وتوالت الأنفاس، وفي كل مرة تجذب النفس على مهلها وبتلذذ سعيد تنغلق له عيناها، وكأن شفتيها المضمومتين على فم السيجارة تبتهلان لشيء أو ترشفان شيئا، رحيق السعادة ربما أو إكسير الحياة ويسترخي جسدها ويتدغدغ للنفس ثم تبدأ عملية الإخراج، وتفعل هكذا كله باندماج شامل تام وبلا إرادة .. وبطبيعية لا تكلف فيها ولا اصطناع، والأنفاس تتوالى ويستحيل ما يحسه العميد إلى تيار غريب يجوب جسده كله مع كل نفس، ولا يوقظه من تعب يوم أو إنهاكه ولكن يوقظ أجزاءه وأجهزته من رقدة عمر طويل، ويمحو هكذا في ومضة آثار سنين وأمراض ومشاغل وحياة تصلبت وجفت واستحالت إلى درب ضيق محدود، من ناحية منه زوجة جف منها ماء الحياة ولم تعد تفعل إلا أن تناكف وتضايق، وفي الناحية الأخرى عمل وروتين لا جدة فيه ولا أمل. وصراع، وما بينه وبين رئيسه مدير الجامعة من حزازات، وهو كالبندول رائح غاد بينهما، الكلية تدفعه إلى البيت والبيت يدفعه إلى الكلية، بندول عجوز مصاب بأكثر من مرض ووجع وفي صدره أحقاد.
ومنتصف السيجارة الذي كان قد حدده وصلته الطالبة، ولكنه كان في حال لم يعد يعرف إن كان ما يحسه سخطا أم إعجابا أو إن كان انفعاله انفعال نشوة أم اشمئزاز، كل ما أصبح يفعله، حتى ولو لم ترض إرادته، أن يظل يرى الفتاة ويراقبها .. جسده نفسه، عيناه، أنفاسه، لسانه الذي بدأ يجف في حلقه، ساقاه اللتان شدت عضلاتهما واشرأبت، كلها تراقب، كلها مع الفتاة وسيجارتها في التحام لا يمكن فصله أو إنهاؤه، التحام متواصل حي ينبض نفس نبضها حين تطبق بفمها الضيق على فم السيجارة وتجذب وتدوخ بالنشوة ثم حين تفتحه نصف فتحة أو بأنفها أو بهما معا تخرج اللوعة والحرقة والنفحات الهاربة وفي أعقابها تلك التي تدفعها لتخرج برفق وحنان وتؤدة .. نبض متوال متسارع، والتحام ذو حرارة مستمرة متزايدة تتصاعد إلى أعلى مراتب عقله وتذيب، تذيب أشياء كثيرة، تذيب أفكارا تحجرت كالمومياء المصبرة وأصبحت حكما وعقائد، وتفتح مناطق حاصرتها التقاليد وعزلتها، وتفد الأفكار بسهولة وتنطلق بسهولة ويبدو المستحيل ممكنا، ولماذا الحرس والساعي والتأنيب والفصل؟ ألأنها تدخن وسنها سبعة عشر عاما ولأنها طالبة، وما الفرق بين أن تدخن وهي طالبة وتدخن وهي خريجة وكله تدخين في تدخين، ولماذا نحرمه على جسد شاب فائر، ونحلله لسيدة أو لعجوز تسعل وتكح وتبصق كلما جذبت نفسا، أليس هو قائل نفس المبادئ وهو في العشرين والثلاثين حين كان في بعثته يرى أن مشكلة مجتمعه الأساسية أن أفراده يحيون في عصر بتقاليد قرون مظلمة مضت، وأن بلاده لا يمكن أن تصل إلى أي تقدم علمي أو صناعي أو حضاري إلا إذا تم التحرر وعاش الناس فيه بتقاليد عصرهم نفسه وقيمة وأنواع حرياته .. بإعطاء أفراده حتى حرية الخطأ وألا نمنعهم بالنصح والزجر عن خوض التجارب ونورثهم صوابنا نحن وخطأنا، بل نتركهم لكي يستخلصوا هم من تجاربهم ما يرون أنه الصواب وما يرون أنه الخطأ.
وبدأ جسد الطالبة الصغيرة يتململ ويتلوى، ونهمها إلى جذب الأنفاس يشتد ويتلاحق وكأن في داخلها تحفر فجوات هائلة تحدث فراغات سريعة مذهلة تطلب الامتلاء، لا بالدخان ولكن بالمتعة الحادثة من حريتها في أن تنفرد بنفسها وبالسيجارة، وتمتص منها ما تشاء، وتبتلع ما تشاء، والعميد يحس بجفاف ريقه يزداد وحنجرته تتسع وتزداد قدرتها على الرنين، وكأنها تستعد لإطلاق صرخة العمر، وعرق غريب ذو رائحة نفاذة لم يشمها من سنين ينبت تحت إبطيه، وعرق آخر أكثر غزارة يبلل وجهه ويضبب زجاج نظارته، حتى ليخرج منديله بسرعة المحموم ويمسح زجاجها لكي لا ينقطع أبدا إبصاره. والدنيا حافلة بمؤامرة صمت تام، سكون غريب لا يمكن أن يكون إلا بفعل قوة خارجية قاهرة، سكون مركز في تلك البقعة من الفناء الخلفي، سكون ليس خارجه سوى العدم، سكون عالم خال من الحياة تماما ليس فيه حياة سواه وسواها، هي في أقصى درجات الاستمتاع، وهو في أقصى درجات الانفعال .. وبينهما، تفصلهما تماما، وتربطهما تماما، تلك السيجارة. والحياة تبدو حلوة جدا، كل لحظة فيها عمر بأكمله، وإرادته قادرة على اكتساح الجبل، ولا شيء في الوجود مستحيل، ولن يرضى بأقل من أجمل وأغنى بنات العالم زوجة له، وخمس سنوات فقط يصبح فيها أعظم علماء مصر، بل الشرق والغرب معا، وماذا تكون جائزة نوبل مكافأة له. وحقيقة ما هذه الحزازات بينه وبين المدير أليس هو أكبر منها وأقدر بكثير، ولماذا الحزن والمرارة لكل ما فات والآتي أروع منه بكثير ولماذا التعنت مع أستاذ القسم المساعد، لماذا لا يعطيه الفرصة، إنه شاب ومن حقه أن يطمح إلى كرسي الأستاذ .. المشاكل نحن نخلقها حين نفتقر إلى التفاؤل، والتفاؤل هو الإرادة، وبالإرادة القوية تصبح الحياة كالبساط الممهد، بساط الريح .. عش واضحك وامرح واطلب القمر يأتك .. أرده إرادة قوية حقيقية يأتك .. وكله .. كل ما في الحياة آت لا ريب فيه.
واقتربت السيجارة من نهايتها، وتلاحقت أنفاس الفتاة في صعود القمة، ومضى جسدها يتهدج، وقد أصبح كله صدرا يلهث، وشفاها بدأت من الجرعات المتلاحقة ترتعش وتضطرب، اضطراب الحمى، حمى شملته هو كله .. والينبوع الخفي فيه يتفجر بأقصى قوته ويصل به إلى قمة الانفعال تلك التي ينتفي معها الزمن، ولو للحظات يتوقف الزمن، يغرب إلى ما وراء الإدراك، ويصبح الحاضر مجرد لون، لون أحمر مدمم في لون الشفق.
وأخذت الفتاة، من السيجارة التي كادت نارها تحرق الأصابع، نفسا، كآخر شهقة ثم سكنت تماما، وكأنما غابت عن الوجود. ومن بين إصبعيها اللذين انفرجا استرخاء انفلتت بقية السيجارة واستقرت ذابلة ممصوصة مغضنة على الأرض.
وأحس العميد بعد الرعود والانفجارات والحمى بسلام مفاجئ ممتد كأنه سيبقى إلى الأبد، يشمله ويجعله يتمنى أن يكف الكون عن حركته لتبقى اللحظة في ديمومة لا تنتهي.
ولكن الديمومة انتهت، فلأمر ما بدت الفتاة وكأن العيون المستترة التي تحس الخطر دون أن تراه قد أدركت شيئا فقد ضمت جفنيها بشدة ثم فتحتهما على آخرهما ليلتقيا، هكذا، كالطلقة المصوبة بدقة، بعيني العميد في تطلعهما من خلف زجاج النظارة.
وللأزمن التقت النظرات، ولكنه لم يكن لقاء ولا وقتا، ولا شيئا يقاس، كان ارتطاما، سقوطا من حالق ربما، ماء باردا كالثلج، برودة الواقع الذي ترتجف لهوله المدارك، الثلج الصاعق.
وتكهربت النظرتان بخجل، لا قبل لأيهما به، خجل سريع مغور جارح.
وفي جزع هائل انتفضت الفتاة جالسة، وقد غاص قلبها، وبيد ترتجف بالرعب دلقت كل محتويات حقيبتها لتستخرج في لمح البصر كتابا، تعود معه تنكب، كالطالبة المجتهدة على صفحاته.
অজানা পৃষ্ঠা