لؤلؤة الحب
لؤلؤة الحب
لؤلؤة الحب
لؤلؤة الحب
تأليف
هربرت جورج ويلز
ترجمة
نورهان السرت
مراجعة
نيرة محمد صبري
لؤلؤة الحب
أفصح الواعظ قائلا إن اللؤلؤ أبهى من أشد الأحجار البلورية لمعانا؛ إذ يخلق من رحم معاناة يلقاها مخلوق حي. لا يسعني التعليق على ذلك الأمر لأنني لا أستشعر شيئا من سحر اللؤلؤ، ولا يحركني بريقه الغامض على الإطلاق. ولا يسعني كذلك تحديد موقفي من ذلك الجدل الذي دام طويلا حول ما إذا كانت قصة «لؤلؤة الحب» أشد القصص قسوة أم أنها لا تعدو كونها أسطورة خلابة عن خلود الجمال وأبديته.
إن كلا من القصة وما يدور حولها من جدل سيكونان مألوفين لطلاب النثر الفارسي في العصور الوسطى. والقصة قصيرة، بالرغم من أن ما كتب عنها من شروح وتعليقات يمثل جزءا معتبرا من أدب تلك الحقبة، فالبعض تناول القصة كإبداع شعري، والبعض الآخر تناولها كقصة رمزية تحمل معاني عديدة. وكان لعلماء اللاهوت منهجهم الحافل في تناول تلك القصة؛ إذ تعاملوا معها بصورة خاصة باعتبارها تدور حول بعث الجسد بعد الموت، كما جرت مجرى المثل على لسان من يكتبون عن فلسفة الجمال، بينما اعتبرها الكثيرون بيانا لحقيقة بسيطة وواضحة في صدقها.
تقع أحداث القصة في شمال الهند، وهي أخصب الأراضي إنتاجا لقصص الحب الجليلة على سطح الأرض؛ في بلاد شروق الشمس والبحيرات والغابات الكثيفة والتلال والوديان الخصبة؛ حيث ترى الجبال الشاهقة من بعيد وكأنها معلقة في السماء، والقمم العالية والتلال المكسوة بالثلوج المنيعة والدائمة. كان هناك أمير شاب، سيد تلك المملكة؛ وجد فتاة بكرا ذات جمال وعذوبة يعجز عنهما الوصف، وجعلها مليكته وألقى إليها بزمام قلبه. دان لهما الحب؛ حب مفعم بالبهجة والعذوبة، فياض بالأمل؛ حب آسر شجاع مدهش، يفوق أي شيء تخيلته يوما عن الحب. كان الحب قدرهما عاما وبعض العام؛ وفجأة، وبسبب لدغة سامة تعرضت لها في الأدغال، ماتت الأميرة.
ماتت وظل الأمير فترة منطرحا تماما. ظل صامتا وقد أفقده الحزن الحركة، حتى إن حاشيته خشوا أن يقتل نفسه ، ولم يكن لديه أولاد ولا أشقاء يخلفونه. ظل يومين وليلتين لم يذق فيها الطعام، مكبا على وجهه عند قدم الأريكة التي حملت جسدها الساكن الجميل، ثم نهض بعدها وتناول الطعام، ومضى بكل هدوء كمن اتخذ قرارا عظيما. أمر بوضع جسدها في تابوت مصنوع من مزيج الفضة والرصاص داخل تابوت خارجي مصنوع من أثمن الأخشاب قيمة وأزكاها طيبا، وقد زخرف بالذهب، ووضع الاثنان داخل تابوت من المرمر، مرصع بالأحجار الكريمة. وبينما كانت أوامره تنفذ، قضى الأمير معظم وقته بالقرب من برك الماء متنقلا بين الاستراحات الصيفية والأجنحة والبساتين وحجرات القصر التي قضيا بها معظم أوقاتهما، ومستغرقا في التحسر على جمالها. لم يشق ثيابه ولم يلطخ نفسه بالرماد أو يلبس الخيش كما جرت العادة في هذا الوقت؛ فحبه لها كان أعظم بكثير من هذه المبالغات. وأخيرا خرج مجددا على شعبه بين مستشاريه وأبلغهم بما اعتزم على تنفيذه.
قال إنه لن يقدر بعد الآن أن يلمس امرأة أخرى، ولا أن يفكر في النساء مجددا؛ ولذلك سيبحث عن شاب مناسب ليتبناه ويكون وريثه ويدربه على مهمته؛ بحيث يؤدي واجبات الإمارة حين يحل محله ويصبح أميرا؛ ولكن بالنسبة إلى ما بقي من حياته فإنه سوف ينذر نفسه وكل ما يملك من سلطة وقوة وثراء وكل ما تحت تصرفه من أجل تشييد نصب تذكاري جدير بفقيدته العزيزة التي لا نظير لها؛ بناء لا بد أن يكون آية في الجمال والبهاء، وأكثر روعة من أي بناء شيد قبله أو سيشيد بعده، ليبقى حتى نهاية الزمان أعجوبة لم ير مثيل لها، ويقدره الرجال ويتحدثوا عنه ويتشوقوا لرؤيته ويأتوا من كل حدب وصوب لزيارته وإحياء ذكرى الملكة واسمها. وقال إنه سيسمي هذا المبنى «لؤلؤة الحب».
وأقره مستشاروه وشعبه على هذا القرار، وشرع في تنفيذه.
مضت سنة تلو أخرى، وعلى مر السنوات كرس نفسه لبناء وتزيين لؤلؤة الحب. نحت الأساس العظيم لهذا البناء من الصخور، بحيث يطل على برية الجبل العظيم المكسوة بالثلوج الممتدة عبر وادي العالم. كانت هناك قرى وتلال، ونهر متعرج، وعلى مسافة بعيدة للغاية تقع ثلاث مدن كبرى. هنا وضعوا التابوت المرمري تحت فسطاط بارع الصنع، وحوله تنتصب مجموعة من الأعمدة المصنوعة من الأحجار النادرة والجميلة، وجدران مزخرفة ومزدانة بالنقوش المتداخلة، ونعش حجري عظيم تعلوه قبة وأبراج وقبيبات، فبدا فاتنا كالجوهرة. في البداية كان تصميم لؤلؤة الحب أقل جرأة وصقلا مما أصبح عليه فيما بعد؛ ففي البداية كان أصغر وأكثر زخرفا وترصيعا؛ كان يوجد العديد من الفواصل المثقوبة ومجموعات بالغة الرقة من الأعمدة الوردية اللون، وقد استقر التابوت بينها كالطفل النائم وسط الزهور. كانت القبة الأولى مغطاة بالقرميد الأخضر الذي تجمعه وتحوطه الفضة، ولكنها هدمت؛ لأنها بدت قصيرة ولم تكن عظيمة الشموخ بما يتناسب مع خيال الأمير المتنامي.
ففي ذلك الوقت، لم يعد الأمير ذلك الشاب الوسيم الذي أحب الملكة الشابة، بل أصبح رجلا رصينا قوي العزم منكبا كليا على بناء لؤلؤة الحب. وبمرور كل عام من الجهود المبذولة، كان الأمير يتعلم إمكانيات جديدة عن الأقواس والجدران والدعامات، وأصبح أكثر تمكنا من المواد التي يجب أن يستخدمها، وتعرف على مائة حجر وألوان ومؤثرات لم تكن لتخطر على باله في البداية. أصبح ذوقه في الألوان أرقى وأهدأ؛ فلم يعد يسترعي انتباهه ذلك البريق المصقول المبطن بالذهب الذي كان يروق له سابقا، بريق كتاب الصلوات المزخرف، بل صار يميل الآن إلى درجات اللون الأزرق مثل زرقة السماء، وإلى الألوان الهادئة المميزة للمساحات الشاسعة، وإلى الظلال الغامضة والفيضانات الهائلة المفاجئة من البريق الأرجواني، وصار يميل إلى الفخامة والسعة. سئم تماما من المنحوتات والصور والزخارف المرصعة وكل العمل الدقيق المتقن الذي نفذه العاملون في البناء. قال عن الزخارف التي قام بها فيما مضى: «تلك الأشياء كانت تافهة.» وأمر بنقلها إلى بعض المباني التابعة للمبنى الرئيسي بحيث لا تعرقل التصميم الرئيسي. تنامت براعته الفنية أكثر وأكثر. وبانبهار وإجلال، شاهد الناس لؤلؤة الحب وهو يتحول من صورته الأولى إلى صرح خارق في سعته وعلوه وأبهته. لم يعرفوا بالضبط ما الذي كانوا يتوقعونه في مخيلاتهم، ولكنهم لم يتوقعوا قط شيئا بمثل هذا الجلال والمهابة. وقالوا متهامسين: «مذهلة هي المعجزات التي يمكن أن يصنعها الحب.» وكل النساء في العالم - وإن كان لديهن أحباء - أحببن الأمير لعظيم وفائه لمحبوبته.
كان في منتصف المبنى بهو عظيم مطل على منظر خلاب، أصبح الأمير مولعا به أكثر وأكثر. وقف الأمير في المدخل الداخلي للمبنى ناظرا منه على طول رواق شاسع ذي أعمدة وعبر ساحة مركزية؛ حيث كانت توجد أعمدة وردية قبل أن يأمر بإزالتها منذ أمد بعيد، مشرفا خلال فرجة رائعة التصميم على الفسطاط الذي يحتضن التابوت، لتطالعه في نهاية المشهد البراري الجليدية المحيطة بالجبل العظيم، سيد الجبال كلها، والواقع على بعد مائتي ميل. بدت الأعمدة والأقواس والدعائم والأروقة شامخة على كلا الجانبين كأنها تحلق في الهواء، مثالية الصنع لكن دون أن تستحوذ على المشهد، كرؤساء الملائكة الكرام وهم واقفون في الظل مترقبين في حضرة الرب. وعندما رأى الرجال هذا الجمال المهيب للمرة الأولى انتابتهم نشوة الحماس، لكن ما لبثوا أن ارتعدوا وخشعت قلوبهم. كثيرا ما كان الأمير يزور الصرح ليقف هناك وينظر إلى هذا المنظر الخلاب متأثرا بشدة، لكن دون أن يحس بالرضا التام. كان يشعر أن لؤلؤة الحب لم يزل ينقصه شيء ينبغي أن يتمه قبل أن ينتهي من مهمته. كان دائما ما يأمر بإجراء بعض التعديلات البسيطة أو بإزالة بعض التعديلات التي أمر بإجرائها حديثا. قال يوما إن التابوت سيزداد وضوحا وبساطة بدون الفسطاط، وبعد إمعان النظر في الأمر طويلا، أمر بتفكيك الفسطاط وإزالته.
جاء الأمير في اليوم التالي دون أن ينبس ببنت شفة، وكذلك اليوم التالي والذي يليه. ثم غاب يومين كاملين، لكنه عاد بعدها جالبا معه مهندسا معماريا واثنين من كبار الحرفيين وبعضا من رجال حاشيته.
وقفوا جميعا في مجموعة صغيرة صامتين وناظرين، وسط عظمة إنجازهم الجليل. لم يبق كماله أثرا لما تحملوه من نصب وكأن رب جمال الطبيعة استأثر بثمرة مجهودهم لنفسه.
لم يفسد هذا التناغم الكامل إلا شيء واحد. كان ثمة قدر من عدم الانسجام يضفيه التابوت الحجري. لم يجر قط توسيع بنائه؛ وأنى يكون بالإمكان التوسع في بنائه وهو يعود إلى الأيام الأولى؟! بدا وكأنه يتحدى العين ويعترض الخطوط المنسابة. بداخل هذا التابوت استقر النعش المصنوع من الفضة والرصاص، وبداخل النعش ترقد الملكة؛ السبب الغالي الخالد وراء تشييد كل هذا الجمال. ولكن هذا التابوت الآن لم يعد يبدو إلا مستطيلا صغيرا معتما يرقد في تناقض صارخ مع المشهد العظيم ل «لؤلؤة الحب»؛ وكأن شخصا ألقى بحقيبة سفر صغيرة في بحر الجنة البلوري.
استغرق الأمير في التفكير طويلا، ولكن أحدا لم يعلم قط بما جال بخاطره.
وأخيرا تكلم؛ فأشار بيده قائلا: «أبعدوا هذا الشيء من هنا.»
অজানা পৃষ্ঠা