فلا حاجة إلى الكلمات لفهم معنى الصوت الذي ينبعث من بعيد للاستغاثة وإعلان الخطر والفزع، ولا حاجة إلى الكلمات لفهم معاني الأصوات التي يرسلها الصائحون على البعد أو على القرب للتهليل والاستبشار، وإعلان الفرح والابتهاج.
ولا حاجة إلى الكلمات لفهم معنى الأنين على ملامح المبتئس الكئيب، الذي يكاد لا يبين من الضعف والخوف، أو معنى الرجاء والتوسل بما يشبه الآهات وحروف التنبيه، والإشارة التي لم تبلغ بعد مبلغ الكلم المفهوم.
فهذه الأصوات التي تدل السامع بإيقاعها، ونغمتها هي المقصودة بالشعر البدائي قبل تطور اللغة، واستيفاء وسائل التعبير بالجمل والتراكيب، فإن تلك الأصوات الموقعة حقيقة بأن تسمى شعرا حين نحسب الكلام الناقص المختلط قبل تطور اللغة فنا من فنون القول المنثور.
ويرى أناس من مؤرخي اللغات أن الإعراب في اللغة العربية أثر من آثار استخدام الحركة في التعبير عن المعنى، وأن اللغة العربية تفردت بين لغات العالم بهذه الخاصة الفنية مع شيوع أنواع من الإعراب في بعض اللغات الهندية الجرمانية، كاللاتينية وبعض اللغات السامية كالعبرية والحبشية، وبعض اللغات القديمة المهجورة كاللغة المصرية على عهد الفراعنة.
إلا أن الإعراب «العربي» واف مقرر القواعد يعم أقسام الكلام أفعالا وأسماء وحروفا، حيثما وقعت بمعانيها من الجمل والعبارات، ولا يزيد الإعراب في اللغات الأخرى على إلحاق طائفة من الأسماء والأفعال بعلامات الجمع والإفراد، أو علامات التذكير والتأنيث، وما زاد على ذلك فهو مقصور على مواضع محدودة، ولا يصاحب كل كلمة ولا كل عبارة كما يصاحب الكلمات العربية، حيثما وقعت من عباراتها المفيدة.
وهذا الإعراب المفصل في هذه اللغة الشاعرة هو آية السليقة الفنية في التراكيب العربية المفيدة، توافرت لها جملا مفهومة بعد أن توافرت لها حروفا تجمع مخارج النطق الإنساني على أفصحها وأوفاها، وبعد أن توافرت لها مفردات ترتبط فيها المعاني بضوابط الحركات والأوزان.
فليس أوفق للشعر الموزون من العبارات التي تنتظم فيها حركات الإعراب، وتتقابل فيها مقاطع العروض وأبواب الأوزان وعلامات الإعراب.
فإن هذه الحركات والعلامات تجري مجرى الأصوات الموسيقية، وتستقر في مواضعها المقدورة على حسب الحركة والسكون في مقاييس النغم والإيقاع، ولها بعد ذلك مزية تجعلها قابلة للتقديم والتأخير في كل وزن من أوزان البحور؛ لأن علامات الإعراب تدل على معناها كيفما كان موقعها من الجملة المنظومة، فلا يصعب على الشاعر أن يتصرف بها دون أن يتغير معناها؛ إذ كان هذا المعنى موقوفا على حركتها المستقلة الملازمة لها، وليس هو بالموقوف على رص الكلمات كما ترص الجمادات.
وإن هذه الموسيقية لتعلم النحاة أحيانا كيف ينبغي أن يفهموا الشعر في هذه اللغة الشاعرة؛ لأنه المزية الشعرية في قواعد إعرابها أسبق من المصطلحات التي يتقيد بها النحاة والصرفيون.
يقول النابغة:
অজানা পৃষ্ঠা