غير أنه لما كان قد غلب على الألسنة التخاطب باللغة العامية، وتنوسي كثير من اللفظ الفصيح، فضلا عما خالط اللغة من الكلم الأعجمي؛ كانت الأقلام - ولا بدع - تنزع إلى الكتابة بما ألفته الألسنة والأسماع تخطه من غير بحث ولا استثبات، وتتلقاه الأذهان من غير نكير ولا ارتياب، حتى لقد كان ما نعده تجديدا لحياة اللغة سببا في تقويض بنائها وتشويه بهائها، وكانت الجرائد - التي هي مدرسة الأمة ووسيلة نشر العلم بين جمهور قرائها - هي العامل الأعظم على نشر تلك الأغاليط والأوهام؛ لأنه يظهر منها كل يوم ألوف من النسخ تتوزع على ألوف من القراء، فكل وهم فيها أو زيغ يتكرر عليهم ما تكررت الأيام.
على أن الكتاب معذورون في ذلك؛ إذ لا يسع الكاتب أن يستوقف قلمه عند كل لفظة تشتبه عليه، وقد لا تعرض له فيها شبهة أصلا لاستدراج العادة له إلى استعمالها، وعلى الخصوص إذا رآها في كلام من يثق بعلمه من كبراء الكتاب؛ فيمضي عليها من غير توقف، وحينئذ اقتضي لتصحيح هذه الأوهام من يستقريها في كلام الكتاب، وينبه على واحدة واحدة منها بما يكفيهم استثباتها بأنفسهم من كتب اللغة، ولا يخفى ما في تحقيق هذا المطلب من بعد الشقة إلا على من مارس اللغة دهرا طويلا حتى يدرك باللحظة ما لا يدرك سواه إلا بعد البحث والتنقيب. وقد قيض الله لهذه البغية ابن بجدتها ورب نجدتها؛ أعني به سليل بيت العلم والأدب الشيخ إبراهيم ابن الشيخ ناصيف اليازجي الشهير، وهو الذي عرفه جمهور القراء والمتأدبين ببعد الغور في معرفة اللغة، ودقة النظر في التمييز بين صحيحها وفاسدها؛ فإنه قد أفرد لهذه الأوهام مقالة طويلة في مجلد السنة الأولى من ضيائه المنير تحت عنوان «لغة الجرائد» أورد فيها من الألفاظ الدائرة بين الكتاب نحوا من مائتين وثلاثين لفظة، نبه على صحة جميعها بما كان له عند صدوره أعظم فائدة، تناولتها أقلام أكثر الكتاب؛ ثقة منهم بمقدرة هذا الكاتب وسعة علمه بمواقع الخطأ والصواب.
بيد أنه لما كان مثل هذا العدد من الأغلاط لا يمكن استظهاره إلا بعد الدرس وتكرار المراجعة - ولا سيما مع انطباع تلك الألفاظ على صفحات الأذهان - لم نزل نرى الكثير منها يتكرر تحت أقلام الكتاب؛ إما سهوا وإما لأنه لم يتيسر لهم الوقوف على المقالة المشار إليها، وربما استصعب بعضهم تتبعها في أماكنها للوقوف على ضالتهم منها؛ ولذلك رأيت أن أطبعها مجموعة في جزء مخصوص أطرف به حملة الأقلام؛ لتكون مرجعا يثاب إليه في التحقيق ويعتمد عليه في التدقيق، بعد أن استأذنت حضرة الكاتب في طبعها على الوجه المذكور، فلم يمانع - أطال الله بقاءه - فيه، والله يعلم أن لا غرض لي في تجديد نشرها إلا خدمة هذه اللغة الشريفة التي هي أفصح ما جرى به لسان وأشرف ما وعته الآذان، بل لغة كتاب الله العظيم وحديث رسوله الكريم؛ فهي أحرى اللغات بأن تصان عما يوجب ابتذالها ويضن بها على ما يشين كمالها أو يشوه جمالها، وها أنا أبدأ بنص المقالة نقلا عن مجلة الضياء الغراء، والله المسئول أن ينفع بها المستفيدين وأن يوفقنا إلى كل ما به مرضاته، إنه نعم المولى ونعم المعين.
لغة الجرائد
تقدم لنا في الجزء الأول من مجلة الضياء كلام في بيان موضع الجرائد من الأمة، وما لها من التأثير في مداركها وأذواقها وآدابها ولغتها وسائر ملكاتها، ولا سيما مع كثرتها وانتشارها في عهدنا الحالي حتى أصبحت بحيث تصدر الألوف منها كل يوم وتوزع بين أيدي القراء؛ فيتناول كل قارئ منها على حسب وسعه واستعداده، وليس من ينكر أن ذلك كان سببا في انتشار صناعة القلم عندنا، وتدريب الكتاب على أساليب الإنشاء، واقتباسهم صور التراكيب المختلفة، وإحياء كثير من اللهجة الفصحى حتى بين عامة الكتاب؛ مما آذن بانتعاش اللغة من كبوتها وأحيا الآمال في عودها إلى قديم رونقها، بل إذا تفقدت الجرائد أنفسها وجدتها قد انتقلت إلى طور جديد من الفصاحة وجزالة التعبير، كما تتبين ذلك من المقابلة بين حال الكثير من جرائدنا اليوم وما كانت عليه عامة الجرائد منذ نحو عشر سنوات أو دونها. والفضل في ذلك - ولا شك - عائد إلى هذه الكثرة نفسها بما نشأ عنها من المباراة بين الأقلام، وازدحام القرائح في حلبات السبق، فضلا عما تهيأ بها من انتشار أسلوب الفصاحة ورسوخ ملكة الإنشاء.
بيد أننا مع ذلك كله لا نزال نرى في بعض جرائدنا ألفاظا قد شذت عن منقول اللغة؛ فأنزلت في غير منازلها أو استعملت في غير معناها؛ فجاءت بها العبارة مشوهة وذهبت بما فيها من الرونق وجودة السبك، فضلا عما يترتب على مثل ذلك من انتشار الوهم والخطأ، ولا سيما إذا وقع في كلام من يوثق به؛ فتتناوله الأقلام بغير بحث ولا نكير. ولا يخفى أن الغلط في اللغة أقبح من اللحن في الإعراب، وأبعد عن مظان التصحيح لرجوعها إلى النقل دون القياس؛ فيكون الغلط فيها أسرع تفشيا وأشد استدراجا للسقوط في دركات الوهم.
والعجب هنا أنك كثيرا ما ترى أناسا من متقدمي الكتاب وذوي القدم الراسخة في اللغة والإنشاء يعتمدون أحيانا على التقليد، وربما قلدوا من هو دونهم من أصاغر أهل الصناعة؛ حتى فشا النقل بين تلك الطبقات كلها، وأصبح كثير من ألفاظ الجرائد لغة خاصة بها تقتضي معجما بحاله. ولما كان الاستمرار على ذلك مما يخاف منه أن تفسد اللغة بأيدي أنصارها والموكول إليهم أمر إصلاحها، وهو الفساد الذي لا صلاح بعده، رأينا أن نفرد لذلك هذا الفصل نذكر فيه أكثر تلك الألفاظ تداولا، وننبه على ما فيها، مع بيان وجه صحتها من نصوص اللغة، وفي يقيننا أن وصفاءنا الأفاضل يتلقون ذلك منا خدمة إخلاص لهم لا نقصد بها إلا المحافظة على اللغة وصيانة أقلامهم من مثل هذه الشوائب، مع كفايتهم مئونة البحث والتنقيب في كتب اللغة على ما هو معلوم من وعورة مسلكها وشكاسة ترتيبها، مما كان ولا شك هو السبب في تجافيهم عن مراجعتها واستثبات صحة تلك الألفاظ منها. والله نسأل أن يوردنا جميعا موارد الصواب بفضله - عز وجل - وحسن تسديده.
فمن تلك الألفاظ لفظة التحوير التي لم يبق كاتب جريدة ولا مؤلف كتاب إلا وردت في كلامه مئات من المرار يريدون بها معنى التنقيح والتعديل والتهذيب وما جرى هذا المجرى، وذلك في الكلام على الشروط والمعاهدات والأحكام وأشباهها. ولم ترد هذه اللفظة في شيء من كتب اللغة بمعنى من هذه المعاني؛ إنما التحوير في اللغة بمعنى التبييض، يقال: حور الثوب إذا قصره وبيضه، ومنه الحوارى للدقيق الأبيض، وهو لباب البر وأجوده وأخلصه، وقد حور الدقيق إذا بيضه، وغالب ألفاظ هذه المادة يرجع إلى معنى البياض، فما ضر لو استعملوا في مكان هذه اللفظة إحدى الكلمات التي ذكرناها في مرادفها.
ومن ذلك قولهم: تقدم إليه بكذا، يعنون رغب إليه فيه وسأله قضاءه، وإنما يقال: تقدم إليه بمعنى أوعز إليه وأمره، تقول: تقدم الأمير إلى عامله أن يفعل كذا وكذا، فهو على عكس المعنى الذي يريدونه كما ترى.
ومن ذلك قولهم: شكر له على إحسانه ، وشكر لإحسانه، وشكر له لإحسانه؛ صور لا تكاد تتعداها كتابات الأكثرين، وكلها حائدة عن الصواب. قال في تاج العروس: شكره وشكر له، وشكرت الله وشكرت لله وشكرت بالله، وكذلك شكرت نعمة الله وشكرت بها. وفي البصائر للمصنف: يقال شكرته وشكرت له، وباللام أفصح. ا.ه. وفي لسان العرب قريب منه، وهو لا يخلو من إبهام وقصور. وأحسن منه وأوضح تفصيلا ما جاء في الأساس قال: شكرت لله نعمته، واشكروا لي. وقد يقال: شكرت فلانا يريدون نعمة فلان ... ا.ه. فعلم من صريح عبارته أن الشكر يعدى إلى المشكور له - أي المنعم - باللام، وإلى المشكور به - أي النعمة - بنفسه؛ تقول: شكرت لزيد صنيعته، بجر الأول ونصب الثاني، وهو الأشهر في أصل استعمال هذا الحرف، ثم يجوز لك أن تحذف أحد المتعلقين فتقول: شكرت لزيد وشكرت صنيعة زيد، ويجوز أن تقول: شكرت زيدا، على تقدير مضاف محذوف؛ أي: صنيعة زيد. وأما تعديته إلى المشكور به بعلى فيجوز على تضمين الشكر معنى الحمد، وحينئذ تمتنع اللام فتقول: شكرته على إحسانه، كما تقول: حمدته على إحسانه؛ للمطابقة بين الاستعمالين؛ فتأمل.
অজানা পৃষ্ঠা