقافية المثير للارتباك، أو أن يصبح - على سبيل المثال - مساحة اختبار أخرى لدراسات الاتصال، هو فقدان شيء كانت قيمته مستمدة دائما من الكثافة والتركيز اللذين تستدعيهما الأفلام وتستلزمهما أحيانا.
شجع ظهور التكنولوجيا الرقمية زيلينسكي وآخرين على رفع أبصارهم عن السينما التقليدية بوصفها الهدف الرئيسي لما أخذ اسم دراسات السينما. وبالفعل، يبدو العمل الأكاديمي مشتتا، على الأقل لحظيا ؛ حيث حيدت مسائل الوسائط الجديدة والعمليات الرقمية الموضوعات النظرية الأخرى في المنشورات والمؤتمرات أو احتلت موقعها. ظهرت مجموعة أخرى من التصورات في كل مستوى، من الإنتاج إلى المشاهدة. وبدلا من تأييد التصريحات التي ظهرت في الألفية الجديدة بشأن التحول الكامل لنطاق الوسائط الإعلامية أو شجبها، دعونا نستغل فرصة الانعطاف الرقمي للسينما الذي لا يمكن إنكاره، لإعادة التفكير في ماضي الفن السينمائي وقدرته الكامنة.
تفترض جماهير اليوم أن صناع الأفلام يصنعون تجارب سمع مرئية بالكامل، مشجعين فكرة أن الأفلام لم تكن دائما إلا مجموعة من المؤثرات الخاصة، أو ما يسمى «أثر السينما»، كما عنون شون كيوبيت كتابه الطموح.
6
هذه هي الرؤية التي يقترحها ليف مانوفيتش بطريقة مباشرة؛ فالأفلام من وجهة نظره أدوات تخدم هدفين؛ وهما: «الكذب، والتمثيل».
7
وبتقديمها بهذا الشكل، تتوافق السينما على نحو مثالي مع التاريخ السياسي والاجتماعي، بينما تنشر الأفلام، بوصفها «آلات عرض الأشياء المرئية»،
8
إما لبناء تمثيلات مصممة سلفا، مضللة لا محالة (أو «متحيزة»، بتعبيرنا)، وإما لاستخراج رد فعل مباشر ومحسوب من المشاهد.
أقصد هنا تقديم فكرة جد مختلفة عن السينما، وهي فكرة لا تتوافق مع أي من عنوان كيوبيت أو نصوص مانوفيتش: فالسينما ليست - أو لم تكن دائما - وسيطا يتعلق بالمؤثرات الخاصة في المقام الأول. الأفلام، التي يهتم بها بعضنا أكبر اهتمام، ويعتبرونها محورية لمشروع السينما كله، لها مهمة أخرى مختلفة تماما عن الكذب أو الإثارة؛ تهدف للاكتشاف والالتقاء والمواجهة والإفشاء. إذا كان هناك شيء يتعرض للخطر بسبب الثقافة السمع-مرئية الرقمية الجديدة، فإنه الشهية لهذه اللقاءات التي يمكن أن تنتجها هذه الرحلات الاستكشافية. من الواضح أن كثيرا من الناس يشعرون أن العالم، والبشر الذين يسكنونه، تم استكشافهم بما يكفي، ولم يعد هناك ما ينتظر إعلانه، على الأقل في وسيط يهيمن عليه الترفيه والإعلان.
من قبيل المفارقة أن عددا من رحلات الاستكشاف السينمائي العظيمة الأولى انطلقت في خدمة الدعاية والإعلان. فقد مولت إحدى شركات تجارة الفراء فيلم «نانوك ابن الشمال» («نانوك أوف ذا نورث»؛ روبرت فلارتي، 1922)؛ ومولت شركة ستروين فيلم «الرحلة السوداء» («بلاك جورني»، «لا كروازيير نوار»؛ ليون بوارييه، عام 1924). وكما هو الحال مع صناع الأفلام، تحكم فلارتي وبوارييه فيما لديهما من مواد، وتلاعبا بها ببراعة من أجل التأثير، لكنهما قاما بهذا بقدر من الصعوبة الواضحة؛ حيث تضمنت الصور والأصوات المسجلة نوعا من المقاومة، محدثة اضطرابا معبرا ومهما، أعتزم إبرازه في هذا الكتاب. أصر إدجار موران على ما يأتي تحديدا: أنه بينما تعكس كل الفنون أحلامنا ورغباتنا، تفعل السينما هذا بشكل فريد من خلال العالم المادي نفسه، أو - بمزيد من الدقة - من خلال مضاعفة هذا العالم. لذا فإن كل الأفلام هي عمليات استحضار خارقة تنتمي لنا جزئيا، وجزئيا فقط. هذا الشد والجذب بين ما هو بشري وبين ما هو غريب، بين ما هو شخصي وبين ما هو دخيل، الذي استغل في كل الفترات، وفي نماذج وأنواع لا حصر لها، تزايدت أهميته خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، حتى ظهور «الموجات الجديدة» العديدة في ستينيات القرن العشرين، التي يتجلى فيها بقوة.
يشجعني جاك أومو على حصر نطاق بحثي في: «الفترة من عام 1945 حتى عام 1960 التي هي بلا نزاع أغنى الفترات، من وجهة نظر تاريخ الأفكار، بشأن الفن السينماتوغرافي.»
9
في الحقيقة، أخطط لاستكشاف ما قبل هذه الفترة، وبكل تأكيد، سأستكمل استكشاف تبعات هذه الفترة وصولا إلى وقتنا الحالي. لكن أومو على حق؛ ففترة ما بعد الحرب هذه، التي كان أندريه بازان يمارس فيها هيمنته المعطاءة، ساعدت في تعميق وجدان السينما ووعيها الذاتي، وفي الوقت نفسه، وسعت سلطانها الثقافي حتى أصبحت تقف بفخر بجانب الفنون الأخرى بوصفها مصدرا للفلاسفة والمنظرين وعلماء الاجتماع، وأي شخص مهتم بالموقف الإنساني في الحداثة.
تنطبق فكرة السينما التي عبر عنها بازان بأفضل طريقة على كل الأفلام والأصناف والأنواع، في كل الفترات. إلا أن أبرز الأمثلة التي تظهر هذه الفكرة على نحو واع تخطر على البال؛ مثل «نانوك ابن الشمال»، و«الأربعمائة ضربة» («ذا فور هندرد بلوز»، «ليه كاتر سون كوب»، 1959) المهدى إلى بازان. وإذ يخطو خارج نظام الاستوديو، بل يخطو حقا خارج الاستوديو؛ فإن فيلم «الأربعمائة ضربة» وكذلك بطله الصغير، يبحثان عن الاكتشاف في حد ذاته. في أحد المشاهد الرمزية، يتجول أنطوان دوانيل، أثناء تغيبه عن المدرسة مع «زميله في الفصل»، في حديقة ملاه؛ حيث يدخل آلة طرد مركزي بشرية. يجسد الممثل الصبي جون بيير لو شخصية دوانيل بطبيعته على أرض الواقع، ويجلس في وضع مستو على جانب الجهاز الدوار من الداخل. يبدو هذا الصبي - الذي لم يكن ممثلا بعد - الممدد في وضع النسر كمشهد أمام أعيننا، متسمرا وعاجزا، لكنه يظهر شعورا نقيا على مركبة تدور كالمنظار المحيائي، وهي تحركه. تعرض لقطة عكسية العالم كما يراه دوانيل، انقلبت الكاميرا المعانقة للحائط رأسا على عقب، ودارت بمعدل رهيب. يترنح لو الدائخ خارجا من باب الجهاز الأسطواني، يتبعه فرانسوا تروفو، الذي نلمحه في الخلفية زميل الصبي أو أخاه الأكبر، أكثر من كونه المخرج. في النهاية، سيخرج لو - هذا الصبي المجهول الذي اختير من بين مجموعة من الصبية في صيف عام 1958 - في وضع دوراني إلى نهاية الأرض، حيث يلتفت ليحدق في تروفو والمشاهد في لقطة ثابتة نهائية. ينتهي الفيلم بالخفوت التدريجي على لقطة مقربة لصبي تلقى تعليمه في الشوارع بمواجهة العالم ومواجهتنا. لن يتعرض لتلاعب «المخرج» بشكل كامل، ولن نعرفه نحن تماما.
المشاعر النقية لصبي. «الأربعمائة ضربة».
وجه لو ذو الأربعة عشر عاما، بمنزلة أيقونة لغموض السينما، وسجل للقائنا المبهم مع صبي حقيقي يؤدي دورا في قصة مسقطة على مدينة باريس منذ 50 عاما. اللقطة الثابتة، والتقطع الميكانيكي للأسطوانة، وظهور المخرج الخاطف؛ كل هذا يرفع فيلم «الأربعمائة ضربة» لمستوى تجريدي يخالف واقعية صوره (الصبي والمدينة) والقصة التي يعرضها. هذا فيلم عن تطلعات السينما بقدر ما هو عن تطلعات جون بيير لو الذي لن تعود حياته كما كانت أبدا. إنه تسجيل لمصاعب صناعة الأفلام ومتعها، وكذلك مصاعب المراهقة ومتعها، واللحظة التي ينفصل فيها الصبي اليافع عن والديه. في صدفة رمزية ومؤثرة، توفي بازان في 11 نوفمبر 1958، وهو اليوم الذي بدأ فيه تصوير «الأربعمائة ضربة». سارع تروفو ليكون بجانب معلمه ومربيه في لحظاته الأخيرة. الفيلم الذي طالما قرئ على أنه سيرة ذاتية هو أيضا فيلم عن فكرة السينما التي دعمها بازان ونقلها للابن.
في لحظة وعي ذاتي أخرى، يذهب لو وصديقه ليختبئا في السينما ثم يعودان لاحقا إلى دار العرض، وينزعان صورة للممثلة الفاتنة هارييت أندرسون التي تؤدي دور مونيكا في فيلم «صيف مع مونيكا» («سمر ويذ مونيكا»، «سومارن مد مونيكا»، 1953). من وجهة نظر تروفو وكل النقاد المتجمعين من حول «كاييه دو سينما» في سنواتها الأولى، كانت مونيكا أيقونة للنزعة الجنسية المتحررة، وكان برجمان رمزا لصناعة الأفلام المتحررة. بانجذابه للفيلم نفسه، قال جودار إن بازان علمه كيف ينتبه ويفهم العلاقة المبهرة بين الممثلة والمشاهد غير المتاحة في السينما الكلاسيكية. تومئ هارييت أندرسون لنا برأسها بخبث، مثلما تفعل جولييتا مازينا في نهاية فيلم «ليالي كابيريا» («ذا نايتس أوف كابيريا»، «لي نوتي دي كابيريا»؛ فيليني، 1957)، ودعوني أضف: مثل جون بول بلموندو في بداياته في فيلم «منقطع الأنفاس» («بريثلس»، «آ بو دو سوفل»؛ جودار، 1960).
ممثلة تخرج من تقمص الدور. «ليالي كابيريا».
من الواضح أن بازان أقر الخيال المراهق لممثلة تخرج من الدور، وتكاد تغادر الشاشة، لتتفاعل مباشرة مع المشاهد المتيم. لكن دعونا لا نتسرع في ذم المراهقة، وهي فترة التساؤل والوعي بالذات. أدرك بازان وجودار أن الممثل شخص وشخصية في الوقت نفسه، ليس حيا فقط داخل العالم التخيلي، ولكنه، بوصفه إنسانا، حاضر لدى المشاهد أيضا. لا ينتقص الوعي بالذات من الخيال (بالضرورة على الأقل) لكنه يسمح لنا برؤية الشرارة التي تقفز من العالم إلى داخل العمل. «لإعادة اختراع السينما» أو «لصنع فيلم وكأنه للمرة الأولى»؛ مثل هذه المقولات يمكن أن يعيد اقتباسها فقط من عرفوا تاريخ السينما عن ظهر قلب، ومخرجي «الموجة الجديدة» الذين درسوا في المعهد السينمائي الفرنسي، الذين اعتبروا أنفسهم بفخر أول جيل يمتلك مثل هذه المعرفة. كان الوعي الذاتي يفهم بشكل متناقض بوصفه شرطا لإعادة السحر للسينما.
سينما باحثة.
تقلب مزاج لو وبراعته الوقحة يمثلان جنون السينما النابض في دورية «كاييه دو سينما». هذا التوجه، أو دعونا نسميه «خلقا»، كان يرى أنه يسم السينما الفرنسية بأسرها بدرجة كبيرة، حتى إن لقطة «الأربعمائة ضربة» الثابتة الشهيرة تحدق للخارج من غلاف كتاب التأريخ النموذجي لهذه السينما القومية.
10
وكما رأى آلان وليامز، مؤلف هذا التأريخ، بوضوح؛ فالمراهقة فترة نضوج وتمرد وشهوانية أيضا. توضح غزارة الموجة الجديدة النمو المفاجئ الذي مر به الوسيط السينمائي في مفهومه الذاتي الموسع بعد الحرب العالمية الثانية؛ ذلك أن الكاميرا أخذت تحيد عن المنطقة المألوفة، وتواجه عالما صادما في أغلب الأحيان؛ حادت، كما يفعل المراهقون حينما يحيدون عن الأعراف، عن «سينما الأب» التي حجبت الشباب الفرنسي عن الجنس الحقيقي، والموت الحقيقي، والتاريخ الحقيقي. ربما تبدو مواجهة نظرة مونيكا في دار العرض ثم سرقة صورتها بجرأة واصطحابها إلى المنزل لتصبح «فيتيشا» إشارة صبيانية؛ لكنها إشارة إلى لقاء يمكن أن تؤدي قيمته إلى اكتشاف ما، وأحيانا إلى مواجهة. هذه هي القيمة التي يحدد مسار تحليقها مدار هذا الكتاب.
سينما مغرية. •••
بينما يهدف هذا المدار أن يشمل السينما في كل الأزمان والأماكن، فأنا أجعل غالبيته، لأغراض الملاءمة والوضوح، تمر فوق فرنسا، أكثر الملتقيات صخبا بنقاشات الأفكار السينمائية المتنافسة، وأكثر الدول مجلات سينمائية، وأوسعها تنوعا في الأفلام المعروضة، وكما يزعم، أعمقها تغلغلا للفن في الثقافة عموما. ومن أجل الملاءمة والوضوح كذلك، أستعين بأمثلة ناضجة، من قبيل فيلم «المصير الخرافي لأميلي بولان» («لو فابيلو دستان داميلي بولان»؛ جونيه، 2001) الذي أستشهد به مرارا. كيف يمكنني أن أتجنب أميلي التي يزين وجهها المبهج غلاف دراسة مسحية حديثة عن السينما الفرنسية،
11
تتنافس مع كتاب آلان وليامز في مبارزة للصور الأيقونية. يفتخر مخرج فيلم «أميلي»، جون بيير جونيه، بتقديم فكرة محدثة عن السينما، ترفض بوضوح فكرة «الموجة الجديدة»، وتتعرض لانتقادات مجلة «كاييه» خلال ذلك. وبينما اكتشف تروفو لو في تجربة أداء لكثير من صبية الشوارع الفقراء، فإن جونيه، مثل آلاف آخرين، أطال النظر إلى أودري تاتو على لوحة إعلانات فوق ميدان بلاس كليشي.
12
هذا التعارض البسيط، على الرغم من دلالته، سيؤدي إلى تعارضات أخرى لا حصر لها، لا تسفر فقط عن فيلمين مختلفين، ولكن عن فكرتين متنافستين عن السينما تتواجهان اليوم في باريس وجميع أنحاء العالم.
أعني بكلمة «فكرة» تصورا مهيمنا يمكن الإحساس به في كل مستوى من مستويات ظاهرة السينما. دائما ما تمتلك القرارات التي يصنعها المنتجون بعض التصورات الضمنية في جوهرها. وعادة ما يتوافق هذا مع ما يفهمه الجمهور عن تجربتهم أو ما ينبغي أن تكون عليه. تدعم الأنماط (الروائي والوثائقي والحركي) والأنواع السينمائية (الخيال العلمي والدرامي الوثائقي والرسوم المتحركة) فكرة ما عن السينما. وهذا ما يفعله كذلك النقاد، والمدونات، والمحادثات العابرة بين الأصدقاء وهم يناقشون ما شاهدوه؛ إذ يستدعون، بل ويوضحون، القيم التي هي على المحك. أوضح جيمس لاسترا كيف أنه في وقت ميلاد الصور المتحركة، ومرة أخرى في الانتقال إلى السينما الناطقة، كان المخترعون والمنتجون والنقاد يحملون أفكارا لم تتوافق تماما.
13
والأمر نفسه يصدق بلا شك على انتقالنا إلى التقنية الرقمية. على الرغم من ذلك، وخلال هذه الانتقالات، وعلى مدار تاريخ وجود الوسيط السينمائي، أثارت السينما (وأكدت أحيانا) ادعاء بشأن الواقعية لم يقدر أي نوع من الفنون قبلها على إثارته. وكان بازان، من بين كل من تفكروا في هذا الادعاء بتعمق، هو الأفضل إدراكا للطريقة التي أزاحت بها السينما، أو يمكن أن تزيح بها، سيطرة الإنسان على العالم الطبيعي والاجتماعي الذي نسكنه، العالم الذي نراه في الأفلام. لا تستنفد الاستراتيجيات التي اشتهر بدعمها، مثل اللقطات الطويلة، والتصوير بالعزل العميق، والقيم الموعودة من مثل هذه التقنيات والأساليب (كشف المتغاضى عنه، والغموض، والغريب) ما تتيحه هذه الفكرة. تجد كل فترة سينماها عالقة بالفعل في شبكة معينة من التكنولوجيات والأساليب والأذواق والأنواع السينمائية؛ وتنطبق فكرة بازان عن السينما فيما وراء شبكة ما بعد الحرب العالمية. وأنا آخذ على محمل الجد واحدة من أكثر مقولات بازان اقتباسا، وهي: «باختصار، فإن السينما لم تخترع بعد.» كان «سعي» بازان لتتبع الطريقة التي يفضي بها ماضي السينما إلى مستقبلها مركزا في سؤال «ما هي السينما؟» وأنا أعتبر هذه «مهمة» لا ينبغي التخلي عنها في فترة تختلف عن فترة عام 1958، حينما شرع فيها بازان. حتى لو كان «وجود السينما يسبق جوهرها»، بحيث لم يكن بازان ليقيم وزنا لأي إجابة عن سؤاله، ولا ليقبل عنوان كتابي المستفز عن عمد، فربما ما زال يمكننا قول شيء جوهري بشأنها. لذا دعونا نقل هذا: إن السينما الحقيقية، مهما يكن مظهرها أو زمنها، لها علاقة بما هو حقيقي. •••
لكي نكتشف هذه الفكرة القوية عن السينما ثم نواجهها، أقترح أن نقوم برحلة قصيرة في مجال خضع بالفعل لسيطرة نظرية الفيلم التقليدية، ولرعايتها على وجه الخصوص. وبينما يمكن تقسيم النقد الأدبي إلى أفكار متعلقة بالنصوص وأفكار متعلقة بالقراءة، مالت نظرية الفيلم للانقسام إلى ثلاثة ميادين من البحث، تتطابق مع مراحل أو لحظات التشكل الثلاث التي يمر بها أي فيلم وهي: التسجيل، والتركيب، والعرض. ويمكن ربط كل مرحلة بجهازها الأساسي المخصص لها: الكاميرا، والموفيولا (آلة التحرير)، وجهاز العرض. يمكن الإلقاء باللوم في محنة نظرية الفيلم، إن لم تكن محنة السينما نفسها، على التعديل والتحديث أو التوقف عن الاستخدام لكل واحدة من تلك الآلات بعد أن حلت تقنية القرن الواحد والعشرين الرقمية محل آلات ترجع بالفعل إلى القرن التاسع عشر. يعتقد أن التقنية الرقمية تتقن أي عمليات كان سلفاها التناظري أو اليدوي معدين لأدائها. تحسن التقنية الرقمية تلك العمليات وتوسعها وتبدلها، مؤدية إلى تحقق السيطرة الكاملة. وتدفعنا مثل هذه الثورة التقنية للعودة إلى العمليات الأساسية للسينما، مرحلة تلو أخرى، لرؤية ما تبقى من ظاهرة السينما بعد التغييرات الكاسحة التي حدثت على مدار العقدين الماضيين.
هذه العمليات هي واجهات تفاعلية بين البشر وعالمهم الخارجي. كل واحدة من تلك الواجهات التفاعلية المسماة بناء على الجهاز السينمائي المناسب لها، تستحق فصلا كاملا من النقاش، في ظل وجود ضغط ناجم عن ظهور التقنية الرقمية على الأفكار التي نضجت في منتصف القرن العشرين. ويفرض فصل إضافي نفسه، وهو مخصص لأولوية «الموضوع» والمكان الخاص الذي يشغله في نظرية الفيلم وفي النقد؛ لأنه إذا كان بازان على صواب، فإن السينما حققت ذاتها - وتستمر في التطور كما هي - من خلال عمليات مواجهتها وتكيفها مع العالم الذي صنعت من أجله. تشكل الموضوعات الرئيسية للفصل الأخير، أي افتقار السينما المتأصل للنقاء وميلها للتكيف، الاتجاه العام لمهمة هذا الكتاب المتناقضة: تحديد السمات الدائمة لظاهرة لا توجد إلا مرتبطة بشيء متجاوز لها.
هوامش
الفصل الأول
بحث الكاميرا في العالم
صناع الأفلام السيئون لا يمتلكون أي أفكار، بينما يمتلك صناع الأفلام الجيدون أفكارا أكثر مما ينبغي، وأما أعظم صناع الأفلام فيمتلكون فكرة واحدة فقط. وهذه الفكرة الراسخة تتيح لهم الثبات على الطريق وهم يجتازون مفازة دائمة التغير وجذابة دائما. وثمن هذا معروف: عزلة من نوع خاص. وماذا عن النقاد؟ ينطبق الأمر نفسه عليهم [لكن لا قيمة لأي منهم] كلهم إلا واحدا. بين عامي 1943 و1958 كان أندريه بازان هذا الواحد ... في العالم الفرنسي ما بعد الحرب، أصبح بازان على الفور وريثا وسلفا في آن واحد. رمزا للريادة والممارسة. (سيرج داني، «كاييه دو سينما»، أغسطس 1983)
هل الكاميرا ضرورية؟
بلا أي آلة تسجيل من أي نوع، عرض إيميل رينو صورا متحركة في مسرحه عام 1889. بالرسم والتلوين مباشرة على ألواح زجاجية، صنع رينو مشاهد قصيرة احتاج كل منها اثني عشر لوحا. في النهاية، توصل إلى طريقة يمكنه بها تدوير الزجاج على بكرات، وصنع ثلاثة مشاهد، يتكون كل واحد منها من 500 لوح زجاجي. تعد هذه الألواح بألوانها الزاهية أعمالا مبكرة ثمينة في فن التحريك. حتى بعد عام 1895، تجنب بعض «صناع الأفلام» الجريئون الكاميرا تماما. في عشرينيات القرن العشرين، عرض مان راي وطور ورق تصوير، ورتب عليه مصفوفة من الأجسام. وعرضت مخططاته الرايوجرافية عموما في المتاحف بجانب الصور التقليدية، وكأنهما صنعا بالأسلوب نفسه. استخدم طريقة مان راي عدد من فناني الأفلام التجريبيين، أشهرهم ستان براكيج الذي لصق أجنحة فراشات وأشياء أخرى على شريط فيلم خام، ثم طبعها من أجل فيلمه الرائع «ضوء الفراشة » («موثلايت »، 1963).
مثل هذه الأمثلة الرائعة لفن السينما تبرز بوضوح لأنها مبتكرة ونادرة. وهي تنتمي لما يسمى بجدارة النموذج التجريبي بسبب أنها تختبر تعريف الوسيط السينمائي وهويته الدقيقين. لكنها كذلك تعتمد على التعريف النموذجي للسينما في جزء من تأثيرها. ما الذي سيحدث للسينما لو استغنت أفلام كثيرة أو كل الأفلام عن الكاميرات؟
1
في واحد من أكثر أفلام القرن الحادي والعشرين المتقدمة تقنيا، وهو «بيوولف» (2007)، تلعب الكاميرا دورا مساندا فقط. فالشاشة نادرا ما تعكس المعلومات المرئية التي حملها الضوء في الأساس خلال عدسة الكاميرا، بدلا من ذلك، فما نراه هو صنيعة إعادات ترتيب كمبيوترية لعدد من العناصر البصرية المساهمة، وبعضها فقط منتج بالتصوير السينمائي. يضع الكمبيوتر صورة شاملة ربما تفصل بقدر أكبر بالتصوير الافتراضي؛ لهذا فإن لقطة واحدة طويلة (لم تصور قط بكاميرا في الواقع) تصبح لقطة رئيسية توجه لقطات متتالية مستمدة منها عبر عمليات إعادة ترتيب هندسية. يمكن النظر إلى «المشهد» وكأن كاميرا تحركت من أجل التقاط صور مقربة، أو انتقلت لالتقاط صورة بزاوية 90 درجة، أو ارتفعت ثم دارت في حركة حلزونية؛ لكن كل هذا بلا كاميرا. تستخدم أجهزة الواقع الافتراضي التي نقابلها في المتاحف أو حدائق الملاهي - وكذلك معظم ألعاب الفيديو - الكاميرات بوصفها وسائل مساعدة من حيث الأساس في المرحلة الأولى من إنتاجها. وفي مجال الترفيه السمع-مرئي، تكون الكاميرات في أفضل الحالات غير ضرورية مع تطور تكنولوجيا الكمبيوتر.
على أي حال، فإن تحريك شرائط السيليولويد كان دائما يعني صنع سينما أقل اعتمادا على الكاميرا. بعد تصميم آلاف الصور على أسطح ذات بعدين، تخضع هذه الصور للتلاعب والتتابع لتظهر حية ومتحركة في فراغ ثلاثي الأبعاد حينما تعرض بأكبر سرعة ممكنة على الشاشة. هذا هو أحد الأسباب، وإن لم يكن الأهم، لإعلان شون كيوبيت أن السينما كلها من حيث الأساس نوع من التحريك، وليس العكس.
2
وإذا كانت هناك حتى الآن ضرورة للكاميرات لصنع الصور المتحركة والأفلام التقليدية كذلك؛ فالسبب الوحيد وراء هذا هو تحويل ما صنعه الفنان على شريط السيليولويد بطريقة ملائمة ليخرج من جهاز العرض. واليوم، تعرض الشاشات الصور المتحركة التي صممت على الكمبيوتر مباشرة، مستغنية عن الكاميرات. ترى هل يمكن أن تتبع السينما كلها هذه الطريقة يوما ما؟ يعتبر تصريح كيوبيت أحد أذكى التصريحات المستفزة التي أثارتها التقنية الرقمية المقصود منها تغيير المشهد النظري تماما.
وبالفعل فإن المنظرين التقليديين؛ إذ أدركوا أن الصور المتحركة ربما تنتج بلا تدخل مادي، تحول هاجسهم إلى ذعر. ألا تتطلب السينما مصدرا أو مرجعا في العالم؟ وحتى لو التقطت الصور المتحركة بالكاميرا (الرقمية)، فهي تخضع للتلاعب بها متى أريد هذا، كما يحدث في الرسوم المتحركة. مع ذلك، فإن الأفلام الوثائقية لم تكن في صدارة النقاش كما هي الآن، حيث عادت الأسئلة عن الأثر، والذاكرة البصرية، والأصالة - ملمحة في الغالب إلى أندريه بازان - للمثول بقوة. قلل فيليب روزن وتوماس إلسيسر، على سبيل المثال، من شأن الحديث المنذر بنهاية السينما الذي واكب ظهور الكاميرات الرقمية الأولى، قائلين إنها في الأساس تؤدي الوظيفة نفسها التي كانت تؤديها أسلافها التناظرية وهي تسجيل العالم الظاهر أمامها.
3
وكما فعلت في الماضي عموما، فإن الإشارات الضمنية أو الضمانات غير النصية بشأن مصدر صورها، تصحب معظم الوثائقيات المصورة رقميا، منبهة الجمهور لموثوقيتها. ويعتمد النوع المنشق المسمى بالوثائقيات الساخرة على القاعدة التي تتباهى بها.
ذلك أن الجمهور استعاد ثقته بالصور المتحركة عموما. ولم لا؟ يشتري عدد لا حصر له من الآباء الكاميرات لتوثيق ميلاد أطفالهم، أو أعياد ميلادهم في أفلام منزلية يختلف نمطها تماما عن الصور المتحركة. ليست الكاميرا لازمة للحياة العائلية فقط، ولكن للوله الشديد بالهوية العائلية والتماسك العائلي. يعد تليفزيون الواقع هوسا بالترفيه يعتمد بالقدر نفسه على الكاميرا. تراقب مدن العصر الحالي بالكاميرات أكثر مما كانت تراقب في أيام شريط السيليولويد. وكما أحيت الكاميرا واقعة الاعتداء على رودني كينج، فإن مجال الكاميرا اتسع؛ لأن نشر الديمقراطية يجعل كل سكان العالم مراسلين محتملين. تبث الأخبار العاجلة صورا لوجه سارق بقليل أو كثير من الوضوح، التقطتها كاميرا مخبأة فكرت وكالة ما في تركيبها . اضطرت محاكم القانون إلى إعادة تقييم حالة الدليل السمع-مرئي بسبب هذه الزيادة في مصادر الأدلة المرئية، ولأنه محل للشك بسبب سهولة التلاعب به.
4
يبدو أن الكاميرا أصبحت اليوم أكثر من مجرد بقايا ثقافة سينمائية آخذة في التلاشي.
فهم صناع الأفلام الروائية سريعا قوة الكاميرا الرقمية واستغلوها. يضمن فيلم فيرنر هيرتزوج «الرجل الأشيب» («جريزلي مان»، 2005) بطريقة فعالة سجلا رقميا كمادة أولية في أعماق بحثه السيليولويدي في حياة موضوعه، وهو نصير للطبيعة مهووس، ومصور هاو التهمه دب كان يحب تصويره.
5
وفي الفيلم الياباني «الحلقة» («رينج»، «رينجو»، 1998)، يسبب شريط فيديو الموت لمن يشاهدونه. في هذه الأمثلة وكثير غيرها، تتنافس صور من كاميرات هواة مع تلك التي صورت بشكل احترافي، مقدمة مستويين وجوديين مختلفين. ومما يثر الدهشة أن الصورة الإلكترونية تشير ضمنيا في جميع الأحيان تقريبا إلى مستوى بدائي من الواقعية يجب أن يتأقلم معه شريط السينما الروائية. نعم، «وجودية الصور الفوتوغرافية» أصبحت مركز النقاش مرة أخرى؛ حيث تصبح أهمية هذا الوجود والأسئلة المتعلقة بمرحلة التسجيل في صناعة السينما متزايدة القوة.
مسلمة «كاييه»
دعونا نرسم خطا عند مرحلة التحريك من غير كاميرا. بالأحرى، دعونا نرسم الخط الذي يفصل تصورا للسينما عن آخر. يرقى ما أسميه «نهج كاييه» إلى مكانة دراسة لنسب «فكرة عن السينما»، سبقت فكرة السينما بوصفها قصة مصورة، وتتعايش الآن جنبا إلى جنب مع فكرة «السينما بوصفها قصة مصورة متحركة»، وهو ما يمكن أن أصف به معظم الترفيه السمع-مرئي الحالي. انطلاقا من مؤسس الدورية، أندريه بازان، مررت مجموعة نقاد «كاييه دو سينما» المرموقين (تروفو، وروفيت، ورومير، وشابرول، وجودار) الفكرة إلى سيرج داني، أبرز خليفة لبازان، حتى وصلت إلى جان ميشيل فرودون، محرر الدورية في وقت كتابة هذا الكتاب. إنها فكرة مجسدة في أفلام المخرج الإيطالي روبرتو روسيليني، ومن خلاله تنتقل إلى مخرجي «الموجة الجديدة» الأصلاء الذين ما زال أربعة منهم يعملون؛ وتستمر في إلهام مخرجين (أمثال أرنو ديبليشان، وأولفييه أساياس، وخو شياو شيان، وعباس كيارستامي، ولارس فون ترير، وجيا تشانج -كه ، وكثيرين غيرهم في أنحاء العالم). زعم داني ذات مرة أن هذه الفكرة قائمة على مسلمة؛ لذا دعونا نبدأ بهذه المسلمة: «مسلمة «كاييه» هي أن للسينما صلة جوهرية بما هو واقعي، وأن الواقعي ليس ما هو ممثل - وهذا أمر نهائي.»
6
ألقى داني بهذه المسلمة في وجه ما يسمى «سينما المظهر» التي ظهرت في ثمانينيات القرن العشرين، تلك التوليفات الساحرة، من «المغنية» («ديفا»، 1981)، و«مترو الأنفاق» («صبواي»، 1985) التي أتت من صناعة الإعلانات، وكان من شأنها أن تفضي في النهاية إلى ظهور «أميلي» (المصير الخرافي لأميلي بولان، 2001). وأنا ألقي بها في مواجهة خطاب مفرط في الثقة عن التقنية الرقمية.
دفع القلق الناتج من احتمالية حدوث تحكم إخراجي كامل في الصورة والمشاهد مناصري الواقعية مثل أنيت كون وجون-بيير جيون، وكذلك صناع أفلام «دوجما 95»، إلى نشر مفاهيم بازان، في فعل دفاعي للحفاظ على الخط الآخذ في التلاشي ضد هجوم سينما ما بعد فيلمية متبجحة، تتفاخر بتلفيق الصور والتلاعب بها وبالجماهير كما تشاء. وبمواجهة الكمبيوتر القوي، يتمسك التقليديون بأن الكاميرا أداة فريدة تلتقط التكوين البصري للحظة ما، بما قد يكشف حقيقتها. هذه هي النظرة الكاشفة إلى السينما التي كان بازان متعلقا بها على الدوام، وإن لم يكن هذا دقيقا تماما.
وربما كان جيون أشد المؤيدين اليوم للاحتفاظ بهذه النظرة؛ إذ يستنكر الطريقة التي حولت بها التقنية الرقمية الانتباه من التصوير إلى المونتاج.
7
حينما كان صانع أفلام كلاسيكي يصرخ: «هدوء في الموقع!» كان يتخلص من كل ما هو غير ضروري، حتى يعزل المكان المقدس، ولحظة الإبداع المقدسة؛ لتثبيتهما على نحو دائم على شريط السيليولويد. كان الممثلون يبذلون أقصى جهدهم، ويعيدون المشهد مرة تلو أخرى أحيانا حتى يخرج المشهد بطريقة جيدة، بينما تتحرك الكاميرا وطاقم الصوت في صمت وفق مسارات متقنة ليجعلوا المناخ في موقع التصوير (سواء في استوديو أو في موقع خارجي) يشبع الصورة أثناء تسجيل أدق انثناءات الممثلين؛ اللحظة المهمة التي تغدو فيها ابتسامة ما مرتبكة، أو يرتعش فيها جفن، سواء عن قصد أو عفويا . أما اليوم، فمواقع التصوير صاخبة، ويمكن أن يصبح مشهد فردي مهلهل أساسا للمشهد النهائي بعد تصحيحه، سواء بالتحرير داخل الإطارات نفسها (بإبدال إيماءة خاطئة أو إزالة شائبة ما) أو بتكوين المشهد كله من أجزاء المشاهد للوصول إلى شيء لم يحدث قط في الواقع. في أكثر إنتاجات اليوم تكلفة، غالبا ما يحل تصوير الممثلين أمام شاشات خضراء محل تفاعلهم وجها لوجه واستجاباتهم البدنية لتصميم المشهد. ما زال سحر السينما موجودا - فهذا ما يجذب الملايين إلى دور العرض - لكن مصدره لم يعد في موقع التصوير، ولا في اللحظة التي سجلت فيها الكاميرا شيئا لا يتكرر. فقد انتقل السحر إلى الكمبيوتر، حيث تكون الموسيقى التصويرية تلفيقات إضافية مصنوعة من عشرات المسارات الصوتية، وتكون الصورة مركبة من عناصر عدة، وليست وحدة متكاملة.
قدمت الحجة المؤيدة للسينما التقليدية الفوتوغرافية بالفعل في مشهد فيلمي في قلب فيلم ريتشارد لينكليتر «حياة يقظة» («ويكينج لايف»، 2001)، وهو العمل الذي يصنف، للمفارقة، بأنه فيلم صور متحركة. من منظور الطائرة المروحية، تهبط «الكاميرا» للأسفل لتقدم الشخصية الرئيسية في الفيلم التي تقترب من دار عرض تعلن ظلتها اسم المشهد: «اللحظة المقدسة». وحالما تتطلع الشخصية من أحد مقاعد دار العرض، يسهب مفكر (يقدم صوته ونص كلمته كافح زاهدي) يظهر على الشاشة داخل الشاشة في الحديث عن رؤية أندريه بازان الغامضة للعالم. يشير زاهدي إلى أن الكاميرا فقط هي التي تستطيع أن تعيدنا إلى الواقع الكامل الذي يحيطنا لكننا نتجاهله عموما؛ إذ ننغمس في مشاريعنا الشخصية الصغيرة. تستطيع الكاميرا أن تصلنا بعالم المظاهر اليومية، وبآنية لحظات فردية غنية لدرجة أنها تسخر من الإيقاع المحموم الذي تتطلبه خططنا منا. يشكل هذا رؤية عامة بقدر كاف لأفكار بازان، أو نزعة «بازانية» مبسطة،
8
ولا بد أن لينكليتر يعلمها؛ لأنه يضعف من هذه العبارات المبتذلة بالتصريح بها خلال مونولوج سريع لشخص مفرط النشاط، ظاهر الاعتداد بالذات، ولا يفصح عما بداخله بسهولة. ثانيا: لا يكاد زاهدي يمثل شخصية على الإطلاق، لكنه صوت مرتبط بمجموعة من الخطوط النابضة المتموجة التي تتخذ شكلا بشريا؛ لأن فيلم «حياة يقظة» مصنوع بتقنية الروتوسكوب من بدايته لنهايته. وعلى الرغم من أن هذا النوع من الصور المتحركة ربما يكون قائما على التصوير السينمائي، فهو يعطي الانطباع بأنه خاضع للتلاعب، حتى وزاهدي يعظ بجمالية قائمة على تجنب التلاعب.
بدلا من نسب آراء زاهدي إلى بازان، ربما يكون من الأفضل نسبها إلى إريك رومير الذي كانت السينما برأيه دائما فن «الإظهار». تشيد مقالات رومير المبكرة مثل «العصر الكلاسيكي» بالسينما وتعلي من شأنها على الأدب؛ لأنها لا تقدم لنا دلالة فعل ما ولكن رؤية الفعل. نرى شخصية ما (ممثلا) وهو يؤدي شيئا ما، ونرى فورا ملاءمة هذا الفعل أو خطأه.
9
لم يستغل أي مخرج «التجلي»، بالمعنى الذي قصده جويس، أكثر مما فعل رومير، سواء أكان هذا كشفا لحقيقة من حقائق الطبيعة - مثل الصمت الذي يسبق الفجر في فيلم «المغامرات الأربع لرينيت وميرابل» («فور أدفنتشرز أوف رينيت آند ميرابل»، «4 أدفنتور دي رينيت إي دي ميرابل»، 1987)؛ أو لون الشمس الغاربة في فيلم «الشعاع الأخضر» («ذا جرين راي»، «لو رايون فير»، 1986) - أم حقيقة موقف اجتماعي ظنت الشخصية أنها فهمته (كل أفلام الحكايات الأخلاقية الست). لا يعرض رومير فقط دراما بين شخصيات، ولكن دراما بين لغة محملة بالإشارات بكثافة، وصور رائقة، مثلما يحدث في اللحظة الرئيسية في فيلم «ركبة كلير» («كليرز ني»، «لو جينو دو كلير»، 1970)، حينما يصف برنارد فعلا بسيطا شهدته الكاميرا، وهو لمسه ركبة فتاة وهما يحتميان من عاصفة مطيرة مفاجئة، ويحاول تقييم أهميته. بشكل عرضي، تنتهي مجموعة أعمال رومير النقدية المعنونة «ذائقة الجمال» بقسم طويل عن جون رينوار الذي يعتبر أستاذ رومير بلا منازع، رغم تعارض مزاجيهما. تعلم رومير جنبا إلى جنب هو وبازان إكبار الجودة الحسية في لقطات رينوار، وجرس الأصوات - المسجلة مباشرة دائما - ومفارقة قصر نظر الشخصية في عالم غني ومتسع.
الحقيقة والمظهر. «قواعد اللعبة».
لكن رؤية رومير لرينوار هي نفسها رؤية قاصرة، مثل رؤيته لبازان. فيما يخص رينوار، عالم المظاهر يخدع في أغلب الأحيان، ولا يرقى إلى الحقيقة في أي حال. انظر لخطأ كريستين أثناء تجسسها على زوجها وعشيقته السابقة بعد رحلة الصيد في فيلم «قواعد اللعبة» («ذا رولز أوف ذا جيم»، «لا رجل دو جو» 1939). على الرغم من منظارها المكبر - بل بسبب هذا الجهاز الذي يرمز للكاميرا - تسيء فهم ما تراه، فتجلب التعاسة للجميع. يتمسك بازان بالرؤية نفسها حينما يكتب في مقال «أنطولوجيا الصورة الفوتوغرافية»: «يستمر النقاش بين أنواع الواقعية في الفن بسوء فهم، وخلط بين الجماليات وعلم النفس، بين واقعية حقيقية - هي الحاجة لإعطاء تعبير دال للعالم بجوهره وماديته - وبين واقعية زائفة للخداع، تهدف إلى خداع العين (أو العقل في هذه الحالة)؛ محتوى واقعية زائفة بتعبير آخر بمظاهر وهمية.» لو أمكن أن تكون المظاهر واقعية زائفة لدى بازان ورينوار (ورومير كذلك)، فما الذي حدث لتجلي العالم الطبيعي الذي صنعته الكاميرا؟ هذا سبب وجيه لكون أفلام رومير تتسم بالثرثرة.
لا شك أن بازان عبر عن نظرة إيجابية للصورة السينمائية المجردة. تستطيعون رؤية هذا من خلال كثير من مقالاته، ومع ذلك فهو ينحاز إلى المخرجين الذين لا «يؤمنون» بالصورة ولكن بالواقع.
10
وهو يثبت مرة تلو أخرى أن الواقع الذي يحرزه أي فيلم هو بالضبط ما ليس ظاهرا في صوره. هذا هو بازان الذي تمثل الشاشة من وجهة نظره السالب الفوتوغرافي للواقع، شيئا أساسيا، ولكنه تمهيدي للواقع الذي يسعى المخرج لتقديمه. «بازان الغامض»، دعونا نسميه هكذا، عاد إلى النقاش الجاد عن السينما بفضل جيل دولوز وسيرج داني، اللذين أدركا كلاهما ولع بازان بفلسفة تتعلق بالافتراضي، أصبحت مهيمنة. لم يخف دولوز أبدا ما يدين به نهج «كاييه» ولبازان صراحة، حينما توصل إلى نظرية للصورة الافتراضية في كتابه «الصورة-الزمن». وعاد داني ليعتنق أفكار بازان مرة أخرى في الثمانينيات من القرن العشرين، بعد أن ترك «كاييه» وبدأ في تقييم المجتمع التليفزيوني الذي كان يعلق عليه لجريدة «ليبراسيون». كتب داني قائلا: «رؤية بازان للسينما - المرتبطة بشكل وثيق بفكرة السينما بوصفها «فن التقاط الصورة» - تواجه اليوم بحالة للسينما لا تلتقط فيها الصورة بالضرورة من العالم الواقعي. تتجاهل الصورة الإلكترونية ما تعكسه مرآة الواقع. وللمفارقة، فبسبب هذا تظل أفكار بازان جوهرية.»
11
لذا، دعونا نرجع إلى مسلمة «كاييه» تلك: «أن للسينما صلة بما هو واقعي، ومع ذلك، فالواقعي ليس ما هو ممثل.» الواقع أن داني تبنى هذه القاعدة من رومير الذي أقر رثاؤه لبازان في عدد «كاييه» لشهر يناير 1959 بصراحة بأن «كل مقال، وكذلك مجمل أعماله، يمتلك قوة برهان رياضي حقيقي. فكل عمل بازان يتمحور حول فكرة واحدة، هي تأكيد «الموضوعية» السينمائية، بالطريقة نفسها التي تتمحور بها الهندسة حول خصائص الخط المستقيم.» ويذهب داني لما وراء رؤية رومير الإقليدية حينما يلمح بأن فهم بازان للسينما ربما يكون أقرب لعلم التفاضل والتكامل، حيث تصبح الأعداد السلبية والتخيلية فاعلة، وحيث يصبح الخط المقارب هو أقرب ما يمكن من الموضوعية. كان داني من أوائل من أدركوا أن بازان، إلى حد كبير على الأقل، هو منظر الغياب، وكانت التصنيفات السارترية الواضحة عن الوجود والعدم تفسح المجال لديه لمفاهيم وسيطة بأسماء مثل «الأثر» و«الانشقاق» و«الإرجاء». ولنتذكر أن بازان زعم أن صور الأشخاص الفوتوغرافية لا تمثل موضوعاتها؛ ولكنها «ظلال رمادية أو بنية، تشبه الأشباح ... يسكن فيها الوجود المربك للحيوات في لحظة محددة في زمن امتدادها.»
12
تواجهنا السينما بشيء صامد، بالتأكيد، ولكن ليس بالجسد الصلب للعالم بالضرورة. من خلال السينما «يظهر» العالم؛ أي أنه يتخذ الصفات والمكانة التي تميز «شبحا».
الأشباح هي بالضبط ما يتحدث بازان عنه في مقاله «أنطولوجيا الصورة الفوتوغرافية» الذي يعتبره بعض الكتاب أكثر المقالات التي كتبت عن السينما تأثيرا، وهي كلمة نادرا ما تذكر. تخيلوا تأسيس نظرية فيلم لا تعتمد فقط على الصورة، ولكن على ما هو طيفي أيضا! يتكرر ظهور الطيفي في مجمل عمل بازان، حتى في المراجعات السريعة للأفلام الأقل أهمية. في مراجعة خاطفة لعنوانين غير مهمين، وضع إصبعه على قيمة غير ملموسة شعر بها فيهما؛ حيث وجد أن بعض الأفلام «مثل مدفع جوفه محاط بالبرونز» تعرف بالفراغ في مركزها. في الفرنسية ، يسمى جوف المدفع «روحه»؛ لذا، وبالقياس، يمكن تعريف جوهر أفلام معينة بأفضل ما يكون بالمادة المحيطة به، ما هو واضح على الشاشة معلنا عن روح خفية.
13
من وجهة نظر بازان، المركز الفارغ لأي تمثيل بصري هو الروح الخاوية للمومياء، وهو المثال الذي يبدأ به بازان مقاله الرائع: «تكمن في أصل الرسم والنحت عقدة مومياء ...» تقبع المومياء مغطاة بالضمادات الملفوفة حولها مثل أمتار من شريط فيلم
14
على عمق كبير داخل هرم مجوف، تحميها متاهة (دعونا نسميها خطوط الحبكة) من سارقي القبور (دعونا نسميهم النقاد). لسنوات، قيل: إن واقعية بازان الساذجة اعتبرت أن المرئي هو الواقعي، الصورة الكاشفة التي نصل إليها بعد حل متاهة السرد أو تبديدها؛ في حين كانت دائما روح المومياء هي ما كان يبحث عنه عبر ما يظهر على الشاشة. ولا عجب أن بازان أصبح أشد المدافعين عن فيلم روسيليني «رحلة إلى إيطاليا» («فوييدج تو إيتالي»، «فوياجيو إن إيتاليا»، 1953). في مشهد ذروة الفيلم، يظهر قالبان من الجبس لجثتين يتم استخراجهما بالتدريج في مدينة بومبي الرومانية ليخاطبا (ويتهما) بطلي الفيلم إنجريد برجمان وجورج ساندرز. وهكذا فإن الفراغ في قلب السينما يستجلب امتلاء العالم الأخلاقي الذي يخاطبنا.
كشف القلب الفارغ. «رحلة إلى إيطاليا».
يعد مقال بازان عن «الأنطولوجيا» المكون من إحدى عشرة صفحة الأهم من بين أربعين مقالا كتبها أثناء الاحتلال النازي لفرنسا. وبجانب المنشورات التي يحفل بها نادي السينما، والمراجعات المنشورة في الصحف التي كانت هجومية حقا، كان مقال «الأنطولوجيا» مختلفا تماما؛ حيث أعد بعناية شديدة من أجل نسخة خاصة من مجلة «كونفليونس» المرموقة بعنوان «مشكلات التصوير». وبدلا من الطاقة الشبابية التي كانت تميز معظم كتاباته المبكرة - وهو المتوقع من متحمس للسينما في الخامسة والعشرين من عمره - يجد القارئ نوعا من السوداوية في المقال عن التصوير. والواقع أن نشر هذا المقال تضمن الموت والتأجيل؛ حيث اجتاحت المليشيا الفرنسية المطبعة في مدينة ليون التي كان من المفترض أن تخرجه في مايو عام 1944؛ وأعدموا الناشر، وتسببوا في تأخير ظهور المقال لما يزيد على العام.
15
وأنا أرجع تاريخ تصور فرضية المقال الرئيسية بشأن الأثر الفوتوغرافي إلى أوائل عام 1944؛ لأنه يظهر نقلة مذهلة حينما يقارن بمقاله الأكاديمي بعض الشيء، الذي نشر في نوفمبر عام 1943 بعنوان «من أجل جمالية واقعية». ربما كان مناخ الاحتلال بدأ في التأثير فيه، بإضفائه قناعا خادعا من الهدوء، وهمساته، وشفراته السرية، ومقاومته، وتخفياته. أثناء القبوع في غرف باردة بعد بدء حظر التجوال، كتب مقال «الأنطولوجيا» متمرد فقير، أكاديمي فاشل، مبهور بالظواهر الوجودية. لكن دعونا نترك جانبا سيرة الحياة من أجل الفيلولوجيا، لنوضح بالتفصيل (بالمعنى الفوتوغرافي) أساس هذا المقال، الذي يقبع في أساس الحداثة السينمائية.
اقتفاء أثر بازان
داخل نادي السينما الذي كان يديره في متحف «ميزون دي ليتر» بالقرب من جامعة السوربون، كان بازان متحمسا من آن لآخر لرؤية جون بول سارتر حينما يحضر. هل تواصل هو وسارتر؟ بعد مرور بضع سنوات سيتجادلان بشأن فيلم «المواطن كين» («سيتيزن كين»، 1941)، وينشر سارتر عن طيب خاطر توبيخ بازان له في مجلة «لو توم مودرن».
16
لكن في عام 1943، لا بد أن بازان الشاب كان سعيدا لمجرد أن يمنح وجود سارتر الهيبة لناديه الناشئ. كان ذلك العام الذي ظهر فيه كتاب سارتر «الوجود والعدم: مقال عن علم الوجود الظاهراتي». لكن عمل سارتر السابق، أي مقاله الممتاز عن فوكنر، وكتاب «التخيل»
17
الذي نشر في عام 1940، هو ما يمكننا أن نشعر به في مقال بازان المتشكل بتمهل؛ حيث يناقش علم ظواهر الصور الناشئة عن اللوحات والتصوير. ويمكن الشعور بتأثير كتاب «التخيل» على امتداد مقال «الأنطولوجيا». وكان للكتاب أن يساعد أيضا رولان بارت في تأليف «الكاميرا لوسيدا» وهو كتاب مكرس بوضوح لكتاب «التخيل». وبالفعل، فإن مقال بازان «الأنطولوجيا» يتوسط ما بين سارتر وبارت. يستشهد به بارت - الذي كان دائما بخيلا في ذكر مراجعه - مرة واحدة، ورغم ذلك فهو في قلب كتاب «الكاميرا لوسيدا». نشعر بفكر سارتر في كتابات بازان، وبفكر بازان في كتابات بارت. وهكذا تنتقل الحياة الآخرة ذات الطابع الشبحي الكامنة في الحضور النصي.
18
ظهر لي ذلك الشبح وأنا أعد مقدمتي النسختين المعاد إصدارهما من جزأي كتاب «ما هي السينما؟» فحصت عن قرب نسخة بازان الشخصية من كتاب «التخيل» التي منحتني إياها أرملته تذكارا. وبفحص الكتاب صفحة صحفة (باستثناء الصفحات - المهمة للغاية - التي لم يقرأها؛ وأعلم هذا لأنها لم تفتح بالسكين) وجدت تخطيطاته تحت الكلمات بالقلم الرصاص، وبعض تعليقاته في الهوامش. يبدو أن بازان اشترى هذا الكتاب مباشرة في أول عام لصدوره، وهو عام 1940. ويبرز بعض جمله وأمثلته في مقال «الأنطولوجيا». زعم بازان الجريء بأن «التصوير بطبيعته الخالصة ينبع من وجود الشخص المصور؛ إنه هو الشخص المصور»
19
يردد صدى ما ذكره سارتر الذي يبدأ قسما من كتابه بهذه الطريقة: «من خلال صورة بيير أتخيل بيير ... تظهر [الصورة] لنا في أغلب الأحوال كأنها بيير شخصيا. أقول: «هذه صورة لبيير»، أو باختصار أكثر: «هذا هو بيير».»
20 (وضع بازان خطوطا تحت هذا القسم بأكمله.)
في الفقرة الثانية من مقال «الأنطولوجيا»، يمكن للمرء الشعور بروح سارتر ترفرف عن قرب. يكتب بازان عن «الدب الطيني المخترق بسهم، الذي يفترض العثور عليه في كهوف ما قبل التاريخ، وهو بديل للحيوان الحي الذي سيضمن صيدا ناجحا.»
21
استخدم سارتر الصورة نفسها، «تمثال الشمع المثقوب بدبوس، وثيران البيسون المقدسة المرسومة على الجدران لجعل الصيد وفيرا.»
22
وضع بازان خطوطا تحت هذه الجملة، ووضع الفقرة كلها بين قوسين، ثم غيرها ليخدم غرضه المختلف. أعلم أن بازان اشتبك مع هذا الكتاب لأنه في نسخته من «التخيل» المطوية بعناية عند صفحة 38، وجدت موميائي؛ ورقة من الملاحظات كتبها بازان بعناية وعنونها: «التصوير الفوتوغرافي؛ «الممثل التناظري»؛ «النظير» (سارتر)». يبدأ بازان ملاحظاته بقبول تفرقة سارتر بين الصورة بصفتها «لا شيء» شفاف، أو أداة تحيل نظير موضوعها مباشرة إلى الوعي، وبين فكرة الصورة بوصفها «شيئا ما» أبيض وأسود تتسبب خواصه المادية (علامات الإضاءة والظل) في رؤيتنا له بشكل لحظي في هيئة جسم؛ مثل أي جسم آخر، مثل بساط أو قطعة من ورق الحائط. لا يهتم بازان ولا سارتر بالصورة بصفتها جسما؛ لكن النظير هو ما يثير اهتمامهما كليهما، لكن النظير يشير إلى اتجاهين مختلفين، ويختلف هذان الرجلان في كيفية مناقشته. يرفعه سارتر مباشرة نحو التخيل حيث يثير هذا ارتباطات بطريقة متميزة من الأنواع الأخرى من الوعي بالصورة. أما بازان فيذهب في الاتجاه الآخر نحو مصدر الصورة، موضحا كيف أن نظير الصورة يهبط بنا مرة أخرى إلى العالم الذي انتزعت منه. برأي سارتر، تخفت الصورة بسرعة إلى العدم للدرجة التي تنجح فيها في جعلنا ننتبه إلى النظير الذي يستهلكه بدوره التخيل الحر حيث تفعل الذاكرة والعاطفة والصور الأخرى فعلها. أما بازان الأقل اهتماما بحرية الخيال فيركز على قوة الصورة في تضخيم إدراكنا أو ملاحظتنا، وهو ما «يعلمنا» ما لم تكن أعيننا لتلحظه وحدها. يوسع التصوير نطاق ما يسميه سارتر «التدرب على الرؤية»، وهو أمر نفاه عن الصورة العقلية. يقول بازان إن تخيلاتنا يمكنها استيعاب الواقع الذي تلمح إليه الصورة. خذوا، على سبيل المثال، الصور غير الاحترافية التي تؤخذ في لحظة وقوع كارثة أو خطر. في مثل هذه الحالات، ربما تبدي لنا الصورة القليل جدا لكنها تؤدي الوظيفة نفسها تماما التي تؤديها «النسخة السالبة» من «المغامرة المحفورة بعمق».
23
لا شيء أكثر من ذلك يمكن للمصور أن يصنع له فيلما من حدث نشعر بأن تأثيره أشد بسبب الصورة المهتزة والحذف. تعلمت أفلام الرعب أن تنتج أثر مثل هذه الصور المشوشة.
تتيح صفحة ملحوظات بازان مثالا مختارا بذكاء لصورة، وهي فرن لاندرو؛ المعروف باسم اللحية الزرقاء. هذا الجسم سيئ السمعة، نقلته الشرطة من مكانه الحقيقي في عام 1921، وهو قبو لاندرو، ليوضع في قاعة المحكمة؛ حيث استخدم لتأييد الادعاء. والآن، بعد مرور عقدين، أصبحت الصورة التي تبرز هذا الشيء وثيقة الصلة بقضية أخرى؛ قضية فلسفية. هكذا انتزع الفرن مرتين من السياق الذي اختير من أجل استحضاره (تلك الأوقات في القبو - وهي عشر مرات لتوخي الدقة - التي كان يشعل فيها، كما يقال، للتخلص من الضحايا النساء). يصف بازان الصورة بأنها «وثيقة»، تدخل من مكان آخر يعلن عن الحاضر ، واضعا حرية التخيل في موضعها الصحيح. بازان هنا أقرب كثيرا إلى برتون، ودالي، وباتاي، وبنيامين، منه إلى سارتر. في عام 1943، أطلق أصدقاء بازان عليه لقب سريالي ممارس،
24
ونشر جورج باتاي مقال بازان المعنون «أسطورة السينما الشاملة» في عام 1946.
25
أما عن بنيامين، فإن بازان لا يذكره بالمرة، لكن لا بد أنه اجتذبته حاشية كتبها مالرو عن بنيامين في مقال «مخطط لسيكولوجية السينما»
26
الذي صدر عام 1940، وهو مقال حفظه بازان عن ظهر قلب، ويستشهد به في بداية مقاله المعنون «الأنطولوجيا». وبالفعل فإن الحاشية النهائية التي كتبها بازان في النسخة الأصلية من المقال التي صدرت عام 1945 تفصل أفكار بنيامين الشهيرة (دون ذكره) حول تجاوز اللوحات بفعل نسخها المصورة. درس كلا الرجلين بمثابرة أعمال بودلير الذي بشر بالوعي بالذات الاغترابي الحديث. أشاد كلاهما بما كان بودلير يخشاه، وهو اضمحلال أهمية العبقرية الفنية أمام شلال المجتمع الجماهيري التكنولوجي. على سبيل المثال، عبر كلا الرجلين عن الصدمة التي يمكن أن تحدثها صور من الماضي للحاضر.
27
ومثلما كان بازان يبحث عن أفلام تأتي إلى الشاشة بظواهر عجز الفن عن الاستيعاب الكامل لها، فإن بنيامين انتقى الوثائق المهملة وغيرها من فتات الحضارة ليتحدى «القصص الرسمية» الناعمة التي ينسجها الروائيون، والمؤرخون، والسياسيون بالطبع. بشعوره بأنه غريب، كان بنيامين منجذبا إلى تكنولوجيات من قبيل السينما، وإلى الحركات التقدمية مثل السريالية؛ لأنها تجاهلت الثقافة الكلاسيكية أو قوضتها. واعتبر أن رواية برتون «نادية» مهمة؛ لأنها كانت تعتمد على الصدفة لتسلط الضوء على أماكن وأشياء مهملة أو منسية أو خفية.
28
وضع برتون صورا في نص الرواية، وكانت صورا غريبة عن أشياء مثيرة للإزعاج، تفسر فجأة بلا مقدمات كلامه ورؤيته.
صورة فرن لاندرو من الصور التي يمكن لقوتها الكهربية التي تراكمت داخل الموقف الذي شحنها في البداية أن تشتعل بالشرر لتصعق المشاهد بقوة غير إنسانية.
29
توضح الصفحة الأخير من مقال «الأنطولوجيا» ولاء بازان: «من وجهة نظر السريالي، أنهيت التفرقة المنطقية بين التخيلي والواقعي. ينبغي الإحساس بكل صورة وكأنها جسم، وبكل جسم وكأنه صورة. لهذا فإن التصوير الفوتوغرافي تقنية مميزة للممارسة السريالية؛ لأنها تنتج صورة تسهم في وجود الطبيعة؛ صورة هي هلوسة موجودة بالفعل.»
30
يفند بازان هنا بوضوح، باتباعه السرياليين، تصنيفات سارتر الأساسية للحضور والغياب باستخدام أثر هلوسة؛ وبرأيه، فهذه هي الحالة الاعتيادية للتصوير الفوتوغرافي. سيستهدف سارتر لاحقا السريالية ببعض من أشرس هجماته بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة. كان بإمكان فيلسوف كلاسيكي مثل سارتر أن يرجع الأمور في عام 1943 لتصنيفين وهما «الوجود والعدم»، لكن، كما رد بازان بعد سنوات، «من وجهة نظر رجل الشارع ... يمكن أن تكون كلمة «الحضور» اليوم ملتبسة ... لم تعد كلمة مؤكدة كما كانت لأنه لا توجد مرحلة متوسطة بين الحضور والغياب ... من الخطأ قول إن الشاشة عاجزة عن وضعنا «في حضرة» الممثل. إنها تفعل هذا كما تفعله مرآة - يجب الاعتراف بأن المرآة تعيد حضور الشخص المنعكس فيها - لكنها مرآة بانعكاس متأخر، أو ورق الألومنيوم الذي يحفظ الصورة.»
31
يعتبر لويس-جورج شفارتس هذه المقولة نبوءة واضحة بفلسفة دريدا عن الأثر والإرجاء.
32
لا يتوقف بازان عند الصورة، وهي وسيط لم يناقشه مرة أخرى بشكل مباشر. في صفحة الملحوظات تلك، انتقل مباشرة للوثائقيات التي كتب أنها «تكمل» الوثيقة بوضعها في محيطها الزماني والمكاني. كان بإمكان الصورة أن تساعد السرياليين جيدا؛ لأنها تنتزع من السياق بالكامل. تكتسب صورة بوافار الشهيرة المقربة لإصبع قدم مفصول عن الجسد التي نشرتها مجلة باتاي «دوكيمون» قوة شاذة. علاوة على ذلك، فإن الصور جاهزة للانتقال لسياقات أخرى كما يحدث في مونتاج الصور. لكن كل إطار من فيلم وثائقي مصور بكاميرا 35 مليمترا يرتبط بالإطار المجاور له، وكل لقطة تشي بوجود علاقات تماس تصف عالما حقيقيا مترابطا. يجعلنا بازان نتأمل لقطة شاملة في قبو لاندرو؛ حيث يمكن أن يحتل هذا الفرن مكانه بين أشياء أخرى كان «اللحية الزرقاء» الغامض يجمعها أو يستخدمها. وقد يتبع ذلك لقطات له في بيته، ثم المبنى والحي الذي كان يقيم فيه. هذا النوع من التوثيق الكلاسيكي يثبت موضوعه في المكان، رغم أنه غائب عنا في الزمن. تقول الفيلسوفة الفرنسية ماري جوزيه موندزان إن الفيلم الوثائقي يتصور موضوعه بدلا من أن يتضمنه، ويحيط غيابه بالضوء والظل.
33
الصورة والفيلم - الوثيقة والوثائقي - كلاهما يفصلان بالتساوي عن موضوعاتهما من حيث الزمن. فمن خلال التصوير في يوم، والتحميض لاحقا، لا مفر من الشعور بهما على مسافة زمنية. وكلما زادت هذه المسافة زاد سحر الصورة في أغلب الأحيان؛ حيث تبدو روح الشخص الذي تصوره وقد التقطها الضوء والظل اللذان التقطتهما الكاميرا هما أيضا في لحظة معينة صارت بعيدة. يغير التليفزيون كل هذا، كما يشير بازان في الجملة الأخيرة المفاجئة في صفحة ملحوظاته؛ لأنه إذا ما عرض في التليفزيون «يصبح الوثائقي معاصرا للمشاهد» الذي «يدفع للمشاركة في حدث» يحدث مباشرة أمام الكاميرا. يعمل التليفزيون بشكل أساسي على عرض ما سجل في وقت سابق، لكن أهميته النظرية من وجهة نظر بازان تكمن في قدرته على عرض التواقت، وهو ما لم يزل يستغل في الأحداث الرياضية، وحفلات توزيع جوائز الأوسكار، والأخبار القصيرة خلال الكوارث، وهكذا. في آخر حياته القصيرة خاصة، حينما كان يضطر مرارا إلى لزوم الفراش، كان لدى بازان الكثير ليقوله عن التليفزيون، شأنه شأن سيرج داني الذي ترك مجلة «كاييه دو سينما» ليبدأ في النقد التليفزيوني. برأي الرجلين، فإن مشهد السينما المتأخر متأصل في طبيعتها التأملية بالأساس. تعود الصورة لنا بعد فترة، مرددة صدى من الماضي، وسامحة للمشاهد بأن يتأمله بدوره أكثر من أن «يشارك فيه» كما نفعل مع التليفزيون الحي. التليفزيون حاضر أمامنا، ومذيع الأخبار يتحدث إلينا في بيوتنا في هذه اللحظة عينها؛ بينما نتوجه إلى دار السينما حينما نريد، وننقل حينئذ إلى زمن آخر «يعاد تقديمه»، ولا «يقدم» مباشرة على شاشة عاكسة.
تستغل السينما الحديثة، من الواقعية الجديدة، مرورا ب «الموجة الجديدة»، وحتى يومنا، هذا الفرق في التركيب الزمني للصورة المرئية مرارا. وبينما يذكر فيلم «الأربعمائة ضربة» بسبب صورته النهائية الثابتة - الخاتمة الفوتوغرافية للفيلم - فإنه يحوي أيضا المشهد المميز الذي يظهر فيه أنطوان دوانيل يرد على عالم نفس اجتماعي. يحاكي الحوار المرتجل ، والقفزات في الصورة التي تدل على الحذوفات في لقطة فردية طويلة، الطبيعة المباشرة للتليفزيون الحي، ويساعدان على ترسيخ حساسية تروفو الخاصة تجاه التعايش ما بين التلقائية والرثاء؛ ما بين الحياة والاعتراف بمرورها. هناك مجموعات أخرى لا تحصى من التضاد بين الصور يمكنها التنافس على شاشة السينما.
34
تنافس الصور في العصر الحالي
على الرغم مما كان يظن حتى الآن، فإن الخط الجمالي الذي قدمته نظرية بازان، وفصله سيرج داني بعد ظهور الموجة الجديدة يبرز الأثر والتأخر، لا المشهد والحضور. يعمل ما أسميته «نهج كاييه» عمل ممر رئيسي إلى هذا المبدأ الجمالي، مع أنه يكاد يكون طريقا مفردا. يمكنكم أن تروه في ميول تلك الدورية؛ حيث ناصرت في الثمانينيات والتسعينيات، على سبيل المثال، أفلام عباس كيارستامي ذات النزعة الاختزالية، بينما كانت «سينما المظهر» الرائجة محل ارتياب على الفور. قاد داني اتجاها مضادا لهذه السينما في مراجعات لاذعة استهدفت صور جان جاك بينيكس، وجون-جاك أنو، ولوك بوسون. تغمر نرجسية عميقة فيلم «الأزرق الكبير» («ذا بيج بلو»، «لو جراند بلو»؛ بوسون، 1988) حيث يعرض الفيلم حلما أنويا بعدسة مقياس 70 مليمترا، ينغمر فيه المشاهد المتصلب لساعات في المعادل السينمائي للسائل السلوي المحيط بالجنين، لكنه لا يواجه شيئا. أما فيلم «الدب» («ذا بير»، «لور»؛ أنو، 1988) فهو يطرد التفاعل البشري تماما، متجنبا أي «مكافأة للوعي» من جانب صانع الفيلم أو المشاهد. تمتع «سينما المظهر» مشاهدها بصورة مليئة عن آخرها بالمتعة الذاتية.
تفجر عداء داني في مراجعة لفيلم أنو «الحبيب» («ذا لفر»، «لامو»، 1992، المقتبس من رواية مارجريت دوراس). قدمته هذه الإدانة البارعة في وقت متأخر لقراء الإنجليزية؛ حيث نشرت ترجمتها في مجلة «سايت أند ساوند» عقب موته.
35
أشار داني إلى أن «الحبيب» تلفيق بصري، وتقديم توكيدي للذات لرؤى وأجسام يمكن إدراكها (السلع التي يعرضها الفيلم ويتحول إليها في حقيقة الأمر). بدلا من ذلك، ينبغي أن تستخدم السينما الغياب الخلاق في قلب الصورة لسبر أغوار الرواية والواقع. السينما التي يهتم لأمرها تحث المشاهد ليضع نفسه خلف الصورة، ويتخذ موقفا تجاه الواقع الذي تستحضره الصورة لكنه لا يتحقق أبدا. «الحبيب» فيلم عن المؤثر المرئي. كل لقطة تخطو قدما بمفردها، مقدمة نفسها مثل سلعة استهلاكية على لوحة إعلانات. يسأل داني: كيف يمكن لمثل هذه الأفلام أن تتصل باللقطات المجاورة، أو توحي بها، وهي تعرض وكأنها مكتفية بذاتها؟ هذه سينما بلا نوافذ؛ حيث يكون كل شيء يظهر هو ما نريد رؤيته (أو رأيناه بالفعل)؛ نسخة تليفزيونية من السينما، نهنئ فيها أنفسنا بإدراك ما هو مألوف بالفعل، العالم المرئي الذي يحيطنا ويطمئننا. يلحظ داني ببديهة رائعة اضمحلال دور الشخصيات الثانوية في السينما الفرنسية منذ ظهور «الموجة الجديدة». مثل هذه الشخصيات كانت تستخدم للطفو كالسحاب على الشاشة كما ذكر. حتى حينما كانت أعيننا مثبتة على النجوم، كنا نستطيع رؤية الحركة المستقلة للشخصيات الثانوية وهي تدخل إطار رؤيتنا ثم تخرج من الصورة. أما اليوم فإن ظهرت هذه الشخصيات تكن مقيدة بأداء وظيفة ما.
مات داني في وقت أبكر مما كان يمكن أن يجعله يخوض الجدل عن فيلم «أميلي»، لكن يمكننا التأكد من أنه لو كان حيا لأشار إلى التوزيع الصارم لكل شخصية، سواء أكانت رئيسية أم ثانوية، وكذلك السحب المثبتة حرفيا لكي تأخذ الأشكال الجديرة بالمعانقة والاحتضان من أجل إمتاعنا. في «أميلي»، نظام العالم بأكمله - الإنسان، والحيوان، والطبيعة - نظم من أجل راحتنا. وبقدر ما يمكن أن يكون ممتعا، حافلا بتاريخ الفن، والرموز السينمائية التخيلية، صنع «أميلي» لتملقنا. في مقدمة الفيلم، تتودد لنا أميلي واصفة نفسها بأنها مشاهدة أفلام ثاقبة النظر، وهي تهمس من مقعدها في دار عرض سينمائي: «أحب أن ألحظ التفاصيل التي لا يلحظها أي شخص آخر.» ولإثبات هذا، تحدد مصادفة حدثت في لقطة شهيرة من فيلم تروفو «جول وجيم» (1962)؛ حشرة ظهرت أمام الكاميرا بشكل ما وهي تزحف على زجاج في المستوى الخلفي للقطة، متجهة مباشرة تجاه فم جين مورو المثير المفتوح ليتلقى قبلة جيم الحانية. فاجأ تروفو الحشرة، أو للدقة فإن الحشرة هي التي فاجأت تروفو. سألت المصور السينمائي للفيلم، راءول كوتار، حول هذه «الغلطة»، فزعم أنها نتيجة عرضية لمعجزة اتحدت فيها الطبيعة (ضوء صبح جميل ورائع وغير متوقع) مع الخيال.
36
وأثناء عمله بسرعة قبل خفوت الضوء، صور كوتار العاشقين في صورة مظللة، لتدخل الحشرة اللقطة بشكل غير مخطط له. كانت اللقطة معبرة لدرجة جعلت تروفو لا يفكر في إعادتها. هذا هو نوع الصدف التي حلم بها السرياليون.
مثل أميلي، اعتاد السرياليون مسح الشاشة بأعينهم للبحث عن تفاصيل غير مرئية حتى للمخرج، ممارسين ما سماه كريستيان كيثلي «الإدراك البانورامي».
37
بتصوير الفيلم بأبعاد الشاشة العريضة (1 :2,35 ) لتعزيز هذا النوع من الإدراك بعينه، ولتشجيع حدوث هذه الصدف الإعجازية، يتجنب تروفو التخطيط المسبق المفرط التي يمثله جونيه. وإذ يرغب جونيه في كسر سيطرة «الموجة الجديدة» التي اشتهر بذمه لها، فإنه لا يشوه فقط فيلم «جول وجيم» لكنه ينقل ممثلة من فيلم تروفو إلى فيلمه هو؛ كلير مورييه، التي أدت دور والدة أنطوان دوانيل الساخطة في فيلم «الأربعمائة ضربة» تؤدي دور رئيسة أميلي، صاحبة المقهى العالمي. ولعل موقع المقهى في شارع لوبيك مناسب تماما، بالقرب من المكان الذي تجسس فيه أنطوان دوانيل على والدته - كلير مورييه هذه نفسها - وهي تقبل عشيقها (ناقد «كاييه»، جون دوشيه). ولعل أميلي أيضا، لهذا الأمر، تعيش في مبنى مجاور للشقة الحقيرة التي يعيش فيها دوانيل في حي كليشي. بعد بداية مسيرته في الإعلان وأفلام الاستوديو ذات الأسلوب الرفيع، مثل فيلم «داليكاتسن» (1991)، احتفى جونيه بعمله الأول «في الهواء» الطلق بتوثيق انهيار «الموجة الجديدة» على شوارع باريس.
لكن باريس جونيه لا تبدو مثل باريس تروفو أو رومير أو جودار. لقد رتبت، ولا يرجع الفضل في ذلك فقط لجهود أندريه مالرو في تنظيف المدينة في ستينيات القرن العشرين. تخلص جونيه رقميا من أي عنصر قبيح أو غير لائق، إطارا تلو الآخر. ولم تكن الحشرة التي فرحت أميلي برؤيتها في فيلم «جول وجيم» لتنجو من تنظيف جونيه للصور. تتفاخر المراجعة المنشورة في مجلة «سايت آند ساوند»: «الصور الجميلة للشوارع المرصوفة، والسلالم الباريسية المنحدرة، والمخابز على النواصي، والأسواق المنتشرة في الشوارع؛ بجانب المناظر المشهورة في البطاقات البريدية لكاتدرائية العذراء، وكنيسة القلب المقدس، وجسر الفنون، ومناظر الأسقف الباريسية، والمقاهي الأليفة، ومحطات المترو المصممة على طراز الفن الحديث ... يسكن هذه الأماكن «بسطاء» باريس.»
38
ربما يشعر المشاهدون بفيلم «أميلي» يمارس سحره عليهم، لكن لم يكن هناك أي شيء سحري في إنتاجه. بتحكمه في كل عنصر من عناصر الصوت والصورة، بنى جونيه فكرته الخيالية بدقة صانع الساعات، حيث نعمت كل لقطة لتتخذ موقعها، بحيث ترتبط باللقطة التالية لها بلا حكاك. على العكس، كان تروفو يبحث عن هذا الحكاك في كل مرحلة من مراحل الإنتاج.
39
وجد أن سيناريو كل فيلم من أفلامه الثلاثة الأولى أسهل مما يمكنه أن يقبله؛ ولذا كان يعمل خلال التصوير ضد الاتجاه العام لما سبق أن كتبه. شخصية كاثرين التي مثلتها جين مورو في «جول وجيم»، التي كانت محبوبة للغاية على الورق، جعلها صعبة الاحتمال قرب نهاية فيلم. وأبطأ تروفو كذلك من إيقاع ذلك الفيلم لوضع مقدمة الفيلم الجذلة في موضعها الصحيح، وليضيف إلى الغموض الجاذبية. لا الجاذبية ولا الغموض يميز شخصية أودري توتو، ولا فيلم جونيه، ما عدا مقاطع الفيديو المصورة بالأبيض والأسود التي ترسلها أميلي للرسام المنعزل، دوفايال، وتظهر أطفالا يسبحون بالحركة البطيئة، ومغني أغنيات حزينة، زنجيا بساق صناعية يؤدي رقص النقر بالقدم. هل قدم جونيه هذه المقاطع الجرثومية لتلويث الرضا الذاتي المميز لصوره السيليولويدية المصففة بعناية؟ باضطرابه بسبب هذه الرسائل من عالم خارج مرسمه، يعود دوفايل بإلهام متجدد لنسخته من لوحة رينوار «جماعة القارب» («لو دوجونيه دي كانوتييه»، «ذا بوتينج بارتي»، 1871)، معتزما فهم غموض إحدى الشخصيات، «الفتاة حاملة الكأس» التي يراوغه عمقها. أثناء ذلك، تقف أميلي في خلفية المشهد ممسكة بكأس. وحيثما تخفق لوحات دوفايال، ستحل سينما جونيه اللغز في النهاية.
محاكاة مضحكة لرينوار الأب. «أميلي».
يستعين جونيه هنا ببيير-أوجست رينوار لمباركة «أميلي»، وربما لاستنساخ تعاطفه الكبير، وجمال نظرته، وشفافية صوره. ينضم إلى أولئك الذين اعتبروا رينوار دائما رجلا محبا للحياة، ومفتونا بالطريقة التي يبدو عليها الرجال والنساء بالدرجة الأولى، وجمال الزهور والمناظر الطبيعية، وبلاغة الإشارات ... وباختصار، بالمظهر المتألق للعالم. لكن رينوار، طبقا لما يقوله ابنه، كان يسعى وراء شيء أعمق. إذا كان هناك أي صانع أفلام نسخ رينوار فهو ابنه؛ بالطريقة التي استخدم فيها - مثلما فعل والده - التعاطف والجمال أسلوبا للتنقيب فيما كان يصوره وخلاله. في أولى صفحات سيرة حياته، بعنوان «رينوار أبي»، يكتب جون: «أحببت لوحات أبي بشدة، لكنه كان نوعا من الحب الأعمى. والحق أقول إنني كنت جاهلا تماما بماهية الرسم. كنت لا أكاد أعرف ما الذي يدور حوله الفن عموما. كل ما استطعت إدراكه من العالم نفسه هو المظاهر الخارجية. الشباب مادي. الآن أدرك أن الرجال العظماء ليس لهم وظيفة في الحياة إلا مساعدتنا في رؤية ما وراء المظاهر: إراحتنا من بعض من عبء المادة - «تخفيف العبء» عن أنفسنا كما يقول الهندوس.»
40
هل تعلم رينوار هذه الفكرة من مقالات بازان العظيمة حول أفلامه، خصوصا فيلمه «الهندي» بعنوان «النهر» («ذا ريفر»، «لو فلوف» 1951)؟ قبل عقد من كتابة جون عن والده، كتب بازان عن الابن قائلا: «رينوار يفهم أن الشاشة ليست مستطيلا بسيطا ولكنها سطح مماثل لشباك الرؤية في كاميراه. إنها المضاد الكامل للإطار. الشاشة قناع لا تقل وظيفته في إخفاء الواقع عنها في كشفه. أهمية ما تكشفه متناسبة مع ما تتركه مخفيا. هذا الشاهد الخفي مصنوع حتما ليرتدي غمامة.»
41
تلك الغمامة هي بالضبط ما يستخدمه رينوار في مشهد المنظار المقرب الذي ذكرناه من فيلم «قواعد اللعبة». تستخدم كريستين «كاميراه» للنظر إلى الطيور، ثم ترى زوجها مصادفة وهو «يبدو» وكأنه يحتضن خليلة له. يقف رينوار الذي يؤدي دور أوكتاف وراءها، وكهذا يبدو أنه يشجع خطأها؛ لأنها ترتكب خطأ؛ فالزوج في الحقيقة ينفصل عن عشيقته للأبد ليخلص لكريستين. هذه هي نقطة التحول في المأساة؛ حيث إن كريستين التي تصدق بسبب الدليل المادي أن زوجها يخونها، ستتخلى عن وفائها الساذج، وتدخل دوامة الإثارة الجنسية الطليقة التي تؤدي للموت والتشتت. مع ذلك، فالصورة ليست زائفة بالكامل ؛ بسبب أن الزوج كان بالفعل على علاقة بجنيفييف. والكاميرا تقدم أثرا زائفا لهذه الحقيقة.
عكس تروفو، وعكس دوفايال، جونيه ليس فنانا معذبا؛ ففي عالمه كل شيء يمكن تصويره، وكل سر غامض يمكن كشفه. بالفعل، تكون آلية الاستكشاف المتعة الرئيسية لجمالياته، وتشبه بعض الشيء مقالب أميلي العملية. تستدعي بريتودو إلى كابينة الهاتف لمحادثة تذكره بطفولته، وتشاهد ما يحدث من بين الأعمدة؛ كما تقاطع مذيع مباراة كرة قدم؛ وتنبش عن حب بين زوجين باختلاق رسالة ضائعة عمرها 20 عاما، ثم نشرها. حتى السر العميق الوحيد في الفيلم، وهو سر الشكل الشبحي في كشك التصوير، فسر في لحظة في النهاية، لكن بعد أن ترتب أميلي بالتفصيل مكيدة لتجبر نينو على مواجهة مصدر الصور التي تطارده. لا يكتشف نينو طيفا ولكن ساحر أوز - سيد الجهاز - وهو العامل في كشك التصوير.
أفهم أن رجل كشك التصوير هو جونيه نفسه، صانع أفلام يلصق جنبا إلى جنب صورا متسلسلة لممثلين في أوضاع مختلفة أمام الكاميرا (24 وضعا للدقة) إلى أن يبدو أنهم يتحركون. أما الألبوم الذي يحتفظ بهذه الصور - وهو الألبوم الذي يؤدي ضياعه ثم استعادته إلى قصة الحب - فهو بداية الفيلم ونهايته. ولكونه لوحة مشاهد وملفا لوكيل اختيار الممثلين، فإن هذا الألبوم يعود في شارة نهاية الفيلم مؤكدا في النهاية سلامة الفكرة الأصلية. إجمالا، فإن فيلم «المصير الخرافي لأميلي بولان» مشمول في الألبوم من البداية للنهاية. ذكرت مقالة افتتاحية في دورية «كاييه دو سينما» بخبث أن كل لقطة محرومة من أدنى تناقض.
42
بطريقة ما، تحرك سينما جونيه صور الدعاية الثابتة التي تكون لوحة مشاهده.
43
مثل الأب توليب في فيلم «المليون» («لو مليون»، 1931)، أو مثل جودوشو في فيلم «المغنية»، دوفايال قوي وخير ومراقب ذو عين ثاقبة، وقادر على وضع الأمور في موضعها الصحيح. تختبر أفلام ثلاثة براعة مخرجيها في مشاهد رئيسية تتضمن فعل الهروب. في «المليون»، يرتب رينيه كلير مأساة صراع على مسرح الأوبرا من أجل معطف يحتوي على تذكرة يانصيب. أما في «المغنية»، فإن بينيكس يقدم جولة بالدراجة النارية بأقصى سرعة خلال شوارع باريس ثم تحت سطح المدينة في أنفاق المترو. وأما أميلي فتتسلق سيارة على قضبان في حديقة ملاهي حيث يعمل نينو في الكواليس. هذه اللعبة الجذابة رمز لأساليب السينما ومباهجها. تنقل أميلي، المشاهدة التي دفعت ثمن التذكرة، إلى عالم مصنوع من أجل تسليتها وإثارة خوفها ودهشتها. يدفع سرد بسيط حرفيا التماثيل البلاستيكية أو الشمعية التي تقابلها أميلي في كل منعطف؛ تمد أيديها نحوها مهددة إياها في تتابع للمؤثرات الخاصة مؤقت بدقة. ثم يقفز نينو الحقيقي على مؤخرة سيارتها ليمنحها ما يعتبر أكثر المواقف إثارة في حياتها. في نهاية الفيلم، يجلس نينو في مقعد القائد على دراجته النارية، بينما تبتسم أميلي، سعيدة بأنها وضعت أخيرا في قصة شخص آخر، متجولة في باريس مليئة بأقدار أخرى رائعة.
ومثل الحجر الذي ترميه أميلي ليقفز على سطح مياه قناة سان مارتان، فإنها تقفز في خفة فوق سطح باريس. على العكس من ذلك، وكما تشير آن جيليان بذكاء، كان من شأن أنطوان دوانيل في «الأربعمائة ضربة» أن يدخل في جسم باريس المظلم، والدته الحقيقية، حينما يدفع زجاجة الحليب الفارغة التي سرقها داخل مجرور، ويستمع إليها وهي تتحطم تحت الشوارع في أحشاء المدينة أو رحمها.
44
صورة باريس البطاقات البريدية عند أميلي هي بالضبط الصورة التي سخر منها جاك تاتي بذلك الغموض الكوميدي في فيلم «وقت اللعب» («بلاي تايم»، 1967): كنيسة القلب المقدس التي تسيطر على فيلم جونيه تلمح فقط في فيلم تاتي حينما تنعكس صورتها للحظة على نوافذ المباني الإدارية في الضواحي التي أصبحت المركز الجديد للعاصمة. حي لا دفنس (وهو هدف تاتي الحقيقي) محجوب إلى جهة الغرب من كاميرا أميلي، ولم يكن أحد ليشك أن مشاريع الإسكان الكئيبة، مأوى المهاجرين من حيث الأساس، تقبع مباشرة خلف حي مونمارتر (انظر الصورة العلوية في الجزء الخاص بالتعليق على فيلم «4 أشهر و3 أسابيع ويومان»). الممثل المغربي الكوميدي جمال دبوز الذي يؤدي دور لوسيان المتلعثم ليس تهديدا مطلقا؛ فهو يعشق أميلي، مثل نينو، الذي يؤدي دوره ماثيو كاسوفيتس الذي أخرج فيلم «الكراهية» («هيت»، «لا هاين») في تلك المشروعات عام 1995.
أثار التبييض العرقي للفيلم نقاشا حادا في فرنسا، انضمت إليه «كاييه» بأسلوبها، بتجريد فيلم أميلي من جماليات «الشكل». دائما ما ربطت «كاييه» بين المبادئ الأخلاقية والجماليات، ربما إلى درجة غمر الأولى بعمق في الثانية. في مارس 1959، أعلن لوك موليه على صفحاتها أن «الفضيلة هي لقطة تتبعية» وهو ما تسبب في صدمة الشاب سيرج داني بإدراك مسئوليات السينما.
45
الواقع أن سيرة حياة داني بعنوان «بطاقات بريدية من السينما» تبدأ بفصل بعنوان «اللقطة التتبعية في كابو» حيث ينتقد مخرج الفيلم جيلو بونتيكورفو بشراسة؛ لأنه أعطى الهولوكوست شكلا جماليا باللجوء إلى بناء درامي يصور بإتقان هيئة امرأة صعقت بالكهرباء على سور الأسلاك الشائكة المحيط بمعسكر الاعتقال.
46
الجماليات ليست فلسفة، لكنها فلسفة الفن، وفي عصرنا الحالي، وخصوصا في السينما، يتضمن الفن كل ما هو بشع المنظر. استخدم جونيه مسكرة لتحسين منظر المدينة المدنسة، وبدل مكياج فيلمه، متضمنا، كما أشار الكثيرون، المكياج العرقي لفرنسا.
دائما ما كانت السينما الفرنسية أكثر فتنة وتعقيدا حينما وضعت، مثل كاثرين في «جول وجيم»، مكياجها وحينما أزالته. تشير اللطخات إلى صدع بين الوجه والروح، تتبعته دائما منذ ظهور «الموجة الجديدة» أفلام من قبيل «عاطفة» («باشون»؛ جودار، 1982)، و«أصدقاء وصديقات» («بويفريندز آند جيرلفريندز»، «لا مي دو مون امي»؛ رومير، 1987)، و«نخب أحبائنا» («آنوزامور»؛ بيالا، 1983)، و«المتشردة» («فاجابوند»، «سان توا ني لوي»؛ فاردا، 1985). وبينما «أميلي» (الفيلم وبطلته) وجه صاف، أو ملصق جميل بلا عمق، فإن تلك الأفلام تلتزم بفكرة السينما بوصفها تتابع صور ينفتح على واقع أكبر له مستقبل سياسي محل نزاع، وهو مستقبل يمكن للمشاهدين الذين ينظر بعضهم إلى بعض أثناء خروجهم من دار العرض أن يتخيلوه على نحو أفضل.
تنطبق هذه الفكرة على السينما في كل مكان، حتى لو كان من المناسب لي أن أبرزها من خلال السينما الفرنسية. الامتلاء الذي توفره الأفلام (شيء مميز لمشاهدته) لا يشبع في النهاية بالمظهر ولا بالصورة المزخرفة فنيا، ولكن بالإحساس وعملية الاستكشاف التي تحدث عبر الشاشة وخلالها. فكرة بازان هي إبقاء موضوع الفيلم دائما في مجال الرؤية، حتى وهذا الموضوع يقاوم تقديمه في هيئة صورة. لا يأتي الإعجاب من خلال الحضور المبهر، ولكن من خلال الغياب المتكرر؛ حيث تقودنا الآثار المسجلة لموضوع ما إلى البحث عنه. حركة المشاهد هذه وعلاقتها بما ينظر إليه تستغرق وقتا؛ حيث تتحول الصور المسجلة إلى حدث موجه بدرجة أو أخرى ... دعوني أسمه الحدث السينمائي. ما الذي كان بازان وأنصاره يظنون أنه ضروري لإعداد مثل هذا الحدث، وتجميعه، وتركيبه؟ تستلزم إجابة هذا السؤال أن ننتقل من الصورة السينمائية إلى الفيلم المحرر.
هوامش
الفصل الثاني
استكشاف المحرر للشكل
حتى حينما تلتقط المشاهد الخام من قبل مبتدئ، أو بالصدفة، يمكن أن تكون فاتنة بطبيعتها على نحو يختلف عن التحريك الخالص؛ لأنها قائمة على التصوير. بطبيعة الحال، فإن رسومات أي فنان تحريك موهوب تمارس سحرها الخاص، لكنها من نوع مختلف. وكما قال بازان، فإن «أكثر الرسومات أمانة يمكنها أن تعطينا معلومات عن الموديل، لكنها لن ... تمتلك أبدا قوة التصوير اللاعقلانية التي نؤمن بها بلا تحفظ.»
1
بعد مرور عقد على صدور مقال بازان - وبالاقتباس منه - فصل إدجار موران الدوافع النفسية العميقة التي ينجذب لها التصوير، وخصوصا التصوير السينمائي. في كتاب «السينما: أو الإنسان الخيالي» (1956)، وهو كتاب أطراه بازان بوصفه أفضل ما كتب عن الوسيط السينمائي بعد الحرب العالمية الثانية، ربط موران هذا الانجذاب بالأثر العجيب السحري «الذي يتضاعف» مثلما أثرت الظلال والانعكاسات دائما في البشر، بما أن الصور، خلافا للرسومات والمنحوتات، تأتي، على ما يبدو، مما وراء عالم الإنسان.
2
وإذ تنبثق الصور المتحركة من الكيمياء الضوئية، وعلم البصريات، والتقطيع الميكانيكي، فهي تنتمي من البداية إلى صنف مختلف تماما عن الفنون البصرية. من أجل التغلب على هذا الاختلاف كرست نظرية الفيلم الكلاسيكية معظم جهدها. كيف استطاعت السينما أن تسمو فوق عملية التسجيل الأوتوماتيكي؟ كيف أمكنها أن تصبح فنا معبرا عن الروح الإنسانية وعن الأفكار؟ بازان - كما رأينا - منظر حداثي وليس كلاسيكيا ؛ لأنه يقبل قيمة التسجيل المجرد، ويستمتع بتعبيرية العالم غير الإنساني الذي تسجله العملية التصويرية، وغموضه أيضا.
تحتوي المشاهد الخام بصورة كامنة على «لحظة سحرية» (يستخدم موران هذه التسمية القديمة لإحدى طرق التصوير كتعويذة) لا يمكن مضاهاتها بالعبقرية البشرية التي نتوقعها في الرسم والمسرح والنثر. ومع ذلك، فإن المشاهد الخام وجدت للمعالجة والتحضير والتنقية؛ لتتحول إلى المنتج الذي نسميه الأفلام. يذكر بازان في مناسبات مختلفة دهشته من لقطة معينة في فيلم وثائقي ما تعثر فيها كأنها صخرة في الطريق،
3
لكنه كان مهتما في معظم الأحيان بالأفلام، لا بالمشاهد الخام. ما عني به في المقام الأول هو كيف تتعامل الأفلام مع المشاهد الخام، وكيف تكسب الكاميرا أهمية لما التقطته من الواقع، وهذا ما سأسميه «بناء الفيلم». توضح الأفلام توترا بين ما هو بشري (مثل الخيال والنية) وبين الأجزاء العصية من الواقع المسجل؛ ويحدد نمط هذا التوتر أو طبيعته الأساليب والأنواع والفترات في تاريخ السينما. على سبيل المثال، يقول بازان إنه «بسبب نسيان السينما السوفييتية المفرط لهذا [التوتر]، انزلقت، خلال عشرين عاما، من القمة إلى القاع بين أعظم الأمم المنتجة للأفلام.»
4
واعتقد بازان أنها كانت في القمة لأن «علم جماليات» آيزنشتاين عمل على نحو مبتكر في سياقات مأهولة بجموع مجهولة. ماذا عن السينما الروسية اليوم؟ أو أي سينما؟ لنتتبع خطة بازان «للنظر عن قرب إلى موضع السينما اليوم»، آخذين في الاعتبار أن هذا التوتر بين ما هو خام وما هو معد، وهو التوتر الذي من خلاله «يمكننا تحديد تصنيفات، إن لم يكن تراتبيات، لأسلوب السينما.»
5
يعد تحريك الصور صنفا متفوقا يضعه بعض النقاد على قمة تراتب الأساليب الفيلمية اليوم. وكما وضح لي منذ فترة قصيرة فإن «التحريك هو السينما في أنقى أشكالها»؛
6
ويرجع هذا إلى أن الصور المتحركة الحرة تتجاوز اللقطات المنتجة فوتوغرافيا التي يحد من حريتها قيد المكان والزمان الاعتياديين. وطبقا لهذا النظام الجديد، فإن كل الأفلام، وليست الأفلام المتحركة فقط، يجب مشاهدتها وتقييمها بوصفها جهودا للاستجابة للخيال، متحررة من القيود الطبيعية . فكرة بازان مضادة لفكرة «السينما في أنقى أشكالها». فنظريته عن «السينما المشوبة» تتوسط بين الإنسان والطبيعة، بين التخيلي والواقعي.
أسلاف بازان
كما سنرى، هذا التوجه مفعم بالحيوية اليوم؛ لكن قبل النظر في أمثلة من القرن الواحد والعشرين، دعونا نرجع إلى الألفاظ التي ورثها بازان، والأفلام التي أبقاها نصب عينيه أثناء رسم نمط التفكير الذي نتتبعه. أصبح بازان المولود في عام 1918، مشاهدا نهما في الوقت الذي جعل فيه ظهور السينما الناطقة الجميع حديثي الانتباه للتوتر بين الطبيعة الخام للتسجيل وشطحات الفن. كان روجيه لينارت وأندريه مالرو كلاهما، كما اعترف بازان بصراحة؛ هما الصوتان الوحيدان اللذان يستحقان الاستماع إليهما فيما يخص السينما الناطقة؛ لأن كليهما ظهرا على الساحة بعد عام 1930. كان بازان طالبا في المرحلة الثانوية حينما فاز مالرو بجائزة جونكور عن روايته «قدر الإنسان»، وكان في الجامعة حينما نشرت رواية «أمل الإنسان»، وعرض الفيلم المقتبس منها في السينما (قبل حظره). وإذ أبهره تماما هذا الفنان والبطل الثوري، انضم بازان لمجموعة دراسية أسسها مالرو عام 1942 في «دار الثقافة»؛ حيث كان يدير ناديه السينمائي. لهذا السبب يمكننا التأكد من أنه التهم مقال مالرو «مخطط لسيكولوجية السينما» وقت صدوره في عام 1940، وهو مقال أوفاه بازان حقه من الذكر في حاشية مقاله عن «الأنطولوجيا». لكن بينما اعتمد بازان إجمالا على تطوير مالرو للأشكال الفنية، خاصة نظرته إلى أزمة فن الباروك، فإنه لم يكن ليقبل في النهاية الطريقة التي عامل بها مالرو السينما بالتصنيفات الفنية التقليدية.
لا بد أن بازان كان يأمل أن يكون مالرو مجددا، لكن، حتى بعد أن صنع مالرو فيلمه الثوري، لم يعزز «مخططه» إلا النظرة السائدة إلى جماليات السينما الصامتة، وحدث «ميلاد السينما بوصفها وسيلة للتعبير (لا للنسخ)» في زمن جريفيث، «حينما أصبح المصور والمخرج مستقلين عن المشهد»؛ وبذلك استطاعا معالجته بطريقة إبداعية. استهجن مالرو اختراع لوميير (الكاميرا) الذي شبهه بالفونوغراف؛ لأنه ببساطة كان يقدم على الشاشة ما سبق أن صوره على فيلم (عرض استعراضات، أو مناظر جغرافية، أو مشاهد تاريخية منشأة مجددا، أو مسرحيات، أو مباريات ملاكمة). لم تظهر «السينما» بشكل مناسب إلا بعد عام 1910، حينما بدأت بشكل منتظم في «تمثيل» مواقف، وأحداث، وقصص، من خلال الدمج بين وجهات نظر متعددة. في حالة «السينماتوغراف» (كاميرا الصور المتحركة)، يقف المشاهد في مكان مشغل الجهاز، أما في السينما، فهو يكتسب منظور المخرج الذي يرتب سلسلة من لقطات الكاميرا. يصرح مالرو بأن السينما اكتسبت شهرتها حينما خرج الإطار المقيد المبني على مسرح الحدث في النهاية إلى مجال واسع حيث يكون الحدث الحقيقي هو حدث الفنان (المصور/المخرج) الذي يتحرك هنا وهناك، ويختار ما ينظر إليه. يرتب المخرج اللقطات طبقا لرؤية تتجاوزها، سواء أكانت قصة، أم نقاشا، أم إحساسا؛ وباختصار، تقدم السينما وجهة نظر وليس مجرد منظر. ويمكن أن يحدث هذا فقط حينما يصبح المشاهد، مثل محب السينما، منفصلا بقدر كاف عن المشهد المعروض أمامه من خلال عمل الكاميرا التي تتحرك بشكل مستقل عن المشهد الذي تصوره، أو من خلال عملية تغيير اللقطة التي تعوق أي رؤية واحدة.
كتب مالرو «مخططه» وهو واقع بشدة تحت تأثير سيرجي آيزنشتاين، حيث كان فيلمه «بوتمكين» أقوى فيلم شاهده مالرو، وسبق له أن قابل مخرجه للتخطيط لفيلم مقتبس من رواية «قدر الإنسان». لكن عند النظر لفكرة «المونتاج»، لم يكن في ذهن مالرو ما يقوم به آيزنشتاين من تجميع (أو تصادم) لعناصر مختلفة، ولكن تتابع ذروات درامية مختارة من «مادة خام» ممتدة (كما يسميها). وعكس السينما الصامتة التي تقطع أحداثها فواصل داخلية معنونة، محركة المشاهد، وسامحة بالانتقال السلس إلى تسلسلات الأحلام، أو المشاهد المستعادة من الماضي، ومساعدة على تنزيل النص بطريقة ملائمة إلى المشاهد والفصول كما يحدث على خشبة المسرح، فإن الفيلم الناطق لا تناسبه الفجوات؛ فهو يؤكد، بطبيعته، الاستمرارية المتصلة للقصة عبر مسار الصورة. هذه «الاستمرارية» المفترضة تمثل أكثر المشكلات تعقيدا فيما يخص «القواطع» (الديكوبور)، وهو المصطلح الفرنسي الذي سيستنكره بازان، ويجعل (هذا المصطلح) السينما أقرب إلى الرواية منها إلى المسرح.
7
كان لدى بازان تسامح أكثر مما يظن تجاه الأسلوب السوفييتي في مونتاج الأفلام الصامتة. لكنه، بوصفه مهندس نظرية عن الفيلم الناطق، وجده غير مناسب عموما. على سبيل المثال، سخر بازان من الطريقة الصبيانية، حسب تعبيره، التي توجه بها سلسلة أفلام كابرا بعنوان «لماذا نقاتل» (واي وي فايت) المشاهد كما يفعل محاضر يستخدم عرضا لصور ثابتة للإيضاح، بدلا من أن يدع تلك الصور ترينا ما بها (أي أن تخفي أكثر مما تظهر، كما في نصه الفرنسي).
8
يشيد بازان بالفعل بالمونتاج السوفييتي على حساب مونتاج كابرا، وتثبت ذلك مراجعته الحماسية لفيلم «باريس 1900» (فدريه، 1947)، فهو لم يكن رافضا من حيث المبدأ لتوليفات الأفلام الإخبارية. ما كان يهمه في هذا الجهد هو «البراعة والذكاء في المونتاج»، الذي - على خلاف أسلوب براوست - «أحال المفارقة المتعلقة بماض موضوعي، وبذكرى خارج وعينا، إلى كون السينما آلة لاسترجاع الزمن، وأوفق لخسارته».
9
باختصار، يمكن أن يقودنا المونتاج، بالمعنى القوي، إلى النظر بمزيد من العمق إما داخل الصور، وإما بعيدا عنها تجاه معنى ما، اختيرت لتوضحه. وبعكس كابرا، الذي ضخم شذرات ومقاطع فيلمية حتى صارت مناسبة لمقولته، فإن نيكول فدريه نظمت مشاهدها الأرشيفية بحيث يكون لكل منها صدى أعمق مما لو عرض بذاته. مكن المونتاج في هذه الحالة، وبشكل متناقض، اللحظة السحرية؛ لذا ينهي بازان مراجعته المؤثرة بالإشادة بحصافة فدريه في إدراك أن «الصدفة والواقع يظهران موهبة أكبر مما يظهره كل صناع الأفلام في العالم.»
بشكل عام، فإن المونتاج بالمعنى القوي انحسر في الأفلام الروائية حينما دخل الصوت الصورة. كان جودار الذي وبخ بازان عام 1956 في مقاله «المونتاج: همي الجميل» يبذل كل ما يستطيع لاسترجاعه، وخصوصا بعد عام 1965. لكن جودار، كما يشير تيموثي برنار في ملحوظاته عن بازان، كان هو أيضا نصيرا قويا للتفكير في الفيلم أو السينما بمعايير «الديكوباج»،
10
وهو أمر تعلمه من بازان الذي أخذ مقاله الشهير «تطور لغة السينما» من حيث الأساس من مقال مفهرس طويل، عنونه ببساطة بكلمة «ديكوباج».
11
التفرقة بين مصطلحي «المونتاج» و«الديكوباج» (إلى جانب المصطلح العام «التحرير») محورية. وكما قال مالرو ، فإن «الديكوباج » هو نتاج قرار صناع الأفلام مقدما بشأن كيفية تحليل عمل روائي فيما يخص أثره الدرامي (المنطقي)، وتصميمه المكاني الزماني. يرتبط بقوة بهذا المفهوم الأولوية التي يتمتع بها مكان وزمان مستمران تتم في نطاقهما الانتقاءات، ويرتب العمل الروائي. عند التفكير من الناحية المكانية بشأن سياق معين أو جزء درامي، تظهر سمات معينة من تصميم المشهد، ويدخل «الديكوباج» بوصفه التصور الزماني بشأن الطريقة التي يمكن أن يتكشف بها العمل الروائي منظرا تلو الآخر. سبقت هذه المصطلحات ظهور مفهوم «العالم السردي» النظري،
12
أو مهدت له، وهو ليس سوى المخطط الكامل للاحتماليات المكانية-الزمانية للعمل الروائي، الذي يقدم منه تصميم المشهد الفعلي و«الديكوباج» سلسلة من الاختيارات الفنية المدروسة أو البدهية.
في مقاله «مدرسة المشاهد الصغيرة» المنشور عام 1936، أراد روجيه لينارت إطلاع العامة، ومنهم بازان - أحد قراء مجلة «إسبري» التي صدر منها المقال - على الطريقة التي كانت تصنع بها الأفلام؛ لذا «عرف المونتاج بأنه يمارس في وقت لاحق على شريط الفيلم المكشوف، بينما عرف الديكوباج بأنه يمارس في وقت سابق في عقل صانع الفيلم على الشيء المفترض تصويره سينمائيا.»
13
يشيد لينارت بصناع الأفلام الذين يسبرون العنصر الزمني في مادتهم أثناء بزوغه إزاء كل آخذ في التطور يسهم فيه هذا العنصر. إنهم «يستكشفون» الإيقاع، بدلا من فرضه، في التفاعل المتبادل بين الجزء والكل. ويثبت سلامة هذا الاكتشاف كل مشاهد يختبر ملاءمة القطع. ينظم المحرر تجربة فردية بأن يدع كل لحظة تبقى على الشاشة المدة المناسبة لها قبل أن تفسح المجال للحظة التالية. يذكرنا لينارت قائلا: «بالإنجليزية، يطلق على «الديكوباج» الاستمرارية»، وتحس الاستمرارية بوصفها الإيقاع، «التحكم الذي يمارسه العقل على المادة التي صورت أو المراد تصويرها.» هذه الفكرة الجمالية، المنبثقة منذ زمن القديس أوغسطينوس وحتى الفيلسوف هنري برجسون في القرن العشرين، تربط المادة بالذاكرة، متيحة للعقل أن يحلل العالم ليستخلص دلالته.
ولأن الاستمرارية تشغل الفراغ بين اللقطات، بالطريقة نفسها التي ينبثق بها الإيقاع من التوقفات بين النغمات الموسيقية، فإن لينارت يمضي إلى إعلان أن «جوهر السينما هو الحذف.»
14
يصنع المحررون وهم الأهمية والحضور من خلال الفراغ الذي يتخلل المادة المصورة ويحيطها. من بين كل مؤثرات السينما، يعتبر هذا هو أكثر المؤثرات «خصوصية» وتحديدا. ربما يكون الحذف عنصرا واحدا من مجموعة الأدوات الأدبية المجازية الاختيارية، لكنه «يعمل عمل حديد التسليح في بناء أي فيلم.» يتعامل المحرر مع قطع من المادة المصورة؛ وإما أن يقطعها للوصول إلى جوهرها (وهذا نموذج روبرت فلارتي)، أو - وهذا هو الأغلب - أن ينظم علاقتها بفكرة أو ظاهرة أو حدث يشي به الفراغ وسط ما يعرض، ومن حوله. وبينما كان الانطباعيون الفرنسيون في فترة السينما الصامتة ينعمون بغنى الصورة الرائقة، وبينما كان آيزنشتاين يؤكد أولوية المجاز القوي الذي يتوصل إليه بالقفزات التخيلية عبر التضادات الصارخة للصور، فإن لينارت يشير بتواضع إلى الأعمال اليومية للسينما من خلال الكناية والحذف.
اعترف لينارت لاحقا أنه «بصرف النظر عن بساطتها الواضحة، فإن مقالة «مدرسة المشاهد الصغيرة» كانت مشروعا طموحا جدا، وهو المخطط لأسلوب جمالي جديد كليا بالنسبة إلى السينما.»
15
ولهذا أطلقت طريقة تفكير جديدة سرعان ما تبناها بازان الذي كان قارئا نهما لكتابات لينارت، وصديقا مقربا له. قليلون من يعرفون اليوم أن لينارت كان محل إعجاب عميق من جون روش على سبيل المثال، الذي كان يحييه بلقب «جدي، جدي»، وهو تعبير أفريقي ودود ينم عن الاحترام والتوقير.
16
كما كان نقاد «كاييه» يعدونه بمنزلة العم، وكانوا يعرفون كم كان يعني لبازان.
17
حقا، لم يكن لينارت ليصوغ رؤاه خلال فترة السينما الصامتة. يقلل الصوت من سمو الصورة. يلح على المصدر المادي لمادة صانع الأفلام بدلا من شاعرية أثرها. ووفقا لتعبير لينارت: لا يجب أن نتعامل مع «الصورة» ولكن مع «اللقطة»، كما أن الصوت يقيد الصورة بمصدر زماني-مكاني محدد.
18
يقول لينارت: «على العكس من «أثر الصورة» الذي يجذب الانتباه لنفسه، أريد [من المشاهد] أن يكون حساسا لسمات التصوير السينمائي الجيد حقا، محايدا قليلا في مظهره، خادما متجردا يفهم روح السينما.»
19
يبث لينارت شكواه لمصوره المستقبلي، فيليب أجوستيني، بشأن نسب الصور للمصور في الأفلام، بقوله: «الصورة ل...»، ووافقه أجوستيني الرأي قائلا: ««الصور لأجوستيني» ... هذا رائع! لو قدر لك أن تصنع فيلما، فسأكون سعيدا بالعمل معك دون أن أحاول صنع صورة تعبر عني.»
20
هذا الأسلوب الجمالي المباشر المجرد يعود للهيبة التي اكتسبتها الصحافة خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها، نوع قاس من الصحافة، لا تأول فيه الحقائق، ولكنها تعرض، ثم توضع، بعضها إلى جانب بعض؛ لتحقيق التجاوب والإيقاع. ساعد النبض الصحفي على نضج الفيلم حالما أتاحت إضافة الصوت للضوضاء المحيطية وللحوار أن يملآ المشاهد التي كانت فيما مضى تكتسب قوتها من الزوايا المعبرة، والإضاءة، والستائر، والأدوات القيمة الأخرى. وحتى من دون إدخال الصوت، بدأ كثير من أفلام العشرينيات في القرن العشرين يصبح مستساغا على نحو يفوق أسلافها بسبب الانتقال من استخدام شريط الفيلم الأورثوكروماتي إلى شريط بانكروماتي، وما أتاحه هذا من إضاءة أقرب إلى الطبيعية.
21
أصبح الجسم المصور، كما قال لينارت، في بؤرة تركيز واضحة بكل «كثافته»، وكانت الوحدة الأساسية المكونة للفيلم بلا نقاش هي «اللقطة» التي انتزعت من جسد العالم، وليست «الصورة الرائقة» التي صنعها المصور.
تدين هذه الجماليات بقدر كبير لميل لينارت إلى الأسلوب المباشر لكل من هيمنجواي، وهاميت، ودوس باسوس، وجيمس كين الذين سبق أن صاروا كتابا رائجين في باريس؛ لكنه يدين بفضل أكبر لمهنته: محرر أفلام إخبارية في «إكلير جورنال». كان يستخلص الأحداث الهامة يوميا من مئات الأمتار من شرائط السيليولويد الملقاة على طاولة تحريره. وكان يحتاج يوميا للعثور على طرق من أجل تقديم - أو اقتراح - موضوعات وأحداث أكبر حجما أو أقل تحديدا مما ينبغي لعرض موجز.
22
كان الحذف هو ما يجيده، والأسلوب الرئيسي الضروري لجوهر عملية صنع الفيلم الوثائقي، وهو النمط الذي أتقنه في نهايات ثلاثينيات القرن العشرين. دعاه بازان لعرض أفلامه الوثائقية في نادي السينما بالسوربون في عام 1943، حيث خاضا نقاشات مطولة. يمكنكم الشعور ببازان في استحضار لينارت ل «الواقعية الأولية» للسينما. يذهب لينارت بعد ذلك لأبعد مما قام به بازان في توضيح عمله بوصفه محررا: «ليس في المادة السينمائية يسكن الفن ... ولكن فقط في التجميع والتوفيق والحذف.»
23
من المرجح أن لينارت تعلم هذه المصطلحات من القراءة لنقاد الأدب في عصره. ومثل كثيرين غيره ممن عاشوا في ثلاثينيات القرن العشرين، كان لينارت مناصرا لأندريه مالرو الجريء، أكثر كتاب فرنسا الصحفيين حداثة. تجسد رواية «قدر الإنسان» الجماليات الناشئة للسرعة والدقة، كما أن مالرو كان يساند كتابا آخرين ذوي ارتباطات سياسية، مثل المثيرة للجدل أندريه فيولي. في «المقدمة» التي كتبها مالرو لتقاريرها الميدانية القاسية المناهضة للاحتلال بعنوان «استغاثة من الهند الصينية»،
24
ابتدع مالرو مصطلحات استخدمها لينارت في صراعه ضد النظرية الجمالية التي ظلت متبقية من عصر السينما الصامتة:
حدد مالرو أسلوبا جماليا أدبيا جديدا يعتمد على الحذف، على العكس من فن المجاز القديم. هذا الأسلوب الجمالي هو جماليات السينما؛ فهو يتناسب ودرجة الدقة التي بلغتها المعلومات البشرية - وما التصوير إلا أحد أشكالها - كما يناسب الميل لحقائق الواقع وللوثيقة الذي يميز العصر الحديث ... وهو يكشف في النهاية عن طريقة جديدة في قراءة العالم والتعبير عنه ... ليس بحثا مدروسا عن «المعنى» من خلال التمثيل أو الديكور، ولكن عمل بسيط من «الترجمة». ليس ممارسة فنية في التعبير، ولكنه جهد تقني في الوصف.
25
يحدث هذا «الجهد في الوصف» حينما يشي الحذف بملامح شيء ما بحذف لحظات وأجزاء في متسع زمني- مكاني. من خلال الاختزال، أي شيء يعرض على الشاشة لا بد أن يدعم بكل ما هو غائب؛ ويمكن أن يحمل هذا ارتباطات موازية كثيرة (تقاربات). كان من شأن بازان أن يتوصل إلى رؤية أخرى للحذف،
26
لكنه يقف إلى جانب لينارت في إدراك أولوية ما لا يقدم على الشاشة. بالفعل كان من شأنه أن يذهب لما هو أبعد من هذا، كما هو مذكور في الفصل الأخير، معتبرا السينما أثرا أو «النسخة السالبة» من الواقع. وكان جودار يسعى دائما وراء النقطة نفسها. في فيلمه «بييرو المجنون» («بييرو لو فو»، 1965)، يجعل جودار الممثل جون بول بلموندو يقرأ من تاريخ الفن الذي كتبه إيلي فور : «بعد الخمسين ، أراد فيلاسكويز أن يدهن الفراغات بين الأجسام.» كان بازان يشعر بالإحساس نفسه تجاه السينما؛ بعد بلوغ نصف قرن من العمر، نضج وسيط المرئيات المبجل هذا، ووجد نفسه في واقع الأمر هو الفن الذي يتجر بالغياب، وغالبا «غيابيا».
27
وثائقيات في مرجل التاريخ
درب لينارت ومالرو عيني بازان على ملاحظة نمو الجماليات الحذفية فيما سمته زميلته في مجلة «إسبيري» كلود إدموند مانيي «عصر الرواية الأمريكية». وأكدت أفكاره عن التحرير الأعمال الوثائقية المؤثرة التي كانت تصدر كل شهر استجابة للحرب العالمية الثانية وما أعقبها. ولعل بازان، مثل معظم النقاد، كان مهتما من حيث الأساس بالسينما الروائية، لكنه كان قادرا على الشعور بتعرض الكيان بكامله لتحدي الوثائقيات الحديثة بقدر كبير لدرجة جعلتها هي المحرك لنظريته.
28
كان بازان أول من حدس بأن الحرب العالمية الثانية أخرجت للوجود سينما حديثة،
29
سريعة الاستجابة ومسئولة عن مهمة توصيفية عجز الأسلوب المعتاد (الكلاسيكي) عن القيام بها. أصبح العالم المراد تمثيله أوسع وأسرع وأكثر تعقيدا وعنفا مما يحتمله التمثيل السينمائي السائد. بالاندفاع خارج الاستوديو، صارت السينما تكافح لاستيعاب واقع محير بالكاميرات المحمولة، والعدسات الخاصة، وآلات التسجيل، وشرائط الأفلام الحساسة، والألوان، وحتى الأشعة تحت الحمراء. هذه الابتكارات والتحسينات مهدت الطريق لأساليب التصوير الجوي، والتصوير ليلا، والتنقل المرتجل، وتسجيل الصوت في الموقع؛ حيث تعلمت السينما السيطرة على امتدادات شاسعة، وعرض ظواهر وأحداث كانت بعيدة عن متناولها.
كانت الطريقة التي تلاعبت بها الوثائقيات بالبعد الزمني للصورة أقل وضوحا، لكني أعتقد بأنها أكثر أهمية. بفضل الخبرات التي أتاحتها وثائقيات زمن الحرب؛ فإن الأفلام الروائية الطويلة كان بإمكانها أن تحاول تشكيل القصص طبقا لأبعاد زمانية مختلفة عن تلك التي كان ينتجها نظام «الديكوباج». تحدى بازان صناع الأفلام والمشاهدين أن ينفتحوا على عوالم خبرة أبعادها الزمنية متغيرة على نحو مربك وكاشف. وبأكثر الأشكال وضوحا، استلزمت الحرب أن تلتقط السينما حالة عاجلة، أساسية بقدر أكثر مما يمكن أن تنتجه صناعة الأفلام الكلاسيكية. في مقاله البارع «مدرسة التحرر الإيطالية»، نسب بازان القوة الفورية التي تمتعت بها «أفلام المقاومة » إلى تصوير سينمائي أظهر مميزات «كاميرا بيل وهاول للأفلام الإخبارية، وعرض متحرك لليد والعين، كأنها عضو حي من مشغل الكاميرا، متناغم تناغما فوريا مع وعيه.»
30
تنتج قيود جودة الصورة بحد ذاتها مزيدا من الواقعية في المواقف الميدانية، أشبه نوعا ما برسم تخطيطي لفنان منها بلوحة زيتية. يكمل تحليل بازان لأسلوب مالرو الحذفي الحجج التي كان يصوغها بالفعل ضد سيطرة «الديكوباج» الهوليوودي الكلاسيكي، مشيرا إلى أن تقطيعات مالرو «غير القابلة للفهم» تقريبا تجبر المشاهد على الدخول في حالة فعالة من التيقظ، كما لو كان في حالة طوارئ. أفلام مثل «الأمل» («ليسبوار»)، و«معركة السكك الحديدية» («باتل أوف ذا ريلز»، «باتاي دي ريل»؛ كليمو، 1946)، و«بايزا» (روسيليني، 1946) كسرت الإيقاع الدرامي المعتاد، مجبرة المشاهد على اللحاق بالأحداث التي تتجلى أو تحدث أمامه بمعدل لا يمكن توقعه. يحدث كل من تلك الأفلام في الزمن المتقطع لفعل حروب العصابات وردود الفعل إزاءها على أرض متنازع عليها. ويمكن اختصار إطارها الزمني لأقل ما يمكن تخيله؛ رجل ينظر إلى عنكبوت على الحائط في لحظة إعدامه (كليمو)، أو رصاصة طائشة تصيب عضوا حزبيا في فلورنسا، وإدراك الأحوال الاجتماعية المفاجئ من قبل جندي أسود في روما (روسيليني). تجبر هذه الأفلام المشاهد على الانتباه لأحداث أسبابها خفية أو ضئيلة أو مبهمة بقدر يمنع المشاهد من ملاحظتها. مثل هذه الأفلام يجب استيعابها في عجالة.
تبرز الحذوفات الصارخة سرعة الحياة وعنف سيرها كما عاشها الناس وكما تخيلوها بعد الحرب العالمية الثانية، رغم أنها تستغني عن السياق المرئي (ومنه المساحة البانورامية)، وعن السيكولوجية، وتفاعل الشخصيات. كل هذا يضع المشاهد في علاقة بالموضوع الذي يمكن أن يوصف بأنه واقعي من وجهة نظر نفسية. أما عن «الواقعية الكلية»، أو استحالتها بالأحرى، فقد ربط بازان الموقف بالقصور الجسدي: الخلايا المخروطية والعصوية للجهاز البصري حساسة لنطاقات مرئية مختلفة؛ فالحيوانات التي وهبت رؤية ليلية قوية ترى الصورة بيضاء وسوداء فقط، مفتقدة المعلومات التي يوفرها اللون.
31
أراد بازان تحديد الموقع المختار لكل فيلم في نطاق الواقعية لمشاهدته وفق شروطه .
في الطرف الآخر من ذلك النطاق كان هناك فيلم جورج روكييه «فاروبيك» (1945) الذي حصل على جائزة النقاد الدولية في أول دورة لمهرجان كان. يعمل الحذف بطريقة مختلفة تماما هنا. لا وجود لأي مصادفة أو حدث عارض يؤثر على وصفه الدقيق لبيت في مزرعة في وسط فرنسا. وبعكس الفيلم الحربي، إطاره الزمني ليس إطار الحدث العاجل الآني، ولكن إطار سنة التقويم الكاملة، وضمنيا، الزمن الأرضي نفسه، وهو الزمن الذي أفقدنا الانتقال لعصر التصنيع الإحساس به. أراد روكييه ألا «يؤرخ» شيء فيلمه،
32
وأعطاه عنوانا فرعيا «المواسم الأربعة» («لي كواتر سيزون») في تضاد مع عناوين أفلام روسيليني مثل «جرمانيا: السنة صفر» («جرمانيا آنو زيرو»)، أو «أوروبا 51»، لكنه يظل تاريخيا رغم كل هذا.
33
أراد روكييه بإبطاء الإيقاع أن تدرك الأرض بالمعنى الحرفي للكلمة، بما تشمله من برك الطين، والرجال والنساء العاديين، والحيوانات وروثها ... أيا ما كان ما تجاوزته السينما التقليدية أو أهملته من باب الذوق في إطار اهتمامها بالدراما والفن. قال بازان: «فهم روكييه أن الاحتمالية حلت ببطء محل الحقيقة، وأن الواقع تحلل ببطء داخل الواقعية؛ لذا شرع في مهمة صعبة لإعادة اكتشاف الواقع، وإعادته إلى ضوء النهار، وإفاقته عاريا من بركة غرق الفنون.»
34
بازان ليس ساذجا. حتى لو كان فيلم «فاروبيك» قد تخلص من المجازات المعيية و«الجمالية الطفيلية» اللتين استنكرهما بازان، فإنه لم يكن ليصور ما هو واقعي مباشرة. يقول بازان في واحدة من صيغه المميزة: «لهذا فإن أكثر الفنون واقعية تتشارك الكثير الشائع، ولا يمكنها الاستحواذ بالكامل على الواقع؛ بسبب أن الواقع يجب أن يتملص منها حتما في وقت ما. ولا شك أنه قد يمكن لأسلوب محسن ومطبق بمهارة تضييق ثقوب الشبكة لكن الفرد يكون مجبرا على الاختيار بين نوع من الواقعية ونوع آخر.»
35
وفي مقالاته عن الواقعية الجديدة، تصف الشبكة أو المصفاة العلاقة بين صانع الفيلم وموضوعه. في كل فيلم، يصلنا قسم ونوع معين من المعلومات من بين تدفق زائد عن الحد من البث المرئي؛ أو بمعنى آخر ، ما يعرض على الشاشة، أيا ما يكن، يمكن القول إنه صنع الشاشة من خلال مصفاة العدسة. وكما هو الحال مع مرشح الأشعة تحت الحمراء، يمكن للاختزال إظهار بنية الموضوع، وتسليط الضوء على تفاصيل يصعب تمييزها بأي شكل آخر.
36
ربما تكون هذه المصفاة هي المعادل المكاني للحذف الزمني؛ حيث إنهما كليهما يختصران المعلومات لخدمة الوضوح والاتساق والأثر، وأصبح بازان يفضلها بوصفها كناية عن السينما. في النهاية، يعتمد الحذف على قرار المحرر بخصوص ما هو مهم دراميا. وبينما يستخدم لينارت كلمة «مونتير» للإشارة إلى تحرير اللقطات الخام الملتقطة سابقا أو من قبل شخص آخر، يستخدم مالرو كلمة «قاطع» للإشارة إلى «التحرير الذهني» الذي يخوضه صانع الفيلم أثناء تحضيره للسيناريو، لكنهما يشيران إلى فرض نظام ما على الزمان والمكان الأوليين. لم يكن بازان مستعدا للتخلي عن القوة الكامنة في هذه الأولية. لو كان المخرج الإيطالي فيتوريو دي سيكا قام بتقطيع مشاهد فيلمه «أمبرتو دي» (1952) طبقا لمبادئ الحذف، لاختزل أشهر مشاهد الفيلم، الخادمة الحبلى تطحن القهوة في الصباح، إلى ثوان معدودات. لكن دي سيكا ترك الكاميرا تدور وتشمل أحداثا عشوائية؛ مثل رشها الماء على حشرات على المنضدة، وإغلاق الباب بقدمها. ورغم أن هذه التفاصيل غير مهمة، فهي تملأ الفيلم، وشغلت نقد الفيلم منذ ذلك الحين.
37
في أهم تطبيقاته السينمائية الأساسية، يسمح الحذف لعقولنا بإدراك شيء ممتد في الزمان والمكان بقدر أكثر مما ينبغي لتقديمه بشكل مناسب كاملا أمام أعيننا. إذا كان فيجو حرر فيلمه الصامت «عن نيس» («أه بروبو دو نيس»، 1930) باستخدام الحذوفات المبتكرة، فقد كان هذا في المقام الأول بسبب أن المدينة ومهرجانها لا يمكن تصويرهما بلقطة فردية. وعلى الرغم من أنه لا يرينا شيئا خارج حدود المدينة، فإن لقطات فيجو تعادل وجهة نظر ... مدينة نيس المصفاة من خلال وعيه.
38
تعمل هذه المصفاة بصريا في مرحلة التسجيل، حين تنظم عدسة ما، أو شريط فيلم، أو مصفاة حقيقية نوع الضوء الذي تلتقطه الكاميرا ومقداره، وحين يختار صانع الفيلم زوايا معينة، وأطوالا بؤرية، ومسافات. هناك نوع آخر من المصافي يعمل على طاولة التحرير، حينما يتابع موضوع معين، بينما تسقط موضوعات أخرى؛ لذا حينما تختار مجموعات من اللقطات المصفاة بالفعل لضمها في مشاهد، فإن نسبة 90 بالمائة من المادة الخام و50 بالمائة من اللقطات المنتقاة غالبا ما تمر من خلال الموفيولا لتسقط على الأرض؛ لتكنس وترمى بعيدا. يكرر بازان قوله إن الفيلم النهائي يضعنا في تواصل مع الواقع من خلال ما تراه أعيننا مركزا على الشاشة. كان بازان أكثر استعدادا من لينارت ومالرو لجعل صدف الطبيعة تقرر الفيلم النهائي أكثر مما يقرره فن المحرر.
لذا، دعونا لا نخدع أبدا بالوجود الكشفي المفترض من جانب بازان، تماما كما ينصح هو بألا ننخدع بالمظاهر. ما هو على الشاشة ليس الواقع، ولكنه تتبع الواقع، وبقاياه التي قد تسمح لنا، مثل المومياء، باستدعاء حضور شيء أكثر اكتمالا، وهو شبح ذلك الواقع الأكثر صلابة على نحو متناقض، الذي يحوم على نحو طيفي حول الشاشة أو وراءها أو أمامها. هذا إخلاص للمظاهر بالفعل، لكنه يحدث من أجل اجتيازها إلى روح شيء أكثر وأقل أهمية في آن واحد ... روح حدث درامي، أو مصير شخص، أو روح رواية.
39
نهج كاييه
تقف «جمالية الاستكشاف» هذه على النقيض من سينما التلاعب التي تتضمن معظم أفلام التحريك والإبداع الرقمي الخالص؛ وهي تطلب منا تهيئة رؤيتنا لظروف الجلاء التي يتيحها العالم بدلا من إعادة صنع العالم - مثلما تفعل وسائل الإعلام الحديثة - إلى أن يناسب ظروف مشاهدتنا، بل راحتنا ومتعتنا أيضا. يستهدف «الأثر السينمائي» مباشرة التركيب العصبي للمشاهد، بينما يتجه نهج تفكير بازان إلى عالم (مادي، أخلاقي، فني، افتراضي) بعيد عن الشاشة. يمكن العثور على مفهومه للتركيب السينمائي الآخذ في التطور في الحوار مع سينما رينوار وويلز ومالرو الجديدة، في جملة وحيدة كتبها في نسخة عام 1945 من مقال «الأنطولوجيا» ثم نقحها، وخففها لاحقا في كتابه «ما هي السينما؟»: «تبدو السينما مثل تحقيق صورة مقربة في زمن الشيء.»
40
تشير هذه الصيغة الملغزة - التي تقارب أحجيات التمارين الذهنية البوذية - إلى الاختلاف المحتوم للأساس الفوتوغرافي للسينما بنقل الانتباه من الزمن البشري إلى «زمن الشيء»؛ ومن ثم من الصورة إلى اللقطة. يعتمد نهج «كاييه» كله على إعادة التعريف هذه للتكوين الأساسي للسينما. يقول داني بطريقة مباشرة: «السينما ليست مصنوعة من صور، ولكن من لقطات، واللقطة هي كتلة الصورة والزمن غير القابلة للانقسام.»
41
في عام 1945، استوعب بازان على نحو ما هذه الفكرة الجذرية. وبينما تقف الوثيقة الفوتوغرافية ثابتة، يقدم العمل الوثائقي الأشياء وهي تتحرك في زمنها، معلقة داخل حقل من المحددات العديدة؛ وحالما يعرض الفيلم، يمكن التشكيك في تكامل أي شيء أو هويته. يزيد الغموض من ثقل ما يشار إليه حيث تحول الكثير من العلاقات التي تربط الشيء بموقفه دون «تثبيته» تماما.
يترك نهج «كاييه» آثاره على نوعية معينة من الأفلام الروائية التي تشكل ما يشبه عمودا فقريا تحمل فقراته أسماء كبار صناع الأفلام. وكان هناك ثلاثة، خصوصا، على تواصل مع بازان ومتبعيه الشباب في حدود عام 1950: روسيليني، ورينيه، وبريسون. كان يقال إن روسيليني جسد الواقع الأخلاقي للفهم العابر للثقافات في أجزاء فيلم «بايسا» الستة عن المقاومة، التي تمثل مراحل قصة موجزة لتحرير إيطاليا. بعد ذلك بفترة قصيرة، صور روسيليني جمالا من عالم آخر في فيلم «زهور القديس فرانسيس» («فلاورز أوف سانت فرانسيس»، «فرانشيسكو، جولارى دي ديو»، 1950) الذي صور فيه جماعة حقيقية من الرهبان الفرانسيسكان يعيدون تجسيد حياة مؤسس الجماعة - وهم يحاكونها بالطريقة الواجبة - في أحد عشر مقطعا أو «زهرة». فرق بازان بين بناء روسيليني الاختزالي وبين السرد الكلاسيكي بتحديد التوتر بين دافع روسيليني الفني أو الأخلاقي الشامل، وبين المواقف المحددة التي صورت، وهي مواقف تمتلك خواص متفردة تقدمها السينما وتحميها بشكل آلي. كل مقطع من «بايسا» وكل زهرة من زهور فرانسيس الإحدى عشرة (وكل مشهد من هذه الأجزاء السبعة عشر) له تفرد صخرة وصلابتها في نهر الفيلم قبل أن تكون بمنزلة مخاضة سردية يدعونا روسيليني لعبورها. يشكل أنصار الواقعية الأدبية التقليدية المشاهد لتناسب السرد. يمكن لهوليوود ادعاء نسخة من الواقعية في كثير من الأنواع السينمائية التي تقدمها ؛ لكن هوليوود، كما يقول بازان، تقولب كل اللقطات وتشذبها لتصبح أحجارا على شاكلة واحدة، أو لبنات مضمومة بسلاسة إلى جاراتها لبناء جسور قصصها. في إنتاجات هوليوود الكلاسيكية، يعبر المشاهد دون التعرض لخطر سوء فهم أو انحراف، من شارة البداية حتى شارة النهاية. لكن في فيلم «بايسا»، يجب أن تنتبهوا لخطواتكم، بتفحص شكل كل حجر ومكانه في الفيلم قبل أن تقفزوا من حجر إلى آخر. ربما تنزلق أقدامكم من آن لآخر، أو تبتل على الأقل. مخاضة مقابل جسر. ما هو حقيقي بنظر روسيليني حقيقي بنظر بازان. كل قطعة مهمة بطريقتها لكنها تشير إلى شيء يتجاوزها:
البناء الذي صنعه روسيليني لا يسمح للمشاهد إلا برؤية «الحدث» نفسه. ومثلما يمكن أن توجد بعض الأجسام، سواء أكانت بلا ملامح أم متبلورة، فإن فن روسيليني يشمل المعرفة بما يجب فعله لمنح تلك الحقائق ما هو أكثرها جوهرية، وأروعها شكلا في الوقت نفسه - ليس الأجمل، ولكن الأوضح إطارا، والأكثر مباشرة، والأكثر لذوعة ... لا يعني أخذ الواقع في الاعتبار مراكمة المظاهر. بالعكس، يعني تجريد المظاهر من كل ما لا يلزم، من أجل الوصول إلى الكلية في بساطتها. فن روسيليني خطي ومتناغم ... [كما في] رسم تخطيطي، يتضمن في خطه أكثر مما يصفه بالفعل.
42
في عام 1954، ظهر فيلم روسيليني «رحلة إلى إيطاليا»، وهو أول فيلم حداثي بمعنى الكلمة، كما صرح جاك ريفيت في «كاييه»، يمكن قياس كل الأفلام عليه. هذه «الرحلة» الموجزة للحد الأقصى تظهر لنا في لقاءات إنجريد برجمان المتتالية مع الحياة الزاخرة في نابولي (نساء حبلى وأطفال رضع في كل مكان) والموت الأكثر انتشارا (جنازات، وحوادث نبش قبور، وسراديب موتى) الذي تراه في البداية وهي محتمية بزجاج سيارتها وبالمرشدين المحليين، لكنها في النهاية لا يمكنها تفادي مواجهته مباشرة. في جملة شهيرة جدا، قال بازان إن سينما روسيليني ليست مكونة من صور ولا لقطات، ولكن من «حقائق».
43
تخيل مقطوعة موسيقية مكتوبة لا تتكون من سلسلة من النوتات ولكن من حقائق. هكذا يتباهى جاك ريفيت بفيلم «رحلة إلى إيطاليا »، معتبرا إياه أول فيلم حداثي بالفعل.
44
في ذلك المشهد الرمزي الذي استحضر بالفعل، يجبر جورج ساندرز وإنجريد برجمان على النظر في نفسيهما وهما يشاهدان عملية حفر لاستخراج الآثار في مدينة بومبي. الجثتان البشريتان، اللتان فاجأهما الموت منذ ألفي سنة، يأخذان في الظهور، صادمتين الزوجين المشاهدين لهما في الرواية بمعرفة نفسيهما. نظرا مليا في الحقائق، ولا يستطيعان صرف نظريهما بعيدا. من خلال الحذف والمقاربة، يفرغ تحرير روسيليني مساحة للظهور التدريجي أو المفاجئ لحقيقة ما. واشتهر بقوله:
45 «الأشياء موجودة، فلماذا نتلاعب بها؟» لكن الوصول إلى هذه الأشياء أمر مختلف. وكان له أن يورث «الموجة الجديدة» خلق التنقيب هذا تحت الأنماط الشائعة من الحبكة، والشخصية، والحدث. بعد أن أذهله فيلم «رحلة إلى إيطاليا»، عرض تروفو خدماته على روسيليني الذي قابله في منزل بازان. كما عمل جودار معه في منتصف الخمسينيات في القرن العشرين.
ثم جاء بريسون؛ ورغم أنه كان منطويا وغير اجتماعي، فقد انضم لبازان وجون كوكتو في عام 1948 لإنشاء نادي السينما في شارع الشانزلزيه، حينما كان يخطط لصنع فيلم «يوميات قس في الأرياف» («ديري أوف آ كانتري بريست»، «جورنال دن كوري دو كامباني»، 1951). رد بازان روعة هذا العمل الرائع إلى الطريقة التي صفى بها بريسون ما قدمه برنانوس بالفعل في الصيغة الموجزة من اليوميات. القس، ونحن معه، نحس بالمنظر الريفي من خلال المصفاة الدائمة لنظرته الأخلاقية التي تصبح هي الموضوع الحقيقي للفيلم، جوهر القس المتفرد، المرسوم بثبات. كان لبريسون تأثير هائل في «كاييه»، ويتجلى هذا في مقابلة جودار معه عقب العرض الأول لفيلم «بالتازار بالصدفة» («أو هازارد بالتازار»، 1966)، وهو فيلم آخر يتكون من مقاطع، لكن إيقاعه محدد هذه المرة، بطريقة غير بشرية مربكة للغاية، بمعاناة حيوان. وكما يقول سيرج داني، كنا في «كاييه» منجذبين لأفلام ترد على نظرتكم إليها - كما تفعل الحيوانات - بنظرة نابعة من غيريتها.
كان فيلم آلان رينيه «هيروشيما حبي» («هيروشيما مون امور»، 1959) أول فيلم يذكره داني كما لو كان الفيلم يحدق فيه، محولا إياه من مجرد متفرج إلى مشاهد لا يهدأ، أو ما سماه «ابن السينما» (وليس «المولع بالسينما»). كان داني الذي سيصبح بسهولة أكثر النقاد أهمية بعد بازان في فرنسا يبلغ من العمر 13 عاما حينما صعق هو ووالدته بما شاهداه - وما لم يشاهداه كذلك - في «هيروشيما حبي». من خلال نوع من التلاقي النفسي المتواصل بين حبيبين لا يذكر اسماهما، ينشأ واقع غير بشري لا نستطيع أن نواجهه - أو لن نواجهه - بطريقة عادية.
جعلت «كاييه» من فيلم رينيه الموضوع المحوري لحلقة نقاشية شهيرة دفعت داني للقيام بمهمته المتنقلة: «إذا كانت السينما قادرة على هذا ... كان عندي رد على السؤال الصعب: «ما الذي ستفعله بحياتك؟»» نعرف ما فعله بحياته بالغة القصر. تولى تحرير «كاييه»، وصاغ القول الفصل الذي استحضره رينيه، وأكرره هنا: «السينما مرتبطة بالواقع، ولا علاقة للواقع بالتمثيل.» يستحضر فيلم «ليل وضباب» («نايت اند فوج»، «نوي إ برويار»، 1955) - وهو المثال الأفضل هنا - الهولوكوست، ولكنه لا يتظاهر بأنه يمثلها. ينقب رينيه تحت مناظر أوشفيتز الطبيعية الملونة الهادئة، كاشفا طبقة من الماضي - لا يمكننا تسميتها تاريخا تماما - ومن رعب لا يمكن تمثيله حرفيا. تنزل لقطات رينيه المميزة داخل حفرة سوداء من الشناعة. لم يستفد شخص منذ سيرجي آيزنشتاين من المونتاج بهذا القدر؛ لكن بينما كان المخرج الروسي يضع الصورة بجوار الأخرى، يرفض رينيه «الصور الملتقطة» بالألوان، لصالح «الحقائق المعطاة» بالأبيض والأسود. المشاهد الأولية بالأبيض والأسود مصنوعة من «اللاصور» كما كان من شأن داني أن يسميها.
46
كون أي حدث لا يمكن تخيله «معطى» يخرج الكاميرا التي تصوره عن مسارها، ويغرقها أسفل السطح الأخضر إلى ما تبقى («أطلال» المعسكرات). ماذا نفعل بها الآن؟ بالفعل، يسأل الفيلم في خاتمته: «ماذا نفعل؟» تنطبق ملحوظة بازان بخصوص «رحلة إلى إيطاليا» بملاءمة أكثر على «ليل وضباب»: «الحقائق حقائق، يستفيد منها خيالنا، لكنها لا توجد في الأساس لهذا الغرض.»
47
يفصل فيلم «كل ذاكرة العالم» («تو لا ميموار دي موند») الذي صنع بعد بضعة أشهر المعضلة الوجودية التي تضاعف الصدمة التي تتسبب فيها صور «ليل وضباب »: كيف يمكن للحاضر أن يسهم في الماضي؛ وكيف يمكنه تجنب الماضي مع ذلك؟ تمثل المكتبة الوطنية دليلا على هذا التناقض. هنا لا تقع حقائق التاريخ الإنساني الصلبة تحت حقل مجهول؛ فهي مركزة في حصن للذاكرة. ومثل موظفي المكتبة الدقيقين، يعامل رينيه كل كتاب أو أثر - سواء أكان دورية مجهولة أم مخطوطا شهيرا - على أنه حقيقة في لغز غير قابل للحل. الحقائق تغلبنا حتى حينما تدار وتنظم وتفهرس بعناية بالغة. وكما قال روجر أودين، فالفيلم مركب من تضاد بين الفضاء الفعلي والفضاء المجازي، بين الأشياء والخيال. ثقل الماضي المتراكم، المستعصي على زحزحته، تثيره الحركة المتواصلة للحاجات والرغبات الإنسانية، التي تلتقطها الكاميرا وهي تتتبع الرفوف المتراصة المعقدة كالمتاهة.
48
وكما في «ليل وضباب»، هناك ترتيبان زمنيان مدفوعان معا، وهما الحقيقة والرغبة. في المشهد الوحيد الدرامي في عمل توصيفي بالكامل باستثناء هذا المشهد، يطلب كتاب، ويحضر، ويستخرج من ضريحه إلى المجال العام المحروس. يشير رينيه إلى الانتقال من زمن إلى آخر؛ إذ تقترب عربة كتب من مكتب الإعارات. وبعد ذلك، حينما يجتاز قاعة القراءة، ترتقي المناجاة في الغنائية:
والآن يسافر الكتاب تجاه خط مثالي؛ فاصل وهمي أكثر تقريرا لوجوده من المرور عبر مرآة. لم يعد الكتاب نفسه. منذ لحظة مضت، كان جزءا من ذاكرة كونية، مجردا، محايدا ... لكن هذا الشيء الآن انتقي وميز وأصبح لا غنى عنه لقارئه.
تتلقى الكتاب يدان متلهفتان لإنسان (مشتغل بالفكر) يتيح اهتمامه للكتاب أن يتنفس ساعة قبل أن يعاد إلى بنك الذاكرة السرمدي الذي يشكل فيه وحدة مفردة. ومن مسافة محسوبة بإتقان، ينظر رينيه للأسفل على غرفة القراءة، مراقبا البحث عن «السعادة» الذي يشغل جماهير محبي القراءة (الذين يوصفون بديدان الكتب أو بالنحل)؛ حيث ينقب كل منهم في نصه المنفصل. جديتهم واستغراقهم - في طلب الكتب، وتدوين الملاحظات في صمت، وحك رءوسهم - يجعلانهم يبدون غير واعين، مثل الكتب التي يلتهمونها بشغف في بحثهم.
يحقق فيلما رينيه الوثائقيان الخالدان الآمال التي دفعت ألكسندر أستروك قبل عقد تقريبا إلى كتابة بيانه المعنون «من أجل طليعة جديدة: الكاميرا-القلم». تحدى أستروك صناع الأفلام لمناقشة الموضوعات الفلسفية من خلال خطاب سينمائي.
49
وهذا ما فعله رينيه. يمكن اعتبار أفلامه مؤلفات بالمعنى الحرفي للكلمة؛ فهي مؤلفة على نحو مثير من مواجهة الكاميرا عالما ماديا عنيدا، وواقعا أدبيا عصيا على التغيير بالقدر نفسه (نصوص كتاب راسخين مثل جون كايرول، وريمو فورلاني، وبعد ذلك بفترة قصيرة مارجريت دوراس). حتى حينما كلفوا بإنتاجها، أتاحت حرية الأفلام القصيرة لرينيه وماركر وفرانجو وفاردا وغيرهم استراتيجيات تركيبية جريئة. وحينما منحوا فرصة صنع أفلام روائية في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، كانوا مسئولين عن ميلاد السينما الحديثة؛ مثل: «كليو من 5 إلى 7» («كليو فروم فايف تو سفن»، «كليو دو سانك آ ست»، 1962)، و«عيون بلا وجه» («آيز ويذاوت افيس»، «لي يو سان فيزاج» 1960)، و«هيروشيما حبي».
50
يعد العنوان الذي منحته فاردا لفيلمها باستمرارية زمنية كاملة، ويحقق ذلك تقريبا، إذ تختزل نصف ساعة فقط من الفترة ما بين الخامسة إلى الساعة السابعة في مساء يوم باريسي عادي. لكن بالنظر من مصفاة نظرة كليو المحدقة، تبدأ المدينة تتكشف. ومثل كاثرين في «رحلة إلى إيطاليا»، فإن هذه الجميلة المنشغلة بذاتها تدرك مع الوقت الغمامة التي تلبسها، وتسمح لنفسها في النهاية بالتفاعل مع العالم الموجود خارج ذاتها، وخصوصا جنديا على وشك العودة إلى الجزائر. ويكون كشفها أكثر إعجازية لأنه معد بدقة في الزمان والمكان. يعتمد «هيروشيما حبي» بالقدر نفسه على إحداثيات دقيقة، إلا أنه يجتمع في هذا الفيلم زمانان ومكانان، في جسدي رجل ياباني وامرأة فرنسية. وكما في «ليل وضباب»، تنافس المشاهد الخام رغبات البشر في التعامل مع كل من الماضي والحاضر (لم تري أي شيء في هيروشيما، أي شيء). لا تحوي «الوثيقة» ولا «الوثائقي» - أو لا يمكنهما أن يوصلا - صدمة ما هو بالأساس الغياب المفرغ من التاريخ البشري بفعل التفجير الذري. لا بد أن رينيه زار متحف السلام الذي سبق افتتاحه عرض الفيلم بفترة وجيزة، ومثل مناسبة لصنع الفيلم في المقام الأول، بوصفه معلما للخواء. لكي يمثل هذا الخواء، كان هناك احتياج لبشر ذوي رغبات عميقة، مثلما كان رينيه يحتاج إلى تصوير أولئك القارئين المتحمسين في المكتبة الوطنية. أتاحت مارجريت دوراس ما كان يحتاجه رينيه، فهي لم تصنع شخصيات بقدر ما صنعت رغبات مجسدة؛ شخصيتين تستكشفان إحداهما الأخرى بلغة الرغبة، وتسبران المواضي التي تفصح عنها كل واحدة منهما مثل باب مفتوح. تسلك كاميرا رينيه عبر هذين البابين، مكتشفة الغياب في قلب الشغف، والموت في قلب الحياة.
تتبع السينما في القرن الواحد والعشرين
ما الذي يعنيه تركيب فيلم في زمننا هذا؟ اسمحوا لي بالعودة إلى فيلم «المصير الخرافي لأميلي بولان»، وهو الفيلم الذي يجعله نجاحه الكبير في مختلف أنحاء العالم مؤشرا جيدا. من البداية، هناك صوت راو يتحدث بسرعة، مصحوبا بمونتاج نشط، يروي الحكاية الخيالية الأخاذة عن فتاة خجولة تتحول أمنيتها في حياة سحرية إلى حقيقة حينما تدرك أنه يمكنها في صمت تحلية حيوات الآخرين بالأعمال الطيبة. يأتيها هذا الإدراك بعد أن يصيبها الهزال وهي نائية في غرفتها المنعزلة، تحلم حرفيا ب «مصير أميلي المحطم»، مشهد ميلودرامي إخباري بالأبيض والأسود، معروض بسرعة على الشاشة في 29 لقطة. هذه السيرة الذاتية التي تشبه القصص المصورة عن حياة افتراضية تقدم لنا النموذج والمحرك لمونتاج جون-بيير جونيه الذي يبني على مدار الفيلم بطريقة سريعة مشاهد تتابعية لشظايا متفرقة بقدر هائل، تؤدي لصنع مشاهد رائعة، واحدا تلو الآخر. أحد هذه المشاهد يخرج مباشرة من رأس أميلي، حينما تحاول تخيل لماذا لم يأتها نينو في موعده. يصاحب صوت الراوي التالي للمشهد 30 لقطة سريعة تأخذنا عبر سلسلة من الحوادث الجامحة:
تأخر نينو لأن ثلاثة مساجين هاربين اقتحموا مصرفا وأخذوه رهينة. ورغم ملاحقة كل ضباط الشرطة في المنطقة لهم، نجحوا في الهروب. لكنه استطاع أن يتسبب في حادث سيارة. حينما استعاد وعيه لم يقدر على تذكر أي شيء. التقطه سائق شاحنة، سجين سابق، ورماه في الحاوية، ظنا منه أنه متمرد، متجها نحو إسطنبول. وهناك قابل مغامرين أفغانيين اقترحوا أن يذهب معهم لسرقة رءوس نووية سوفيتية . لكن شاحنتهم اصطدمت بلغم بالقرب من حدود طاجيكستان، وكان هو الناجي الوحيد. اختبأ في قرية جبلية، وأصبح فردا في ميليشيا طالبان. مع ذلك ظلت أميلي لا تستطيع أن تدرك لماذا أضاعت وقتها على فتى مثل هذا سيقضي ما تبقى من حياته يتناول حساء البورش في إناء سخيف على رأسه.
يصنع جونيه لقطة فردية قصيرة لكل مقطع منفصل في الحلم الذي يروى. وتستخدم مشاهد كثيرة أسلوب لوحة المشاهد المقطعة هذا، مع تحديد بدايات اللقطات ونهاياتها بعناية، وغالبا ما تبرز بصريا أو سمعيا. في هذه الطريقة، تؤكد كل لقطة أو توصل بوضوح فكرة واحدة تسهم في مشهد حدد مساره منذ وقت طويل في مرحلة الكتابة. يعطينا جونيه كثيرا من الرموز لهذا الأسلوب الجمالي في شارة الفيلم: مجموعة من ثمرات الفراولة على أطراف أصابع تبتلع بتتابع سريع، وصفوفا طويلة من الفقاعات البلاستيكية على ورقة، تفرقع واحدة تلو الأخرى، وأكثر هذه الرموز وضوحا وهو صف ملتو من أحجار الدومينو التي تتساقط واحدا تلو الآخر. تمثل هذه الأحجار المتساقطة - وهي أول صورة في الفيلم - الاستراتيجية الشاملة للقطة تسقط إثر لقطة مجاورة لها، وهكذا حتى تحقق المجموعة بكاملها متعة النهائية المنمطة. بالطبع، يجب تنعيم حواف أحجار الدومينو لتصبح متجانسة ثم توضع في صف متماثل. هذه هي وظيفة لوحة المشاهد التي يدعي جونيه بفخر أن تصويره لا يحيد عنها؛ لأنه يجب أن يعمل كل عنصر على نحو قابل للتنبؤ، وكل شخصية يجب أن تظهر بدقة «ما تحب وما تكره» قبل المشاركة فيما هو بحق «تدبيرات» الحبكة.
الفيلم مقسم إلى مقاطع تصممها بطلته الخيرة لتفاجئ معارفها في الحي ولتساعدهم. تعتمد خدعها العبقرية على المعادل الأخلاقي لفيزياء نيوتن؛ حيث تصنع صفا من العناصر التتابعية التي يشغل كل منها العنصر الذي يليه للعمل، كالمرحل أو المحرك في الآلة. تقود نينو إلى كنيسة القلب المقدس باستخدام كابينة هاتف، وتمثال، وعلامات بالطبشور، وتليسكوب، بترتيب اكتشاف هذه العناصر نفسه. تعذب أميلي بائع الخضراوات بتغيير روتينه الصباحي (المنبه، والغرغرة، والحذاء) حتى انتهى به الحال أمام متجره في منتصف الليل. أميلي هي قائدة المنظور الأخلاقي. ووراءها، يتطلع دوفايال الفنان، من موقف المخرج البديل، الذي يصمم، بسبب عزوفه الجنسي وتنسكه، مصيرا شهويا هو الأكثر روعة لهذا الملاك. أكثرت المراجعات من القول إن فيلم «أميلي» أعاد الجاذبية والسحر إلى السينما.
ليس السحر بالطبع على الإطلاق، ولكنه العمل المحسوب لتركيب الفيلم (التحرير) هو ما يقود هذه الشخصيات التي يتتبعها عن قرب المشاهدون المبهورون، وهي تمضي إلى مصائرها المقدرة سلفا. هذا هو وقع «أميلي» الذي لا يتساءل سوى قليل من الجمهور كيف يجرفهم معه. ولو أنهم سألوا حقا، كيف سيردون؟ يربك تعقيد التحرير السمع-مرئي حتى دارسي السينما حينما يطلب منهم تحليل لقطات مشهد من فيلم كلاسيكي، فضلا عن عشر دقائق من فيلم لجودار. يبقى التحرير، وهو المرحلة الوسطى بين التسجيل والعرض، بعيدا وغامضا للجمهور العام، على الرغم من أن هذه هي المرحلة التي تتولى فيها مهارات صانع الفيلم الخطابية أو التعبيرية مقاليد الأمور من لحظة التسجيل غير المتوقعة جزئيا، وحتى تأثيرات العرض غير المتوقعة كليا. ربما يكون السبب هو أن الموفيولا أو طاولة التحرير - على العكس من الكاميرا أو جهاز العرض - هي جهاز غير مألوف، وإن كان خليفته دخل السوق المألوف على هيئة برنامج كمبيوتر يتخذ اسما من قبيل «فاينال كت برو».
يعني تحرير الأفلام اليوم عموما تحويل كل المدخلات السمع-مرئية إلى معلومات رقمية تعالج بعدئذ ببراعة حتى تصل إلى النسخة النهائية. لا يشكو سوى القليلين في صناعة الأفلام من هذا التقدم التكنولوجي الذي لا يمكن إنكاره، ومن السرعة والملاءمة اللتين يجلبهما، فضلا عن الخيارات اللامحدودة التي يتيحها لتصحيح المادة الفيلمية الخام وتحسينها. يظل هناك صناع أفلام عنيدون، يعتقدون أن التحرير نوع من النحت، ويحتاجون للمس شريط السيليولويد، وقياس طول اللقطات بالأمتار بدلا من المعيار الرقمي. ويأسف كثير من الممثلين والمخرجين المنتمين إلى المدرسة القديمة لتفكك المشاهد إلى عناصر منفصلة، معتبرين أنه احتقار لمهنتهم، ولعلهم نسوا أن «الديكوباج» دائما ما كان يحدث بطريقة أو بأخرى. نعى جون -بيير جيون هذا الانتقال في التركيز من التصوير إلى ما بعد الإنتاج؛
51
حيث أفسح فن تصميم المشهد الطريق لمهارة «تركيب» طبقات العناصر البصرية. وأصر المخرج مارتن سكورسيزي على صنع فيلمه «عصابات نيويورك» («جانجز أوف نيويورك»، 2002) في استوديوهات تشينيتشيتا في روما، مدركا أن هذا ربما يكون آخر فيلم بميزانية ضخمة يصور بالكامل في موقع التصوير، بحضور كل الممثلين لتمثيل مشاهدهم.
52
كان يأمل في تصوير - أو استكشاف - أدق الدلالات لإيماءات دانيال داي لويس، وليوناردو دي كابريو، وبقية الفريق وهم يمثلون في مواجهة بعضهم بعضا في موقع حقيقي. كان يفهم أن المساحة الواقعية مجال للمهارة، وكان عليه مساعدة الممثلين في التوصل إلى الحركات التي سيؤدونها من خلال التدريبات، وإعادات التصوير المتكررة. لكن التركيب الأساسي للفيلم حدث هناك حينئذ، لا لاحقا على الكمبيوتر. كان ضوء الشمس الحقيقي الذي تعززه عاكسات بالطبع يرتد من الوجوه في الزمن الحقيقي. كان هذا يعني الكثير لسكورسيزي في محاولته للتنقيب في أعماق السيناريو والممثلين. اختلفت الأمور لديه في فيلمه التالي «الطيار» («ذي أفييتور»، 2004)، على الرغم من أنه حتى في هذا الفيلم، ملئت المشاهد الرئيسية بممثلين يواجه بعضهم بعضا في مواقع حقيقية، بينما «سيد الخواتم» («لورد أوف ذا رينجز»؛ جاكسون، 2001-2003)، و«كينج كونج» (جاكسون، 2005) وبالتأكيد «بيوولف» كلها مركبة بكثافة لدرجة أن كل وجه يبدو مصورا على نحو منفصل في أفضل وضع معبر؛ ليضاف إلى اللقطة، ثم إلى المشهد من قبل المحرر. ربما تستحق الأفلام الجماهيرية المصنوعة بهذه الطريقة أن تصنف في فئة «الأفلام المتحركة».
لم يكن هذا ليثير ضيق شون كيوبيت الذي يصر في كتابه «أثر السينما» على أنه قبل ظهور التقنية الرقمية بوقت طويل - بدءا من ميليي حقا - كانت الأفلام تبنى من عناصر مقطعة جميعا على طاولة أو في معمل. ويفترض أن «القطع» يحول الطاقة المرئية الصافية (التي لم تصبح بعد معلومات) لما التقطته الكاميرا إلى وحدات لها شكل ومنظور. هنا يمارس المنتج سيطرته على عملية صناعة الفيلم، منجزا من خلال التحرير تلك التأثيرات التي يعتبرها الجماهير «رائعة».
53
يعتقد كيوبيت أن التحرير هو بمنزلة «المؤثر الخاص» الأساسي للسينما، بلا تغير، حتى لو كان يمارس الآن على برامج «أفيد» بدلا من طاولات مزودة بأدوات مزامنة وإعادة للشريط. لكن أليس من الممكن أن تغير المواد الجديدة التي يعمل بها المحررون جوهر مفهوم ذلك العمل؟ كان «القطع» في الأساس يتم بشكل طولي على شريط السيليولويد على حد الإطار. هذه الحدود الثابتة تختفي في برنامج «أفيد» الذي لا يقيس الوحدات المكونة للفيلم بالطول (عدد الأمتار أو الأقدام أو الإطارات)، ولكن بالمعيار الزمني.
54
وحتى مع إتاحة التقنيات الجديدة التحكم في الصورة، فإن فكرة «السينما بوصفها استكشافا»، حيث لا يكون المخرج متحكما بالكامل، ما زالت لا غنى عنها. ويعتنق هذه الفكرة عن السينما اليوم بقدر كبير مخرجو «كاييه»، مثل أوليفييه أساياس، وأرنو ديبليشان الذي يتحدث عن «التنقيب في المشاهد.» وهو يعني بهذا تجاوز المرئي لكشف ما هو خفي أو مستتر داخل نص، أو داخل موقف، أو داخل الممثلين الذين يخوضون هذه الرحلة معه.
55
لم يفعل تقدم التقنية الرقمية إلا أن زاد من عدد المخرجين الذين يستحقون مشاهدة أفلامهم، والعمل على طائفة من الموضوعات الجديدة من خلال المصافي المختلفة لأساليبهم. بعضهم - مثل عباس كيارستامي في إيران، وجيا جونج-كي في الصين - تحولوا كليا إلى التقنية الجديدة، مادحين ملاءمتها ومطاوعتها واتساقها. ولم تزل فكرة السينما التي كشف عنها روجيه لينارت ملحة مهما تدفعها التكنولوجيا للأمام.
ويمكنها أن تأتي من أي مكان. في عام 2007، منحت سعفة «كان» الذهبية لمخرج روماني يعتنق أسلوبا أدبيا وجماليا أشادت به «كاييه». هذه المرة، التزمت لجنة التحكيم في مهرجان «كان»، وهي التي كثيرا ما تتأثر مع الأسف بالأبعاد الاقتصادية والسياسية لصناعة الترفيه، بالمبادئ الحاكمة للجوائز. وكما قال فرودون في شهر يونيو من ذلك العام بعد انتهاء المهرجان: [حقيقة أن لجنة التحكيم أعطت] الجائزة الكبرى لفيلم يتميز بالموهبة والإتقان، مثل فيلم «4 أشهر و3 أسابيع ويومان» (4 مانث، 3 ويكس، 2 دايز)، صنعه مخرج مجهول تماما، مثل كريستيان مونجيو، تدل على شيء بذاتها، وهو أكبر من مجرد لفتة لطيفة ... هذا الاختيار مستحق لأسباب عدة؛ أولها بالطبع الفيلم نفسه ومخرجه، لكن أيضا بسبب السينما الرومانية الصاعدة التي أشارت إليها «كاييه» مرارا على مدار العامين الماضيين، وساندتها في صعودها للأضواء، وأخيرا من أجل السينما الناشئة في كل مكان في العالم وآمالها في التجدد.
فتاتان ضعيفتان في المدينة. «أميلي»/«4 أشهر و3 أسابيع ويومان».
وعلى الرغم من أن «4 أشهر و3 أسابيع ويومان» يشبه «أميلي» في عرضه للحياة السرية لفتاة ضعيفة في مدينة كبيرة، فإن «4 أشهر و3 أسابيع ويومان» يقف على الضد من جماليات الفيلم الفرنسي من كل الطرق. بينما تتجول كاميرا جونيه في باريس، وتخترق الشقوق في إزارات جدران الشقق السكنية، وتتسلق قمم الجبال، وتظهر العالم المرئي بالكامل على الشاشة (فضلا عن الخيالات والرؤى - هذه السحب الجميلة على هيئة حيوانات)، فإن مونجيو يقتصر بصرامة على ما تراه وتواجهه بطلة فيلمه، أوتيليا. وبينما يربط جونيه بوضوح بين مئات القطع المتناثرة ليكون منها بضعة خطوط للحبكة، مفرطة في التفاصيل، منسوجة حول طريق أميلي المحير منذ ولادتها حتى عثورها على السعادة، فإن مونجيو يبسط بهدود لقطة طويلة للغاية تلو الأخرى ليصنع 16 ساعة من يوم واحد عصيب. لا يوجد هناك صوت راو يقرر ما ينبغي علينا أن نلحظه. بالطبع، هناك حذوفات كثيرة في زمن الفيلم البالغ 110 دقائق، وحذوفات أكثر كثيرا في المعلومات، تجعل المشاهد يجاهد ليستبطن ما تنوي أوتيليا عمله وما تفكر فيه.
ينحدر الفيلم الروماني من فيلم «أمبرتو دي» ومجازفة زافاتيني بصنع فيلم عن 24 ساعة في حياة شخص لا يحدث له شيء. وبينما يحدث الكثير في فيلم مونجيو، فإنه، مثل دي سيكا مخرج «أمبرتو دي»، مستعد لإنفاق وقت ثمين على أحداث صغيرة اعتيادية. يعطينا مونجيو معادل المشهد الذي اختاره بازان في «أمبرتو دي»، وهو لقطة في وقت الحدث، تظهر خادمة المنزل الحبلى وهي جالسة تطحن حبوب البن مديرة مقبض المطحنة مرة تلو الأخرى. في «4 أشهر»، تقودنا أوتيليا خلال الردهة في سكنها الجامعي؛ حيث تختبئ في الحمام، ثم تعثر على أصدقاء في غرفة أخرى تستخدم كسوق سوداء لمستحضرات التجميل، وتتوقف لتحنو على قطة تأويها مؤقتا طالبة أخرى لن نراها مجددا. هذا التتابع للمشاهد المصورة أيضا في الوقت الفعلي لحدوثه، يقدم الزمنية الكئيبة لعدد لا يحصى من الأيام المملة في رومانيا الاشتراكية، كل يوم يشبه الذي يليه، تقابله أحداث درامية مكثفة تتطور في اليوم الحادي والعشرين، الأسبوع الثالث، والشهر الرابع من حمل جابي.
كان من شأن لينارت أن يعرف كل لقاء مختصر في الردهة بأنه تقارب؛ صورة من العالم الأكبر توازي الأحداث المحددة التي تمر بها أوتيليا وجابي، أو تتجاوب معها: النظافة الشخصية، وجسد الأنثى أثناء الاغتسال، والتجارة السرية في السوق السوداء (ويشمل هذا أشرطة الفيديو المقرصنة) وراء الأبواب المغلقة، وقطة يتيمة تحتاج إلى الحماية. وكان من شأن مالرو أن يشيد كذلك بحذوفات مونجيو الحكيمة بسبب كل من الطريقة المرتبة التي تدفعنا بها هذه الحذوفات بقوة في قلب دراما أخلاقية بالأساس، والطريقة التي تجبرنا بها على محاولة تكوين عالم تواجهه الفتاتان بالمثل باعتباره ملغزا، وليس معطى بالكامل. يلح الغموض والتهديد حتى حين تتطور المشاهد بلا قطع: عشاء العائلة في شقة الرفيق؛ والمناقشات مع من سيجري عملية الإجهاض، ويتسمان بالحذق لدرجة أن القليل من المشاهدين يعرفون أي اتفاق قطع ومتى؛ وبجرأة وقسوة، تعرض عملية الإجهاض نفسها التي تتم على كيس بلاستيكي يغطي فرش سرير أحد الفنادق، من بدايتها لنهايتها.
السرير الفندقي هو أيضا موقع أهم حذف في الفيلم قبل حدوث الإجهاض بدقائق حيث يضاجع المجهض أوتيليا في إطار الاتفاق. هذا هو الخواء الأخلاقي غير المرئي في مركز كل من النظامين الاجتماعي والفيلمي، ثقبهما الأسود. لا يفرض مونجيو رقابة على نفسه حقا هنا؛ فالحدث البغيض يحدث في الغرفة بينما تنتظر جابي خارجها في الردهة، ثم في الحمام، مدركة تماما، مثلنا، ما يحدث على بعد أقدام منها. هذه هي اللقطة الوحيدة في الفيلم من وجهة نظر مختلفة عن وجهة نظر أوتيليا، مشيرة لشيء تقول أوتيليا، في آخر سطر في الحوار، إنها لن تتحدث عنه مرة أخرى. هذا عالم يجب علينا استحضاره من زوايا محدودة، وغالبا في ضوء خافت، ومن خلال قطع صغيرة من الحوار تعطينا لمحات عن الدوافع، وتشير إلى روابط متبادلة بين أشخاص لم نقابلهم من قبل لكن يجب علينا تخمين أدوارهم في الفيلم.
يزل مونجيو في مرة واحدة حين يعطينا معلومات ورؤية تتجاوز رؤية أوتيليا. يفتتح مشهدا بتتبع راكب دراجة عشوائي في لقطة بانورامية واسعة، مارا بأطفال يلعبون كرة القدم في ساحة الخدمة الفارغة لمبنى سكني غير مميز. وأثناء مرور راكب الدراجة، تتوقف سيارة في الساحة ليقطع مونجيو المشهد مظهرا أوتيليا وهي تجلس بجانب المجهض في المقعد الأمامي. بهذه الطريقة يعاد بناء قاعدة الفيلم مرة ثانية فورا؛ لأنه حينما يخرج المجهض من السيارة متجها إلى والدته الجالسة على مقعد بعيد، تظل الكاميرا تعرض رؤية أوتيليا المحدودة. يجب عليها (وعلينا)، تخمين ما يحدث.
يتكشف «4 أشهر» أمام عيني المشاهد كسلسلة من الأسرار، والغوامض، والمواربات. ويستلزم موضوعه البارز - وهو الإجهاض - هذا؛ حيث يواجه جميع المنخرطين في الأمر خطر التعرض للسجن. لكن يبدو كل المتورطين في هذا مسجونين في غرف وأبنية كئيبة في مدينة كئيبة. يحمل الجنين الملفوف في منشفة خلال أزقة مظلمة، ثم يصعد به سلالم مشئومة حتى الطابق الحادي عشر من مبنى مجهول، ويلقى في أنبوب يوصل إلى حاوية القمامة في الأسفل. لن يذكر هذا الأمر مرة أخرى في أي محادثة، وهو ما تتفق عليه الفتاتان أثناء تحديقهما في طبق لحم لا يفتح الشهية يقدمه لهما النادل. في الوقت نفسه، وفي الخلفية، يثمل المشاركون بصخب في عرس.
سارع النقاد الاجتماعيون في وصف الفيلم بأنه ضربة موجهة للشيوعية، وهذا أكيد؛ لكن مونجيو يصر بحق على أن نصه المكتوب بعناية يهدف لحمل شخصياته ومشاهده لوسط ولإحساس من فترة زمنية محددة، تشبه غالبا أفلام الشوارع الألمانية، والظلام الذي أحدثته في الواقعية الشعرية الفرنسية ثم في هوليوود. لكن على العكس من تلك الأفلام المنتمية إلى العصر الكلاسيكي، فإن «4 أشهر» يرفض أن يمنح نفسه الراحة التي يوفرها راو ماهر، مسموع أو كلي المعرفة بطريقة أخرى . يقود سر الإجهاض الخفي الفيلم لأسرار أشد قتامة تخص النظام الاجتماعي الذي يريد أن يظل خفيا عن المواطنين الذين يراقبهم. ربما ينتهي بنا الحال ونحن مرتابون بشأن تدابير هذا العالم، لكن بفضل الملاءمة والصرامة اللتين يتمتع بهما أسلوب مونجيو - المصفاة التي فرضها على نفسه وعلينا - نحن متأكدون تماما من الطريقة التي يشعر بها هذا العالم، ونستطيع أن نناقش تبعات هذا الإحساس بالتحديد.
التضاد بين «4 أشهر» و«أميلي» المبين هنا يمكن تكراره مع كثير من ثنائيات الأفلام والمخرجين، لكنه قد لا يكون بالوضوح ذاته مع كل من جيا جونج-كي وتشين كيج، وهو تضاد واضح جدا على صفحات «كاييه». عبر جيا جونج-كي عن فكرته المتميزة عن السينما في مقابلة صريحة بشأن فيلمه «حياة ساكنة» («ستيل لايف»، «سانشيا هاورين») الفائز بجائزة مهرجان فينيسيا عام 2006. يذكر جيا معركة التوزيع التي خسرها فيلمه لصالح أفلام جماهيرية برعاية الدولة؛ مثل «لعنة الوردة الذهبية» («كروس أوف ذا جولدن فلاور»، 2006) لجونج ييمو، أو فيلم «الوعد» («ذا بروميز»، 2005) لتشين كيج. أخذ فيلم «حياة ساكنة» يعرض في دور عرض صغيرة في أطراف بكين، بينما هيمن منافساه المصنوعان بأكبر الميزانيات في الإنتاج السينمائي الصيني، المصحوبان بحملات دعاية ضخمة، على كثير من دور العرض في العاصمة والدولة. اشتمل النقاش الحاد الذي ظهر في الصحافة الغربية بشأن هذا على ما هو أكثر من مجرد معركة تقليدية بين الفن وصناعة الترفيه. اشتمل على مناقشة طبيعة السينما، وعلى مستويات كثيرة.
على الرغم من أن «الوعد» كان مخيبا للآمال بقسوة، فإن تشين روج لهذا المشروع بناء على أوجه التقدم الرقمية التي أتاحت له تحريك اللقطات المصورة بأبعاد «سوبر 35 مليمترا» بفعالية. أما فيلم «حياة ساكنة» الذي كان يعكس العملية فقد صور رقميا، ثم حرر بجماليات فيلمية متميزة. يضم الفيلمان مشهدا مهما في واد عميق. في بداية «الوعد»، يجد البطل نفسه وسط جيش من العبيد في قاع واد ضيق، يشرف عليه من قمة منحدر قائد عسكري مع حاشيته. يزيد تشين من الترقب، مفضيا إلى ظهور قطيع مذعور من الثيران، بالقطع ذهابا وعودة بالكاميرا بين العبد والقائد العسكري. وكما في «أميلي»، لا يفلت شيء من كاميرا تشين، حتى إننا نرى لقطة مقربة لدبور يطن يثير ضيق القائد العسكري الذي يقبض عليه بقبضته بعد لقطتين. في اللقطات التي تتخلل هذا، يختلس البطل النظر إلى القائد العسكري من أسفل، ثم يضع أذنه على الأرض ليقيم الخطر الذي يتجه نحوه. تخترق الكاميرا طريقها لحواسه، وعينه، وأذنه. وبمجرد بدء الأحداث، نتتبع البطل وهو يتحاشى الثيران الآتية، ثم يسبقها، بينما يراقبه سيده من خلفه من أعلى. نرى حركة خارقة للقدرات البشرية بزمن رقمي على الأرض من منظور ثور هائج، ومن وجهة نظر البطل وهو وسط القطيع، ثم القفز فوق ظهور الحيوانات لمواكبة ركضه الخارق؛ ونمنح بين الفينة والأخرى لقطات رائعة من المكان الذي يقف فيه القائد العسكري، ثم لقطات من أعلى للوادي العظيم المتعرج، فوقهم جميعا، والغبار يتصاعد في الهواء. قدم تشين صورا متحركة لواحد من أشهر المقاصد السياحية في بلاده.
قائد عسكري يرى كل شيء. «الوعد».
تقع أحداث «حياة ساكنة» في موقع أكثر شهرة، وهو سد الممرات الثلاثة. يبدأ أحد أعقد المشاهد في الفيلم في قمرة قيادة سفينة سياحية تسير بروية في اتجاه التيار. وبدلا من الراوي العليم الذي يروي أحداث أسطورة «الوعد»، فإن صوت الراوي في «حياة ساكنة» يخرج من سماعات القارب الجهورة على هيئة سرد تاريخي عن المشروع، ويتضمن قصيدة من عصر أسرة تونج الحاكمة عن الوادي. بقطع اللقطة والاتجاه للسطح الرئيسي للسفينة، يركز جيا جونج-كي على شاشة تليفزيون تحتل ثلثي الشاشة في صدر الصورة. يظهر شريط سينمائي إخباري بالأبيض والأسود أعضاء في الحزب يدشنون مشروع السد الذي يجري بناؤه في زمن الفيلم على قدم وساق. وإلى اليسار، في المنتصف يتجول المسافرون وربما يتحدثون، بينما من خلفهم، خارج بؤرة الصورة هناك المشهد الطبيعي الذي يستمر الصوت الرسمي في إخبارهم به. يقطع المشهد لتذهب الكاميرا للبطلة وهي جالسة بمفردها على ظهر السفينة تشرب الماء المعبأ في قارورة، ثم تنظر فيما وراء قارب آخر يتجاوزونه إلى التلال التي تعلو النهر؛ حيث يخفت الصوت، وتمهد موسيقى من خارج المشهد مزاجا تأمليا. يبدأ المشهد التالي في الظهور، لنرى البطل على قمة تل ينظر لأسفل. تعلو أصوات بوق السفينة، بينما يرى - ونرى نحن - ما يبدو أنه السفينة السياحية نفسها في الأسفل؛ حيث يمكننا أن نسمع نبرة صوت المرشد السياحي البعيد. تسير الكاميرا بشكل بانورامي بسرعة القارب الذي يصدر صوت الموتور بإيقاع يتوقف بانتهاء المشهد. هنا يقارب جيا جونج-كي رويدا رويدا بين الشخصيتين الرئيسيتين في الفيلم اللتين لا تتقاطع حياتاهما أبدا؛ حيث يبحثان كلاهما عن شريكي حياتيهما. ويفعل هذا في زمن الفيلم وفي ثنايا التاريخ (القصيدة التي ترجع إلى عهد سلالة تونج، والأشرطة الإخبارية) في الوقت نفسه. وكما في «الوعد»، يرى الوادي من أعلى ومن أسفل، لكن ليس من خلال أعين الشخصيات التي تعيش الحدث، وبالتأكيد بلا أدنى صلة بالحبكة. إنهم جزء من تدفق النهر والتاريخ، والفيلم يتدفق بالطريقة نفسها.
قال جونج-كي لمجلة «كاييه» عن العنوان الذي يحمله فيلمه في الغرب إنه بالإضافة إلى أنه يوحي بلوحة؛ «فإنه يوحي بكشف آثار حياة لم تعد موجودة، أو بالأحرى، طريقة حياة لم يبق عنها سوى أكثر الأدلة أساسية. وعلى الرغم من كل شيء، فإن «حياة ساكنة» يريد إيصال الإحساس بالحياة بوساطة أبسط الأشياء؛ كالسجائر والخمر والطعام. فمن خلال هذه الأشياء يتواصل الناس مهما يكن؛ إذ يشعرون بأنهم معا حتى من غير أن يتحدثوا. هذه الأشياء العادية تكون بناء الفيلم.»
56
في ثلاث لحظات مثيرة للحيرة، يستغل «حياة ساكنة» المؤثرات الخاصة التي تتيحها صوره الرقمية دوما. شهاب يسافر في سماء الليل، وبعض الأبنية في خلفية مشهد تنهار فجأة، والأكثر غرابة، تمثال تذكاري غريب الشكل يقلع من الأرض إلى السماء أمام ناظري البطلة التي لا تبدو أنها تستوعب ما ترى. وكما في تحفته السابقة، فيلم «العالم» («ذا وورلد»، 2004)، جيا جونج-كي مستعد لنشر الصور المتحركة، لكن دائما في خدمة السينما، ولا يحاول تجاوزها. في «العالم»، تهرب الشخصيات الشابة المحبوسة في مدينة ملاه؛ حيث يعملون وراء الكواليس، بتركيز آمالهم على هواتفهم المحمولة التي يفتشون فيها باستمرار. وفي حركة جريئة، يضخم جيا جونج-كي الرسائل النصية القصيرة التي يرسلها أحدهم إلى الآخر، إلى مشهد صور متحركة على شاشة عريضة ملونة بذكاء؛ حيث تتدفق المشاعر الغامضة أو الواضحة عبر هذه الهواتف الصغيرة إلى أكثر المساحات التي يمكن تخيلها رحابة وتحررا. العالم الافتراضي الذي يلجون إليه من خلال الرسائل النصية أصبح العالم الوحيد الذي له قيمة لأولئك الذين يعملون داخل «العالم». وكما يقول إيمانويل بوردو في «كاييه»، يقدم جيا جونج-كي صورا مصغرة لآثار ضخمة على جانب، ويقدم لقطات سينما سكوب بالغة الكبر لشاشات هواتف محمولة صغيرة على الجانب الآخر. القياس هنا معكوس.
تبدو هذه المشاهد المتحركة الفائقة تمجد الحرية المذهلة التي تتيحها التقنية الرقمية، وتسهم فيها. ومع ذلك، ومثل مدينة الملاهي التي تمنح الفيلم عنوانه، فإنها مقيدة بالدراما الإنسانية والاجتماعية التي تتخللها مثل الثقوب في قطعة الجبن. يتضح أن جيا جونج-كي مخرج حداثي كرس نفسه لهذا النوع من الاكتشاف الذي اتخذه مخرجو الواقعية الجديدة رسالة لهم. تظهر أفلامه التذبذب بين الخطوط الزمانية المتعايشة التي تجعل الحياة في الصين حياة مؤلمة وقهرية معا في هذا القرن الجديد. تتبدل الصور التي نراها بين ألوان الأحلام، والوجوه التي ترى بالكاد في الضوء الخافت لأقارب البطل الفلاحين من مقاطعة شونج-تشي الذين يصلون إلى بكين للمطالبة بجثة ولدهم (وبتعويض) بعد حادث بناء. هنا يبدأ ضوء اللقطات المتحركة المصنوعة رقميا في إظهار شيء ينتمي للواقعية الجديدة.
وجوه غير واضحة في ضوء خافت. «العالم».
وهكذا، فإن فكرة السينما التي يروج لها هنا لا ترتفع أو تهبط مع التكنولوجيا. يمكن لسينما قائمة على الاستكشاف والوحي استخدام أي نوع من الكاميرات. علاوة على ذلك، فإن هذه السينما تبدأ فقط بالتصوير. وطالما اعتبر بناء فيلم (وليس تركيبه) في مرحلة التحرير «هما جميلا»؛
57
حيث يجذب التداخل بين ما هو مرئي وما هو خفي موضوعا للظهور، غالبا، كما كان يمكن أن يقول بازان، ليس في مركز الشاشة ولكن «في الزخرفة». في أحد البيانات التي نشرتها «كاييه» عام 2005 بعنوان «أوريزون سينما»، يؤكد محررها في ذلك الوقت، جان ميشيل فرودون، الميثاق بين السينما والجمهور.
58
يؤكد فرودون أن الأفلام يجب أن تستمد مصادرها من الواقع؛ ليشعل الاحتكاك الناتج من شحذ التصميم الفني بالواقع شرارة الضوء المتقطع للخيال والتأمل. في ظل هذا البصيص من الضوء، يطور الجمهور (بالمعنى الفوتوغرافي للكلمة) الموضوع الذي يظهر أمامهم ليتحول إلى أجزاء موحية. يتهيأ الجمهور ويتجاوب طوال مدة الفيلم مع ما يعرض أمامه. في أفضل الحالات، يشتغل الفيلم بنفسه خارج نطاق عرضه؛ في نقاشات عبر البريد الإلكتروني، أو في الفصول الدراسية، أو في المقاهي، وفي صفحات دوريات «كاييه دو سينما». يؤدي الاستكشاف الذي لا ينتهي أبدا إلى آثار لا يمكن التنبؤ بها، لكنه بحد ذاته ليس أثرا على الإطلاق.
هوامش
الفصل الثالث
آلة العرض بوصفها مصباحا للمشاهد
من بين القطاعات الثلاثة المكونة لظاهرة الفيلم، العرض هو القطاع الذي يواجه فيه أسلوب تفكير بازان خطر الانقطاع أو التجاهل. هل جلبت الحقبة الرقمية معها تغييرا جذريا في كيفية عرض الأفلام لدرجة أنه ينبغي ألا نتوقع بعد ذلك أفلاما مماثلة؟ أي إنه ينبغي حتى ألا نفترض بعد ذلك أن تكون الظاهرة متعلقة بالسينما التي كانت تعرف من قبل؟
أعلنت تحولات حاسمة بشأن لحظات أخرى. يقسم جيل دولوز تاريخ الأفلام أثناء الحرب العالمية الثانية إلى عصر صورة الحركة، وعصر صورة الزمن. وشهد بازان هذا الانقسام المميز؛ حيث استخدم مصطلح «كلاسيكي» بصراحة للإشارة إلى «الديكوباج» (أسلوب هوليوود الكلاسيكي)، ومصطلح «حديث» لتعريف منهج رينوار والواقعيين الجدد الصاعد حديثا. ما أطلق عليه وصف «حديث»، على سبيل المثال، هو ما أعرضه هنا بوصفه أكثر نهوج الوسيط السينمائي رسوخا، وهو نهج نضج بعد عام 1945، لكنه غير مقيد بتلك اللحظة. باتخاذ اللقطات بدلا من الصور أساسا، يمكن إعادة كتابة تاريخ السينما، بحيث ينظر إلى أعمال العشرينيات من القرن العشرين التي أخرجها فلارتي وإريك فون شتروهايم بشكل حداثي، قبل ظهور المفهوم، تماما مثلما أعتقد أن ذلك النهج يستمر فيما بعد الحداثة في أفلام جيا جونج-كي وهو تشياو تشين.
تشير هذه المصطلحات الخام، حينما نستخدمها بمرونة وبقدر كاف من التشكك، إلى مجموعات وأنماط من الأفكار عن التغيرات في الفنون والثقافة. على سبيل المثال، بينما مرت بتطورها الخاص من الكلاسيكي إلى الحديث وما بعده، فإنه يجب النظر إليها إجمالا بوصفها وسيطا عظيما من العصر الحديث في الامتداد الزمني الطويل للثقافة الغربية الذي ذكره ريجيز دوبري في كتابه «حياة الصورة وموتها».
1
كانت اللوحات الزيتية هي المقياس الأعلى في أوروبا الكلاسيكية من عصر النهضة إلى الحركة الرومانسية، حتى خسرت أولويتها لصالح التصوير الذي استهل العصر الحديث في عام 1839. كان كل شكل من أشكال التمثيل في العصر الحديث يقاس ضمنيا على الصورة الفوتوغرافية، حتى ظهرت التقنية الرقمية في ثمانينيات القرن العشرين بوصفها نقطة مرجعية للتمثيلات في العصر الحالي.
وعلى الرغم من ادعاء دوبري أن تغييرا كبيرا حدث في آخر عقدين، فمعظم الأفلام اليوم تخطط وتنفذ تماما كما كانت الأفلام منذ الثلاثينيات من القرن العشرين. صحيح أنها تجمع ببرامج تحرير رقمية، وتعرض في أحيان كثيرة لحظات من المؤثرات الخاصة المصنوعة بالكمبيوتر، لكن معظمها يعرض تركيبات عامة قائمة منذ زمن طويل؛ حيث ينخرط الممثلون في مواقف درامية في موقع التصوير أو في الاستوديو. ازدهرت أفلام الصور المتحركة الطويلة بفضل التكنولوجيا الرقمية والنقاد الدائمي البحث عن نقلة في النموذج العام، معلنة بدء عصر ترفيهي جديد يتضح في أفلام جماهيرية مثل «هاري بوتر» أو «أفاتار». لكن الأفلام المعتادة التي تنتج طبقا لقوالب عريقة، تظل هي النمط السائد؛ وإذا كان بناؤها السليولودي قد أبدل، فقد حدث هذا على نحو غير محسوس؛
2
حيث استغل صناع الأفلام وسائل الراحة الرقمية، حتى حينما كانوا ينشرون عن رضا - أو يشوهون بعنف - تقاليد يتقنونها على أي حال. ولذا، وعلى الرغم من أن الخيارات وسعت بقدر هائل لأنواع جديدة من الإنتاجات السمع-مرئية، فمن السابق لأوانه الجزم بأن التصوير والتحرير غيرا السينما تغييرا جذريا لدرجة أن السينما تحولت لشيء جديد تماما. يبدو فيلم «جبل بروكباك» («بروكباك ماونتين»، 2005) مألوفا تماما في هذا الشأن.
لكن الجماهير ربما لم تعد تشعر بالأفلام كما كانت تفعل في العصر السينمائي، وفي هذه الحالة، ربما تكون ثورة حقيقية حدثت في «العرض». ربما أمكن للمخرجين أن يعملوا طبقا لأعراف عريقة، لينتجوا نوعا سينمائيا أو أعمالا إخراجية تضاهي أفضل أفلام الماضي، لكنهم لم يعودوا يستطيعون الاعتماد على الطريقة التي ستستقبل بها صورهم العامة أو حتى تخيل هذه الطريقة بالكامل. يكون عرض الأفلام في دور العرض قصيرا، حتى لفيلم يعتمد على الجودة، تمهيدا لنشره على الوسائط المرئية التي قد تكون مربحة في أحيان كثيرة، لكن ثبت أن التحكم بها أمر صعب. أما المشاهدون المعتادون على التجمع معا تحت الشاشة الكبيرة، فهم يجعلون الفيلم تحت رحمتهم، بمشاهدته كيفما ومتى ما يشاءون، بمفردهم غالبا، أو بصحبة أفراد العائلة والأصدقاء؛ حيث يمكنهم إيقاف الفيلم، أو إعادة مشهد ما، أو حتى تعديله وفق اختيارهم. حينما سئل جان-لوك جودار عن الآثار المدمرة المحتملة للتكنولوجيا الرقمية على السينما، صرح بلا تردد بأنه لم يتغير أي شيء أساسي في مرحلة إنتاج الفيلم، لكن تجربة مشاهدة الفيلم نفسها في خطر داهم. ومن وجهة نظره، فالسينما، بوصفها سينما، لا توجد إلا في فضاء عام؛ حيث يجلس جمهور متنوع ساكنا، بينما يرسل مشغل آلة العرض من فوق رءوسهم صورا تصور عالما مكبرا. وأضاف ساخرا: «ينظر المرء لأعلى في السينما ولأسفل على التليفزيون.»
3
بانتشار الشاشات الصغيرة بكل أشكالها، يتحكم المستهلك في التجربة. من وجهة نظر جودار، يعني هذا اضمحلال المجال العام البديل الذي كونته دور العرض خلال الجزء الأكبر من القرن العشرين. ومع أن دار العرض مجال لبث الأيديولوجيات ولا شك، فهي تسمح للسياسة الشعبية بالتطور؛ جمهور مجموع، وانتباهه مركز طوال ساعتين على رؤية للعالم؛ هي وجهة نظر شخص ما.
تتيح شبكة الإنترنت - أو حتى تبتكر - أشكالا جديدة من الانتماء والانشغال بالسياسة؛ أشكالا وثيقة الصلة بعالم فقدت فيه المواجهات على أرض الواقع وتظاهرات الشوارع جاذبيتها وقوتها. ما زالت الأفلام تخاطب المشاهدين - حقا، يخاطب المزيد من الأفلام المزيد من أنواع المشاهدين بقدر أكبر من ذي قبل - لكن كثافة التجربة السينمائية وتزامنها لم يعودا هما النموذج السائد. يسمي ريجيز دوبري التليفزيون «أداة التشتيت»؛ فبإضاءته من الداخل، يشع التليفزيون والكمبيوتر الضوء المنبعث من البيكسلات المهتزة؛ ولا يعكسان شيئا. ولأنهما نادرا ما يطفآن، فهما يبقيان - بلا مبالاة في غرف متنوعة من كل منزل - جزءا من البيئة مثل اللوحات الإعلانية على الطرق السريعة. إلى أي مدى يختلف هذا عن شاشة العرض السينمائي التي تصل إليها بعد أن تتجاوز ستارا أو بابا للعثور على مقعد في قاعة مظلمة. دار العرض السينمائي مساحة هائلة، أو مخيخ عملاق يتأمل داخله الناس الذين خطوا خارج حيواتهم صورا هي نفسها تأملات. حذر جون-لوي بودري ذات مرة من أن السينما هي نموذج حديث ل «كهف أفلاطون» حديث يحدق فيه الناس في الظلال مقيدين بسلاسل الأيديولوجيا. لكن لأن المشاهدين يختارون دخول هذا الكهف - بل يدفعون المال ليدخلوه - فبإمكانهم تحويل افتتانهم بالشاشة إلى نقاش بشأن ما يرونه منعكسا هناك: رؤية للعالم، وجهة نظر عن كيفية العيش فيه أو كيفية تغييره. هذا ما كان يعد به ذلك المجال العام.
قوة العرض
من المفهوم إلى العرض، تعد الأفلام «اختزالات» مدروسة للمعلومات، تركز من ثم ما تعرضه. المرادف الفرنسي لكلمة «بؤرة التركيز» هو التجلية؛ أي الوصول إلى التركيز السينماتوغرافي. لا يجد كل ما في النطاق المرئي طريقه إلى الشاشة، لكن ما يصل إليها يتميز بأنه ذو صلة. تسألون ذو صلة بماذا؟ الفصل التالي سيجيب: بأنه «ذو صلة بالموضوع»، بموضوع الفيلم، مهما يكن هذا مخططا من البداية بوضوح أو بضبابية. تعمل الأفلام على عرض موضوعها بالتخلص مما هو غير وثيق الصلة بذلك الموضوع، رغم أنه في بعض الحالات - أهم الحالات غالبا - يسمح بدخول عناصر عشوائية ومتناقضة بسبب أن موضوع الفيلم مسترسل، أو أنه هو نفسه متناقض بما يكفي لهذا الاسترسال. إن لم يكن بازان هو أول من فكر في السينما بوصفها مصفاة، فإنه أول من فعل هذا بطريقة نظامية.
الشاشة هي الواجهة التفاعلية الأخيرة بين المشاهد البشري والعالم المشاهد،
4
ليس العالم وهو نقي وبسيط، لكن رواسب العالم - لو أمكن قول هذا - حيث الآثار فيه مترسبة كقطع من الخام أو - باستخدام أحد التشبيهات التي يحبها بازان - كبرادة الحديد. هذه البرادة هي نفسها اختزالات فوتوغرافية غالبا ما تكون بالأبيض والأسود، ومصورة بعدسة أحادية بقوانين بصرية ثابتة، على النقيض من الخواص الرامشة لعين الإنسان المتحركة المتجسدة. يعوض صانع الفيلم هذه القيود بالتصوير من زوايا عدة، مكونا أرشيفا كبيرا من اللقطات الخام لموضوع الفيلم، لكن كل شيء سيزال فيما عدا نسخة العرض النهائية. ما يظهر على الشاشة، حينها، ليس شكلا خالصا من الواقع، ولا شكلا خالصا من السينما، ولكنه فتات من المعلومات الأولية الحسية، مشكل بالفكر والخيال، ومن أجلهما، في مواجهة موضوع ما.
يجب أن يكون خيال صانع الفيلم وفكره - أو وجدانه كما قال بازان - واضحين في جودة الاختيار الذي يصفي فتات المعلومات ذلك من أجل النسخة النهائية؛ لذا فالأسلوب ليس أمرا مضافا إلى الموضوع، ولكنه ينشأ بوصفه نمطا للاختزال والتشكيل المتناغمين. وكما يقول بازان، فإن الحس المرفرف فوق الفيلم مثل الحقل المغناطيسي هو ما ينظم ما هو موجود ليصبح شيئا له دلالة أخلاقية. أما المشاهدون فلا يستقبلون كل ما يعرض على الشاشة بقدر متساو؛ فلكونهم هم أنفسهم كائنات أخلاقية، فهم يصفون ما يصبح فيلما عند عرضه فقط. وكما تشير الكلمة نفسها، يتجاوز «العرض» ما تم تصويره وتنظيمه. لا يعني العرض بالضرورة رؤية أكثر مما هو موجود، ولكن الرؤية «عبر» ما هو موجود؛ لذا فإن أي فيلم يعرض - وهو نتاج مصفاتي الكاميرا والمحرر - يصبح في حد ذاته مصفاة فيما يخص المشاهد. والعرض يركز الرؤية لتجاوز ما هو مرئي إلى القدرة على الرؤية. وأحيانا ما يقال: للوصول إلى الخيالي.
توجد «الأفلام» في وقت يسبق العرض، وفي غياب العرض، لكن هذا لا ينطبق على اللقطات والصور المتحركة. حينما تكون الأفلام محفوظة في علبها، تبقى تسجيلا جامدا وساكنا للناس وللمواقف، سواء أصورت من العالم على اتساعه، أم اصطنعت في مواقع التصوير. لكن حينما تعرض فقط، تدب فيها الحياة بوصفها مشاهد متحركة، تتشكل في عقل كل مشاهد وتخاطب جمهورا.
5
ولكونها دائما محط تفكر، تصبح ظروف ما قبل العرض السينمائي وتبعاته محل تركيز دراماتيكي في مناسبات معينة. شهد جون روش أكثر من واحدة من هذه المناسبات، بل أثارها. في أول عرض لفيلمه «السادة المجانين» («لي ميتر فو»، 1955) في متحف الإنسان في باريس، رجاه مارسيل جريول، معلمه وعالم الأنثروبولوجيا الرائد في فرنسا، أن يعرض الفيلم في قبو المتحف، وألا يكون الجمهور «عرضة» للقطات الثمينة لكن المثيرة للفتنة التي أحضرها روش من غانا في العام السابق لعرض الفيلم. كان متأكدا أنها لن تؤدي إلا إلى تقوية الأفكار النمطية الشائنة عن الهمج الأفارقة. لكن روش لم يلتفت لكلامه. ورغم أنه كان يقدر تحذير جريول، أراد روش أن يقبل الأوروبيون حقيقة «السادة المجانين». أحدث فيلمه صدمة، وفاز بجائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان فينيسيا عام 1957. بعد ذلك، اختفى الفيلم عن أعين العامة طوال عقود؛ بسبب ازدياد حذر روش؛ إذ فهم كم كان مثيرا للغضب! واكتسب الفيلم سمعة سيئة، وخصوصا في الولايات المتحدة، وأصبح محبو السينما في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات يتفاخرون بأنهم شاهدوه سرا.
كثيرة هي أمثلة الرقابة؛ إلا أن ما يميز فيلم «السادة المجانين» هو أن شخصا مثل جريول يمكنه أن يشهد بأهميته، بوصفه ثبتا (أي بصفته فيلما)، ولكنه يصر على ألا يعرض بجانب أكثر أفلام العام أهمية. حاليا، برئ روش، وأصبح قليل من الناس يعدون «السادة المجانين» عرضا من عروض صندوق الفرجة ذا طابع استشراقي لطقوس همجية.
6
لقد سجلت كاميرا روش بعض المنضمين حديثا لحركة «الهوكا» الدينية وهم يدخلون في حالة غشيان، يظهرون خلالها غير متأثرين بالألم، ويذبحون كلبا، ويأكلونه في الحال؛ لكنه حرر هذه الصور أيضا لتشمل أولئك الأشخاص الاستعماريين الأوروبيين المتغطرسين، مبرزا تشابهات صريحة بين الثقافتين بتعليقه الصوتي المصاحب للصور. بوصفه تركيبا مبنيا بعناية، يبدأ «السادة المجانين» وينتهي في بيئة العمل اليومية في العاصمة الغانية أكرا، ثم يتتبع موضوعاته في رحلتهم الدينية يوم الأحد في غابة؛ حيث يكون لطقوسهم أثر تطهيري، يغسل خطايا المؤمنين، ويوحدهم في جماعة مقدسة من الموقنين. يعرض روش موضوعاته، وقد تغيروا في النهاية، عائدين بلطف إلى المدينة؛ حيث اكتسب كل منهم مجددا القوة والثقة لمواجهة الحياة في أرض مختلفة أجنبية موحشة. يربط هذه الطقوس وآثارها بصراحة بالقداس الكاثوليكي، بحيث يصبح «السادة المجانين» مقالا أنثروبولوجيا عن الدين عموما، وليس فقط وسط مجموعة غريبة في النيجر أو غانا. وبينما تكون اللقطات المصورة بلا شك تسجيلا نادرا لممارسات نادرا ما ترى - شيئا باقيا من الماضي - يصل الفيلم المعروض إلى المستقبل من خلال الجمهور الذي يؤثر فيه.
وبسبب عرض الفيلم - ومن أجل الإشادة به - يحتل «السادة المجانين» مكانه بين أبرز 20 فيلما تتناول حالات الغشيان، صنعها روش في غرب أفريقيا منذ نهاية أربعينيات القرن العشرين فصاعدا. تفصل هذه الأفلام سردا وجدالا بينما توجد معظم الأفلام الأخرى في هيئة سجلات أرشيفية محضة، في انتظار أي دارس ليتأملها يوما ما على آلة موفيولا. مع ذلك، فحتى اللقطات الخام غير المعالجة بعد، يمكن أن يكون لها آثار قوية حين تنتزع من الأرشيف وتعرض. أظهر بازان قوتها المتأصلة فيها في أول لقاء له مع أعمال روش عام 1949 في «مهرجان الأفلام المنبوذة» في مدينة بياريتز. هذه القوة لم تكن أكثر تجليا بأي حال مما كانت حينما استطاع روش عرض أفلامه عن الطقوس للجماعات المتضمنة، بأسلوب عرض الأفلام المنزلية. في أكثر من مناسبة، شاهد روش أثناء عرضه الأفلام بآلة عرض يمدها مولد بالطاقة بعض المشاهدين يدخلون في حالات غشية كاملة أثناء مشاهدتهم أنفسهم، مكررين بفعالية أفعالا تستنفد طاقتهم الجسدية، لدرجة أنها يمكن أن تستغرق أياما للتعافي منها. دائما ما تكون حالات الغشيان خطرة. وكان روش بحاجة إلى الحذر من العرض، مدركا هذا اللفظ بطريقتين: بوصفه استفزازه الذي يوجهه نحو الجمهور الأوروبي، وبوصفه عملية التماهي التنويمي التي تقود موضوعات (أشخاصا) معينين سريعي التأثر للدخول في حالات خطرة.
الغشية والغشية السينمائية. «السادة المجانين».
يبرز «السادة المجانين » بوصفه عملا قويا على نحو خاص؛ لأن موضوعه، وكذلك منهجه، يتضمنان عروضا وعمليات محاكاة وتحولات خطرة. نرى أجساد المشاركين تصبح وسائط تسكنها أرواح الهوكا. حينما يهتز أحد المشاركين وكأنه «كمسري القطار»، وآخر وكأنه «عريف الحراسة»، يصبح التمثيل واقعيا أمام أعيننا. وتبعا لذلك، يغري روش المشاهدين ليصبحوا غير ما هم عليه من خلال «وسيط» ما، كان يسميه دائما «غشية السينما». إنه مشهد مبهج، لكنه مثير للاضطراب بسبب ما نراه. ومثل أولئك الأفارقة، نحن أيضا لدينا وظائفنا اليومية التي نتركها لندخل دار العرض؛ لنعبر لعالم آخر من خلال طقس يصبح فيه التماهي شديدا. نرتاح من أنفسنا لبرهة، ونتواصل مع رفاقنا، ومع الآخرين الغامضين المحتجبين وراء نطاق إدراكنا، ونعود في النهاية لحيواتنا حينما ينتهي العرض، متجددين حسب ما هو مفترض. أليس هذا تعريفا شائعا للتطهر؟
على نحو أوضح من معظم الأفلام الأخرى، يوجد فيلم «السادة المجانين» في حالات ثلاث متفرقة، كل منها قادرة على إثارة الجدل. قليل من النقاد يلومون روش على توثيق الطقوس السرية للهوكا (أي «التقاطها» وحفظها)؛ لأن الجماعة ألحت عليه أن يفعل هذا، ولأن جمع المادة في هذه الحالة الخام هو العرف السائد في علم الإثنوغرافيا. لكن بعض النقاد شككوا في استخدامه البلاغي لهذه المشاهد الأولية وطريقته في تحريرها إلى نص خطابي، وهذه هي حالتها الثانية. واستشاط كثير من النقاد غضبا من أن «يعرض» عمله في أفريقيا أو في الغرب؛ حيث يمكن جدا أن يحدث آثارا سيئة خارجة عن نطاق صانع الفيلم؛ آثار الرفض (تقيؤ بعض المشاهدين، وعزل بعضهم الآخر الأفارقة في زاوية عقلية منكرة) أو آثار التماهي (مثل دخول المشاهدين في حالة غشيان يخضع فيها الشخص لسيطرة شيء قوي ومجهول).
كان روش قلقا بشأن أخلاقيات عرض الكثير من أفلامه. بخلاف آثارها النفسية القوية، وإن لم تكن أكيدة، فإن عرض الأفلام على موضوعات هذه الأفلام (أشخاصها) له تبعات سياسية اجتماعية لا يمكن التنبؤ بها. لا بد أن مشروعه الضخم الذي امتد من عام 1967 إلى عام 1974 لتوثيق احتفال جماعة الدوجون العرقية على مدى سبع سنوات، المسمى «السيجوي»، الذي يقام كل 60 عاما، سيغير الحدث بكل تأكيد حينما يحل موعده مرة أخرى في عام 2027. لأول مرة منذ 400 عام، يمكن لأفراد الدوجون تقدير شكل المواكب التي ينظمونها حينما ترى من أعلى (كان روش عادة ما يضع كاميراه أعالي منحدرات باندياجارا). معنى هذا أن المشاركين في نسخة المهرجان للقرن الحالي سيتاح لهم منظور لم يتح من قبل لأسلافهم. علاوة على ذلك، لم يعودوا في حاجة للاعتماد على ذاكرة الأجداد لتعليمهم هذه العادة التي توارثتها الأجيال شفهيا منذ القرن السابع عشر. ويمكن اختبار صور روش لهذه الطقوس المقدسة، بعد أن نقلت إلى شرائط فيديو، وأقراص دي في دي الآن، في أي أمسية عادية حينما يشغل شخص ما في القرية المولد الكهربائي لتشغيل التليفزيون وجهاز التسجيل. وربما أدى هذا لحدوث نقاشات داخل الجماعة لتحسين تصميم الرقصات والأزياء. هل ينبغي اعتبار هذه التكنولوجيا الغربية تقدمية في تاريخ شعب الدوجون؟ إذا تراكمت الطاقة الروحية داخل هذه الطقوس والتعاويذ السرية ثم كشفت هذه الممارسات المقدسة وعرضت على العالم، ربما يؤدي هذا إلى تبديد الروح التي توحد الجماعة.
فتح أبعاد الشاشة
يزيد نطاق العرض السينمائي من تكثيف هذه التساؤلات الأخلاقية. واتفاقا مع جودار في هذا الموضوع، ينسب إلى كريس ماركر القول: «لا يصبح الفيلم فيلما إلا عندما يكون الناس على الشاشة أكبر حجما من أولئك الذين يشاهدونه.» صنع ماركر تركيبات متحفية باستخدام الشاشات، وأنتج أسطوانات دي في دي للكمبيوتر؛ لذا فإن ملحوظته لا تؤسس نظاما لترتيب الأفلام، لكنها تؤسس تمييزا؛ فضخامة التجربة تعتمد على حجم الشاشة. يعود ميلاد السينما رسميا إلى أول عرض عام على شاشة في مقهى جراند كافيه يوم 27 ديسمبر 1895، وليس إلى اللحظة التي وقف فيها توماس إديسون لأول مرة على قاعدة بناها لتتيح لمشاهد واحد في كل مرة النظر للأسفل إلى شاشة مستطيلة صغيرة. أصبحت الشاشات الصغيرة بديلا مرة أخرى، لكن صور الغشيان التي التقطها روش يندر أن تتمكن من كسب تأثيرها إن شوهدت على تليفزيون تقليدي أو هاتف آيفون.
النطاق الرأسي ذو البعدين غير مسئول بالكامل عن قوة العرض السينمائي. في لحظات استثنائية، تفضي الشاشة المسطحة إلى بعد ثالث، يحس كأنه عمق أو زمن. لينجز روش مشروعه الجذري، يقطع الغشاء الذي يفصل بين كل مستوى من الواقعية والمستوى الذي يليه، مسببا اضطراب عالم من يصورهم ومن يشاهدون أفلامه.
7
خاطر روش بتبديد قيمة طقوس السيجوي بعرض الهروب المقدس خلال الغشاء الذي يركز أسرار الثقافة داخل مجال محكم. بعد المرور من خلال عدسة آلة العرض إلى شاشة في أوروبا أو الولايات المتحدة بعد ذلك بسنوات، ربما تهرب القوة الروحية لهذه الطقوس كما يتسرب الهواء من إطار مثقوب. لم يواجه روش بفيلم «السادة المجانين»، خطر التبديد، ولكن عكسه: ماذا يكون الغشيان سوى الدخول في نوبات من الهلوسة للوصول إلى تركيز مذهل، في حالة مختلفة تماما بلا تأكد من العودة بأمان؟ في كلتا الحالتين، تصير الصور قذائف تحفر ثقبا في الشاشة تمر منه قوة جبارة آتية من مكان آخر.
تتضمن الفنون كلها قدرا من تغيير المستويات، لكن أيا منها لا يفعل ذلك بأوضح مما تفعله السينما؛ لأنها تنقل المشاهد من حالة لأخرى بقفزات مفاجئة غالبا. يمثل الذهاب إلى دار العرض بذاته نقلة دراماتيكية غير متاحة لمشاهد التليفزيون في المنزل. ربما يمكن أن تمثل القصة التالية التي نشرتها صحيفة إنترناشونال هيرالد حكايتنا الرمزية:
8 سبتمبر 2004: اكتشفت الشرطة في باريس دار سينما مجهزة بالكامل في مغارة كبيرة ومجهولة تحت الدائرة السادسة عشر الفاخرة في العاصمة. يعترف الضباط أنهم محتارون في معرفة من بنى أو استخدم أحد أكثر الاكتشافات إثارة للاهتمام في باريس مؤخرا. عثر بعض الضباط على المجمع السينمائي خلال تدريب تحت مبنى «باليه دو شايو». بعد دخول شبكة الصرف من ماسورة مجاورة لساحة تروكاديرو، صادف الضباط لافتة وراء غطاء تقول «موقع بناء. ممنوع الدخول.» وراءها كان هناك نفق به مكتب وكاميرا لدائرة تليفزيونية مغلقة معدة لتسجل تلقائيا صور أي شخص يمر. كان هذا النظام يشغل أيضا شريطا لكلاب تنبح، «مصمما، كما هو واضح ، لإبعاد الناس». وعلى مبعدة من ذلك، كان النفق يفضي إلى كهف واسع، مساحته 400 متر مربع، يقع على عمق 18 مترا تحت الأرض، وكان يبدو «مثل مدرج تحت الأرض، يحتوي على مقاعد ودكك محفورة في الصخر.» هناك عثرت الشرطة على شاشة سينما بالحجم الطبيعي، وآلة عرض، ومجموعة متنوعة من الأفلام تضم كلاسيكيات أفلام «النوار» من خمسينيات القرن العشرين وأفلام إثارة حديثة.
هذا الاكتشاف الغريب يكشف الآلية الخفية النفسية والسياسية للعرض السينمائي. بالنزول تحت صخب العمل والتبادل اليوميين، يجتاز المشاهد الشجاع بابا، أو شباك تذاكر، أو مدخلا، وأحيانا ستارة مخملية، تجاه منطقة محروسة تستحضر فيها رؤى قديمة (أفلام «النوار» والإثارة) من الظلام. كتب بازان: «يمكنني القول عن السينما إنها ذلك الوميض الخافت الذي يستخدمه الدليل الذي يأخذنا إلى ليل حلم يقظتنا، وهو المساحة الكبيرة التي تحيط بالشاشة.» ربما سبق أن جوف كريس ماركر هذا الكهف في أعماق باريس لإعداد مسرح أحداث فيلمه «المرفأ» («لا جيتيه»، 1962). في هذا الفيلم، تتجمع مجموعة من الناجين تحت الأرض لتخطيط لمستقبلهم، بعد عجزهم عن العيش فوق سطح المدينة الملوث. يختارون «متطوعا» موهوبا له خيال قوي، ويسقطونه في مناطق زمنية مختلفة بحثا عن حل ربما ينقذ الواقع المحكوم عليه بالهلاك.
يجسد «المرفأ» تلك العملية الخارقة التي يجدها سلافوي جيجك فعليا في كل فيلم يثير اهتمامه: حينما تبدو الشخصيات التي يواجه بعضها بعضا محصورة في مواقفها بلا خلاص، أو حينما يتضح أن الكاميرا استنفدت العالم الظاهر في المنظومة النصية للفيلم، أو حينما يبدو أن العمل السينمائي عازم على تكرار نفسه في دائرة لا نهائية، حينئذ، قد تأتي قوة ما لتشق الشاشة وتسمح بخروج طبقة أخرى من الواقع من ورائها. في السينما الكلاسيكية، غالبا ما أعادت هذه الطبقة الأعمق تفصيل قواعد الدراما، لكن عادة بالتتابع، أي بالطريقة التي يعيد بها فيلم «ساحر أوز» بناء كنساس، أو مشهد لحلم يبزغ ويخفت، مقاطعا القصة «الواقعية» بشيء من خيال شخصية ما. في السينما الحديثة، تتعايش مثل هذه الطبقات معا في هيئة صور افتراضية لبعضها البعض؛ «بطريقة غير مدركة» كما يقول جيل دولوز. يحتفي جيجك بالأفلام الاستثنائية بسبب الطريقة الواثقة التي تقطع بها مشاهدها نسيج المنظومة النصية للفيلم بعنف، ثم تخيطها معا بمهارة، مكونة في الغالب إطارا داخليا لحفظ الطاقة المنتجة تحت الضغط أو لزيادتها، ولمنعها من بالتسرب. أوضح أمثلته مأخوذة من فيلم يقترح عنوانه معضلة وهو «الحياة المزدوجة لفيرونيك» («ذا دبل لايف أوف فيرونيك»، «لا دوبل في دي فيرونيك»؛ بودفوينا جوتيا فيرونيكي، 1991). يصور كريستوف كيشلوفسكي موضوع الفيلم عن الازدواجية في مشهد جميل: تنظر المغنية البولندية أثناء جلوسها في قطار إلى المناظر الطبيعية المتعاقبة، أولا من خلال الزجاج المشوه لنافذة القطار، ثم من خلال كرة زجاجية تمسكها لتعكس المجال البصري. قدم كيشلوفسكي، سرديا وصوريا، عالما أكبر من أي قصة فردية أو منظور فردي، وحافظ عليه، وفعل هذا من خلال الإطار المحدود، أو الواجهة، لكرة زجاجية صغيرة.
مثل هذه الواجهات الداخلية التي تضاعف الحالات يمكن العثور عليها في الأفلام الشهيرة كذلك. ينبع مثال شهير حير كثيرا من المشاهدين من فيلم «الجمال الأمريكي» («أمريكان بيوتي»، 1999)، حينما قطع منظره الطبيعي الفسيح في الضواحي بلقطة طويلة أكثر من المعتاد لكيس بلاستيكي كبير يتمايل بلا حول ولا قوة مع الرياح. جاءت هذه اللقطة من خلال شريط فيديو وضع في المشغل، وهو ما جعل شاشة التليفزيون في بيت العائلة من الطبقة المتوسطة تنفتح على عالم مختلف تماما بزمانه الخاص، مجسد بوسيطه الملائم (مقطع فيديو أبيض وأسود). وبالمثل، يعوق مشغل فيديو تدفق فيلم أسيئت معاملته خلال هذا «البيان»، وهو فيلم «أميلي». يقبع تليفزيون مكسو بطريقة غريبة مثل تمثال منحوت في شقة الفنان دوفايال في قبو البناية، كبقعة عمياء غامضة. لكن، بفضل أميلي، يظهر شريط فيديو بطريقة غامضة في غرفته، مضيئا الشاشة، ليعرض الصور الحرة الوحيدة في الفيلم بأكمله: طفل يسبح تحت الماء، ومغني أغاني حزينة، ورجل أسود بقدم اصطناعية يرقص رقصة النقر بالقدم. هل قدم جونيه هذه الصور الجرثومية في مقطع الفيديو ليلوث بالمقاطع الخام وهج الصحة المصطنع الذي صنعت صوره بطريقة مختلفة لكي تبثه، أم كان يأمل أن يبرز اللقطة الأخرى في القبو، وهي لوحة رينوار المهيمنة «جماعة القارب» التي كان دوفايال يهدف لإتقان رسمها؟
8
يشخص دولوز السينما الحديثة إجمالا محددا الحضور المشترك للبدائل (لم لا نسميها «حالات الواقع الافتراضي»؟) في الأعمال الشهيرة التي أنتج معظمها بعد الحرب العالمية الثانية. أبرز مثال قابلناه مرارا هو المثال الذي كان جاك ريفيت يؤمن بأنه دشن الحداثة السينمائية، وهو فيلم «رحلة إلى إيطاليا». في هذا الفيلم، عرض روسيليني شخصياته ثنائية الأبعاد لطبقات تحت سطح المنظر الطبيعي لنابولي. عند بركان فيزوفيوس، تقف كاثرين (إنجريد برجمان) مدهوشة ومسرورة حينما تلقي بسيجارتها داخل حفرة، وتتسبب في خروج دخان كثيف من تحت الحقل الذي يحيط بها كله. رغم ذلك، وفي مناسبات أخرى، لا تود كاثرين مواجهة أي عالم وراء زجاج سيارتها. في المتحف؛ حيث تبدو التماثيل الرومانية ذات العضلات المفتولة حية في أفضل صورها، تشيح كاثرين ببصرها عنها. وفي المقابر، حيث توجد عظام الموتى ومواطنو نابولي في وقت واحد، تتحول كاثرين عنها. في النهاية، تبتعد شاعرة بالألم من إدراكها الكامل الذي تسببت فيه رفات زوجين استخرجت من تحت الأرض في بومبي حيث فاجأهما بركان فيزوفيوس منذ 1900 عام بوميض انفجاره أثناء عناقهما، فثبتهما على هذا الوضع إلى الأبد مثل صورة فوتوغرافية، تتضح تفاصيلها الآن فقط أمام عينيها. ينتهي الفيلم ب «معجزة»؛ إذ يتدفق فيضان من الرقة أو الحب من مستوى آخر ليشفي زواجا مشلولا، ولو إلى حين.
أتى وعيي بحساسية الحداثة السينمائية عام 1966 مع فيلم «انفجار» (بلو أب). في ذاك الفيلم، أحدث أنطونيوني مايكلانجلو ثقوبا في الشاشة بذكاء باستخدام الأداة الحادة لوسيط آخر، وهو التصوير الفوتوغرافي. تشبه نسخ الصور الفوتوغرافية المطبوعة الملتقطة في حديقة، التي يحمضها ديفيد هيمينجز ثم يعلقها على حبل لتجف، فتحات يجمح عبرها خياله، وخيالنا، بالشكوك والسيناريوهات البديلة. نحدق معه، وهو مأسور بثباتها، وخصوصا بعد الحركة واللون الحيويين في المشهد السابق مع موديلاته المراهقات، خلال مشهد تتابعي لمستطيلات بالأبيض والأسود - صور فوتوغرافية، ولقطات، ولطخات - ونشعر بريح باردة تهب من فضاء وراء الشاشة. يعلن فيلم «انفجار» أن أي صورة، مثل أي لوحة أو شاشة تليفزيون، موضوعة داخل الإطار الرئيسي للفيلم، يمكنها فورا غمر الشاشة بمادة تنتمي إلى مستوى من «الواقع» مختلف تماما. يسقط كل من الشخصية والمشاهد مشاعرهما الأخلاقية في هذه الإطارات الداخلية، هذه الواجهات، وهما مؤمنان بأن العالم الخارجي عرض شيئا لا يرى جزئيا في الصور التي ننظر إليها. لذا فإن «لا نقاء» السينما يتواطأ مع الجهاز الذي يشغلها: تتفاعل عناصر مختلفة داخل إطار مفرد، بينما تنفتح أنواع أخرى من الإطارات داخل الإطار الرئيسي.
عرض التصوير. «انفجار».
الإطار بوصفه عتبة
يتيح لنا تخيل أن الشاشة مسامية، كما فعلت سابقا، أن نتخيل إطار الشاشة بأبعاد ثلاثية، لا ببعدين اثنين، مثل الردهة التي يجتازها المرء في الطريق ليس إلى الصورة ولكن إلى تصور ما ليس هناك بكامله. المرادف الفرنسي لكلمة «لقطة» وهو «مستوى» يشجع هذا الخيال؛ إذ يأتي من المسرح، حيث يشير إلى المستوى الأمامي أو الأوسط أو الخلفي من خشبة المسرح. أحيانا ما تكون رؤية الجمهور لما يحدث في الخلفية محجوبة بسبب الستار (وهي مرة أخرى كلمة مشتقة من كلمة «إكرا»
ecran
الفرنسية التي تعني سطحا معتما يستخدم ساترا). ومثل مخرجي المسرحيات الذين يرفعون الستار بشكل مسرحي أحيانا، ليفاجئوا الجمهور بشدة، فإن صناع الأفلام، كما رأينا، ربما يمزقون الشاشة ليكشفوا مستوى آخر من «الواقع» وراءها. مع أخذ المصطلح الفرنسي في الذهن، يمكن التفكير في «المستويات» المتتابعة في أي فيلم على أنها تكون مخروطا إدراكيا، أو ما سماه بازان - باستخدام التسمية الهندسية الدقيقة - متوازي الأسطح. يفضي شباك الرؤية في الكاميرا، المماثل للشاشة من حيث الوضع، أي أنه مستوى مثلها في الشكل - إلى «مستويات» متعددة (لقطات بعيدة بقدر أو بآخر)، لتصنع متسعا إدراكيا. باندماج الجمهور مع الفيلم، ينتقل خيالهم الموجه بما يرونه عبر عتبة الإطار إلى داخل المتسع الإدراكي.
إحدى الإشارات الرمزية الجذابة عن قوة العرض التي تتمتع بها السينما صنعها المخرج الإيراني محسن مخملباف عام 1992، ردا على إزالة غموض السينما الذي أحدثته التكنولوجيا الرقمية. يعيد فيلمه المعنون في فيلم «كان يا ما كان سينما» («ونس أبون اتايم، سينما»، «نصر الدين شاه، أكتور إي سينما») يجدد دخول الكاميرا السينمائية القديمة (السينماتوغراف) إلى بلاد فارس في السنين الأولى من القرن العشرين. حيث يجب على بطل جذاب يتصرف مثل الكوميديان تشارلي شابلن إقناع السلطان بقيمة هذه التكنولوجيا السحرية، وهو ما ينجح فيه بفضل الجاذبية الأشد لنجمته - خطيبته - التي يقع السلطان في حبها تماما. الواقع أن السلطان يقع في حب صورتها، ويعتزم الحصول عليها. وتتاح له الفرصة حينما تسقط بطريقة ما عبر حد الإطار في الفيلم الميلودرامي داخل الفيلم، حين يطلق سراحها الشرير وهي تقع من فوق جرف، هابطة في اللقطة التالية إلى الغرفة نفسها التي يجلس فيها السلطان محدقا فيها من خلال ثقب كينتوسكوب عملاق لعرض الصور المتحركة. بعد اندهاشه، ثم إثارته، يطاردها حتى تعبر داخل ثقب الجهاز عائدة إلى الشاشة، إلى موقعها الوجودي الملائم بوصفها صورة.
لكون البطل صانع أفلام ومشغلا لآلات العرض في آن واحد، فربما يكون أحد «المشغلين» الذين أرسلهم الأخوان لوميير في أنحاء العالم مع «سينماتوغرافاتهم». هذه هي الآلة التي رفضها الفيلسوف هنري بيرجسون في كتابه «التطور الإبداعي» عام 1908 على نحو مشين، وهو حكم متسرع يبرره جيل دولوز بارتباك بيرجسون النابع من المساواة بين التسجيل والعرض، وكان من الأرجح أن يفعل ذلك لأن الجهاز الأصلي كان يقوم بالوظيفتين فعلا.
9
أما في كتبه هو، فلم يكن دولوز مهتما على الإطلاق ب «السينماتوغراف»، ولكن بالسينما فقط؛ بل بما يسميه صراحة «جوهر السينما»، وهو نوع من الصور المتحركة التي تكونها اللقطات، التي يقود فيها المنظر المصور - بمعزل عن المنظر الذي تعرضه آلة العرض - تصميم كلي، يسمى المونتاج. كان هناك أمران يقيدان «السينماتوغراف»:
من ناحية، كان منظور الكاميرا ثابتا، ولذا كانت اللقطة مكانية وغير قابلة للتحرك؛ ومن ناحية أخرى، فإن جهاز التصوير كان مدمجا مع جهاز العرض، مزودا بزمن مجرد متسق. وكان من المقدر أن يحدث تطور السينما، أي السعي وراء جوهرها أو حداثتها، من خلال المونتاج، والكاميرا المتحركة، وتحرير زاوية النظر، التي أصبحت منفصلة عن العرض.
10
يستمر دولوز في تعريف العمليات الأساسية للسينما بأنها الإطار والقطع، مع استمرار القطع في تحرير الصورة من الإطار؛ حيث يلتمس كل فيلم طريقه ليصبح كلا متطورا. في فيلمه البهيج، يقدم مخملباف هذه العمليات الجوهرية في السينما بطريقة مثيرة؛ حيث يدع الشرير في الفيلم الذي هو داخل الفيلم يقطع الحبل الذي تتدلى منه البطلة باستخدام سكين، ربما تكون هي أيضا جهاز قطع أجزاء الفيلم ووصلها. بعد ذلك تقع البطلة من خلال الإطار داخل اللقطة التالية التي يحدها إطار آخر. هذا الاستخدام المزدوج للتأطير ثم القطع سيميز السينما - وسيكون جوهرها كما كان دولوز يعتقد - منذ زمن تحررها من «السينماتوغراف» حوالي عام 1908 حتى زمنه.
هل أدرك أن السينما في ذلك الوقت، حينما كان يصف الأمور في عام 1985، كانت تتحول من الداخل، وقد غزتها العمليات الرقمية في الإنتاج، ثم تمزقت أشلاء بسبب توزيع أشرطة الفيديو، والعرض على شاشات التليفزيون الصغيرة؟ خلال «العصر السينماتوغرافي» (1908-1985) الذي يريد أنصار السينما الرقمية، مثل سيجفريد زيلنسكي التقليل من شأنه، بينما يمجده عشاق السينما أو ينعونه، كانت الشاشة الكبيرة هي موقع التحرر الدائم من التقييد. تعرض مجموعة الأمثلة التي يذكرها دولوز منذ جريفيث حتى جودار مرة تلو الأخرى صراعا للصور، حية في وفرة الزمن، ومخترقة قيود المكان. كان لدى دولوز حساسية فطرية للإطار؛ فهو في النهاية كناية عن «الأقلمة» التي كان يبغضها، بما تعنيه من حدود وقيود وأضلاع مستقيمة. بالإضافة إلى ذلك، كان الإطار هو العنصر المؤسس للنظرة الكلاسيكية للسينما التي ربطها شخص مثل رودلف أرنهايم مباشرة بجماليات الرسم والتصوير.
11
كان هذا أبعد ما يكون عن آمال دولوز للسينما. تجعل النظرية الكلاسيكية الإطار منظما جامدا؛ فهو يرتب عناصر مختلفة، ويفصل ما هو على الشاشة عما هو خارجها، وينسق كل شيء من خلال هندسة ما نسميه في الواقع «الإحداثيات». هذه القوة لتشكيل «ما» يرى، و«كيف» يرى، حتى لو كانت متغيرة في التطبيق (من التشبع إلى التخلخل، ومن التصميم الهندسي إلى الطبيعية المسترسلة)
12
تمنح الشاشة سلطة ونظاما كانا هما ما عملت أفلام دولوز المفضلة وكتبه على تحديه. يتحكم الإطار بفعالية في الوقت بتنظيم تدفقاته في أنماط حركية مرضية، محافظا على النظام التمثيلي، ومحافظا على المتفرج - ونكرر هنا كلام ستيفن هيث - على «الشاشة داخل الإطار».
13
يؤكد الجزء الثاني من كتاب دولوز «الصورة-الزمن»، انهيار هذا المنطق وظهور أنواع أخرى من المنطق أنشأها صنع أحداث سمع-مرئية خالصة، وغير قابلة للاسترجاع بالسرد أو سيكولوجية الشخصيات. ويبدو كتاب «الصورة-الزمن» كما لو كان يحتاج إلى فهم مختلف للشاشة، لكن دولوز واجه صعوبة في الإتيان بمصطلحات فنية مناسبة للآثار المكانية للزمن في شكلها الخالص.
ما يمثل قيدا أكبر حتى من التشبه بالرسم، هو الدور الذي يؤديه الإطار في التحول التحليلي النفسي والسيميائي لنظرية الفيلم الفرنسية خلال السبعينيات. يقدم هيث أوضح شرح لاهتمامات هذه الفترة في مقاله عن دمج المشاهد بما يراه.
14
وفق «سيناريو الدمج» الضمني، يتوقع المشاهد المستدرج بما يبدو أن الشاشة المضيئة تحويه، منظرا كاملا، وارتباطا وثيقا بكائن يكشف عنه، ويحال بينه وبين ذلك بسبب الإطار، الذي هو حد «فعلي»، و«مذكر» دائم بالحدود. وإذ يشجع الإطار الرغبة في المشاهدة، ويحبطها في آن واحد، فهو يحصر ببخل شديد تمثيلا محضا مقيدا بمنظور ما. وإذ يواجه الخيال بهذا الامتناع، فإنه يحتاج إلى تمثيلات إضافية؛ بل مجموعة كاملة من المناظر المدمجة معا داخل نسيج أو نص كبير يسعد المشاهد أيضا، على نحو غريب، بتضمينها. بهذه الطريقة يعوض نسيج نصي معقد - ناتج من التكوين والتحرير والترتيب لوجهات النظر - عن خسارة تلك الرؤية الفطرية الأولية، الممتدة بلا نهاية. وبهذا يصير المشاهد الراضي في موضع الخضوع للأيديولوجيا.
برأي «منظري الدمج»، ينظم الإطار الخيال الجامح، ويقلص من النسخة الكشفية للقوة السينمائية الكامنة، التي سارعوا في وقت ما إلى نسب أعمق مصادرها لأندريه بازان. حقا، سمى بازان الإطار قناعا؛
15
يدرب انتباهنا على ما قد يختبئ خارج المنظر، واعدا بكشوف وراء ما يمكن إظهاره على الشاشة.
16
أما الشاشة نفسها، فأشاد بازان بتوسيعها إلى السينما سكوب.
17
وحث المشاهد على «الإحساس» بالحيز بدلا من «قراءة» دلالته وحسب (لا ينبغي أن يكون هدف السينما النهائي هو أن تعني بقدر ما تكشف). فبوصفه ناقدا، رغب دوما في النظر خلال الشاشة، والعيش في المساحة التي وضعها أمامه صانع الفيلم. وهذا سبب تقديره لرينوار وويلز، وكلاهما صانعا أفلام مختلفان تماما، يستنفدان قدرات المشاهد الإدراكية بالقدر نفسه. تلتمس رؤية رينوار الطرفية ما هو خارج الإطار؛ بينما تمنح تراكيب ويلز المتباعدة ميزة للمستويات الأقرب والأبعد في الصورة.
هذه وغيرها من التأملات الأسلوبية بمنزلة «المصافي»، وهو تشبيه بازان الذي يكمل في اللغة الإنجليزية الفكرة العامة للشاشة. نقول إن شاشة النافذة تمنع مرور الحشرات، بينما تسمح بمرور الهواء عبرها. برأي بازان أن «وجدان» المخرج يصفي تدفق الحقائق في المحيط السمع-مرئي دون أن يغيرها.
18
يختار مخرج الفيلم الموضوع والمسافة والزاوية بطريقة متسقة بحيث تصفى تدفقات معينة من المعلومات المتدفقة من بين المعلومات الفائضة عن الحد التي تكون البيئة السمعية البصرية ثلاثية الأبعاد. يميل صناع السينما الواقعيون لاستخدام مصاف ذات ثقوب واسعة، بينما يستخدم صناع السينما التجريديون مصافي ضيقة الثقوب، لكن كلا الطرفين يهدفان بطريقة فعالة لصنع شيء ما مرئي، ينشأ من التدفق الفائق للكون، الذي لا يظهر إلا جزء منه على شريط السيليولويد. قارن بين هذه الفكرة عن الشاشة وبين فكرة البروفيسور ليف مانوفيتش الأكثر جرأة. يستخدم صانع الفيلم من وجهة نظره الإطار كمحراث ليدفع الركام جانبا، ويفكر في الشاشة كما يفعل رياضي يشكل بجسده «حاجزا» لمنع اللاعبين غير المرغوبين من المرور نحو الهدف.
19
قدرة «الشاشة» هذه على توحيد حركة جزيئات عشوائية، كما يبدو، في «شيء مرئي» تميزها عن «الإطار» الذي يحصر العناصر التي يحيط بها. يقول دولوز في كتابه «الطي»:
لا توجد فوضى؛ هي فكرة مجردة؛ لأنها لا تنفصل عن شاشة تجعل شيئا ما - بدلا من لا شيء - ينشأ منها. يمكن أن تكون الفوضى كثرة خالصة؛ تنوعا خالصا غير مترابط، بينما يمكن أن يكون الشيء واحدا . كيف يمكن أن تكون الكثرة واحدا؟ يجب أن توضع شاشة عملاقة بينهما. ومثل غشاء مطاطي بلا شكل محدد، [أو] حقل كهرومغناطيسي ... تجعل الشاشة شيئا يصدر من الفوضى.
20
وكما يقول أحد التعليقات الذكية على هذه الفقرة: ««ما هي السينما؟» لا هي نافذة، ولا هي إطار، السينما حركة داخل كيان أحادي، فوضى على الشاشة.»
21
شاشة دولوز الشبكية مقحمة في فراغ ثلاثي الأبعاد، وتتوسط على نحو استراتيجي «التعدد الفوضوي» للحركة الجزيئية الدقيقة. كانت النماذج الأخرى المذكورة هنا ذات بعدين، سواء إطار أرنهايم الجاذب نحو المركز، أو إخفاء بازان الطارد للخارج، أو دمج هيث السيميائي الذي يصنع رقعة من النسيج التي تنبسط أفقيا كاللفافة. على الرغم من ذلك، فإن الشقوق في النص يمكنها الكشف عن طبقات من خلف الشاشة المسطحة؛ حيث يشق شيء من بعد آخر طريقه من خلال فجوة، ليفيض على الرؤية الموجودة بالفعل بأهمية جديدة. تخيل المشاهد، مثل السلطان في فيلم «كان يا ما كان سينما»، وهو يعبر من ثقب ليصل إلى ما يلمح وراءه. تفضي السينما، على نحو أكثر بكثير مما تفعل الصورة الفوتوغرافية، إلى متسع إدراكي.
22
الشاشة إذا عتبة يجتازها المشاهد (أو شباك الرؤية في الكاميرا) على طريق التجربة البصرية. وتضيف العتبة بعدا ثالثا إلى الإطار، عمقا أو زمنا. وبصفتها خصيصة معمارية، تظل العتبة في علاقة دائمة بالفضاءات التي تقع على أي من جانبيها؛ لكن بما أنها تسمح بفعالية لفضاءات مختلفة بالتواصل، وبما أنها تعمل عمل المعبر من مكان لآخر، تشير العتبة ضمنيا إلى حركة لا يفعلها الإطار ولا النافذة مطلقا. ندخل الأفلام من خلال مجموعة من العتبات بدءا من ديكور دار العرض والبهو الذي يحوي ملصقاتها، ثم مرورا بالستار الذي يفضي إلى قاعة العرض. نجد مقاعدنا في ضوء خافت بينما يبدأ عرض الإعلانات ودعاية الأفلام التي تجتذب انتباهنا وتركز رؤيتنا على الشاشة تدريجيا. وتظلم القاعة كليا، ويضبط الإخفاء مع بداية الفيلم؛ وحتى في هذه المرحلة، يجب علينا المرور عبر شعار الاستوديو، وشارات البداية، ومجموعة من المقدمات التمهيدية النصية التي تسميها نظرية السرد بدقة «أدوات التأطير». هذه الأدوات هي عتبات السينما التي نعبر من خلالها في طريقنا إلى ما تحمله الشاشة وما لا تحمله.
إطار السينما ثلاثي الأبعاد الموسع هذا يميزها عن شاشة التليفزيون التي تعمل عن طريق تتابع إدراكات لحظية مجموعة معا في المونتاج. تعرض شاشة التليفزيون صورا، بينما تقودنا شاشة السينما نحو ما يقبع وراء المرئي مباشرة. فاجأ هذا السرياليين لدرجة أنه ربما ألهم مؤسسي هذه الحركة ببعض المصطلحات الرئيسية.
23
أفاض كل من روبير ديسنو وأندريه بريتون وسلفادور دالي، وخصوصا ماكس إرنست، في وصف الإثارة التي تمنحها السينما؛ إذ تدفع المشاهد للعبور من خلال الفتحات التي تحتويها الشاشة غالبا، فضلا عن الفتحة الكبيرة التي هي الشاشة نفسها. ما هي أنواع الواقع التي توجد وراءها؟ ما هي الرغبات التي تشجعنا على أن نسقطها عليها؟ بإدمانهم لكوميديا الشارع التهريجية التي قدمها ماك سينيت، ومسلسلات لوي فوياد التي حولت باريس إلى دراما سحرية للبراءة والشر، نظر السرياليون إلى السينما على أنها مهرب الحداثة من الروتين الفاتر للحياة والموت في العصر الصناعي للقرن العشرين.
كثف مارسيل دوشامب هذا النوع الجديد من التجارب في فيلمه المضحك الذي يصور رسومات متحركة تندفع في دوامات، «السينما الضعيفة» (أنيميك سينما) عام 1924، وهو العام نفسه الذي أنهى فيه تقريبا عمله «الزجاج الكبير» (لارج جلاس) الذي يعزز بشكل أكثر إيحاء فكرة ما عن السينما. جعل هذا العمل، بتمثيله طعم الاستثارات والإحباطات الإدراكية، دوشامب يعلق قائلا: «تأملت فكرة عرض إسقاطي، بعد رابع خفي ... قامت فكرة «العروس» في «الزجاج الكبير» على هذا، وكأنها إسقاط شيء ما رباعي الأبعاد. أطلقت على «العروس» اسم «تباطؤ في الزجاج».»
24
يمكن القول إن دوشامب كان أول من فكر في تأطير السينما داخل جدران المتحف. مثلما قامت الأفلام غالبا بإقحام لوحات داخل إطاراتها الأكثر شمولا، تعلمت المتاحف الرد عليها، بدفن السينما في غرف مخصصة للعروض، أو على نحو أكثر شيوعا، داخل تنويعة من مساحات المعارض؛ حيث تظل تعرض تكرارا ، أو تظهر على شاشات تقف وحيدة أحيانا ، أو مكدسة في مجموعات أحيانا، أو في أحيان ثالثة تعرض في حوار مع الصور الثابتة والمنحوتات والكلمات المكتوبة. من يرون هذه الصور لا يكونون جمهورا، لكنهم «زوار» متاحف بالمعنى الكامل للكلمة، وأحيانا ما يكونون زوارا فرادى. بعرض تجربة شاشة السينما المتحكم بها على نحو مميز، وبطريقة مثيرة للمفارقة غالبا، فإن المتحف يثبتها بمزيد من العمق.
في فترة ما بعد الحداثة، فكك الفنانون إطار الفيلم، سامحين لدماء الحياة السينمائية بالتدفق داخل مجموعة من حالات الوسائط المتعددة، سماها الناقد والكاتب الفرنسي ريمون بيلور «الصور المتداخلة.» مشيرا إلى تداخل حقيقي بين وسائط مثل السينما والتصوير. وتتبع إلى جانب جاك أومون وفيليب دوبوا ولوك فانشيري، مسار جيلين من الفنانين البصريين الذين ابتعدوا بصورهم عن السينما.
25
على سبيل المثال لم يعد المخرج البريطاني بيتر جريناواي يرضى بتكديس أنواع متنافرة من الفنون داخل الشاشات العريضة لأفلام مثل «كتب بروسبيرو» («بروسبيروز بوكس»، 1991) أو «زد وصفرين» («آ زد آند تو زيروز»، 1985). وإذ يقدم تعريفا جديدا «للسينما الموسعة»، تحتل صوره المتحركة مكانها في تركيبات بجانب اللوحات والمنحوتات. وبإصراره على الخطوة التالية، عرض جريناواي حتى صورا في مراكز المدن (في جنيف وبرشلونة)، صانعا أطرا لمناظر هنا وهناك ليرى المواطنون لمحة من جولاتهم اليومية. تحرر هذه الممارسة ذات الإلهام السريالي، العامة من أسر المتحف، فضلا عن دار العرض، حتى يمكنهم رؤية الصور عشوائيا أثناء تجوالهم خلال المساحات العامة.
إذا كان المتحف اختطف رسميا بنية الإحساس بالفيلم، بحيث يحتويها من أجل إسعاد جمهوره؛ فالكمبيوتر فعل شيئا مشابها من أجل المستخدمين الشخصيين. لا يشاهد الأفراد الأفلام على كمبيوتراتهم الشخصية بطريقتهم الخاصة وحسب، ولكنهم يشاهدونها في نافذة واحدة من بين بضع نوافذ قد تكون عاملة في اللحظة نفسها (ومنها نوافذ بريد إلكتروني، وقاعدة بيانات أفلام على الإنترنت، وملحوظات شخصية، ومدونة مفضلة، وحالة الطقس). تشكل السينما نوعا واحدا فقط من محتوى البرامج المتاحة لأنظمة تشغيل «ويندوز» القوية وعتاد الكمبيوتر الشامل. بطلب الفيلم من خلال خدمة «أون ديماند» أو عبر «يوتيوب»، يظهر فيلم على «لوحة مسطحة »؛ حيث يختار المشاهد بقدر عدد النوافذ المعروضة، ثم يسحبها ويحركها هنا وهناك مثل أوراق اللعب في لعبة «سوليتير». وتبدو كلمتا «المرقاب» و«العرض» أكثر ملاءمة من كلمة «شاشة» للإشارة إلى التجربة البصرية التي يقدمها الكمبيوتر.
من شأن هذا أن يكون تقييم ماساكي كوندو، الذي يميز، وفق تقليد مارشال ماكلوهان، كل وسيط بمقارنته بجهازه. يصف السينما بأنها شكل من أشكال «الحجرة المظلمة»، وهي جهاز بصري فسيح بما يكفي لاحتواء إنسان يجلس داخله متتبعا الصور التي يشكلها العالم على حائطه الخلفي، شبكيته.
26
يجلس المشاهدون داخل هذا المتسع، مثل السجناء في «كهف أفلاطون»، يحدقون للأمام في صور منعكسة، يعكسون عليها أفكارهم بدورهم. يتضاعف أثر هذا الصدى والتجاوب في السينما، كما يقول كوندو، بفضل التأخر الذي يحدث من لحظة تصوير الفيلم، إلى لحظة عرض الصور، والانتزاع من العالم المادي الذي حدث فيه التصوير إلى صالة السينما. يكتب كوندو إلى أي مدى تختلف تجربة السينما عن تجربة التليفزيون الذي تكون شاشته غير العاكسة رقيقة كصفحة جزيئات مفردة، والصورة ملصقة عليها. بالإضافة إلى ذلك، تربط شاشة التليفزيون المشاهد بالصورة في الوقت الفعلي بلا تأخير. تستلزم ألعاب الفيديو استجابة فورية. وفيما يخص التليفزيون، فإن نشرة الأخبار المسائية، وقناة الطقس، والبرامج الحوارية تخاطبنا كلها مباشرة في الزمن الحاضر. ويذكرنا هذا على نحو غريب بسينماتوغراف الأخوين لوميير التي كانت، بناء على نموذج «عروض التسلية» في القرن التاسع عشر، تقود ذهول المشاهد من خلال الكلام المباشر الذي يتحدث به منادي ساحة العرض أو الساحر.
27
على العكس، كما أوضحه مالرو في مقاله «المخطط»، وردده بازان، صممت حداثة السينما وفق حداثة الرواية، وانحرافها وكثافتها، وبعدها الإضافي المتعلق بالمتسع والزمان. شاشة كمبيوتر القرن الواحد والعشرين، مثلها مثل «سينماتوغراف» القرن التاسع عشر تماما، تقدم للمشاهد الحاضر، بصرف النظر عما يعرض فيه. أما السينما - الوسيط الذي سيطر على القرن العشرين ما بين هذين الاختراعين - فتجذب المشاهد إلى عالم آخر، ولقاء مع شيء ماض وبعيد المنال تماما.
على العتبة . «رسالة من امرأة مجهولة».
لم يفهم ناقد فني منذ زمن بازان هذا الجذب الذي يمكن أن تفرضه السينما أفضل مما فهمه سيرج داني. بعد تركه رئاسة تحرير «كاييه دو سينما» ليصبح ناقدا تليفزيونيا، وجد نفسه في موضع يمكنه من خلاله تحديد ما يمكن توقعه من كلا الوسيطين. في مراجعته اللاذعة لفيلم جون-جاك أنو «الحبيب» التي ذكرتها في الفصل الأول، كان داني قلقا من أن الأفلام بدأت في ترويج «الصورة الهزيلة» المصنوعة وفي الذهن جمهور التليفزيون، متجاهلة الزمن المرن الذي تتمتع به السينما.
28
لا يدرك أنو أن هناك أشياء تراها دون أن تراها بالفعل، وأشياء أخرى تحدق في وجهك لكنها لا تعكس أي تجربة واقعية؛ أن هناك لحظات يجب عليك فيها ألا تحدث ضوضاء شديدة؛ أن هناك أشياء موجودة في كل مكان لكنها غير ذات أهمية، وأخرى غائبة لكنها قوية؛ أن هناك كذبات جمعية وحقائق جزئية. باختصار، أن هناك تجارب تجد السينما صعوبة في معالجتها (لكن يكفيها شرف المحاولة).
يكمن جلال السينما في التوقعات التي تثيرها، وفي الجهد الإدراكي الذي تتطلبه، وحتى في قصورها في وجه ما يستعصي على التمثيل المعد سلفا. شكا داني من أن فيلم أنو يهدف لتقديم صورة جميلة في كل لحظة. وفي فعله هذا، يهمل موضوعه، وكذلك دراما استكشاف ذاك الموضوع، حينما يجذب المشاهد، كما في السينما الأصيلة، من صورة إلى لاحقتها بحثا عن شيء لا تستطيع الشاشة عرضه. رغم أن فيلم «الحبيب» مأخوذ من راوية كتبتها مارجريت دوراس، مسكونة بالماضي، فهو يعلن عن نفسه مثل ملصق إعلاني. ولكونه إظهاريا تماما، لا يملك الفيلم ما يخفيه؛ ومن ثم فليس لديه ما يقدمه أكثر مما نراه.
موضوع البحث البصري هذا، وهو موضوع مهيمن في أعمال بازان، جعل أفلاما معينة محببة للنقاد الذين يتبعون مذهبه، أولئك الذين يحبون أن يجري اجتذابهم من خلال معبر إلى رؤية ما قد لا يكون قابلا للرؤية على الإطلاق. صوت ليزا في فيلم ماكس أوفالس «رسالة من امرأة مجهولة» (لتر فروم آن أنون ومان) يسحب المشاهد نحو الماضي، ونحو مواجهتها ما لا يوصف، وانتهاء بالموت. في لحظة رمزية مبكرة، تثار حرفيا من سريرها (موقع الخيال الجنسي) لتعبر عتبة باب شقتها، منسلة من جانب الرقيب (والدتها) في طريقها لعتبة شقة ستيفان. تشب لأعلى لتفتح عارضة الباب، ثم تحدق من الشاشة حيث لا بد أن ستيفان مستغرق في موسيقاه. سيغوي ليزا لاحقا بإخبارها بأنه حينما يعزف يتخيلها في بيانوه. بما أن موسيقاه هي ما أثارها كالسائر في نومه لتتجه نحوه، ألا يمكننا القول إنها تبحث عن نفسها المختفية في تلك الأوتار؟ قارن ستيفن هيث هذا التضاد بمشهد من فيلم «في عالم الحواس» («إن ذا ريلم أوف ذا سنسز»، 1976) حين تتلصص خادمة من خلال الستائر داخل غرفة حيث يختبئ العاشقان بعضهما في بعض، وينفذ بعضهما في بعض عبر ثغريهما، في الطريق إلى ما لا يمكن رؤيته تماما في النهاية، وهو محل اللذة.
29
من الأمثلة الأقرب إلى زمننا هذا فيلم حديث نوعا ما، هو فيلم وونج كار- واي «في مزاج للحب» («إن ذا مود فور لف»، 2000) الذي أصبح فيلما «فتيشيا» حينما أخفى بدقة كبيرة الخواء الذي يسكن قلبه. لا يتوحد المشاهد أو يتعاطف مع الحبيبين اللذين يؤجل غرامهما باستمرار، مع بحث الكاميرا عن علامات ثم آثار للمشاعر. تستجيب الكاميرا، بمرورها مثل المتلصص وسط السلالم والأبواب المواربة والأروقة المغوية، للتلميحات والهمسات، متجهة للداخل دائما، مصورة مساحات ربما تكون مملوءة بالعناق؛ حيث تنتظم فيها الشخصيات ومشاعرها على نحو ملائم. كل هذا، وربما كل السينما، يوجز في الخاتمة في معبد أنجكور وات؛ حيث يهمس البطل بشوقه داخل شق، هو المكان المقدس للفيلم (وللحبيبين). تسد كومة من التراب هذا الشق لإيقاف الرغبة. وبتجول الكاميرا خلال ممرات المعبد وأعمدته بعدئذ، يمكننا تقريبا سماع أصداء الهمسات المنحدرة من ثمانية قرون من الصلاة والحج، ثمانية قرون من المشاعر الإنسانية المرتقى بها إلى سمو فان في هذا الموقع المقدس وإن يكن فارغا. يعمل معبد أنجكور وات عمل دار عرض سينمائي تحلق فيها وفوقها ومن ورائها رومانسية مؤجلة. ليت الكاميرا استطاعت - رغم كل تتبعها المستمر - التنقيب في هذا الشق في الحائط الأثري كاشفة الرغبة للأبد! في هذه اللحظة، في هذا المكان، تنقلب المشاعر على نفسها بعدما فشلت في التعلق بشيء مناسب. أليس هذا بنيان الحنين إلى الماضي، الشعور اللائق بالولع بالسينما؟ أصبحت اللقطة التتبعية في تصميم مشهد التصوير الداخلي هي قوام الولع بالسينما. وكما في فيلم «العام الماضي في مارينباد» («لاست يير إن مارينباد»، «لانيه درنيير آ مارينباد»؛ رينيه، 1961)، يشعر المشاهد بعبوره من إطارات إلى إطارات أخرى، بنكوص لا نهائي، ودوار سام، لينتهي به الحال إلى لا شيء إلا الشعور الذي يحدثه هذا العبور.
الكتابة باستخدم الإطار
يرتب أوفالس ورينيه ووونج كار-واي لقطات استدعاء أو اجترار ذاتي من أكثر الموضوعات تلاشيا، وهو الرغبات المحبطة. وبطبيعة الحال، فإنهم يساهمون بقدر كبير في دراسة لعناصر السينما وبنياتها. لكن نموذجهم لتجربة الفيلم ينطبق عموما على كل الأفلام التي تبحث عن موضوع يصعب تصويره. ليس فقط في صنف الرومانسية أو التوق للماضي، ولكن في أي صنف (سحري أو كوميدي أو شكوكي أو ساخر)، يعني الذهاب «إلى» السينما، الذهاب «مع» الفيلم، وملاقاة رؤيته للعام برؤى من عندنا. الشاشة - المسامية ولكنها في قبضة الإطار - هي مكان اللقاء المضطرب الذي تعرض عليه شظايا من عوالم غير محدودة من الاتجاهين كليهما. تمتزج مجموعة من الأصوات والصور (رغم أنه تم التقاطها وتنظيمها وتصميمها من أجل هذا) وتنصهر مع المشاعر والأفكار المجلوبة لها من المشاهدين الذين يأتون من الشارع.
يحتل العرض مكانه في النهاية المفتوحة لعملية سينماتوغرافية تبدأ بتكوين الإطارات. نقول إن منظرا أو موقفا أو قصة أو نقاشا يوضع في إطار حينما تؤخذ عناصر وثيقة الصلة معا بصفتها مجموعة، بحيث يحدد موقع كل عنصر ووظيفته موقع غيره ووظيفته بالتبادل، وبالنسبة إلى الكل. بعد ذلك يستقر عالم كامل على الشاشة، ويتكشف طبقا لتصميم حبكته. ثم ينطلق العرض من الإطار، ويكون هذا بمعنيين. من جهة، كما فصلنا بالفعل، فإن الشاشة المسطحة يمكن أن تغزوها عناصر آتية من خلفها أو من ورائها، وكأنها من بعد ثالث. ومن الجهة الأخرى، يسقط المشاهد نفسه باتجاه الشاشة آخذا الفيلم إلى ما وراء سياقه الأصلي داخل إطارات لم يتوقعها صانعها.
بتشخيصه بهذه الطريقة، على أنه تمزيق للإطار وتفصيل للرؤية، يعمل العرض السينمائي تماما بالطريقة التي يصف بها بول ريكور الاستعارة. حينما يفاجأ خطاب موضوع في نطاق لغة ما بتعبير جريء دخيل، فإن مفردات نطاق لغوي آخر ومنظوره يجرفان الأول، مظهرين جوانب جديدة للموضوع. على سبيل المثال، حينما وصف صوت آلة التوبا الموسيقية لأول مرة بأنه صوت «ثقيل»، انتشر طيف من ألفاظ «اللمس» انتشرت في نطاق الأدوات الموسيقية، معززة إدراكنا الحسي للصوت بمنحها إحساسا ما (ناعما أو هشا ... إلخ)، على الأقل إلى أن تلاشت صدمة الاختلاف وأصبحت صيغة منتشرة. بالمثل، وبمجرد أن يفاجئنا «شكل» سينمائي (مثل تثبيت الصور هنا وهناك في فيلم «جول وجيم»، على سبيل المثال، أو معارضة هذا الفيلم نفسه للتركيبات الدائرية والمثلثية)، تنفتح الشاشة على مستوى جديد من الدلالة، متطلبة مجهودا في التفسير، لتجسيد تصميم مرئي، حديثا في الموضوع.
وفقا لرأي ريكور، الإسقاط هو تفصيل لموضوع النص، بجانب أنه «تطبيق» لدلالته المدركة للعالم الذي نعيش فيه. في السينما، يحدث هذا الإسقاط المزدوج على موقع الشاشة؛ لأنه في هذه الحالة يصبح الإسقاطان موضوع تركيز واندماج: أحدهما يصفيه المخرج، والآخر يملؤه المشاهد. السينما هي «إسقاط» يحدث داخل عتبة الشاشة.
اسمحوا لي أن أنتقل من العتبة التي يمكن أن يصبح عليها أي فيلم إلى العتبة التي تكونها السينما نفسها بوصفها مكانا ينظر للوراء إلى القرن التاسع عشر، وللأمام إلى القرن الواحد والعشرين، بوضع قدم في كل جانب. ودعوني أسترجع للمرة الأخيرة مسلمة «كاييه» التي تقول «السينما مرتبطة بالواقع، ولا علاقة للواقع بالتمثيل، وهذا أمر نهائي.» أدرك سيرج داني أن «إسقاط» السينما مرهون بالكتابة ومكتمل بها. في المقابلة التي تفتتح أعماله المجمعة، يقول مباشرة: «الأمر بسيط تماما - أي السينما التي أحبتها «كاييه» - منذ البداية، هي «سينما مسكونة بالكتابة». هذا هو المفتاح الذي يجعل من الممكن فهم الأذواق والاختيارات المتتابعة ... دائما ما كان أفضل صناع الأفلام الفرنسيين - في الوقت نفسه - كتابا (رينوار وكوكتو وبانيول وجيتري وإيبستين.)» يذهب محرر المجلة الحالي، إيمانويل بوردو، أبعد من هذا بقوله إن أنصار بازان الذين أصبحوا صناع أفلام مشاهير - رومير وجودار (ولعله أضاف تروفو) - كانوا مشروعات كتاب مهووسين بالأدب. بوردو متيقن أن علاقة السينما بالكتابة تحدد نهج «كاييه» حتى أكثر من إخلاصها لفكرة «تصميم المشهد».
30
مات بازان بعد أن لمح المواجهة الجذرية للسينما مع الكتابة التي تطورت بواسطة مجموعة «جماعة الضفة اليسرى» التي كان في القلب منها صديقاه كريس ماركر وآلان رينيه. كان قد حجز بالفعل مكانا مميزا في السينما الحديثة لمن كان سعيدا بتسمية أفلامهم «مقالات» («كل ذاكرة العالم»، و«ليل وضباب») تمزج سردا أدبيا راقيا خارج الشاشة بحركات كاميرا مثيرة للتفكير. انتقل كريس ماركر بسلاسة من مقالاته في مجلة «إسبري» و«التعليقات» على الأحداث التي كانت تنشرها دار «إديسيون دو سوي» وكانت تمزج بين النص والصور إلى صناعة فيلم مثل «رسالة من سيبيريا» («لتر دو سيبري»؛ ماركر، 1957)، الذي كتب بازان مراجعة عنه تشيد به قبل أسبوعين من وفاته. أما رينيه، فقد غير وجه السينما بعد موت بازان بشهور فقط بفيلم «هيروشيما حبي» ثم مرة أخرى بفيلم «العام الماضي في مارينباد»؛ حيث يمزج الفيلمان بين الكتابة وصناعة الأفلام فيما يمكن أن يسمى فقط مغامرة نظرية في «الكتابة» المتوسعة. وسرعان ما أمسك كل من مارجريت دوراس وآلان روب-جرييه - اللذين قدما النصوص في هذين الفيلمين - بالكاميرا بنفسيهما، وشرعا في إخراج الأفلام. وقد دعمتهما هيبة الفيلم المتزايدة في الجامعات وفي الدوريات التي أنتجتها هذه الجامعات.
كانت إحدى الشخصيات البارزة في الانتقال من نوادي السينما إلى ثقافة السينما في الجامعة هي الباحثة الفرنسية ماري كلير روبار التي خلفت بازان في مجلة «إسبري» بعد عام 1958. يؤسس أول كتابين لها، وهما «شاشة الذاكرة» و«من الأدب إلى السينما» الإشكالية الأدبية في السينما. ولم يمر وقت طويل قبل أن تتبنى روبار نظريات جاك دريدا ، وتكتب تحليلات مطولة لفيلم «مورييل»، ولفيلم «أغنية الهند» (إنديا سونج) لمارجريت دوراس الذي ناقشته في أقوى أطروحة لها بعنوان «النص المقسم». لعل جودار أغلق هذه الدائرة حينما طلب من دوراس أن تمثل بنفسها في فيلم «حركة بطيئة» («سلو موشن»، «سوف كي بو (لا في)»، 1980). تسألون عن هدفه؟ تصوير الأصالة، ومنح صورة للكتابة. «السينما بوصفها كتابة» هي فكرة لها جذورها في مقال أستروك الذي صدر عام 1948 عن «الكاميرا-القلم» الذي يفترض المكانة التي لا غنى عنها للكتابة النقدية بوصفها المكمل الضروري لأي فيلم له مستقبل. قد يثار النقد بالصور، لكنه يثيرها بدوره أيضا؛ إذ يحاول توضيح ملامح واقع ما - موضوع سينمائي - هذه الصور هي آثاره. ولذا، ومن البداية إلى النهاية، بداية من النص أو الفكرة المدونة بارتجال، إلى التفصيل النقدي، تعمل الكتابة يدا بيد مع الصور في ممارسة ثنائية القطبين تهدف منها السينما المشوبة، من البداية، للوصول إلى كل أنواع الموضوعات وكشفها وتفصيلها، ومنها الموضوعات التي كانت في وقت ما أو ما زالت غير قابلة للتخيل لأنها تنتمي إلى «المادة» أكثر مما تنتمي إلى «الموضوع» البشري.
في زمن بازان، قدمت فنون الرواية والمسرح والرسم الناضجة موضوعا ساعد السينما الناشئة في النضوج. واليوم، وبعد أن اكتسبت مكانتها في المناهج الجامعية وعلى صفحات الفن في الصحف والدوريات الثقافية، فإن حيوية السينما و«لا نقاءها» الضروري يأتيان الآن من الاتصال بالكتب المصورة وبالتليفزيون وبالموسيقى الشعبية وبألعاب الفيديو وبثقافة الكمبيوتر. لن تحتفظ السينما بحيويتها وثقلها اللذين عملت على تحقيقهما على امتداد قرن، بمجاراة الثقافة الشعبية؛ ولا ينبغي لها أيضا التقهقر إلى ملاذ الأفلام ذات القيمة الفنية العالية أو دار عرض الفنون المتخصصة (على الرغم من أن هذا يحفظ رأس مال ضخم من الأفلام العظيمة التي تمول استثمار السينما في أي مستقبل تصنعه). بدلا من ذلك، يجب على السينما المضي قدما في القرن الجديد باستيعاب الموضوع الذي يحيطها، وهو ثقافة وسيط جديد على نحو متزايد. ستكون الأفلام المشوبة الناتجة، ولا شك، سينما مختلفة عن التي عرفناها ، لكنها ستكون سينما جديرة بماضيها إلى درجة أنها تحافظ على ما قد تكون أفضل تسميه له هي الروح السينمائية. ما ورثه أندريه بازان هو توجه أكثر منه مذهبا؛ توجه مليء بالفضول والتلقائية والاستجابة لواقع ينظر إليه إلى ما لا نهاية على أنه مبهم ويستحق اهتمامنا. يلتقي أفضل صناع الأفلام بأفضل النقاد على عتبة الشاشة حيث تحكم الصور، لكن فقط كي تقود إلى ما وراءها.
هوامش
الفصل الرابع
تطور موضوعات السينما
حققت السينما وعيها بذاتها خلال مسيرة السنوات العشرين، من فيلم «قواعد اللعبة» إلى أفلام «الأربعمائة ضربة»، و«هيروشيما حبي»، و«منقطع الأنفاس». كان روسيليني وبازان بمنزلة قناتين لهذا التحول، أو «قائدي المركب» كما يسميهما سيرج داني. لم يجلب النضوج معه فقط الجرأة المزهوة، ولكنه أتى أيضا بالشكوك والأسئلة التي تتجلى في عنوان أعمال بازان المجمعة التي نشرت مع بداية ظهور «الموجة الجديدة»، وهو «ما هي السينما؟» ولأنه لم يكن مستعدا لتقييد هذا الفن التكنولوجي الأول، بل حتى لم يكن مستعدا لتعريف السينما بأنها فن، أو استبعاد أي نوع من استخداماتها وأنواعها، مهما كان اعتياديا أو هامشيا، فقد أبقى بازان السينما سؤالا مفتوحا، منفتحا على العالم الذي يشتبك معه دائما بشكل ما. من هنا نبع إيمانه بأن السينما «الحديثة» كانت تنفلت من قيود الأسلوب «الكلاسيكي» بفضل «طليعة» محددة، شعر بأنها بدأت في استكشاف حقل سينماتوغرافي جديد، سعيا وراء عوالم أكبر يفترض أن تمثلها. قد تكون مصطلحات «كلاسيكية» و«حديثة» و«طليعة» تبسيطية وغامضة، لكنها مع ذلك تحدد مخاطر اللعبة وتؤكد قواعدها.
الفيلم الحديث: بين الكلاسيكية والطلائعية
لو كان بإمكانكم سؤال بازان عن مصدر التغيير الذي تمكن من استشعاره فيما يدور من حوله، لما كان ليشير لأول وهلة إلى التصوير، أو إلى تصميم المشهد، أو التمثيل، أو التحرير؛ بل كان من شأنه أن يشير إلى ما سماه «الموضوع». ومثلما يجيء النضج، فوجئ الوسيط السينمائي في منتصف أربعينيات القرن العشرين بإدراك أنه نضج بعد مواجهات مباشرة مع موضوعات مثيرة للتحدي، نادرا ما كان يستطيع تفاديها. كان تعقد موضوعات رينوار وويلز هو ما دفعهما إلى التخلي عن أساسيات النظام الكلاسيكي في فيلميهما «قواعد اللعبة» و«المواطن كين». ثم نشبت بعد ذلك مباشرة الحرب العالمية. وبطبيعة الحال، استلزمت الحرب الحديثة وسائل تمثيل حديثة. تمدد المكان، وتقلص الزمان، وانتزع كلاهما بوضوح من سيطرة الإنسان. ولذا، وبلا تجاهل، برهن مالرو على النزعة الإنسانية البطولية في فيلم «الأمل» (هوب) وهو واحد من أوائل الأفلام شبه الوثائقية الكثيرة التي جاهدت لتمثيل الحياة في الظروف البشعة والحافلة بالقتل التي تحملها كثير من الناس (أو فشلوا في تحملها) منذ عام 1936 حتى عام 1945. كان بازان يعتقد أن الواقعية الجديدة نتجت مباشرة من الحضور الطاغي للحرب والمقاومة؛ حيث تبنت جوانب من الصحافة ومن الرواية الأمريكية القاسية، بينما بدت المعايير المعتادة في كتابة السيناريو والتصوير والتحرير هزيلة وقاصرة عن الموقف تماما.
انجذب صناع الأفلام بقوة لمهمة جديدة بفعل الحرب. حتى مخرجو هوليوود الجسورون، مثل جون فورد وجون هيوستن، تجرءوا على تجربة أساليب التصوير والتحرير الارتجالية ليصوروا ويحاكوا الفوضى التي تطوعوا بدخولها («معركة ميدواي»، 1942؛ «معركة سان بييترو»، 1945).
1
على الرغم من ذلك، حالما انتهى ذلك الحضور الطاغي، أعقبت ذلك أزمة حتمية في الموضوعات. ما الذي ينبغي تمثيله الآن بشأن الطرف الآخر في الحرب؟ بعد مرور جيل كامل، عاد جيل دولوز بذاكرته إلى هذه اللحظة بوصفها لحظة تأسيس «الصورة- الزمن» بما أن «الكليشيهات» لم تعد قادرة على الحفاظ على الأفلام كما هي، ولم تعد الشخصيات قادرة على التحكم في مصائرها بالطريقة التي استمرت في سنوات السينما الخمسين الأولى؛ إذ أصبح كثيرون يهيمون ببساطة في الأرض الأوروبية المقفرة، ويعملون عمل المراكز العصبية لتسجيل «الأحداث البصرية والصوتية الخالصة». ومع ذلك، لم يكن هذا الإدراك يحتاج انتظار صياغة دولوز؛ لأن هذه الأزمة كانت محددة في ذينك الزمان والمكان، في العنوان الكامل لبيان ألكسندر أستروك المحتفى به في مارس 1948: «من أجل طليعة جديدة: الكاميرا-القلم». كتب الكثير عن «الكاميرا-القلم»، وخصوصا عن المرونة المكتشفة حديثا للسينما، القادرة - كما يفترض - على التجريدات والتعبيرات الشخصية عن اللغة المكتوبة. لكن الجزء الأول من عنوان مقال أستروك «طليعة جديدة» هو الذي يستجدي الانتباه؛ لأنه يصف ثورة، ليست في شكل الفيلم ولكن في موضوعه.
لم يصف أستروك ثورة بقدر ما أشار إلى «التكوين» المتغير للأفلام المعروضة على الشاشات الباريسية بعد عام 1945، حينما أتيحت فجأة أفلام «الأمل»، و«قواعد اللعبة»، و«المواطن كين»، وانضم إليها فيلم بريسون «سيدات غابة بولونيا» («لي دام دي بوا دي بولوني»، 1945)، وفيلم جون كوكتو «الجميلة والوحش» («بيوتي آند ذا بيست»، «لا بيل إ لا بيت»، 1946). كانت هذه كلها أفلاما روائية طويلة، بل حتى تجارية، لكنها كانت مكثفة ومبدئية، مقارنة بأول جيل من الأفلام الناطقة. وكانت هذه الطليعة ألطف بوضوح من سلفها الجريء في عصر السينما الصامتة، حينما شوه مان راي، وفرناند ليجر، ومارسيل دوشامب، وجون إيبستين، وجرمين دولاك، ولويس بونويل، قواعد الشكل السينمائي أو دمروها، ليس فقط من أجل الشهرة، ولكن من أجل «خمس دقائق من السينما الخالصة» (سانك مينوت دو سينما بور) على الأقل (وهو عنوان فيلم من عام 1926). كان المخرجون الطليعيون في عصر السينما الناطقة أكثر تميزا بالتأكيد من أسلافهم المبهرجين، ومع ذلك، كانت طموحاتهم تضاهي طموحات لحظتهم التاريخية التي عرفت بالمقاومة والتحرير؛ حيث كانت الآمال المعقودة على السينما عظيمة بقدر آمال إعادة البناء الاجتماعي والسياسي عقب الحرب.
يظهر البعدان المزدوجان لمصطلح الطليعة - الاجتماعي والجمالي - في بيان بازان «دفاعا عن الطليعة» الذي أتى في مقدمة الكتالوج الفخم الذي أعد من أجل «مهرجان الأفلام المنبوذة»، وهو مهرجان مضاد لمهرجان كان، أقيم في مدينة بياريتز الفرنسية في صيف عام 1949. عرض هناك فيلم بريسون «سيدات غابة بولونيا» ضمن مجموعة من التحف السينمائية التي أسيء فهمها؛ مثل: «لاتالانت» (فيجو، 1934)، و«صفر للسلوك» («زيرو دو كوندوي»؛ فيجو، 1933)، و«آل أمبرسون الأجلاء» («ذا ماجنيفيسنت أمبرسونز»؛ ويلز، 1941). رأس كوكتو رسميا هذا الحفل من المخرجين الجريئين، وكان من بين أولئك الذين أتوا من باريس إلى هذا المنتجع الأطلنطي، مساعد بازان الجديد، فرانسوا تروفو، ذو التسعة عشر عاما الذي قابل لأول مرة صديقي إريك رومير الشابين مثله: جان-لوك جودار، وجاك ريفيت. وكان من شأنهم جميعا أن يبثوا الحيوية والأفكار في نوادي السينما الحديثة في باريس؛ مثل نادي «أوبجيكتيف 48» الذي نظم، قبل إقامة مهرجان بياريتز، عروضا أولى رائعة لأفلام مثل «بايسا»، حيث قدم روسيليني إلى جمهور فرنسي مذهول.
وكما كان مهرجان بياريتز يهدف لمواجهة مناخ مهرجان كان التجاري، استهدف مهرجان كان التصدي لصنوف الترفيه التي تنتجها هوليوود التي كانت تجتاح القارة الأوروبية. هذا الكفاح الأوروبي من أجل سينما مهمة فنيا ومستقلة خيض تحت راية «المخرج الأصيل». أصبح هذا المصطلح، الذي مثل إشكالية نقدية وقانونية منذ عشرينيات القرن العشرين، موضع تركيز بعد الحرب، بسبب الدمار الذي حل ببنية الاستوديو في أوروبا، وتداعيات قضية نقل ملكية استوديوهات باراماونت في هوليوود؛ حيث أصبح الكتاب والممثلون في حل من عقودهم، بينما أصبح المنتجون مضطرين إلى التفاوض مع «العاملين الإبداعيين» على نحو فردي. في فرنسا، وحتى قبل الحرب، كانت الإنتاجات الأكثر طموحا دائما ما تطرحها «فرق» مكونة من كتاب سيناريو، ومخرجين، وممثلين رئيسيين، وأحيانا مصورين ومؤلفين موسيقيين. كان هؤلاء «المؤلفون» الجمعيون يستأجرون الاستوديوهات بدلا من الإذعان لأوامر رؤساء شركات الإنتاج. أما بعد انتهاء الحرب، ومع اتساع تصدعات النظام السينمائي،
2
توقعت المواهب الجديدة أن تسيطر على النظام، مدفوعين بنقاد صاعدين مثل أستروك وبازان، اللذين عرفا، بتعمقهما في تاريخ السينما، أن الأفلام الطليعية تميزت بأنها أعمال أصيلة فريدة، ليست محل تفاوض ولا تحتمل التفاوض؛ وهكذا بعثا المصطلح مرة أخرى في عام 1948، لتعزيز تصور الفيلم الروائي الطويل بوصفه نتاج قوة إبداعية فريدة. لذا، كانت فكرة الطليعة وسيلة لمساعدة المخرجين على خوض إنتاجات بالحجم الكامل في زمن كانت فيه النظم الراسخة مهددة بوضوح.
هكذا تشارك أستروك وبازان في تجنيد مفهوم «الطليعة» - وهو مفهوم استراتيجي عسكري - في حملة نصبت سينما أوروبية «حديثة» في مواجهة النظام «الكلاسيكي» الحصين. وجند على الضد من إرادة أولئك الذين كان ينبغي لهم من الناحية الشرعية التحكم في مصيرها، وهم ورثة ما يسمى الآن «الطليعة التاريخية» في العشرينيات. في باريس، وبالإضافة إلى أستروك وبازان والمولعين بالسينما الجريئين في نادي «أوبجيكتيف 49»، كان يمكن سماع البيانات التي تصدرها المجموعات الراديكالية الفعلية، وأشهرها حركة «الحروفيين» التي قادها إيزودور إيزو وموريس لوميتر. لم يظهر هؤلاء لإحداث ثورة في صناعة الأفلام الروائية الطويلة، ولكن لتدميرها تماما، ولإحلال تجارب فوضوية عفوية محلها.
هاجم إريك رومير «الحروفيين» بعنف عام 1952، معلنا أن تطبيقاتهم الخالية من الموضوعات ليست سوى محاولات خائبة لإعادة إحياء أفكار المدرسة الدادائية المستفزة. لم يتعمد هؤلاء إساءة فهم خصائص الوسيط السينمائي ووظائفه المحتملة وحسب، ولكن شهرتهم تجلت من حيث الأساس في دوائر فنية خاصة. كره رومير من أعماقه سطو مؤسسات الفنون على الوسيط السينمائي أكثر من كراهيته للضرر الجمالي الذي شعر أنها ارتكبته بحق السينما. حينما بدأت الأعمال السيئة السمعة لدوشامب، ومان راي، وفايكينج إيجلنج، ودالي/بونويل، تجد ملاذا لها في مؤسسة مثل متحف الفن الحديث، كانت هذه إشارة جلية بأن الطليعة التاريخية أصبحت من الماضي، وصنفت بالفعل ضمن التراث الفني الذي يريد أولئك الفوضويون بشدة الهروب منه أو تدميره. كان رومير يخشى أن تلك الطليعة يمكنها أن تتسبب في اختطاف السينما من قبل طبقة فكرية ما، مثلما حدث مع الرسم ومع الأدب بقدر أكبر. هذه الفنون الآن منفصلة عن المهمات والجماهير الطبيعية التي كانت ملكا لها منذ وقت طويل في عصر كلاسيكي.
لكن رومير كان يشعر بأن سينما ما بعد الحرب ظلت تستمتع باللحظة الكلاسيكية، وأن حيويتها مؤكدة بفعل حلقة الاستجابات الدائرة ما بين الجمهور والمنتجين، كما تتجلى في شباك التذاكر، وفي المراجعات النقدية.
3
ربما أيد بازان سينما حديثة متمردة، لكنه، مثل كثيرين غيره، كان يحترم - بل ويمتدح - المدرسة الكلاسيكية، وخصوصا تلك التي انبثقت من هوليوود، حيث كانت تبدو الأكثر طبيعية. وعلل هذا بأن إنتاجات الاستوديوهات هناك لا بد أنها تقدم ما تجده ثقافة جماهيرية جديرا بأن تتعرض له ويمثل تحديا لها، وأن تطوره بالتفصيل. بل إن بازان مضى إلى أبعد من ذلك بمقارنة هوليوود بالتراجيديا الفرنسية الكلاسيكية التي كانت متوافقة مع هموم الجمهور وحسه لدرجة تأليف المسرحيات الرائعة التي كتبها كثير من المؤلفين، وليس كورني وراسين فقط. وبعد ستين عاما، كان من شأن كاتب عظيم مثل فولتير أن يفشل في هذا الصنف، بسبب تطور الجمهور وتغير علاقته بالمسرح.
4
بطريقة مشابهة، كانت استوديوهات هوليوود في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين متزامنة بدقة مع حس جمهورها العريض، لدرجة أنه كان يصعب صنع فيلم غير قابل للمشاهدة هناك.
كان يسمي السينما الكلاسيكية «عبقرية النظام»؛ إلا أنه أيد بكل قوته أولئك الحداثيين الذين لم يكن ينبغي من وجهة نظرهم أن تنجو عقلانية الأسلوب الكلاسيكي واحتشامه من مصيبة الحرب والدمار الذي حل بالكثير من الحضارة. وبينما لم يحط بازان قط من قدر هوليوود، فقد أيد رينوار وويلز وبريسون وكوكتو وروسيليني؛ لأن أفلامهم كانت متجاوزة للنظام السائد. ومن غير أن يكونوا شكلانيين، كان عليهم الإتيان بأساليب جديدة ونماذج مختلفة قادرة على تمثيل أي مما كان يشغل بالهم بعمق. نما جمهور جديد مهم في أوروبا، صغير في الحجم، لكنه متحمس ومتطلع إلى مثل هؤلاء السينمائيين وموضوعاتهم غير التقليدية. وعززت نوادي السينما، ومسارح الفنون، والمجلات، هذه العلاقة. كان جيل ما بعد الحرب الوجودي يستمع إلى موسيقى الجاز، ويتناقش بشأن الأفلام الجادة. ولذا، وبينما وجدت هوليوود - التي كانت أقل تأثرا بالحرب - أنه من الملائم الحفاظ على الاستمرارية والصلة بالثلاثينيات، فاتحة نوافذ استوديوهاتها من حين إلى آخر لإلقاء نظرة على الخارج، فإن أوروبا (واليابان، فلا بد من ذكرها) أفسحت المجال لشيء جديد تماما، وهو سينما حديثة تكافح لتمثيل شكوك مجتمع محطم وتحدياته. وسواء أصورت داخل استوديوهات حقيقية أم لا (فيما عدا روسيليني، بقي المخرجون المذكورون آنفا داخل أماكن مغلقة)، كان يعتقد أن الأفلام الحديثة يفترض أن تتصدى للهموم المعاصرة ووعي ما بعد الحرب المنهك.
في كل شهر في مجلته التي كانت تسمى اسما ملائما وهو «الأزمنة الحديثة»، كان سارتر يضغط على الفنانين والمفكرين بجد ليركزوا انتباههم على «المواقف» في العالم، لا على خيالاتهم هم أو مشاعرهم. كان السرياليون يشعرون بلدغة قلمه، وكذلك الشكلانيون من كل نوع، الذين اتهمهم بهجر التاريخ والمسئولية، وبالهروب إلى ملاذ النقاء الجمالي. استخدم سارتر ببراعة خطاب اشتباك عنيفا. وفي محادثة مع سارتر في مقهى سان جيرمان، حدث أن عرف أستروك «الطليعة الجديدة»، بعكس ما هو سائد، بأنها سينما ليست للشعر المرئي ولكن للنثر المرن. ولأن السينما مرتبطة بالضرورة بالعالم بحكم تكنولوجيتها، فهي تضمر حينما تعامل ذاتها على أنها نوع من الشعر. ينبغي أن يولد الشكل من الانشغال بالموضوعات العصية، والمواقف التي تجاهد لإظهارها. كان ذلك هو الإحساس بالأمور في أوج الواقعية الجديدة.
في عام 1953، حينما هدأ زخم الواقعية الجديدة، واندلعت حرب ساخنة في كوريا، وحرب باردة في كل مكان آخر، أجرى تقرير لنخبة من المؤلفين بعنوان «سبع سنوات من السينما الفرنسية» مسحا للمشهد السائد في باريس بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. يحدد الفصل الأول منه بعنوان «عن الطليعة»، الذي كتبه المؤسس المشارك لدورية «كاييه»، جاك دونيول-فالكروز، معالم المشهد بصراحة. يرفع فالكروز من شأن مجموعة من سينمائيي ذلك الوقت إلى منزلة «الموجة الأولى» في فرنسا، وهي جيل طليعة العشرينيات ... لكن مع الفارق. يؤكد أنه لا فائدة من استرجاع تلك الأيام، مشيرا إلى فشل مايا ديرين، والأخوين ويتني، وغيرهم من الهواة الأمريكيين والفرنسيين الذين كانوا يستخدمون عدسات بقياس 16 مليمترا لاستعادة أرضية فقدت بمجيء السينما الناطقة. مثل هذه التجارب المفارقة لزمنها، سرعان ما تصبح شيئا من الماضي؛ أما التطورات الحقيقية فأحدثها منذ عام 1940 ويلز وهيوستن، وبقدر أعظم، بريسون. ولأن السينما تخلت لحسن الحظ عن سعيها نحو «الخصوصية»، فقد نضجت لدرجة أن الأساليب التي كانت تدرس فيما مضى بوصفها «متنافية مع السينماتوغرافيا» قدمت إليها أكبر دفعة للأمام. ويخلص فالكروز إلى أن فيلم كوكتو الرائع «أورفيوس» (1949) يبدو مقيدا - ومن ثم مؤثرا ومقنعا - مقارنة بفيلمه الخيالي المنغمس في ذاته «دم شاعر» («ذا بلاد أوف آ بوت»، «لو سون دان بويت»، 1930).
من خلال تبني مصطلح «الطليعة» واستئناسه، سبق فالكروز و«كاييه» حركات من قبيل «الحروفيين» الذين هاجموا، بمحافظتهم على نقائهم الأيديولوجي، المؤسسة من وراء حدودها. أما بازان فأراد، على عكس ذلك، أن يعمل ضمن حدود المزيج الثقافي، بالكتابة لصحيفة يومية جماهيرية وهي «لو باريسيان ليبيريه»، وبالمثل لصحيفة النخبة الفكرية «إسبري»، مخاطبا بذلك جمهورا متكاملا (وإن لم يكن عضويا). راقت لبازان حقيقة أن الأفلام الفنية والكوميديات المحلية تعرض على الشاشات عبر الشوارع، من واحدة إلى الأخرى، وشعر بأن أكثر الأفلام طموحا فنيا لا تجب الإشادة بها بسبب هروبها من الثقافة السائدة في رحلات من الاستفزاز أو التجريد، ولكن بدلا من ذلك، ينبغي تسخير طاقتها وخيالها لرفع الحقل السينمائي بالكامل إلى مستوى جديد. أسست «كاييه» لإبقاء السينما بالكامل في الاعتبار، وفي الوقت نفسه من أجل التحديد والتكثيف لأكثر الاتجاهات أملا وتنبؤا. لذا فقد سمى بازان روسيليني وبريسون وأنييس فاردا، وقليلين غيرهم «طليعة» لدفعهم زملاءهم - المخرجين الملتزمين بمعايير السينما السائدة - لتوسيع قاعدة جمهورهم؛ في الوقت نفسه أسقط من اعتباره الأفلام التجريبية التي كانت موجهة إلى قلة معينة أو إلى جمهور المتاحف. لم تمر سنوات طويلة، في ذروة «الموجة الجديدة»، حتى تجاهل محررو «كاييه» - الذين كانوا عازمين على الحفاظ على سمعتهم بوصفهم متمردين مشاكسين ضد نظام عفا عليه الزمن - بالكامل الأعمال الطلائعية الأصيلة التي استخدمها جي ديبور لتطويقهم بها على اليسار.
5
كانت معركة «كاييه» مع الفيلم الفرنسي الكلاسيكي الذي تحجر داخل «تقليد الجودة»؛ ولذلك، ارتدوا بلا حق رداء الطليعة، فقط لتزيين الحداثة التي كانوا يؤيدونها في الأساس.
الواقع أن «كاييه» لم تول قط انتباها كبيرا للطليعة الأصيلة، سواء طليعة العشرينيات الأوروبية أو تلك التي نتجت من انبعاثها في فترة ما بعد الحرب العالمية في نيويورك. عنوان كتاب بازان «ما هي السينما؟» عنوان رمزي، لا يتجنب فقط الأفلام التجريبية ولكنه يرد عنوانا بعنوان، كما لو كان توبيخا، على كتاب جورج ألتمان «هذه هي السينما»،
6
وهي الجملة التي كان من شأن عشاق السينما من ذلك العصر المبكر أن يرددوها كلما أثار شيء ما على الشاشة نظرهم أو خيالهم. أيد المولعون بالسينما الأوائل هؤلاء، طليعة ما بسبب شعورهم بأن السينما الصامتة، على الرغم من كونها «فنا تكنولوجيا بالكامل»، كانت متأخرة عن أشقائها الأقدم، وخصوصا الرسم. بكتابته للجيل الذي سيأتي بعده، أسقط بازان من حساباته عقدة الدونية هذه، مقتنعا بأن السينما، بوصفها فنا تكنولوجيا - بل بوصفها وسيطا تكنولوجيا (وليذهب الفن إلى الجحيم) - جعلت كل شيء يظهر على الشاشة قابلا لأن يكون مبهرا. كان من شأن السينما أن تتقدم مستغلة الموضوع الذي تجرأت على تناوله.
كان من شأن «الطليعة الجديدة» أن تصير في النهاية «الموجة الجديدة»، لكن هذا أتى بعد عقد تقريبا. في الوقت نفسه، فترت حماسة ما بعد الحرب، وامتدت المعارك الثقافية لعصر الحرب الباردة إلى حقل نقد الأفلام. نجت الواقعية الجديدة بالكاد في أربعينيات القرن العشرين، وفي فرنسا تجمدت المؤسسة السينمائية في «نظام للجودة» نجح بفاعلية في إقصاء الموضوعات الجديدة والمواهب الجديدة عن الشاشة. على الرغم من كل هذا، وفي الوقت نفسه، كان تيار عميق يشق طريقه في التصدعات. وتأكد بازان من تمييز سينما جادة وواعية ومستقلة وقت ظهورها على السطح. في مراجعة حماسية لأول أفلام فاردا (الذي صنع في عام 1954)، أوضح بدقة ما ينبغي أن تعنيه الطليعة في هذه المرحلة من التاريخ:
يوضح فيلم «لا بوانت كورت» جيدا فكرة الطليعة التي كنا نتطلع إلى تعريفها في أيام نادي «أوبجيكتيف 49». بعيدا عن التجريب الشكلي وإنكار الموضوع اللذين ميزا طليعة منتصف العشرينيات، تربط فاردا عملها باليوميات الحميمة، أو بما هو حتى أفضل، وهو سرد المتكلم الذي يفضل أن يظهر بضمير الغائب تحفظا. دعونا نأمل أن هذا التصنيف «الطليعة» لا يعني أن فيلمها سيكون أقل رواجا تجاريا من الأفلام الأخرى؛ لأننا لا نسميه طلائعيا بسبب غرابته أو تعقيده، ولكن لإفراطه في البساطة، تماما مثل فيلم «رحلة إلى إيطاليا» الذي يستحق أن يقارن به، وخصوصا من حيث الموضوع وليس تصميم المشهد.
7
وكما كان يفعل في الأغلب، استعان بازان بالمعين الذي لا ينضب لقيمة سينمائية محددة، ثم وسع من حدسه حتى وصل إلى تيار جمالي خفي يغذي الحقل السينمائي. دون أي دعاية، شرع كل من «لا بوانت كورت » و«رحلة إلى إيطاليا» في رحلتين متوازيتين غير متوقعتين عام 1954 ساحبين السينما (والمشاهدين الجريئين) من ورائهما تجاه لقاء مع مستقبل الفن. يتضمن كل فيلم رحلة حقيقية يقوم بها زوجان لطيفان، لكنهما غير سعيدين، في قلب مجتمع تقليدي على البحر المتوسط (اختارت فاردا بلدة سيت التي تشتهر بصيد الأسماك، واختار روسيليني نابولي). ورغم أن هذا غير مفهوم تقريبا للأبطال وغريب تماما عن المشاهد، فإن هذه الجماعات الاجتماعية تمتلك زمانا (يعيشون بسرعة) على الضد من حس السائحين، ومنهم السينما وجمهورها. يصبح الاحتكاك الناتج من التقاء أسلوبي حياة مضجرا، ثم يزيد من حرارة الدراما لدرجة الالتهاب؛ حيث يحيط «طول أمد» الثقافات المتكاملة (العمل وتناول الطعام، والمواليد والوفيات، والطقوس والمهرجانات) بالأزمات التافهة للحياة الحديثة للطبقة المتوسطة، ويتجاوزها، وهي الأزمات المعبر عنها بالملل الذي يأكل الالتزام بالعلاقة الزوجية.
8
باستخدام «الحداثي» و«التقليدي» ليوضح بعضهما بعضا، يقترب روسيليني وفاردا من الإثنوغرافية المزدوجة التي كان جون روش بدأ يعتنقها آنذاك. تدفع «الوثائقيات التشاركية» التي أنتجها روش ثقافتين معا من أجل إضاءة الجوانب الخفية لكل ثقافة، والقيام بهذا دون السماح لأي منهما بالسيطرة على الأخرى.
9
استمتع بازان الذي كان يتتبع دوما مشروعات روش منذ مهرجان بياريتز بمثل هذه الاستكشافات حيث كان على السينما أن تكابد موضوعا عصيا لدرجة تجعله خارج نطاق صناعة الأفلام التقليدية.
10
يبدو الآن الترتيب الزمني واضحا، وكان واضحا لبازان في ذلك الوقت: بين عامي 1939 و1941، أعلن مخرجان بطوليان (رينوار، وويلز ابن الخامسة والعشرين) قطيعة عما هو «كلاسيكي» على نطاق واسع؛ وفي عام 1954 وضع مخرجان آخران (روسيليني، وفاردا ذات الخمسة والعشرين ربيعا) معيارا جديدا لما هو «حداثي» في الموضوع، وفي نمط الإنتاج، وفي مخاطبة جمهور ناضج. كتب ريفيت في «كاييه» إن فيلم «رحلة إلى إيطاليا» «يشق صدعا، ويجب على كل السينما المحتضرة أن تجتازه.»
11
كانت تحدث هذا الانتقال إلى الحديث الواقعية الجديدة (في إيطاليا بالأساس) والأفلام الوثائقية القصيرة (في فرنسا بالأساس) التي اتخذت موضوعا لها تجريد حياة ما بعد الحرب من الإنسانية، وفعلت هذا بكاميرا-قلم مطاوعة ، يستخدمها فقط من يمكن أن نسميهم «مخرجين أصلاء». لتلخيص رؤية بازان، لم تصبح السينما حديثة لأنها بلغت مرحلة جديدة على مخطط بياني شكلي للنمو، ولكن لأنها أدركت أنه كان بإمكانها هجر كل السيناريوهات التي وضعها لها كتاب السيناريو في الاستوديوهات الكبرى، ووجب عليها ذلك، حتى تواجه تعقيدات عالم خارج جدران السينما. كان يجب على السينما حرفيا أن تتغلب على نفسها لتصبح ذاتها، كان يجب عليها هجر خصوصيتها المزعومة من أجل الوصول إلى ما يكمن وراءها في رواسب التاريخ (روسيليني)، أو الثقافة (رينيه) أو الحياة الداخلية (بريسون).
يجب تسمية نظرة بازان إلى الفنون والثقافة بأنها تطورية، لا بأنها ثورية. تمكن بازان، بمعاملة صنوف الفن وأشكاله كلها كما يعامل علماء الأحياء الأنواع ذات الصلة، من تصنيف السرعات والكثافات المختلفة للمجموعات اللانهائية من الأفلام التي كان مصمما على حفظها من النسيان. أتاح كتاب مارلو «سيكولوجية الفن» (نشر بين عامي 1947 و1951) لبازان إطار العمل اللازم. تتغير الظواهر الثقافية طبقا لأنماط النمو الداخلية، ويعاد تشكيلها في الوقت نفسه عبر الضغوط البيئية، فضلا عن التمازج بينها. ويستطيع المرء بسهولة أن يدرك تأثير مالرو على مقالات مثل «تطور أفلام الغرب» و«تطور السينما الفرنسية» والأشهر بينها «تطور لغة السينما». تعتمد هذه المقالات جميعا على صيغة من فرضية أن كل ثقافة وكل نوع من الفنون يمر بمراحل، من البدائية إلى الكلاسيكية إلى التكلف، إلى التفسخ. كانت «السينما الحديثة» التي شعر بازان بنشوئها من حوله مرحلة يفترض أن تتطور بقوة لفترة ما قبل أن تتحول حتما إلى التكلف في وقت لاحق. وكما يوحي اسمها، فإن الحديث يستجيب للتاريخ مخضعا التطور المستقل للشكل الفني للهموم الراهنة. تحافظ السينما أكثر مما تفعل الفنون الأخرى، على الإمساك باللحظة التاريخية دائما؛ لأن تكنولوجيتها تسجل ما أمامها، ولأن هذه التكنولوجيا ترقى (تحدث) باستمرار لتسمح بتمثيلات مواكبة للزمن. ولذا فإن السينما تتطور بالتأكيد، ولكن على نحو وثيق الصلة بالموضوع المتغير.
من الموقع المشرف لعصرنا الحالي المتفسخ، يميز أنطوان دو باك (وهو نفسه أحد نقاد مجلة «كاييه » الذي تربى على أعمال بازان) حداثات عدة كانت فاعلة في زمن بازان، وخصوصا بعد موته مباشرة.
12
عكفت على تحديد المرحلة الأولى فقط، حينما تتبع النقاد بعيدو النظر صناع الأفلام المغامرين الذين قدموا موضوعات غير مطروقة من خلال أشكال وأساليب خلاقة. حين قدمت هذه الأفلام في معهد «السينماتيك» الفرنسي، وفي نوادي السينما ومسارح الفنون في خمسينيات القرن العشرين، حيث قدمت هذه الأفلام، عرضت مجموعة منتقاة من أعمال أقدم على نحو دوري؛ لتوفر أساسا متينا للأعمال الحداثية. امتدح مورناو، ولانج، وفورد، وآيزنشتاين، وهوكس لتحويلهم العالم إلى شيء ساحر، شيء كان بالإمكان اختبار فاعليته في تجربة المشاهدة الجماعية في دار العرض. كان رومير هو صانع الذائقة الرئيسي في «كاييه» خلال خمسينيات القرن العشرين، ناشرا سينما الكشف أكثر من سينما النقد. على الرغم من ذلك، بعد رحيل بازان، صار هذا الولع بالسينما يستعد لمهمة حداثية بطريقة أكثر ملاءمة حددها فيلما «هيروشيما حبي» و«العام الماضي في مارينباد». تحدى تجريب رينيه الشكلي (شبه الطليعي) الجماهير، مثلما فعل جون دوبوفيه وروثكو في الرسم، أو بارتوك وبوليه في الموسيقى. كانت الصعوبة والرفض هما مقياس تقدم الفن في ستينيات القرن العشرين. يصور دو باك صراعا في قلب «كاييه دو سينما» خلال هذا العقد، مركزا على عام 1963. على جانب، وقف رومير وتروفو اللذان كانت السينما برأيهما تسمح للعالم بأن يفاجئنا. وعلى الجانب الآخر، كانت حداثة جودار وكذلك ريفيت على وجه الخصوص، اللذين أكدا أهمية النقد الثقافي والسياسي. تولى ريفيت رئاسة تحرير المجلة من رومير، مبديا انتقالا نحو بريخت ورولان بارت، ولم يمر وقت طويل حتى حدث انتقال إلى المذهبين السيميائي والبنيوي. لكن «كاييه»، خلال تلك الفترة وفيما بعدها، التي شهدت انتقالات أكثر جذرية، احتفظت بهوسها بالأسلوب، وبفكرة «الكاميرا-القلم».
تثير التصورات التطورية للسينما (والفن والثقافة كذلك) أسئلة حول العلاقات العائمة بين مصطلحات مثل كلاسيكي وحداثي وطلائعي.
13
تظهر علامة الاستفهام في آخر عنوان كتاب بازان «ما هي السينما؟» من جديد لتؤكد عنوان كتاب دومينيك بايني الصادر عام 1995 «السينما، فن حديث ؟» وعنوان كتاب جاك أومو الصادر عام 2007 «حديث؟» ربما كانت السينما دائما مرتبطة بما هو حديث، لكن الحداثة بحكم تعريفها تستمر في التغير، على نحو يخل بهذه العلاقة. يعترف هذان الكتابان الحديثان بحقيقة تسمية السينما المستمرة لنفسها بأنها الفن الحديث بامتياز، لكن بينما يتجشمان عناء التحديد والتأريخ لنسخ عدة من «السينما الحديثة»، فإنهما يدركان أن لحظة ما بعد الحرب كانت لحظة مميزة. شعرت السينما في تلك الفترة - إن كان هذا حدث في أي وقت - أنها كانت كفئا لمهمة تمثيل ما كان في الواقع هو المشهد الأوروبي الاجتماعي والاقتصادي السريع التحول. جعلت المعتقدات الجديدة، والأعراف الجديدة، والتكنولوجيات الجديدة، وسرعة التبادل المرفوعة - السينما أكثر الفنون عصرية وأهمية من الناحية الثقافية. لكن هذا نادرا ما يعني أنها كانت تقف دائما بمفردها؛ فكما رأينا، آمن بازان بأهميتها وقدرتها على أن تكون مرتبطة ارتباطا تعايشيا مع الثقافة التي تشتبك معها، وهي ثقافة متاحة على نحو أشد تعقيدا من خلال الفنون الأخرى، خاصة الرسم والأدب.
نشوء السينما
الواقع أن هناك بازانين: بازان مؤلف مقال «أنطولوجيا الصورة الفوتوغرافية» الذي أسس تاريخا لواقعية السينما - من زمن ستروهايم، ومرورا برينوار، إلى الواقعية الجديدة - وبازان مؤلف مقال «من أجل سينما مشوبة» الذي يدعم سينما حداثية. يعد الأول محليا كما لو كان بازان مدافعا عن نمط سياسة معين. اختلفت أنيت ميشيلسون في مراجعتها الفطنة، وإن كانت سلبية، لكتاب «ما هي السينما؟» مع ميله للأسلوب الواقعي؛ لأنها هي نفسها دافعت عن تقليد راسخ في المدرسة السوفييتية وفي الطليعة التاريخية. كتبت ميشيلسون إن بازان ربما ناصر سينما حديثة، لكن جمالياته كانت مضادة للحداثة.
14
حيثما امتدح روسيليني بالربط بينه وبين الروية الأمريكية (فوكنر، ودوس باسوس)، فضلت ميشيلسون آيزنشتاين، واستطاعت الربط بينه وبين كاتب أكثر جذرية، وهو جيمس جويس! ربما دعم بازان «طليعة جديدة»، لكنه فشل، كما رأينا، في تقدير «الطليعة التاريخية» (البنائية) أو الاعتراف بالطليعة الحقيقية لعصر ما بعد الحرب (وعلى رأسها ستان براكيج). تتساءل ميشيلسون ماذا كان بازان سيقول عن أفلام جودار التي لم يتمكن من مشاهدتها؟ كانت ميشيلسون أول كاتبة بالإنجليزية تنتقد بازان. بعد مرور عشرين عاما على نقد ميشيلسون لبازان، أثار نويل كارول المسألة نفسها بمزيد من العمومية: إذا كان جوهر السينما ينبع من الواقعية المتأصلة في تكوينها الفوتوغرافي، فلا بد أن بازان يصنف الأفلام طبقا لدرجة من الواقع تحط من شأن قطاعات إنتاج كاملة، بل ويستبعدها.
15
لكن أي شخص يقرأ بتعمق في مقالاته التي تعد بالمئات سيجد بدلا من هذا ال «بازان الجوهراني» ناقدا أكثر توافقا مع التاريخ، ظهرت بالتدريج قيمه الأكثر تعقيدا وتنوعا، مع امتداد رؤيته فيما وراء الواقعية الجديدة. هذا البازان الثاني آمن بأن «وجود السينما يسبق جوهرها»؛ شاهد تضحية الوسيط السينمائي بتصوره الذاتي النقي في مواجهاته المتنوعة، واحتفى بذلك. ولعلنا نقول إن بازان في بداياته، بازان الذي صاغ مقال «أنطولوجيا الصورة الفوتوغرافية» عام 1945، كان يهتم بقدر أكبر بالدال. أما بازان فيما بعد، الذي عزز رؤاه في مقال «من أجل سينما مشوبة» عام 1952، فكان يهتم بقدر أكبر بالمدلول. اسمحوا لي أن أسمي المقال الأخير «مقال النشوء»، حتى نضع هذين البازانين في إطار واحد؛ مثل بعض لوحات بيكاسو التي تعرض لك صورة فنية لوجه بمقدمته وجانبه في آن واحد.
في الحقيقة، ينتهي مقال «أنطولوجيا الصورة» بملحوظة شهيرة تشير إلى المرحلة الثانية من تطور بازان: هذه الجملة المفردة «السينما أيضا لغة» تقلب المزاعم الضخمة بشأن التصوير الخام، الذي ربما يكون ضروريا للسينما، لكنه غير كاف لتفسير الظاهرة الكاملة التي يهتم بها بازان. اليوم، ربما كان بازان سيقول إن التصوير يسهم إسهاما جوهريا في الحمض النووي للسينما. لكن ماذا عن نمو السينما الاجتماعي، وهويتها التاريخية، أثناء تكيفها مع الأدوار التي يطلب منها أن تقوم بها؟ ربما يعتمد كتاب «ما هي السينما؟» على القوة النفسية الأولية للواقعية التصويرية، لكن «القيمة» الفعلية للسينما مشكلة تاريخيا؛ لأن حقيقة أن «السينما أيضا لغة» تعني أنها تتطور داخل نطاق من الخطاب الثقافي.
ما الذي كان يشغل بال بازان حينما أنهى أشهر مقالاته بهذه الفقرة القصيرة؟ الواقع أن هذه الجملة لا تظهر في المقال الأصلي الذي نشر عام 1945، لكنها أضيفت لاحقا ضمن كثير من التعديلات التي أدخلها حين كان يجمع نصوصه في عام 1958. بقراءة هذه الجملة في سياق كتابه «ما هي السينما؟»، فإنها تفعل ما هو أكثر من جذب الخيط الذي يكشف مقولة معقدة في مقال واحد، وتغير العدسات بدلا من ذلك، متسببة في إبعاد هدف النقاش، وهو السينما التصويرية، ليرى ببعد آخر. ورغم أن مقال «الأنطولوجيا» يبقى مقالا أساسيا، فهو لا يعمل في عام 1958 عمل إشارة البدء في مسيرة ناشئة، ولكنه «حجر الزاوية» (كما سماه رومير) الداعم لأكثر من خمسين قطعة جمعها بازان في بناء ضخم من أربعة مجلدات في نهاية مسيرته المهنية. عاش بازان ليرى فقط مسودة المجلد الأول الذي وضع له عنوانا فرعيا هو «الأنطولوجيا واللغة». لذا فإن الجملة الأخيرة المثيرة للاهتمام التي تقحم «اللغة» على نحو غير ذي صلة في نقاش «الأنطولوجيا» تبدو قرارا حصيفا من بازان - المحرر - لصنع استمرارية منطقية في مجلد يحتوي على ثلاثة فصول مختلفة تماما.
الآن، دعونا ننتقل للإصدار الثاني من «ما هي السينما؟» الذي أعده بازان لكنه لم يره. هذا الإصدار المعنون «السينما والفنون الأخرى» الذي يفتتح بجملة «من أجل سينما مشوبة»، يعتبر أكثر معالجاته دقة للتواؤم الأدبي. هنا لا تدرس السينما بالنظر إلى الداخل لتكوينها الخلوي، ولكن بالنظر إلى الخارج لمكانها بالنسبة إلى الفنون الأخرى المحيطة بها. هل يجب أن تتخذ موقعها في منطقة خالية لم يحتلها أي نوع من الفنون قبلها، أم يجب عليها أن تتواطأ معها في منطقة ثقافية شائكة؟
لم يشعر بازان بأي تضاد في هذين الاتجاهين لتفكيره. مثل أي شكل حي، يجب على السينما التكيف مع الظروف المحيطة بها، مضحية بهويتها الذاتية المفترضة (أي وجودها) وهي تنضج بالشكل الذي تتخذه عبر التاريخ (أي تواؤمها). خلال هذا، تكتسب السينما انتماءات ووظائف، كما يفعل البشر تماما. ربما يمتلك صبي في السادسة عشرة ميولا معينة وشخصية فطرية، لكن بعد العمل على سفينة لعشرين عاما، على سبيل المثال ، أو في الجيش، أو نحاتا، وبعد تجربته للزواج وانخراطه في الدين والسياسة، ماذا سنقول عنه؟ ربما لم يفقد شخصيته التشكيلية والأصلية، لكنه نضج من خلال التواؤم. في أفضل الأحوال، وباستخدام جملة لستيفان مالارميه كان بازان يحبها، فإن الوظائف والانتماءات إنما تغير السينما من داخلها: «إن الأشياء تتغير لما يفترض أن تكون عليه فقط بعد أن تصبح ما هي عليه.»
كان برفقة بازان في مجلة «إسبري» بول ريكور الذي قال: «إن الفلسفة بسيطة للغاية حقا. فهناك مشكلتان فقط: الفرد والمتعدد، والشيء نفسه والآخر.»
16
كلتا المشكلتين تظهران في مسألة المواءمة. يعتمد ما «يكونه» الفرد على الآخرين الذين يتعامل معهم؛ لأن الرهانات والوعود التي يراكمها المرء تحفظ هويته حتى حينما يبدو أن كل شيء يتطور في حياته. وهكذا أيضا «ما تكونه السينما» يتغير خلال مسيرتها. ربما كانت الواقعية مهمة لتطور الحداثة السينمائية بعد الحرب مباشرة، لكن عقد الخمسينيات جلب اهتمامات أخرى، اهتمامات ثقافية مرتبطة بفنون أخرى في مراحلها الحداثية المثلى. في هذا السياق، نظر بازان لتنوع الوسيط السينمائي و«لا نقائه» ومدحهما. مهد بازان المشهد لحدوث التضاد بين مقالي «الأنطولوجيا» و«النشوء» حينما سبق أن خطط عام 1958 ليجعلهما في مستهل الجزأين الأول والثاني، على التوالي، من أعماله المجمعة. احتل هذان المقالان موقعا رئيسيا ضمن أعماله، حيث كان كلاهما قد تبلور منذ أكثر من عام، وظهر في مؤلفات جماعية نخبوية موجهة للقراء ذوي التأهيل العلمي العالي.
انتقلت اهتمامات بازان من الواقعية إلى التواؤم، ومن الوجود إلى التاريخ في لحظة يمكننا تحديدها. يمكن تتبع نقطة تحول بازان إلى عام 1948، بفحص مقالاته التي نشرت في مجلة «إسبري»، وهي الكيان الكاثوليكي اليساري الذي شعر فيه بازان بالألفة إلى أبعد حد. في يناير من ذلك العام، ظهر مقال «الواقعية السينماتوغرافية ومدرسة التحرر الإيطالية»، بينما ظهر في شهر يوليو مقال «الاقتباس أو السينما بوصفها خلاصة». صحيح أن مقال الواقعية الجديدة يحوي قسما يتحدث عن جماليات الرواية الأمريكية المعاصرة، وهو شيء تعلمه بازان من الأديبة الفرنسية كلود-إدموند مانييه، زميلته في «إسبري»،
17
لكن «السينما بوصفها خلاصة» هو بحث أكثر منهجية عن مكان السينما بين الفنون الأخرى، يفتح لبازان نهجا اجتماعيا في البحث. بكتابة المقال بجمل اصطلاحية تليق بدراسات الثقافة الأولية، فإنه يحتفي بالصنعة أكثر من الأصالة، كما فعل وولتر بنيامين في مقال «الراوي». يقول بازان إن الراديو والسينما يعيداننا إلى التكاثر الصحي للخرافات، والأساطير، والحكايات الخصبة كما كان عليه الحال في العصور الوسطى. أي سرد هو بناء عقلي غير مادي يتكون من شخصيات في مواقف؛ وبينما قد نبجل المؤلف الذي منح جسدا ماديا لهذا البناء، لهذه الروح، للمرة الأولى أو بأحذق طريقة؛ فإن نشره (في لغات أخرى، ووسائط أخرى، أو حتى اختصاره إلى مجرد خلاصة) يسمح له بامتداد ثقافي كامل.
اتجه بازان نحو مسائل الاقتباس خلال وقت كان يمر فيه بأزمة شخصية. في عام 1949، انخرط بازان، ككل الأوروبيين الغربيين، في نقاشات مرهقة عن ستالين ومشروع مارشال. وكان ذلك العام كذلك هو العام الذي دخل فيه المستشفى بسبب إصابته بالسل، ثم انتقل إلى مصحة خارج باريس، واستقر أخيرا في بيت في الضواحي يمكنه فيه انتقاء نشاطاته. وبعد تحرره من التزامه بكتابة مراجعات يومية في عام 1950، وتحرره من التوترات السياسية التي زادت حدتها بعد التدخل العسكري في كوريا، انخفض كثيرا عدد المقالات التي كان يكتبها، ووجد الفراغ لتجميع أفكاره المبعثرة عن صلة السينما بالفنون الأخرى. وفي ضوء ارتياده دور العرض السينمائي بصورة أقل، فقد مال إلى مشاهدة كل الأعمال السينمائية المقتبسة الشهيرة، بينما قلت مشاهدته للوثائقيات والأفلام الروائية الطويلة الأجنبية التي سبق أن غذت أفكاره عن الواقعية. ربما بسبب هذه الحمية السينمائية، وبسبب نقاشاته مع رفاقه الأكثر تحفظا خلال تأسيس مجلتي «كاييه دو سينما» (عام 1951)، و«الراديو - السينما - التليفزيون» (عام 1950)، تأمل بازان في الجماليات بقدر تأمله في الموضوعات الاجتماعية التي تثيرها المواءمة. هنا تحل كلمة «الأمانة» محل «الخلاصة» بوصفها الكلمة المختلف عليها.
أرسل بازان من مسكنه البعيد، تحليله المفصل والدقيق لفيلم بريسون «يوميات قس في الأرياف» لينشر في العدد الثالث من «كاييه دو سينما». نشر للجمهور بالتزامن مع صدور مقال «المسرح والسينما: الجزء الأول» في مجلة «إسبري». كان كلا جزئي المقال الأخير منشورين في أعداد تتضمن مقالات كتبها ريكور، وكذلك عبارات رئيسية بقلم رئيس تحرير «إسبري» الجديد، ألبير بيجوين.
18
لا بد أن بازان أعد مقال «المسرح والسينما» بدقة شديدة، موجها إياه لجمهور متعلم، كرس وقته للفنون الجادة. وفي العام التالي، استهدف مقال «من أجل سينما مشوبة»، الموجه كذلك إلى النخبة، أن يوضح للمرة الأخيرة وعلى نحو حاسم، أن السينما هي الوريث للإرث والوظيفة الأدبيين.
لم يكن بازان يدري أن معضلة «لا نقاء» السينما الأساسية قد نوقشت في اليابان على نحو مفيد. هناك، قبل عام 1920 وبعده مباشرة، كان هناك شيء يسمى صراحة «حركة الأفلام النقية»، وكانت تهدف للانقلاب على النموذج المسرحي الذي يسخف من السينما الذي كان يتبعه المنتجون في اليابان من البداية. كانت كلمة «نقية» تعني «سينمائية»: الفيلم السينمائي الخالص يتكشف للجمهور دون تعليق صوتي مصاحب من قبل «بنشي» (معلق على فيلم صامت)، وبلا فواصل معنونة؛ حيث يجب تصوير الصور ووضعها في تتابع بطريقة تطور القصص وتولد المشاعر بذاتها. ومما يثير الاندهاش، أن هذه الحركة كان يدفعها الروائيون، ومما يثير الاندهاش بالقدر نفسه، بل التناقض، أن هؤلاء المتعلمين سعوا لوضع السينما اليابانية على الخريطة بتقليد النماذج الغربية. لذا فإن مستقبل السينما اليابانية كان يراد له أن يكون نقيا، ويابانيا على نحو نقي، ولكن فقط بمجهود الروائيين والأفكار الأوروبية.
بعد فناء تلك الحركة، كما يبدو، أنجزت أفكارها على نحو كبير في «فيلم نقي» شهير عام 1926 باسم «صفحة من الجنون» («إ بيدج أوف مادنس») وهو تجميع لصور ذهنية تتوالى بلا تفسير.
19
على نحو عرضي، هذه «الصفحة» كتبها أحد أفضل كتاب النثر في القرن العشرين، أحرز جائزة نوبل لاحقا، وهو ياسوناري كاواباتا. هل أدرك أي شخص المفارقة التي تدين بها شخصية الفيلم السينمائي على نحو خالص لكاتب شهير ولصفحات من سيناريو عرضت على الشاشة؟ هذا بالضبط هو نوع الديناميات التي عرف بازان بعد ذلك بخمسة وعشرين عاما كيف يسجلها ويبدأ بقياسها؛ وكان من شأنه أن يمتدح كذلك استعداد السينما (التي كانت لا تزال ناشئة) لأن ترث وظيفة «الرواية»، بما قد يسمح للأدب باتخاذ أنماط ومهمات أخرى. الواقع أنه كان يعتقد أنه ليس هناك سبب لإنكار فضل ثقافة تختلط فيها معظم الأعمال ومعظم الوسائط بقدر كبير.
والواقع أن «صفحة من الجنون» الذي ظهر قبل فيلم «مغني الجاز» («ذا جاز سينجر»؛ كروسلاند، 1927) بعام واحد، أوضح أنه يمكن للسينما المضي في المستقبل بصحبة الصوت واللغة خاصة، على نحو ما. رأينا أن روجيه لينارت كان أول ناقد سينمائي يشير إلى فعالية الشكل الهجين عندما جرؤ على تدنيس نقاء «الصور الشفافة» الثمين لصالح الكتل الصلبة من الصوت والصورة التي كان سعيدا بتسميتها «لقطات» عن طيب خاطر. ومن هنا خرج للنور نمط الفكر الذي أدى لظهور بازان و«كاييه دو سينما». اجتذب لينارت إعجاب إريك رومير وتلامذته الشباب خصوصا: «لقد وصلنا تقريبا إلى النقطة التي نتخذ فيها شعارا لنا تفضيل ... روجيه لينارت ... للأفلام التي يمكن للمرء أن يقول عنها: «هذه ليست سينما.»»
20
دعم كلا الرجلين السينما بوصفها فن الواقع، الموضوع في اتجاه مضاد لما يسمى «الفنون الجميلة». وكما ستوضحه بجلاء مسيرة رومير لاحقا، فما من شيء يمكن أن يكون شيء أكثر سينمائية من البشر الذين يتحدث بعضهم إلى بعض في لقطة سينمائية مقربة. نادرا ما يضيف رومير موسيقى، أو مؤثرات صوتية، أو زينة تصويرية لأفلامه. ينبثق الجمال - وهذا ما كان رومير ينشده بصراحة - من الناس والأشياء كما يصورون ويشاهدون، وليس من البناء الفني للصورة. في يونيو 1949، كتب في صحيفة «كومبا»:
دعوا أولئك الذين ما زالوا ينعون خسارة نقاء [سينمائي] متخيل يفعلون ما يشاءون بهذا السر: بتجريدها من أكثر القوى الاعتيادية للتعبير، وهي اللغة، فإن الشخصيات في الأفلام الصامتة أجادت صنع طريقة مثالية لإدخالنا في قلوبهم. أصبح كل شيء علامة أو رمزا. وبشعور المشاهد بالإطراء بامتداحهم لذكائه، عمل المشاهد على أن يفهم ونسي أن يرى. أما الآن، فينبغي على الشاشة، وقد تحررت من هذه المهمة الدخيلة منذ ابتكار السينما الناطقة، الرجوع إلى دورها الحقيقي، وهو أن تعرض، لا أن تلقن. في الأفلام الناطقة، المظهر هو الروح، وهو يضفي على نفسه جوهر عالم داخلي، عالم هو فيه التجسد، وليس العلامة.
21
في الشهر نفسه، في مجلة «لي توم مودرن»، أنقص رومير من قدر التماس الدلالة من خلال «مطاوعة الصورة أو طقوس التحرير»؛ لأن هذا يتبنى مهمة تنتمي بشكل ملائم للرسم والموسيقى والشعر. أما السينما، التي لا تؤسس على تجريدات الصورة، ولكن على كثافة اللقطات، فينبغي أن تستعير «من الفن الوحيد الذي هو، مثل السينما، تنسيق لعناصر المشهد وكتابة في آن واحد، وهو الرواية. ومثل بلزاك أو دوستويفسكي، اللذين يثبت احتقارهما لتنقية التعبيرات أن الرواية لا تكتب بالكلمات ولكن بكائنات وأشياء من العالم؛ فالمخرج-الكاتب المستقبلي سيعرف فرحة العثور على أسلوبه داخل نسيج العالم الواقعي.»
22
يتخذ رومير على سبيل المثال فيلمين كان من المقرر عرضهما في الشهر التالي في «مهرجان الأفلام المنبوذة»، وهما فيلم ويلز «آل أمبرسون الأجلاء»، وفيلم بريسون «سيدات غابة بولونيا»، وكلاهما مستمد من رواية. في كلا المثالين، يستوعب أسلوب سينمائي منضبط (بمعنى يشمل) ما يمكن أن يعرف جزئيا فقط: التباسات اللغة، والخواص الخفية للأشياء والشخصيات، والطبيعة التعبيرية لمسرح الحدث. يرى المشاهد مباشرة ما التقطته هذه الأفلام، حتى لو ظل الكثير خفيا؛ لأنه باطني أو خارج المشهد.
ستترك لبازان مهمة تحديد ما صاغه رومير على نحو تجريدي للغاية، وفعل هذا أيضا فيما يتعلق بفيلم «سيدات غابة بولونيا» لبريسون. في جملة أبرزها مترجمه حينما قدم بازان لأول مرة إلى قراء الإنجليزية، كتب بازان إن بريسون وصل لذروة التعبير السينمائي في مشهد «كان صوت ممسحة زجاج سيارة على خلفية صفحة أحد أعمال ديدرو هو كل ما يلزم لتحويله إلى حوار يشبه مسرحيات راسين.»
23
يقول بازان إن الأصوات المحيطية تضاد الدراما المنطوقة، مشتتة انتباهنا، بل إنهما يتنافسان على انتباهنا. مثل هذه الأصوات، المفارقة لزمن حكاية ديدرو التي هي أساس الحبكة، والتي تتقاطع أغراضها من الناحية الجمالية مع مواءمة ترتقي إلى تجريد التراجيديا الكلاسيكية، هي «أجسام أجنبية محايدة مثل حبة رمل تدخل آلة وتعطلها.»
24
مثل هذا «التعطل» في الأدب الذي تحدثه تكنولوجيا السينما ربما يبدو أنه يدنس كلا الوسيطين؛ ومع ذلك، اعتبر بازان أن هذا «كما يؤكد الغبار شفافية الماس» هو «اللانقاء في أنقى صوره»، حالة سامية للسينما أيا ما قد تكنه السينما.
لذا، في عام 1953، حين رفع كثير من المساهمين في كتاب «سبع سنوات من السينما الفرنسية» قدر بريسون بوصفه طلائعيا لا يساوم - ومخرج فرنسا الرائد في فترة ما بعد الحرب - لم يفعلوا هذا على الرغم من حقيقة أنه كان يقتبس الروايات، ولكن بسبب هذه الحقيقة.
25
برزت كلمات الموديلات البشرية التي تجسد تصميم الرواية، وإيماءاتهم في مسرح الحدث المادي؛ وهذا هو أساس «التصوير السينمائي» عند بريسون. كان بازان متأكدا أن هذا يفعل أكثر من مجرد تحديث الرواية؛ فهو يسكن ما هو أدبي في العالم. ربما توجد الكتب في المكتبات، لكن «ما هو أدبي» يوجد فقط في صورة كتابة وقراءة في الفضاء الذهني أو الروحي. يمكن أن تنفتح السينما على هذا الفضاء وتكون الأفضل له.
استنتج بازان هذه الأفكار بينما كان فرانسوا تروفو يعيش في منزله. وبما أن الشاب المتحمس للسينما يحمل هذا الشغف بالروايات، وذلك البغض للحالة السائدة للسينما الفرنسية، فقد كان حتميا أن يناقشا المواءمة الأدبية. في العدد الحادي والثلاثين من «كاييه دو سينما» بتاريخ يناير 1954، على خلفية الأيام المملة الخالية من الأحداث للجمهورية الرابعة، ظهر مقال تروفو الانفعالي النابع من هذه المحادثات تحت عنوان «نزعة سائدة في السينما الفرنسية». وفيما يمكن رؤيته على أنه بدايات انقلاب للسيطرة على السينما الفرنسية، عصف مقال تروفو بأسس مؤسسة السينما، وأثار صرخة غضب وألم فورية ردا عليه. يمكنكم الشعور بهذا في المزاج اللاذع للمقال، حتى بعد أن لطفه محررا المجلة اليقظان، بازان ودونيول فالكروز. بالنظر للماضي، تتجلى كراهية «كاييه» تجاه المسئولين عن صحة فرنسا السينماتوغرافية من العدد الأول في عام 1951، لكن لم يتوقع أحد القسوة الصريحة التي كانت تميز «نزعة سائدة في السينما الفرنسية»، وهو مقال إرهابي مصمم للتشويه والإهانة، وليس لتغيير السلوك من خلال كياسة النقد الخالص.
مع ادخار بريسون لوقت اللزوم، هاجم تروفو بجرأة معقل السينما الفرنسية، قلعة «الأدب». في أول اتهام يوجهه لها، ادعى تروفو أن عشرات من المخرجين وثلة من كتاب السيناريو المسيطرين على السينما الفرنسية خانوا تطلعات الشكل الفني لأنهم من البداية خانوا التقليد الأدبي الذي يفترض أنهم رأوا أنفسهم يتطورون منه. حقا، ازدهرت «سينما الجودة» على أساس اقتباسات لروايات كتبها زولا وستيندال وبلزاك وفلوبير وجيد وراديجيه وكوليت. حتى تلك الإنتاجات التي كانت رسميا «سيناريوهات أصلية» يمكن القول إنها كانت تعرض الحوار الأدبي، وذلك النوع المنحوت بعناية من مواقع التصوير والأزياء والتمثيل، الذي كان الفرنسيون يقرنونه بالذوق الرفيع. لكن تصور الأدب الذي يعززه «أسلوب الجودة» كان في نظر «كاييه دو سينما» صبيانيا، ومتملقا، ومدمرا لكلا الوسيطين الأدبي والسينمائي. كتب تروفو: «لا أعتبر أي اقتباس ذا قيمة إلا حينما يكتبه «رجل سينما». أورونش وبوس (وهما كاتبا السيناريو اللذان كانا مهندسي الطريقة الكلاسيكية) أديبان من حيث الأساس، وألومهما هنا على ازدرائهما للسينما ببخس حقها. هما يتصرفان، فيما يتعلق بالسيناريو، كما لو كانا يعيدان تأديب شاب جانح بالعثور على وظيفة له.»
كان من السهل لتروفو السخرية من ذرائع هذا الأسلوب، وكان من الأسهل له إثبات أن هذه «الاقتباسات» زائفة. ففي النهاية، كيف أمكن لفيلم جون ديلانوي «السيمفونية الرعوية» («لا سيمفوني باستورال»، 1946) المقتبس من رواية أندريه جيد القصيرة الرائعة في القرن التاسع عشر أن يخرج للنور مشابها تماما فيلم كريستيان جاك «بيت مستأجر في بارما» («لا شارتوز دو بارما»، 1948) المقتبس من رواية ستيندال المستفيضة؟ اختزلت عملية صناعية ما هذه المصادر الأدبية المختلفة إلى تمثيلات سينمائية محايدة. هاجم تروفو مهارة الكتاب إلى جانب العمل الذليل الروتيني لمخرجين شبه تجاريين كانوا راضين عن تقديم ما اختزل إلى نصوص سينمائية تقليدية، وشغلها بممثلين معروفين حسني التأنق.
رغم أنه لم يستخدم هذا المصطلح في وقته، كان ترفو يهدف للترويج ل «أسلوب كتابة» سينمائي قوي. ربما كان «نظام الجودة» يمني نفسه بأنه الوريث المباشر لمؤسسة الأدب الجليلة، لكن، بوصفه هو نفسه مؤسسة، مؤسسة متعجرفة، فقد أسهم في تثبيط طاقة الكتابة الحقيقية وإبداعيتها؛ ولا شيء سوى جهد كتابي مميز يجعل عملا أدبيا جديرا بالاقتباس في المقام الأول. انتقل ولاء تروفو إلى سينمائيين أفراد كان فخورا بتسميتهم «مخرجين أصلاء»؛ مثل: جون رينوار وجاك تاتي وجون كوكتو، وخصوصا روبير بريسون، وهم الذين كانت صناعة الأفلام من وجهة نظرهم رمزا ماديا للكتابة.
أوضح بازان هذه النقطة بعينها إذ نشر مقال «من أجل سينما مشوبة»، وكررها عام 1958 في مساهمته في عدد خاص بعنوان «الفيلم والرواية» من مجلة «لا ريفيو دي لتر مودرن» التي تبدأ ب «الموقف النقدي» الذي اتخذه:
ربما لا يكون الأمر الجوهري أن يكون الفيلم «مخلصا» على نحو صارم للرواية. ما يمكن للأدب بالفعل أن يجلبه للسينما ليس مستودعا للموضوعات المهمة بقدر ما هو إحساس بماهية «الحكي». وما يهم هو فصل الفيلم عن «المشاهدة» حتى يمكنه في النهاية التواصل مع «الكتابة». من وجهة النظر هذه، ليست أعمال مثل «السيد ريبوا» («مسيو ريبوا»)، أو «الستارة القرمزية» («لا ريدو كراموازي») ... أو «صباح الخير أيتها التعاسة» («بونجور تريستيس») الذي صدر مؤخرا، قصصا «ممثلة» [تصميم مشاهد]، ولكنها أعمال «مكتوبة» بالكاميرا والممثلين. وسواء أكانت تتضمن اقتباسات أم لا، فمن الواضح أنه، بهذا المعنى، ينبغي أن ننتظر ونأمل الإحلال الأصيل للسينما محل الرواية.
26
قبل أن يختتم تروفو مقاله، ولكي يهزم العدو، أشهر سلاحه، فيلم «يوميات قس في الأرياف»، أفضل اقتباس عرفه، وهو اقتباس حافل بأمثلة تعبيرية رائعة للكتابة السينمائية. أبرز تروفو مشهد الاعتراف، الشهير في فيلم بريسون؛ حيث لم يغير بريسون الحوار ولا السياق؛ بدلا من ذلك، مرر تيارا سينمائيا قويا لشحن ما هو في الكتاب بالفعل: شخصية تخرج بالتدريج من الظل، تلمع عيناها بتحد وغضب. في السيناريو الذي سبق أن عرضه بيير بوس في البداية على بيرنانوس، عولج هذا المشهد نفسه بكامله، وحول إلى فرجة. ربما كانت نسخة «الجودة» ذات طابع «سينمائي» للغاية، لكنها لم تكن معبرة عن برنانوس ولا سينما حقيقية؛ ولذا رفض كما يوضح تروفو شامتا. بمصطلحات سارتر حينئذ، كانت نسخة بريسون «أصيلة» بينما كانت نسخة بوس زائفة بوضوح.
أصبح مقال تروفو فورا معيارا للإخراج الأصيل المتوثب الذي ميز ثقافة السينما الفرنسية لما تبقى من عقد الخمسينيات وخلال عهد «الموجة الجديدة». انتزعت الحداثة السينمائية، باتخاذها من «الكاميرا-القلم» مجازا تعريفيا لها، السلطة من أيدي كتاب السيناريو ومنتجي الاستوديوهات، ونقلتها إلى أيدي السينمائيين. كان التوقيت مثاليا؛ لأنه في تلك اللحظة بالتحديد، أصبحت أولوية «المخرج الأصيل» (
auteur ) مركز النقاشات التي كانت تعقد في نوادي السينما والمجلات. وبتحولها إلى عقيدة تقريبا في «كاييه»، بدت سياسة المخرج الأصيل ضرورية من أجل نضج الشكل الفني. وإذ كان جودار يكتب مثل تروفو في الدوريتين نفسيهما - «كاييه دو سينما» و«آرت» - فإنه رفع مخرجيه المفضلين على أكتاف كتاب عظماء (فيلم نيكولاس راي ««انتصار بطعم الهزيمة» [بتر فيكتوري] هو أشبه بفيلم «فلهلم مايستر» (1958) ... أكثر الأفلام المصبوغة بروح جوته»، وجوزيف مانكيفيتس هو إعادة تجسيد لجون جيرودو ... إلخ).
27
كان جودار واثقا بأن كتاب ذلك الوقت الذين يشبهون ستيندال سيخرجون لصنع الأفلام. ففي النهاية، السينما مثل الأدب «ليست حرفة، إنها فن. لا تعني عملا جماعيا. دائما ما يكون المرء وحيدا في موقع التصوير كما لو كان أمام صفحة بيضاء. وتعني الوحدة طرح أسئلة، ويعني صنع الأفلام الإجابة عن تلك الأسئلة. لا شيء يمكن أن يكون أكثر رومانسية من هذا من وجهة نظر كلاسيكية.»
عند هذه النقطة، احتج بازان، وعارض متبعيه الشباب. على الرغم من أنه كان يصرح علنا بأن صانع الفيلم «في النهاية هو ند الروائي»؛
28
فإن اهتمامه بالوثائقيات دفع التأليف إلى هوامش اهتمامه النقدي، وفي مرات عدة خارج نطاق الاهتمام بالكامل. ترسخ الوثائقيات اختلاف الوسيط السينمائي عن الفنون التقليدية؛ لأنها تمتلك القدرة على تقليص مكان الإنسان في عالم يظهر أحيانا مرتبا بعناية إلهية، وأحيانا أخرى لا مباليا وعشوائيا. تتبع بازان مصير الخيال والرغبة في أعمال صناع الأفلام الذين كرسوا أنفسهم لشيء ما وراء أنفسهم؛ ما وراء نوعهم البيولوجي؛ شيء أشار بازان إليه على نحو غامض بأنه «زمن الشيء».
29
أدرك تروفو الذي كان لا يستسيغ الوثائقيات، أن انجذاب بازان إلى «الموضوعات» العصية على التصوير يمكن أن يسري على الأفلام الروائية كذلك، وأن صناع الأفلام يمكن أن يخضعوا لما هو أمامهم بدلا من «إخراجه». في فيلم «سترومبولي» (1950)، تحدق كاميرا روسيليني غير فاهمة في جبل ورواسبه البركانية، مثلما تفعل إنجريد برجمان إذ تسقط على ركبتيها عاجزة على قمة البركان. هذه الروح الواقعية الجديدة تجلب أحيانا الخلفية في وسط المسرح ليطغى وجودها على الشخصيات (كما حدث في نهاية فيلم «الكسوف»، «ليكليس»؛ أنطونيوني، 1962). على الرغم من ذلك، وفي أغلب الأحوال، يصبح البشر (لا مجرد الشخصيات المكتوبة) الذين يملئون أفلامهم الروائية، هم «موضوعات» صانع الفيلم الواقعي الجديد. بانسحابه من دور «المخرج»، يستكشف روسيليني ملامح وجه البطلة ومشيتها وصوتها وإيماءاتها (إنجريد برجمان، وآنا مانياني)، أو ممثلا غير محترف اختاره من السكان المحليين. وسواء أكان البشر متحجرين أم طيعين، فهم لا يحتاجون حينما يظهرون على الشاشة، أن يكونوا وكلاء لخيال كاتب النص السينمائي أو المخرج. في نعي بازان الجميل لهمفري بوجارت، عزا إلى الشخص المكون من لحم ودم النجاح في كثير من الأفلام التي مثل فيها. ورغم أنه لا يمكن إنكار أن المخرجين الذين صوروا وجهه وصوته وتصرفاته، استفادوا منه استفادة إبداعية في الحكايات المتخيلة التي اختلقوها، فإن بوجارت يفتننا (وفتن أكثر أولئك السينمائيين حساسية) على نحو يتعدى أدواره.
30
شارك جودار بازان حساسيته للشد والجذب بين الروائي والوثائقي. إذا كان فيلم «السادة المجانين» يوثق طقسا تسيطر فيه الأدوار على الرجال، فإن إنجاز روش التالي، «أنا الزنجي» (موا آن نوار)، يذهب لما هو أبعد من هذا. في هذا الفيلم، المفضل لجودار من إنتاج عام 1958 (الذي منع الموت بازان من مشاهدته)، سلم «المخرج» السيطرة التأليفية إلى من يبدون أنهم هم «موضوعات» الفيلم. هؤلاء الشباب العاطلون عن العمل في أحياء أبيدجان الفقيرة يختارون أسماء نجوم (إيدي كونستانتين ودوروثي لامور)، ويحكون قصصهم. يتبعهم روش أكثر مما يوجههم، بينما يجمع ما يمكن أن يستأهل أن يطلق عليه فيلمه.
تدحض هذه الأمثلة فكرة الإخراج الأصيل، وكان بازان مستعدا لتوسيع نطاق هذا التناقض.
31
أكيد أن كتابه عن ويلز، فضلا عن مقالاته عن تشابلن وبونويل ورينوار، أثار تابعيه للإعلان عن بدء عصر جديد يتساوى فيه صناع الأفلام بالفعل مع الروائيين. لكن بازان لام هؤلاء التابعين صراحة بسبب إهمالهم أو تشويههم كثيرا من القوى التي تنتج فيلما أو تؤثر فيه، بعضها يمكن إدراجه في شارات البداية والنهاية (الكتاب والممثلين والمصورين السينمائيين)؛ وبعضها يبقى محددات تاريخية ضمنية (الرقابة والعوامل الاقتصادية والأعراف الاجتماعية، وغير ذلك). ربما يكون الشعراء، والروائيون، والرسامون مسئولين بقدر كبير عما يظهر في أعمالهم المكتملة، لكن المخرج لا يمتلك مثل هذه السيطرة على فيلم لا مفر من أن يقدم نمط إنتاجه الصناعي خللا في النظام. كان بازان دائما متيقظا للعوامل غير المقصودة وغير الواعية. وأشاد بالأفلام التي يختفي فيها المخرج؛ ففي نهاية المطاف، كان بازان مبهورا في أكثر المستويات أساسية بالصورة الفوتوغرافية «في صنع ما لا يلعب الإنسان فيه دورا.» وكانت هذه هي وجهة النظر التي كان مستعدا لتبنيها حتى حينما كان الموضوع رواية.
ولذا دعم بازان مقال تروفو الشهير بالتأكيد، لكن ليس بسبب أنه يجعل صناع الأفلام حكاما لعوالم خيالية. إنما وافق على الأسلوب الذي يطالب به مقال تروفو بأن تتناول السينما الروايات القوية بعناية. يجب على صناع الأفلام استكشاف الروايات كما لو كانت أرضا خيالية؛ صلبة وكثيفة مثل النيجر في عمل روش، ونابولي في عمل روسيليني. يجب على أي اقتباس واع أن يبحث عن وسائل جديدة لإبراز الجوانب المميزة في الكتاب الذي وقع الاختيار عليه؛ ففي النهاية، يكون أي كتاب مثيرا للاهتمام فقط بسبب «تميزه». انسوا السينما، وانسوا المخرج الأصيل. فيما يتعلق بالاقتباس، كانت الرواية التي اهتم بها بازان هي الرواية التي تمثل نوعا من الزمان الجامد المعقد الذي يجذب السينما الحديثة؛ الرواية التي تمثل موضوعا لن تقدر السينما أبدا على تجسيده تماما رغم أنها ستحاول هذا أثناء نضوجها.
بالمقابل، تشمل السينما هيتشكوك، سيد التحكم في الأفلام، وأحد معبودي تروفو.
الشارة والمخرجون الأصلاء: بيئة للاقتباس
انجذب بازان بوضوح إلى الحدود القصوى في خمسينيات القرن العشرين، وهو عقد اعتبر فاترا بوجه عام. وليس مفاجئا أنه كان يدعم الوثائقيات الإثنوغرافية، وأنه كان مهتما بالأفلام الروائية التي تنتمي للواقعية الجديدة، والتي يظهر فيها شيء لم يكتب في النص بطريقة مثيرة خلال المشاهدة السينمائية. كان دعمه للاقتباسات أصعب على الفهم؛ حيث يجب أن يسيطر النص والتخطيط على مجريات الأمور. لكن فيلم «يوميات قس في الأرياف» جعله يدرك أنه حتى في حالة الاقتباس فإن لغة الروايات القوية ومواقفها يمكن أن تكون بمنزلة موضوع غريب غرابة الحيوانات الوحشية، أو التضاريس النائية، أو الجماعات الاجتماعية الأجنبية. لكن أين تقع الصنعة السينمائية إذا؟ ويتصل بذلك السؤال: من يستحق أن ننسب الفضل إليه فيما نقدره على الشاشة؟
أجاب نقاد «كاييه» عن هذا السؤال بسرعة: في الأفلام ذات الشأن، المخرج الأصيل هو وحده المسئول. هذا الوضع هو ابتذال لمبادئ سارتر الأخلاقية الوجودية التي يكون فيها اتصال المؤلف بنصه رمزا للمسئولية، وهو ما ينطبق على كل منا إذ نصنع حيواتنا. لكن بازان - الذي لم يبتعد قط عن هموم سارتر وإن كان نادرا ما يتناغم معه - عرض رؤية تقترب من مذهب ما بعد الإنسانية في عصرنا الحالي. يلمح بازان إلى أن روسيليني لا يقدم عالمه الشخصي الخاص، ولكن عالما ينتمي للتاريخ (أو للرب)، بنفس الطريقة التي يعطينا بها نيكولاس راي أو جون هيوستن منفذا إلى إحساس بوجارت، ويتيح لنا بريسون الشعور من خلالها ببرنانوس. ربما يكون بازان يستفزنا، حيث يرى أيضا أن المخرجين «يصفون» ما يسمحون بظهوره على الشاشة؛ ومع ذلك، ولكونه سرياليا أكثر منه سارتريا، فهو يعتبر المؤلف ناقلا لشيء خارج ذاته يتواصل معه. ألا يمكننا تسمية التسجيل التكنولوجي البسيط للضوء على الصفائح الفوتوغرافية نوعا من «الكتابة الأوتوماتيكية»؟ ربما تدرك الأفلام وتخرج من قبل كائنات بشرية لها أسماء مناسبة، لكن ما نراه على الشاشة ، وخصوصا في أكثر اللحظات إثارة، يمكن أن يتجاوز الإدراك والإخراج. لذا، قبل أن يكون فيلما لجون هيوستن، يقدم «الملكة الأفريقية» («ذي أفريكان كوين»، 1951) الحضور المبهج الذي تمتع به همفري بوجارت، وكاريزماه وأصالته. أدرك بازان بشكل يتجاوز هذا - أو على الأحرى، من تحت هذا - شيئا آخر يحدث في شريط السيليولويد، وهو الآثار التي ينتجها الضوء المنعكس من على وجه مألوف ولكنه فان ... التذكير الدائم والمرئي بغياب بوجارت وموته الحتمي.
ولذا، لمن ولماذا يمكننا نسبة دلالة الصور وأهميتها؟ هل نذكر فضل جون كاسافيتز في الاستعانة بممثلين مبدعين في فيلم «الظلال» («شادوز»، 1959)، بما أن تعبيراتهم التلقائية تجسد الفيلم حقا؟ وماذا عن العزف المنفرد الشهير لموسيقار الجاز، تشارلز مينجس، في الفيلم؟ بارتجاله وهو يشاهد نسخة أولية، هل صاحب هذا العازف الفذ «فيلما لجون كاسافيتز» وتممه بالأسلوب ذاته المشابه ل «أداءات» تلك الأفلام الصامتة؟ أم ينبغي أن نقول إن كاسافيتز أدخل بوق مينجس الآسر وسط نسق متكامل للأصوات والصور التي يأتي «توجيههم» الحاسم منه، أي المخرج، وحده؟
بحدود الوقت الذي كان كاسافيتز يعد فيه فيلم «الظلال»، وكان بازان يكون أعماله المجمعة، كتب رينيه كلير تقريرا عن تاريخ الشارات ومشكلتها.
32
يوسع طول الشارات المتزايد باستمرار (الذي لا يقتصر الآن على ما يسمى الطاقم الإبداعي، ولكن يشمل كل نظام الدعم الصناعي، وصولا إلى متعهدي الأطعمة) من مسئولية إنتاج أي فيلم، ويسخر من ادعائه بأنه فن. أراد كلير شارات أفلام مختزلة إلى ما يجذب المشاهد أو يساعده، وأن تكون بمنزلة البطاقة البسيطة التي توضع أسفل اللوحات في المتاحف. بدلا من ذلك، تحاكي الشارات الكتيب الذي يوزع في دور الأوبرا مفصلا «توزيع» الأدوار في استعراض معين، بالإضافة إلى الطاقم الإبداعي (وإن لم يكن يشمل عمال المسرح).
يشتهر كلير في مسيرته الإخراجية، بالتنظيم والتوجيه لكل بند محتمل يمكن أن يساهم في الإحساس ب «أفلامه». أدرك كلير أن الشارات، بوصفها مرشدا إلى إيقاع الفيلم ومزاجه، حينما تعرض، تبطئ من الصور المتحركة وتلوثها بالكلمات. ولأنها تأتي، كقاعدة، في بداية انطلاق الصور والأصوات ، فالمقصود منها هو تهيئة المشاهد لما سيأتي بعدها. يحضر في هذه اللحظة أمل لا نهاية له حينما تضيء الشاشة ويسمع أول ألحان الموسيقى التصويرية، ومن هنا يأتي الانتباه والمال اللذان وجها إلى مشاهد ما قبل شارة البداية، وإلى شارة البداية كذلك، التي يكلف بصنع صورها ورسوماتها اختصاصي، الطاهي المساعد (يذكر اسمه كذلك في الشارة) يمتلك خيالا خاصا. ثم يأتي بعد ذلك أول مشاهد الفيلم الدرامية؛ حيث يكون المخرج والمصور حرين على نحو لن يتكرر مرة أخرى خلال الفيلم.
يتعلم دراسو السينما مشاهدة أول 20 دقيقة من أي فيلم بتيقظ؛ لأنه في تلك الفترة تنطلق تجربة، وتبدأ في العثور على مسار تحليقها. تخيلوا هذه المرحلة المبكرة وكأنها حركة عشوائية مجرية تضبط نفسها في أنماط منسقة من النجوم والأنظمة الشمسية. تعبر سحب الغبار الكوني، وتصادمات الأجرام السماوية، وتفجر اللهيب غير المتوقع عن طاقة أولية قوية لدرجة تمكنها من الحفاظ على حركة هذه الأجسام حتى نهاية الزمن - بعد ساعتين. بمصطلحات فرويد، اللحظات الأولى مليئة بالتكثيف الخاص بالأحلام والإزاحة والتخيل الأولي. بعد قليل، لا بد أن تدخل هذه اللحظات في نطاق «التفصيل الثانوي»، ثم تخرج إلى نطاقات التأويل العام المفتوحة.
33
وبشكل متكرر، تبدأ شخصيات الفيلم بتأويله. بعد ذلك، سواء أكنا نقادا متمرسين أم مشاهدين عاديين يبحثون عن ساعتين من الإلهاء، فإننا سندخل ما شاهدناه وفهمناه ضمن ما ندركه ونفهمه، موطنين الفيلم داخلنا بأسهل ما يمكننا. لذا فإن مشاهدة فيلم ما تتبع سيناريو محبطا: يبدأ بالأمل، والاستثارة، والوعد بشيء جديد بالفعل، وينتهي بنا على قارعة الطريق وليس معنا سوى قصة أخرى، عادة ما تكون القصة نفسها، قصة يمكننا التحدث عنها، وتصنيفها، أو نسيانها ببساطة.
وحتى قبل أن تضيء آلة العرض، فإن هذا النزول من المادة الخام المثيرة إلى فهم معالج يمكن إحساسه بمشاهدة ملصقات الأفلام في ردهة دار العرض؛ حيث تحيط الصور الآسرة بالشارة المكتوبة أو تغطيها. ينشط توتر بين هذين الثبتين السيميائيين نطاقين نفسيين مختلفين: الصور التي تؤثر في اللاوعي، والكلمات التي لا تبني المعنى فقط ولكن مصدره أيضا. الشارة التي كانت يوما ما برنامجا لا ورقيا ملائما، تدمج الآن على نحو اعتيادي في التجربة التي يوفرها أي فيلم؛ فهي تمهد لهذه التجربة، وتوجه مشاهدتها وتفسيرها. في التنافس بين اللغة والصورة، تكون الشارة حائطا من الكلمات صمم ليحصر الصور الطافية بحرية، التي لولا ذلك لأخذتنا في اتجاهات عديدة في آن واحد. قد نتوقع، وقد استدرجنا الوعد بمشاهدة عرض ضخم إلى دار العرض، أن نرتد إلى حالة من الدهشة الصامتة. لكن شارة البداية تفيقنا؛ لأنها تعرف الصور، ليس بوصفها قوة طبيعية، ولكن بوصفها خطاب شخص ما.
يعمل شكل الشارة ووظيفتها على التحكم في التجربة السينمائية. إذا كنا نمتلك القدرة، هل سننزع السلطة من المؤلفين الذين يكبحون جماح الصورة، ليوجهوها في الطريق الأيديولوجي المناسب؟ هل يجب ألا نفعل هذا عندما يكون هناك مؤلف رئيسي نحاول الوصول له، أو حينما ينسب الفيلم بمجمله الفضل لمصدر أدبي معروف ويكون الفيلم مدينا له وهو الذي يثير اهتمامنا في المقام الأول؟ إذا عرض كل فيلم في البداية مفاوضة بين حصان وراكبه، بين تدفق الصور والتوجيه الخطابي، فماذا عن الاقتباسات التي يمضي فيها الفيلم نفسه تحت السلطة الملزمة لنص حاكم؟
علامة إشكالية الاقتباس هي توقيع المؤلف الذي ينسخ عادة على الشاشة بصورة طبق الأصل مثل توقيع إميل زولا في فيلم رينوار «الوحش الآدمي» («لا بت ايومين»، 1938). حتى لو أن بضعة أفلام تبدأ اليوم بظهور تدريجي للصورة بشكل مبهر بعد ظلام تام، فإن العنوان والمؤلف في الأعمال المقتبسة المهمة ينشران هالة تحيط الأسماء الأخرى المدرجة في شارة البداية، مؤدية إلى دعم الإنتاج بطريقة غير مباشرة. اسم المؤلف، وهو تنويع على التوقيع، ربما يكون مجرد علامة سطحية، لكنه يتضمن بعدا رابعا، وهو العملية الزمنية التي أخرجت في حالة الاقتباس فيلما كاملا من نص رواية. وبإرسائها على حافة قيمية غاطسة، فإن جميع الأفلام، وخصوصا الأعمال المقتبسة، تطفو إلى جماهيرها وهي مؤمنة بذلك الخط الرفيع للشارة الذي يسمح لنا، أثناء تصديقه على منشئها، بأن نتتبع نسبها .
في حالة الاقتباس، يرجع النسب - علما بأن كلمة «الشارة» (credits)
تسمى «النسب» (générique)
في الفرنسية - إلى مصدر وحيد ثمين، وهو الكتاب الذي هو الأصل، وربما المقياس النهائي للفيلم. وحتى في عصرنا الشكوكي، فإن شريان الحياة هذا - لنسمه الأمانة - لن يقطع بسهولة.
34
الأمانة هي الحبل السري الذي يغذي أحكام المشاهدين العاديين أثناء تعليقهم على القيم الأخلاقية والجمالية على نحو فعال بعد خروجهم من فيلم باز ليرمان «روميو + جولييت» عام 1996، أو فيلم ستيفن سبيلبرج «اللون الأرجواني» («ذا كلر بيربل»، 1985)، أو فيلم مل جيبسون «آلام المسيح» («ذا باشون أوف ذا كريست»، 2004). إذا أصغينا إلى هذه المناقشات، فربما نجد أنفسنا نستمع إلى نسخة عامية من دراسات سيمياء الوسائط المقارنة.
لبعض الوقت، تجاهل الاتجاه الأكاديمي الرائد هذا الاهتمام بالأمانة، أو قلل من شأنه، معتبرا الخيط «الرأسي» الذي يرسي الفيلم على مصدره الأدبي مثيرا للسخط وتقييديا. يجرؤ الدارسون اليوم على فصل الأفلام التي يكتبون عنها عن مرساواتها وتركها تطفو حرة. ولم لا؟ فيما بعد الحداثة، يقيم كل نص، ويتضمن هذا كل اقتباس، على أساس الطريقة التي يهز بها شبكة النصوص المجاورة «الأفقية»، التي لا يعد أي منها «فائقا» بالضرورة، حتى نص الرواية التي تقرض اسمها وحبكتها وشخصياتها لفيلم ما. على العكس، فإن الاقتباس يغذي الدراسات الثقافية، وهي علم ولد لعصر الانتشار الحالي هذا الذي تزيد فيه أهمية الانتشار النصي على التأويل النصي. تستجيب الدراسات الثقافية لإشارة المنتجين الذين يطمحون إلى تضخيم أثر نص ما من خلال الإعلانات، والأجزاء التالية، والتفريعات، والترجمات، و«النسخ» من كل الأنواع.
أظهر بازان مرارا وتكرارا افتتانه بالأسلوب الذي تتغلغل به السينما في آليات الثقافة. أشاد مقال «الاقتباس أو السينما بوصفها خلاصة» - وهو أول نظرة موسعة له للظاهرة - بالانتشار. أشار بازان إلى أن صناعة الاقتباس تزيد من مبيعات النص الأصلي، وتطور ما سعت الفنون دائما إليه وهو أن يكون لها «جمهور». صحيح أنها تفعل هذا عموما بترويض أصل قوي، لكن هذا لا يستلزم تغيير تكوينه . إنها تقلل، مثل «محول» كهربائي، من شدة التيار الصادر من رواية ملتهبة حتى لا تشعل النار في الشاشة؛ لكن الضوء والحرارة ما زالا يصدران من الرواية، حتى لو قلصت حدتها. يقيس المنتجون (المحولون) القدر الذي يمكن أن يحتمله الوسيط السينمائي والجمهور من الرواية الأصلية. كان المثال الذي ذكره بازان هو رواية «الشيطان متجسدا» التي كتبها صديق كوكتو الحميم، رايموند راديجيه، عقب الحرب العالمية الأولى، حينما اعتبرت رواية فاضحة لدرجة أنه لا يمكن اقتباسها لفيلم. ورغم تقليل حدة الرواية من قبل أورونش وبو؛ من أجل اقتباسها للشاشة (الوصول إلى جمهور أعرض) عام 1947، استمرت في إثارة الجدل؛ لأن موضوعها المتعلق بالشهوانية الجنسية الطاغية المتحدي للنزعة الوطنية كان صادما بالقدر نفسه بعد الحرب العالمية الثانية، حتى في جرعتها المخففة.
ثمة مصادر عدة - ماذا يمكننا أن نسميها غير ذلك؟ - عظيمة لدرجة أنه يمكن اقتباسها مرات لا تحصى. هكذا كان شأن رواية «البؤساء» من البداية، وهي ظاهرة كان بازان يذكرها مرارا. في هذه الرواية الجماهيرية التي صدرت في القرن التاسع عشر، لم يكتب فيكتور هوجو فقط لعامة الجماهير؛ بل كان يتوقع أن يقرأها كل إنسان. وهو ما حدث. قرأ الجميع هذا الكتاب. اصطفت الجماهير المتلهفة أمام المحلات الفرنسية لبيع الكتب للحصول على أجزاء الرواية التي صدرت تباعا في أبريل ومايو ويونيو من عام 1862. وصدرت ترجمات الرواية بكثير من اللغات في عام النشر نفسه؛ وربح هوجو ما يقرب من مليوني دولار بقيمة العملة اليوم، من حقوق الترجمات الأولى فقط. لم يسبق أن رأت صناعة النشر شيئا كهذا من قبل، واستغلها الناشرون إلى أقصى حد. واستجابت المبيعات للحملات الإعلانية المرتبطة بإعادات الطباعة والنسخ الفرعية. بيعت خمس ملايين نسخة من أول طبعة باللغة الصينية للرواية. وبوصول الرواية إلى أمريكا خلال حربنا الأهلية، كانت في أوانها تماما لدعم إعلان لينكولن «تحرير العبيد». ومنذ ذلك الحين وهي من أكثر الكتب مبيعا هنا؛ حيث تزيد مبيعاتها كل 20 عاما تقريبا بفضل النسخ الجديدة المقتبسة منها للمسرح والسينما.
أتاحت «البؤساء» نفسها منذ البداية للرسامين ومنتجي المسرح. وبحدود زمن قضية دريفوس، واستجابة للتوترات الاجتماعية، حول تشارلز إبداع أبيه إلى 17 لوحة بنجاح لدرجة أن مديري الفرق المسرحية أصبحوا مستعدين، منذ ذلك الوقت، لإحياء «البؤساء»، لاستغلال مواهب ممثل نجم، أو حمى لحظة سياسية مضطربة. وبالطبع، أحييت لربح المال كذلك - وهو شيء حدث دائما كما يذكرنا عرض «البؤساء» الموسيقي الجولة تلو الجولة.
من وجهة نظر بازان، كانت «البؤساء» بمنزلة خرافة؛ مثل ملحمة «المهابهاراتا»، حيث تجاوزت شخصياتها وحلقاتها تقديمها الأصلي الذي كتبه هوجو. وإذ لحظ نسخها السينمائية التي تعد بالعشرات (ومنها النسخ المصرية والهندية والأمريكية)، ركز بازان على النسخ الفرنسية التي صدرت في أعوام 1913 و1923 و1934 و1957؛ لأن اختلافاتها تشكل قائمة من التحولات في مؤسسة السينما نفسها. عرض فيلم ألبير كابيلاني في صورة مسلسل قبل الحرب العالمية الأولى، بينما صدرت نسخة ريموند برنار في هيئة ثلاثة أفلام كانت تعرض بالتزامن في دور عرض متجاورة عام 1934. وفي عام 1958، قلصت مدة العرض لتصل إلى نحو مائتي دقيقة، فأتاح هذا توزيعها في هيئة سهرة سينمائية واحدة؛ حيث وفرت الألوان والسينما سكوب الرحابة المفقودة في الاختصار. لكن ما هو أكثر من أسلوب العرض تغير على مدار نصف قرن. ترى النسخ الأولى، وخصوصا نسخة عام 1934 العظيمة، أن السينما مساوية لرومانسية هوجو الاجتماعية. وفي ظل فيلم إيبل جانس «نابليون» (1927)، يضخم التمثيل والإضاءة والموسيقى الميلودراما بلا خجل.
35
لكن السينما تطورت منذ الحرب العالمية الثانية، كما يشير بازان مرة أخرى، وتبدو الآن هذه الخرافة والسينما نفسها مقلصتين في فيلم يخفف من قوة التمثيل وتصميم المشهد ليتوافق مع معايير خمسينيات القرن العشرين.
ترى ماذا كان يمكن أن يكون رأي بازان في النسخ الكبرى الأربع التي ظهرت منذ عام 1980؟ كان من شأنه بالتأكيد أن يستغل الفرصة ليتتبع ماذا حدث للسينما في السنوات الفاصلة بين تلك الفترة والثمانينيات؛ لأنه كان دائما مستعدا لتتبع انتشار العناوين والمؤلفين والأفكار من وسيط إلى وسيط، ومن لغة إلى لغة، ومن عصر إلى عصر. في بيئة الثقافة - وبأخذ أكثر معانيها الضمنية الداروينية في الحسبان - يعد الاقتباس أكثر كثيرا من مجرد الممارسة الشائعة لكتاب السيناريو والمنتجين؛ فهو اسم يطلق على عمليات النمو والتحول والضمور «الأفقية» الواضحة داخل ظاهرة تحمل اسما مفردا هو «السينما»، حتى وهي تتغير من أجل البقاء خلال التاريخ. وبصفته مؤرخا وعالما بالبيئة الثقافية، ومولعا بالسينما، كان بازان منتبها لكل جوانب هذه العملية.
الأمانة: اقتصاد الاقتباس
كما يوحي العالم، الاقتباس حالة عامة للكائنات الحية، ومنها الكائنات الثقافية. استقت نسبة كبيرة من الأفلام ال 2500 تقريبا التي كانت تنتج سنويا في زمن بازان مادتها من مصادر موجودة. سارت صناعة السينما على نحو آلي كغيرها من الصناعات، وكلفت قطاع إنشاء قصصها بقطع غابات كاملة من الروايات والمسرحيات لتغذية مناشير تطوير النصوص السينمائية. لكن بازان رأى هذه العملية من منظور عضوي، وخصوصا حينما كانت تتضمن أشجارا كبرى؛ عادة ما كانت هذه «تهضم» لتغذية الثقافة من خلال النظام الدوري الذي يبث الصور إلى دور العرض والجمهور. وبفهم السينما بوصفها نوعا ثقافيا ينمو بين أشكال أخرى وليس بمعزل عنها، فإنها تمتص أو تلقف ما تحتاجه من جيرانها، وغالبا ما تعطي شيئا مرة أخرى لبيئة «حياة الأنواع». يزداد التعقيد حينما يدرك المرء أن الأنواع تتطور بمعدلات مختلفة؛ لذا، إذا كانت السينما ستتولى المهمة التي قامت بها الرواية لمدة طويلة، كما يشير بازان، فهل ستقوم بمهمة بلزاك أم روب-جرييه؟ ناقش بازان مثل هذه المسائل تحديدا مع كلود-إدموند مانيي بينما كانت تكمل كتابها «عصر الرواية الأمريكية: الجماليات الروائية للفيلم بين حربين» (1948). وبينما كانا كلاهما من المخلصين لمالرو، فلا شك أنهما تشربا الكثير من سلف مالرو العظيم، هنري فوسيون، وكتابه «حياة الأنواع» الذي صدر عام 1934.
36
يدرك عدد قليل من العامة، بل عدد قليل من الدارسين، أن الأفلام تزدهر كغابة اقتباس متشابكة ذات أشكال فنية متداخلة، مضاعفة التنوع الحيوي للأعمال الهجينة. بدلا من ذلك، عادة ما ينظر إلى الاقتباس على أنه حقل محاط بأسوار ومزروع بالأفلام المصنوعة من أعمال أدبية شهيرة. هذا الجزء الفرعي من الاقتباس سماه بازان «الترجمات» ليفرق بينه وبين «الخلاصات» الأكثر اعتيادية. ويأتي مع الترجمات مسألة «الأمانة» المشاكسة التي وجد بازان أنها محتومة وقيمة. وعلل هذا بأنه ما دامت الاقتباسات حقيقة من حقائق السينما في هذه المرحلة من تطورها، فإن نضوجها سيتسارع في أي وقت يتاح فيه مصدر نصي مميز يجعل السينما تعيد التفكير في لغتها، وفي الجهد المبذول لتحويل تلك اللغة إلى شكل جديد. ربما يكون الاقتباس أداة تمدد السينما بعيدا وعبر الثقافة، لكن في حالات معينة، يستطيع الاقتباس، بوصفه ترجمة، أن يوقف محرك الصناعة الدائر؛ وبدلا من التحرك بسلاسة عبر الثقافة (الجماهيرية)، تمر الترجمات رأسيا في الماضي الثقافي.
يمكن أن تتسبب سلسلة الأمانة «الرأسية» التي ترسي الاقتباس على صخرة مصدره في أن يبتعد عن أسطول الأفلام الرئيسي الذي ينجرف مع تيار النزعة السائدة. رأى بازان حدوث هذا في فيلم «يوميات قس في الأرياف»، حيث غمر جمهوره بحس وبمنظومة قيم مختلفين. بمثل هذه التدريبات تنمو عضلات السينما؛ لأنها تجاهد مقاومة ما هو أصلي للأنماط المعاصرة.
الأمانة مفهوم يصل بين مجموعتي اهتمام بازان (ومسيرته): اهتمامه بوجود السينما، وبما أصررت أنا على تسميته نشوءها. يأتي ذكر الأمانة صراحة قرب نهاية دفاعه عن السينما المشوبة، حينما يربط بين الواقعية والاقتباس على نحو يسمح لنا بتخيل نظرية مجال موحدة محتملة للسينما:
كان يجب على التعبير السينمائي تحقيق نوع من التقدم الذي نجده في الأجهزة البصرية ليحقق درجة عالية من الأمانة الجمالية. المسافة بين نظرية «الفيلم الأدبي» وفيلم «هاملت» [أوليفييه، 1948] كبيرة مثل المسافة بين ظهور عدسة الفانوس السحري المكثفة البدائية ومجموعة العدسات المعقدة في السينما الحديثة. مع ذلك، فإن التعقيد المدهش في هذه الأمانة له هدف وحيد هو التعويض عن التشوهات والانحرافات والتشتتات والانعكاسات الناتجة عن العدسة؛ بمعنى آخر جعل الكاميرا موضوعية قدر الإمكان. على مستوى جمالي، يستلزم [الاقتباس] علم أمانة قابل لمقارنته بعلم المصور السينماتوغرافي.
37
يحدث التطور في «التعبير السينماتوغرافي» من خلال «الترجمة» لأن الترجمة تستلزم الاستكشاف أو الخلق للتكافؤات داخل نظامين لغويين. لا يتطلب عمل أصلي ثمين إحلالا آليا للعناصر، ولكن تقريبا ل «روح» مكافئة، أو - كما قال بازان عن ترجمة بريسون لرواية برنانوس: «احتراما إبداعيا مستمرا لمصدره.»
38
فهم ديفيد لين أن المشاهدين توقعوا أن يكون فيلمه المميز «آمال عظيمة» («جريت إكسبكتيشنز»، 1946) قريبا من رواية ديكنز، بالطريقة نفسها التي يتوقع بها هذا قراء هذه الرواية المحبوبة في السويد أو بولندا. يناقش أحد منظري الترجمة المعاصرين، وهو لورانس فينوتي، اقتباس الأفلام باستبعاده من البداية فكرة أن اللغات المختلفة (شفهية أم سمع-مرئية) يمكنها توصيل المحتوى نفسه (الحبكة والشخصية والموضوع والقيمة). ويؤمن بأن ما يحدث هو أن النص الأصلي يقدم من خلال وسيط «مفسر» (أو شبكة أيديولوجية) في طريقه ليصبح نصا جديدا أو مقتبسا.
39
يتحكم المفسر في الاختيارات المتخذة أثناء الاقتباس. بدلا من النقل الميكانيكي من نظام سيميائي إلى آخر، يفسر صانع الفيلم المصدر عبر شكل سمع-مرئي يتضمن كذلك التوجهات والاهتمامات المستحضرة إلى المشروع. يكمل هذا رؤية بازان في أنه لا يغفل المسافة الزمانية والثقافية للنص الأصلي والترجمة، وليس فقط المسافة بين النظامين اللغويين. حينما يفرز فينوتي «المفسرين» المتعددين العاملين في لحظتي الإبداع، يكون تقييمه حساسا للقيم الثقافية وليس فقط للقيم السيميائية؛ ولذا فمن شأنه بالفعل أن يتضمن بعدا أفقيا ورأسيا بالمثل؛ حيث إن كل اقتباس يحدث داخل «أفق» من القيم المعاصرة، شاملا نصوصا أخرى داخل مجال صانع الفيلم والجمهور المستهدف. في مثاله الرئيسي، المحتفى به والمثير للجدل، وهو فيلم «روميو وجولييت» (1968)، يمكن القول إن شكسبير كان له دور في انتشار القلق من الازدواجية الجنسية وسط شباب الهيبيز في ستينيات القرن العشرين؛ حيث سجل مخرج الفيلم الإيطالي، فرانكو زيفيرلي، دلالات لم ينتبه لها من قبل في النص الأصلي، وضخمها. نمت مسرحية شكسبير من خلال تفسير سينمائي ربما يدين بشيء ما لأفلام أخرى حادة من الناحيتين النفسية والأسلوبية في تلك الفترة، مثل فيلم آرثر بين «بوني وكلايد» (1967)، وفيلم ماركو بيلوكيو «قبضات في الجيب» («فيستس إن ذا بوكيت»، «إي بوجني إن تاسكا»، 1965). أكيد أن تنوع السينما الأسلوبي قد زاد، فضلا عن هيبتها، كما يقول بازان، بفضل هذا اللقاء بأعمال شكسبير.
ربما تقصى فينوتي عن عرض أعمال شكسبير عبر القرون؛ لأن المسرح في هيئته الحية دائما ما يتضمن «مفسرين» يعرفون بأنهم مخرجون ومؤلفون مسرحيون. زيادة على ذلك، ربما استفسر عن «روميو وجولييت» كما عرضت باللغة الألمانية أو الروسية، أو بمعنى آخر عن شرعية أي ترجمة لأعمال الشاعر. يسأل بدلا من شكسبير نفسه عما صاغه المفسرون من «نسخته» لحكاية شخصيتين تسميان روميو وجولييت؟ ما المصادر التي اعتمد عليها شكسبير؟ ما المسرحيات الأخرى (التي كتبها كتاب المسرح المنافسون) التي تطلع إليها؟ ماذا كانت تحتويه مكتبته؟ يخاطر نهج فينوتي التأويلي بالانتشار رأسيا وأفقيا إلى ما لا نهاية. مع ذلك، فإن نصوص شكسبير تجعلنا نتوقف، كما يفعل الكتاب المقدس للمليارات من قرائه. فقد كانت تفسيراته - شاملة الترجمات والاقتباسات والرسوم الإيضاحية - ضرورية لنشر الدين والثقافة، بقدر ما كانت مشحونة بالخلاف. استعان وولتر بنيامين بالكتاب المقدس ليختم مقاله العظيم «مهمة المترجم»؛ ليصل بوضوح إلى الرؤى التي نشرها بازان لاحقا عن الأمانة والنص الأجنبي: يشجع التقاء نظامين لغويين على أرضية نص ثمين النمو في كل ما حوله.
40
يمكن الاعتقاد بأن بازان، شأنه شأن بنيامين، متناقض؛ لأنهما ناقشا الظواهر المعقدة من أكثر من زاوية في وقت واحد. وفي هذه الحالة، كان كلاهما يفهم أن ديناميات الإنتاج النصي «سائلة» (النشر)، لكنهما كانا يفهمان كذلك أن «جمود» بعض العلامات النصية (المرسى) ليس أمرا وهميا بالكامل. •••
وفقا لرأي بازان، يمثل الاقتباس حالة أخرى، وإن كانت حالة رئيسية، كانت فيها السينما بمنزلة سفينة الاكتشافات الجريئة في القرن العشرين. تجبرها لقاءاتها بما هو غريب عنها على النمو، وتطلب الشيء نفسه من أولئك المشاهدين على متنها. صدمت الواقعية الجديدة بازان بشدة عقب الحرب، حتى صار يبحث دوما عن لقاءات مع أنواع سينمائية أخرى. على سبيل المثال، فإن مجموعة أفلام عن الرسم صنعت في أواخر الأربعينيات والخمسينيات صدمته بطريقة نادرا ما شعر بها في زياراته للمتاحف.
41
كتب بازان إن هذا النوع الجديد «تزايد منذ الحرب ... ليصبح أهم التطورات في آخر عشرين عاما في تاريخ الوثائقيات، وربما في تاريخ السينما نفسها.»
42
في مجال السينما الروائية، صعقته اليابان كما فعلت بثقافة السينما الأوروبية بالكامل. بعد النصر غير المتوقع الذي أحرزه فيلم «راشومون» (كوراساوا، 1950) في مهرجان فينيسيا الدولي عام 1951، اتجهت عيناه شرقا؛ حيث عثر هو ورفاقه في «كاييه» على صانع الأفلام الذي كانوا يحلمون به، كينجي ميزوجوشي. وبينما كانوا يشاهدون أفلامه واحدا تلو الآخر، كان عليهم أن يتكيفوا مع حس سينمائي مختلف تماما، يؤدي إلى ثقافة خلابة ومتميزة. لم ير بازان ومتبعوه يابان ما بعد الحرب على الشاشة، ولكن التقاء ميزوجوشي (ويابان ما بعد الحرب) بإرث خانته في جنون حرب المحيط الهادئ، وهو إرث جرمه الاحتلال الأمريكي، إرث احتاجت اليابان الحديثة إلى اقتباسه إن كان للأمة أن تبقى مميزة.
أجد التزام ميزوجوشي باقتباس تراث اليابان معروضا بأوضح ما يكون في المشهد الافتتاحي لفيلم «أوتامارو ونساؤه الخمس» («أوتامارو آند هيز فايف ومن»، 1946) حينما يتحدى البطل الفنان للمبارزة تابع مغرور لمدرسة كانو الارستقراطية للرسم. كيف يمكن لشخص من الطبقة الشعبية يرسم من أجل المال أن يواجه رساما من النبلاء يرى الرسم نداء دينيا؟ يبدأ نزال بفرش الرسم لا بالسيوف، ويتقدم أوتامارو بفضل ضربات رشيقة من فرشاته ليصنع لوحة لإلهة الرحمة. يقول أوتامارو منتصرا: «حسنا، هذا أفضل. ألا توافقني؟» مردفا: «لقد بعثت الحياة في الشكل.» التدبير والتلقائية والتمثيل الحي لرمز ديني شهير؛ كل هذا كان في صف الفنان الذي يأكل ويشرب وينام مع الناس. الواقع أن أوتامارو بعث إلى الحياة «جوانيان ذات الرداء الأبيض»، وهي أيقونة بوذية، منحها الراهب الصيني موشي طابعا دينيا في أواخر القرن الثالث عشر. يصورها أوتامارو على الورق، ليس من خلال محاكاة تقليدية، ولكن من خلال تصوير روح الحركة والحياة التي أودعها موشي في تحفته الفنية. ومثل أوتامارو تماما، أحس ميزوجوشي بأنه هو وفنه في صف الناس، ومتصلان في الوقت نفسه بالمهمة التي يربط بها الفن الإنسانية بما هو مقدس.
هل تحدث مسائل النسخ من الأعمال الأصلية الشهيرة - سواء بالترجمة أو الاستخلاص - في آسيا بالطريقة نفسها التي تحدث بها في الغرب؟ هنا، يؤسس ميزوجوشي لسابقة عظيمة؛ لأنه بمجرد أن سمحت الرقابة الأمريكية، أعاد إحياء بضعة نصوص يابانية شبه مقدسة، وقدمها للغرب. كان أول فيلم شد انتباه بازان هو «حياة أوهارو» («ذا لايف أوف أوهارو»، 1951) الذي يحمل عنوانه الياباني «سايكاكو إيشيداي أونا» اسم سايكاكو، المؤلف الياباني الشهير من القرن السابع عشر الذي يقتبس هذا الفيلم منه. بعد بضع سنوات، أعاد ميزوجوشي بدقة إحياء مسرحية عرائس محببة، كتبها شكسبير اليابان، محتفظا مرة أخرى باسم الشاعر في عنوان فيلمه «حكاية من تشيكاماتسو» (آ تيل فروم تشيكاماتسو). بين الفيلمين، قدم ميزوجوشي واحدة من أشهر الحكايات اليابانية في فيلم «المأمور سانشو» (سانشو دايو)، معتمدا على نسخة الأعمال الكاملة لموري أوجاي التي صدرت عام 1917، لكنه «طورها» حيث ينسب الفضل إليه في إخراجها بالشكل الأمثل.
43
ربما لأن موري أوجاي نفسه استعار الحكاية من نسخ سابقة،
44
حول ميزوجوشي اقتباسه إلى رمز صريح للأمانة. في القصة، يباع الطفلان المختطفان، أنجو وزوشيو، لمعسكر عبيد بعيدا عن أبويهما. وخلال محنتهما الطويلة، يصلي أنجو لأيقونة بوذيسفاتا أعطاها والدهما لزوشيو. جعل ابنه يلمس الأيقونة بينما يكرر بإخلاص حكمته: «كن رحيما بجميع البشر.» في النهاية، يتمسك زوشيو بروح التمثال وبالمعنى الحرفي للحكمة، تماما كما يتمسك ميزوجوشي بقوة بالأسطورة التي اقتبسها خلال المناخ الأخلاقي الآخذ في الاضمحلال في يابان ما بعد الاحتلال الأمريكي. لذا فقد صنع ميزوجوشي من «المأمور سانشو» أيقونة تمجد أيقونة أخرى، إلهة الرحمة المسكنة في وعاء ذخائر القصة.
45
في عام 1991، أنتج تيرنس ماليك نسخة مسرحية من «المأمور سانشو» لأكاديمية بروكلين للموسيقى؛ كما أعد اقتباسا سينمائيا باللغة الإنجليزية، إلا أنه لم ينتج. هل كان عمل ميزوجوشي «الأصلي» رمزا مقدسا يمكن لماليك إعادة إحيائه ببضع ضربات رشيقة، بالطريقة التي بعث بها أوتامارو إلهة الرحمة؟ هل خطط ماليك لإعادة إنتاجه بتبجيل، وهو يضع اسمه على شارة الفيلم، كما فعل جاس فان زانت في إعادة صنعه لفيلم «المختل» (سايكو) عام 1998؟ أم إن هذا المخرج الأصيل الشهير يهدف لتوسيع نطاق أسطورة عمرها آلاف السنين، مرسلا إياها من وراء الأفق إلى الجماهير الغربية بلغة جديدة؟ يكمن الفارق بين الأمانة (الرأسية) والتطبيق (الأفقي). اليوم، وفي مكان بعيد غرب اليابان يقف تمثالا أنجو وزوشيو في انتظار السائحين الذين يأخذون حكايتهم أو سينماهم على مأخذ الجد. تعلن الفنادق التقليدية أنها قريبة من موقع الحج هذا. لم تنجح الأعمال المقتبسة التجارية إلا بالحفاظ على صلة بشيء متجذر بعمق.
وهكذا تعمل صناعة الاقتباس داخل اقتصاد ثقافي ثنائي الأبعاد.
46
يتحكم في المحور الرأسي الماضي والمستقبل، ويقاس بالبعد عن الأسلاف والآلهة الذين تقتبس منهم القيم الأخلاقية والدينية والأدبية؛ أما المحور الأفقي فيضاعف الثروة بنشر قيمة هذا الإرث عبر أرض معاصرة؛ لتصل إلى جماهير جديدة. بالتعامل في مفردات الاعتمادات والقيمة، يتعرض الاقتباس لتحليل اقتصادي، يتضمن الفهم اللاهوتي الأصلي للاقتصاد. منذ عام 2006، تعرف قراء «كاييه دو سينما» على هذا المنظور من خلال مقالات ماري-جوزيه موندازان، وهي مؤرخة للفنون حولت خبرتها في حب الأيقونات والخوف منها مباشرة إلى فهم الأفلام والتليفزيون في عصرنا الحالي.
47
لكن عملها الأسبق هو ما يجيب على نحو إيحائي عن الأسئلة التي يثيرها الاقتباس، وخصوصا كتابها الرائع الذي يحمل عنوان «الصورة والأيقونة والاقتصاد: الأصول البيزنطية للمتخيل المعاصر».
48
تنبع سيطرة الغرب المبكرة على السينما من تقارب الحضارة المسيحية والرأسمالية بالتأكيد، وكذلك من ألفتها الخاصة للصور، وهي ألفة نابعة من عقيدة الثالوث. بتأسيس نظام مالي كنسي في نهاية الأمر يتاجر في الأيقونات، ينتمي «الاقتصاد» المسيحي الأولي إلى الثالوث. استخدم مؤسسو الكنيسة في أيامها الأولى هذا المصطلح لوصف إله واحد منقسم بين الأب والابن، صورته الطبيعية،
49
ومرتبط بالروح القدس. هذا «السر» الثالوثي هو بمنزلة اختلاف أصيل داخل الشيء نفسه، مثيرا نقاشا لا ينتهي بين الفلاسفة وعلماء اللاهوت، المؤمنين وغير المؤمنين. لكن ما يتجاوز النقاش هو خصوبة هذه العقيدة التي تؤسس لعدد من الوحدات الثنائية؛ مثل الفكر والكلمة، والصورة والجسم، وأخيرا، الكينونة والمعنى.
يعمل اقتصاد ثان عمل حلقة التبادل بين السماء والأرض من خلال المسيح. قادت نبوءات العهد القديم ، والمظاهر الملائكية، والرؤى المسبقة إلى روايات العهد الجديد عن أفعال يسوع على الأرض في يهودا. تفصل اثنتان من هذه الروايات (منسوبتان إلى متى ومرقص) لحظة مميزة؛ وهي لحظة «التجلي» التي ربطت بين السماء والأرض على نحو مرئي في صلة رأسية، حينما أشع المسيح على جبل طابور بنور سماوي. ومما هو بالغ الأهمية للكنيسة الشرقية خصوصا، أن التجلي يضمن قيمة الأيقونات التي هي نفسها صور سماوية مغمورة في النور، وتشع به لأولئك الذين يقدسونها.
الأيقونات شارات خاصة في تداول نظام اقتصادي لاهوتي ثالث، حيث يشتري المؤمنون الارتقاء من خلال تجارة للبركة تنظمها الكنيسة. ولكون الأيقونات مبنية على التشابه، ويمكن نسخها، نبه تضاعف أعدادها بعد القرن الخامس الميلادي الكنيسة، التي فقدت القدرة على ضبط استخدامها، وخافت من تشتت السلطة. وعلى الرغم من أنها من صنع الإنسان، فهي تشارك في نظام للقيمة، يضمنه المسيح، «الصورة الطبيعية»، حين ينتجها بإخلاص حرفي مؤمن. تضمن الأمانة أن تمر القيمة الفائقة للطبيعة، المبثوثة في النموذج الأولي، إلى النسخ. وحتى نسخ النسخ تحمل القوة الروحية لمن يوقرونها.
يختم كتاب موندازان بإظهار استمرار اقتصاد الصور في العصر الحديث. المثال المميز الذي تذكره هو نفسه الذي يذكره بازان في مقاله «الأنطولوجيا»، وهو صورة «كفن تورينو المقدس». في 29 مايو 1898، سمح لمصور هاو يسمى سيكوندو بيا بإزالة لوح زجاجي شفاف واق من على الكفن، وتصويره لمدة عشرين دقيقة. تستشهد موندازان بتقرير الصحف: «غمس ألواحه الزجاجية في حوض التحميض؛ وفجأة، أظهرت الصورة السلبية أمام المصباح الأحمر صورة وجه المسيح التي لم يتوقع أحد لمدة ثمانية عشر قرنا أن تظهر أمام عينيه.»
50
بالجمع بين العلم والإيمان، والسلبية والإظهار، وكذلك الأيقونة والرمز، فإن صورة الكفن مهمة أهمية الجثمان نفسه. من خلال النسخ الفوتوغرافي، أصبح بإمكان المؤمنين الآن الاحتفاظ بنسخ خاصة من «النسخة الأصلية» الرسمية للبقاء على اتصال بالمسيح، ولمسه حرفيا من خلال مجموعة من المرحلات المادية. بدءا من صورة الجيب حتى الصورة السلبية التي أنتجتها، إلى الصورة التي ظهرت عام 1898 من الألواح الزجاجية التي ظهرت عليها صورة سلبية بفعل الضوء المنعكس أو المنبعث من الكفن، إلى الجسد الذي عاد للحياة، الذي ظل لمدة ثلاثة أيام على اتصال بالكفن ليترك أثرا غائما ودمويا لكنه لا يمحى. هكذا يسير اقتصاد الأمانة الرأسي؛ حيث يمكن تبجيل صورة بائسة الشكل تظهر بالكاد لطخات غير قابلة للتفسير. لكن خارج هذا الاقتصاد، سواء فيما يخص غير المؤمن - أو المؤمن الذي أثبت له التأريخ بالكربون له أن الكفن مزيف - فإن الكفن ليس إلا خرقة بالية.
حينما أدخل بازان هذه الصورة كأول صورة توضيحية في كتاب «ما هي السينما؟» صحبها تعليقه: «هنا ينبغي للمرء حقا أن يفحص علم نفس الرفات والتذكارات التي تتمتع بميزات انتقال واقع ناشئ من «عقدة المومياء». دعونا فقط نسجل في عجالة أن كفن تورينو المقدس يجمع بين ما يشبه ملامح الجثمان والصورة.» ولذا فإن وثنا (الصورة) لوثن حرفي (الكفن) يعمل كنوع من المباركة لمشروع بازان المكون من أربعة إصدارات. لكنها مباركة غير كاملة، إن جاز لنا قول هذا؛ لأنه بحلول عام 1958 أدرك الجميع أن الكفن مزيف، وأن الصورة ما هي إلا دليل على خدعة، أو خرافة جامحة على الأقل. ما الذي كان في ذهن بازان حينما اقترح الصورة أو سمح لها بالتأثير في قراءتنا؟
تشي فقرة في وسط ذلك المقال بأحد الدوافع من خلال التلاعب بمعنى كلمة أمانة: «قد يخبرنا رسم أمين للغاية حقا بالمزيد عن النموذج؛ لكن على الرغم من استثارة ذكائنا النقدي، فلن يمتلك أبدا القدرة غير العقلانية التي تملكها الصورة الفوتوغرافية على تغيير مسار إيماننا.»
51
لماذا لا يتساوى رسم «أمين» لجثة المسيح مع هذه الصورة الرثة في قوته النفسية؟ الآن ندرك الإجابة: يقول بازان إن الخواص الأيقونية التي تقلد بها صورة فوتوغرافية الهيئة المرئية لما تصوره، هي أقل سطوة بكثير من الصلة المادية للصورة بما تصوره، ومنزلتها بوصفها نسخة منه. في هذه الحالة، فإن الصورة الفوتوغرافية هي نسخة من نسخة مزعومة للمسيح؛ لأن الكفن كان بمنزلة طبعة مباشرة بملامسة جسد المسيح. تبجل صورة الكفن الفوتوغرافية فقط لأنها لا يفصلها عن الإنسان الإله، مصدر الخلاص، سوى نسختين مطبوعتين بطريقة الملامسة. «الإيمان» بالمسيح يثير الإيمان بهذه الصورة الفوتوغرافية رغم تواضعها الواضح أمام الرسومات أو اللوحات «الأمينة» التي تقدم وهم الحضور. على الجانب الآخر، فإن عدم نقاء تركيب هذه الصورة الفوتوغرافية يصدق على الحضور الغريب لغياب الجسد المتصلة به، مهما يكن ذلك ضعيفا. تكتسب كل الصور شيئا من الأصالة التي تبثها الشوائب على سطحها؛ لأن هذه تشير إلى أن الموضوع الحقيقي اختفى من الإشارة. ربما يقود بازان إلى دريدا ودولوز بتوسيعهما مفهوم «الفارق»، لكنه يقود هنا إلى موندازان، ويقود خصوصا إلى جان-لوك نانسي الذي لا يكتب عن الفارق بل عن «التشابه» الجزئي الذي يؤدي من وراء المظهر إلى حقيقة حاضرة بسبب غيابها من الصورة.
52
يشير بازان كذلك إلى أن الاقتباسات، مثل الصور، يمكنها الإشارة إلى حقائق وراء ظهورها.
في الواقع، ينظر إلى اقتباسات سينمائية معينة على أنها أيقونات لإبداعات أدبية دينية. بحلول الأدب محل الدين مصدرا للسمو في المجتمع العلماني، يكون الدارسون هم كهنة الثروة الروحية الموروثة المعاصرون. يتجسد الصراع بين الانتشار الأفقي (لشكسبير أو جين أوستن على سبيل المثال) والسلطة الفنية أو الأكاديمية الرأسية اليوم في مناقشات حول الدراسات الثقافية. كان بازان مهتما بكلا الاقتصادين؛ وكما يبين مقاله العظيم «من أجل سينما مشوبة»، فقد رآهما متصلين على نحو صارم؛ حيث تستفيد الاقتباسات الشهيرة من «قيمة» الأعمال الأصلية، لكنها تعزز في الوقت نفسه براعة السينما وهيبتها من خلال نوع من الأمانة.
يختتم المثال الرئيسي الذي يذكره بازان بالصليب العاري الذي يظهر في اللقطة النهائية لفيلم «يوميات قس في الأرياف». يذكرنا بازان بأن ما هو موجود ليس أكثر من ظل لصليب (مرسوم بشكل أخرق على بطاقة مقدسة عادية) يسقط على الحائط الذي يعلو جثة القس من خلال قضيبي نافذة. هذا «الافتراض» النهائي للصورة، هذا التجريد الروحي، أعد على مدى ساعتين من خلال تغشية صوت القس، وكتاباته في دفتر يومياته، والآثار البيضاء والسوداء للبشر والأشياء، حتى نصل في النهاية إلى «إنجاز مهيب للسينما النقية. ومثلما تعتبر الصفحة البيضاء لمالارميه وصمت آرثر رامبو لغة في أرقى حالاتها، فإن الشاشة، بخلوها من الصور وإرجاعها للأدب تعتبر انتصارا للواقعية السينماتوغرافية.»
53
علم فيلم بريسون العظيم بازان أنه يمكن لصناع الأفلام تحدي أنفسهم بتناول مادة أدبية غير سينمائية، وإنتاج «سينما مشوبة» من أفضل نوع ثقافي. باستغنائهم عن «الأمانة الوهمية» في النسخ، تعلموا من خلال بناء السيناريو وتصميم المشهد مواجهة رواية أو مسرحية، وإنتاج شيء قريب من توازن الشكل والأفكار، يعمل في نطاق العمل الأصلي. أنجز بريسون، دون أن يكون تقليديا أو آليا على الإطلاق في اقتباسه للأصل، «أمانة مدوخة تقريبا من خلال الاحترام الإبداعي الدائم لمصدره.» لذا، فالأمانة الأصيلة تحتاج إلى الإبداع، وكذلك حسن النية؛ مثل «الواقعية الحقيقية» التي ذكرها بازان في مقال «الأنطولوجيا»، متحديا بها واقعية المظهر السطحية. ومثلما تصل الواقعية الحقيقية إلى جوهر موضوعها من خلال عمليات الاسغتراب الذاتي، أو عمليات التلميح والحذف، هكذا تتخلى الأمانة الأصيلة عن الملاءمة الواضحة لصالح الجانب الإبداعي. ربما يكشف التقاء اللغات بشأن نص قوي عن شيء جديد عن النص الأصلي، وفي الوقت نفسه توسيع نطاق اللغتين المستخدمتين. بهذه الطريقة ما زال المنظور المحدود والنواقص والعيوب الحتمية لأي اقتباس سينمائي يستطيع تغيير هوية السينما؛ وربما وجودها. يساعد اللقاء التاريخي مع الأدب - ومع أي موضوع قوي - السينما في أن تصبح ما تريد أن تكونه.
قبيل نهاية حياته، أبدع بول ريكور، زميل بازان في مجلة «إسبري» دراسة فلسفية عظيمة يخدم عنوانها فرضيتي: «الذات بوصفها آخر». السينما، مثل «الذات» في الهوية الشخصية؛ لن تثبت مطلقا، لكنها في الوقت نفسه ليست سرابا؛ فهي تعتمد على لقاءات مع «آخر» (ما هو خارج نطاقها). ورغم أن جسمك ليست له خلية واحدة شكلتك «أنت» منذ ثلاثين عاما، وحتى إذا كانت ظروفك ومعتقداتك وأصدقاؤك قد تغيروا، يمكنك «إقرار» أفعالك، والالتزام بوعودك؛ يمكنك أن تحكي تطورك. تتراكم الهوية؛ وبدلا من أن تكون قائمة لقاءات مسلسلة زمنيا، هي، أكثر من ذلك، سرد للاكتشافات، تتبعه الوعود (حتى لو أخلفت )، والمواقف (حتى لو كانت أحيانا سريعة الزوال). وهكذا، فإن السينما تمضي قدما حيث تقابل آثار عالم أكبر؛ كما تمضي قدما كآلة ذكريات، مهيئة «نفسها» لما أصبحت عليه في هذه العملية من الاستكشاف والاشتباك بموضوع آخر، سواء أكان شخصا أم ثقافة أم زمانا.
يتضح أن عنوان دراسة ريكور مقتبس بشكل مباشر من قس بيرسون الريفي الذي كتب في يومياته قائلا: «يعني السمو نسيان الذات.»
54
باقتباس هذه الحكمة، دعوني أختم قائلا: السينما، التي ليست شيئا في حد ذاتها من حيث الأساس، إنما تعنى بالاقتباس، تعنى بما دفعت لكي تكونه، وما يمكن أن تظل عليه في السنوات المقبلة. أولئك الذين يهتمون من بيننا بما يكفي لتولي مهمة بازان، يجب أن يكونوا متيقظين في بحثنا عن السينما؛ لأنها تظهر بمظاهر جديدة دائما، متغيرة في جوهرها فقط.
هوامش
অজানা পৃষ্ঠা