وإذا قال العربي القديم: إن العرب قوم أو قبيل، فإنما يعني بالقوم طائفة من الناس تقوم معا للقتال، فالشاعر الذي سأل «أقوم آل حصن أم نساء» لم يخطئ الغرض، وإنما جاء اللبس أو جاءت الحاجة إلى التفسير حين أطلقت كلمة القوم على الأمة كلها، فوجب أن تطلق في معناها هذا على الرجال والنساء.
وما الطائفة؟ وما القبيل؟ إنهما جاريتان على هذا المجرى، فالطائفة أناس يمضون إلى قبلة واحدة ... ومثل هذا إطلاق كلمة القرن على الذين يقترنون في مولد واحد، ثم أطلقت على الزمن الذي يقترنون فيه، ويشبه أن يكون الجيل بمعنى القرن على فعيل من جال، ثم تحولت من جويل إلى جيل. •••
نستطرد مما تقدم إلى المقارنة بين اللغة العربية، واللغات الأخرى في استعمال المعنى الحقيقي، والمعنى المجازي في وقت واحد، فيبدو لنا من هذه المقارنة أن الكلمات التي تستعمل للغرضين كثيرة في اللغة العربية، وليست بهذه الكثرة في اللغات الأوروبية، وقد يرجع هذا الفارق إلى غير سبب واحد، فلعله راجع إلى تطاول العهد بين بداوة الأمم الأوروبية وحضارتها، ولعله راجع إلى انتقال لغاتها إلى حالتها الحاضرة من لغات قديمة بطل استعمالها، وانقطعت فروعها عن أصولها، ولعله راجع إلى خاصة عربية بدوية في التعبير بالتشبيهات المجازية أو الشعرية.
وأيا كان السبب، فالخلاصة العملية التي نتأدى إليها من هذه الملاحظة أننا لا نحتاج كثيرا إلى التسلسل التاريخي في وضع معجماتنا الحديثة؛ لأن هذا التسلسل ضروري في اللغات التي يكثر فيها إهمال الكلمة في معنى، وسيرورتها في معنى آخر، ولكنه لا يبلغ هذا المبلغ من الضرورة حين توجد الكلمة مستعملة في جميع معانيها على السواء، أو على درجات متقاربة.
ومن النتائج العملية لتلك الملاحظة أن نذكر في سياق التجديد، والمحافظة على القديم أن العرب كانوا مجددين على الدوام في إطلاقهم الكلمات القديمة على المعاني الجديدة، ونحن لا نعدو سياقنا هذا حين نلتفت إلى الأصل في كلمة القديم والأصل في كلمة الجديد، فنتخذ منها شاهدا على ما ذهبنا إليه.
فالتقدم هو السير بالقدم، ويقال: تقدم أي مشى بقدمه، كما يقال: ترجل أي مشى برجله، وتقدمه أي مشى أمامه، ومن هنا التقدم بمعنى السبق والقديم بمعنى الزمن السابق.
ولا ندري على اليقين كيف أطلقت كلمة الجديد على معناها هذا من أقدم أطوارها، ولكننا ندري أن الجد هو القطع، وأن الثوب الجديد هو الذي قطع حديثا، فلعل هذا المعنى من أقدم معاني الجديد إن لم يكن أقدمها على الإطلاق.
وظاهر من جملة هذه الملاحظات أن أهل العربية جددوا كثيرا من مجازاتهم، وأننا نستطيع أن نحذو حذوهم.
ونحن نقول: «إننا نحذو حذوهم»، ولا نظن أننا نبعد في اتخاذ الكلمات لمعانيها المستحدثة مسافة أبعد من المسافة بين الأصل في حذو الجد، وبين المجاز في دلالته على الاقتداء والاهتداء، ولا أبعد من الأصل في كلمة «المسافة» حين أطلقت على الموضع الذي يسوف فيه الدليل تراب الأرض؛ ليعرف موقعه من السير، ثم استعيرت لما نعنيه اليوم بالمسافة، وهي كل بعد بين موضعين.
وشرط اللغة علينا أن نصنع كما صنع أهلها، فنجدد في المعاني من طريق المجاز، بحيث لا يكاد السامع يفرق بينهما للوهلة الأولى أهي أصل في اللغة قديم أم مجاز جديد. •••
অজানা পৃষ্ঠা