الإهداء
اللغة والدين والعادات
الإهداء
اللغة والدين والعادات
اللغة والدين والتقاليد في حياة الاستقلال
اللغة والدين والتقاليد في حياة الاستقلال
تأليف
زكي مبارك
الإهداء
إلى فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي أهدي هذه الصحائف، تحية من رجل يضمر له أصدق الود، ويعرف فضله في إعزاز اللغة والدين، ومحمود التقاليد.
المخلص
محمد زكي عبد السلام مبارك
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين.
أما بعد، فهذا بحث أدرت معانيه في ذهني أسبوعين، ثم كتبته في سهرتين، وأنا أقدمه إلى الجمهور قبل أن أقدمه إلى لجنة التحكيم في المباراة الأدبية، أقدمه سمحا سهلا كما فاض به الطبع، بلا توشية ولا تنميق.
ولا يكن كل همي حين أنشأته أن أظفر بالجائزة الأولى، وهي مرصعة بمائة دينار، تعود على مثلي بأجزل النفع، وإنما كان أكبر همي أن تصل بعض آرائي إلى آذان قومي، وهذا مغنم ليس بالقليل.
وإني أعتذر عما اصطنعت من الإيجاز، فقد ضاق الوقت، وصرفتني الشواغل عما كنت أريد من الإطناب، وجهد المقل غير قليل.
زكي مبارك
مصر الجديدة في 12 المحرم سنة 1355 / 4 أبريل سنة 1936
اللغة والدين والعادات
باعتبارها من مقومات الاستقلال
1
الدين واللغة والعادات من الظواهر التي يتصل بعضها ببعض أشد اتصال، ومن المؤكد أن اللغة تخضع في بعض ألوانها للدين والعادات، وقد يكون في صورها القديمة ما يؤثر في الدين والتقاليد، وهذه الظواهر الثلاثة تبدو مختلفة بعض الاختلاف، ولكنها عند التأمل ترجع إلى أصل واحد، هو التعبير عن الخلائق الأدبية؛ فاللغة مظهر من مظاهر الأناقة والدقة في الإفصاح، والدين صورة العقيدة التي يحيا بها الناس، والعادات مظاهر لما تأصل من كريم الشمائل والخلال.
فالإنسان المهذب تقوم حياته الأدبية على لسان فصيح، ودين حق، وعادات كريمة، تصل بينه وبين الأقربين من إخوانه في الوطنية، وقد تسمو فتصل بينه وبين الأبعدين من إخوانه في الإنسانية.
2
ونريد في هذا البحث أن نخص كل عنصر من هذه العناصر الثلاثة بشيء من البيان، فنقول:
اللغة في ذاتها شخصية استقلالية، فالذي يعبر بلغته يشعر بالقوة، وتنطبع نفسه على حب الكرامة والاستقلال، ويزيد هذا المعنى وضوحا ما نشعر به حين نضطر ونحن في بلادنا إلى التفاهم مع بعض الأجانب بغير العربية، فإننا حين ذاك نشعر بالتخلف، ونوقن بأن سلطاننا في العالم سلطان ضعيف، فقد يجيء الأجنبي إلى مصر، ثم تمضي عليه الشهور والأعوام بدون أن تقهره الظروف على تعلم العربية، ويكون معنى ذلك أن مصر ليست ملكا خالصا للمصريين، فإن الرجل لا يستطيع أن يتخذ باريس أو لندن أو برلين مقاما بدون أن يتعلم الفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية، ولكنه يستطيع أن يتخذ القاهرة مقاما بدون أن يتعلم العربية؛ لأن في القاهرة عصبيات أجنبية لها مدارس ومكاتب وجرائد ومسارح ومنتديات، ويستطيع الفرنسي أو الإنجليزي أن يعيش فيها سنين عددا وهو لا يتكلم غير الفرنسية أو الإنجليزية، وهو يستطيع بقوته الاستقلالية أن يقهر المصريين على مخاطبته بلغته الأصلية، ثم لا يستطيعون هم أن يقهروه على مخاطبتهم باللغة العربية.
أليس هذا من أنصع الدلائل على أن اللغة في ذاتها شخصية استقلالية؟
لقد كنت آسى كلما تذكرت تقصيري في تعلم الإنجليزية، ثم مرت ظروف حمدت فيها ذلك الجهل؛ لأنه على قبحه كان عنوانا على الشخصية الاستقلالية. وتفصيل ذلك أني أقمت عددا من السنين في باريس، وكنت ألقى فيها ناسا من النمسويين والبولونيين والهولنديين والألمان، فكان يتفق أحيانا أن يجري ذكر اللغة الإنجليزية، فكنت أعلن أني أجهلها كل الجهل، فكانوا يقولون: وكيف يصح ذلك ومصر في قبضة الإنجليز؟ فكنت أجيب: إنكم واهمون، إن مصر ليست في قبضة الإنجليز، وإنما هي ملك لأبنائها الصناديد، واللغة الإنجليزية في مصر لغة أجنبية، يرغب فيها من يشاء، وآية ذلك أني أحمل أكبر الألقاب العلمية، بدون أن أتعلم الإنجليزية.
3
ومن أمراض الشخصية الاستقلالية في مصر، ما نشهده في المصالح والدواوين من كتابة أسماء الغرف والحجرات بلغة دخيلة تزاحم اللغة القومية، بلا تحرج ولا استحياء، فإن تلك الكلمات تشعرنا دائما بأن لنا في الوطن شركاء، وأن لغتنا لا تملك السيطرة والاستقلال، وقد اتفق أن رأيت في بعض قطارات فرنسا كلمات إنجليزية بجانب الكلمات الفرنسية، فدهشت، ثم سألت عن السر في ذلك، فعرفت أنه لم يقع تلطفا مع الإنجليز، وإنما وقع تألفا للسائحين من الأمريكان، وهو لم يقع إلا في القطارات التي تسيرها الشركات، أما قطارات الدولة فهي كمصالح الدولة، لا تكتب فيها كلمة أجنبية على الإطلاق.
4
قد يقال: وأين نحن من فرنسا؟ ونجيب بأن فكرة الاستقلال خليقة، بأن توحي إلينا التشبه بكرام المستقلين، والذي عرض هذا الموضوع للمباراة لم ينس أن يشير إلى أن للكاتب «مطلق الحرية فيما يبدي من آراء ومقترحات»، وأخشى أن أخون الواجب إن قصرت في تذكير الحكومة بواجبها في الاكتفاء بالكلمات العربية في جميع المصالح والدواوين، ولست أزهد في إرشاد من يفد على دور الحكومة من الأجانب، فأضن عليهم ببعض ما يعرفون من الكلمات، لا، وإنما هي مسألة قومية، لا يفرط فيها إلا من يستهين بما اصطلح عليه الناس من شارات الاستقلال.
ولنفرض أننا نكتب أسماء الغرف والحجرات بكلمات أجنبية لنرشد الأجانب، فكيف يجوز أن نفترض أن الأجانب لا يكونون إلا من الإنجليز؟ إن في الدنيا أمما كثيرة، شرقية وغربية، ولمصر مع الشرق والغرب صلات، فكيف صح عندنا أن الإنجليز هم وحدهم الجاهلون باللغة العربية، وأنهم الخليقون بالعطف والإشفاق؟
ومن المحزن أن هذه البدعة السيئة انتشرت في جميع المدن المصرية، حتى حي الأزهر الشريف، فأمام مسجد الحسين بائع «فول مدمس» زين واجهة المطعم بكلمات إنجليزية.
أتكون الصراحة التي دعانا إليها رئيس الحكومة فرصة لتذكير أولئك الغافلين بأنهم يجرحون القومية ويؤذون الاستقلال!
قلتم: إن التفضيل في المباراة سيكون ل «الرسالة العملية النتائج»، فأسرعوا غير مأمورين بدعوة الموظفين والجمهور إلى احترام اللغة العربية، احتراما يجعلها بلا مزاحم ولا شريك في المصالح والمتاجر والدواوين، ابدءوا أنتم باحترام اللغة في جميع دور الحكومة، وسترون كيف يتبعكم سائر الناس.
5 «اللغة من مقومات الاستقلال؟»
كذلك يقول صاحب الدولة رئيس الوزراء.
إذن ما رأيكم في لغة التعليم؟
إن التعليم عند المستقلين يجب أن يكون باللغة القومية، لغة الآباء والأجداد، ومن العسير أن نجد في الدنيا أمة مستقلة تصطنع في التعليم لغة أجنبية.
أما مصر العزيزة فقد قسمت إلى مناطق؛ منطقة ضعيفة تسود فيه اللغة العربية، وهي المدارس الابتدائية والثانوية، ومنطقة قوية تسود فيها اللغة الفرنسية، وهي كلية الآداب وكلية الحقوق، ومنطقة أقوى تسود فيها اللغة الإنجليزية، وهي كليات الطب والهندسة والعلوم.
ومناصب التعليم في المدارس العالية أكثرها للأجانب، وهي بلية لا تصبر عليها أمة تسمو إلى كرامة الاستقلال.
إن الأمم الحرة لا تعطي مناصب التعليم غير أبنائها، واللغات الأجنبية ذاتها لا يدرسها الأجانب، وإنما يدرسها الوطنيون، ففي فرنسا مثلا أساتذة اللغات الأجنبية كلهم فرنسيون؛ ومن أجل هذا تملك فرنسا طائفة كبيرة من النوابغ في اللغات الأجنبية، أما في مصر، فيندر أن تجد من يتفوق في لغة أجنبية؛ لأننا نتعلم اللغات لغاية محدودة، هي الاستفادة من المؤلفات، ولو كان لنا مستقبل في تعليم اللغات الأجنبية لتبدل الحال غير الحال، وشعر شبابنا بأن لهم مصالح يخلقها التفوق في اللغات، وكان ذلك حجرا في بناء الاستقلال.
لا أريد أن يجرفني الاستطراد، فلأرجع مسرعا إلى ما كنت فيه، وأنا أقرر أن لغة التعليم في كليات الجامعة المصرية يجب أن تكون العربية، وأقول بصراحة: إن اللغة الإنجليزية لم تسد في كليات الطب والهندسة والعلوم لسبب معقول، إنهم يزعمون أن اللغة العربية تعوزها المصطلحات العلمية، وهذا وهم، أو هو عجز يستر بهذا الوهم المصنوع، فالمصطلحات العلمية لم تكن مما تفردت به الإنجليزية أو الفرنسية؛ وإنما هي ألفاظ، نحتت نحتا من اليونانية واللاتينية، وفي مقدورنا أن نأخذها كما أخذوها، بعد أن نصقلها صقل التعريب، فتضاف إلى اللغة القومية.
6
وتعليم العلوم بلغة البلاد يخلق فينا قوى جديدة، ويدفعنا إلى الترجمة والتأليف، ويرفع عنا إصر الكسل المخجل، الذي يتمتع به أساتذة الكليات، وهو كذلك يرفع عنا هذه الوصمة البشعة، وصمة الفقر في المكتبات، ففي الممالك المستقلة، يرى الإنسان في الأحياء الجامعية مكتبة خاصة بالطب، ومكتبة خاصة بالعلوم، ومكتبة خاصة بالفلسفة، ومكتبة خاصة بالطيران ... وهكذا دواليك، أما في مصر، فلا يجرؤ أحد من الناشرين على إنشاء مكتبة خاصة بعلم من العلوم، وإنما تتجمع العلوم والآداب والفنون والحكايات في مكتبة واحدة، تلتقي فيها قصة القط والفأر بكتاب أرسطو في الأخلاق.
إن فقر مصر في الترجمة والتأليف يقع وزره على رجال الجامعة المصرية، فلو سلكوا مسلك الحزم والجد، وتذكروا أنهم يعيشون في بلد كان وطن المعارف والعلوم، لأقبلوا على لغتهم فاصطفوها، وجعلوها لغة التعليم، وأمدوها بكل طارف وتليد، وتسامت همتهم إلى جعلها لغة الشرق، فعاشوا بفضلها سادة أعزاء.
وفي مقدور سعادة مدير الجامعة أن يشير بهذه التجربة في حزم وجد، وما أظنه يخشى الإخفاق؛ لأن اللغة العربية لها ماض مجيد في الحياة العلمية والطبية، ومن السهل رجعها إلى مجدها القديم، ونحن لا تعجزنا الأصول، وإنما تعجزنا الهمم العاتية، التي تخلق الممالك والشعوب، وليس من الكثير أن نشقى عشر سنين في سبيل تجربة شريفة، نحفظ بها ذكرانا نقية بيضاء على وجه التاريخ.
أقدم يا مدير الجامعة المصرية على هذه التجربة، لتحول أساتذة الكليات إلى طلاب جادين، يشعرون بالعزة كلما تذكروا أنهم يحملون الأحجار لوضع أساس الاستقلال.
7
إن مصر حين تعلم العلوم باللغة العربية، ستفتح أسواقا جديدة هي أشرف الأسواق، وحسبكم أن تتذكروا أن مصر ستصبح بحق زعيمة الشرق، وستكون مؤلفاتها عمدة الباحثين في المشرقين، فيتغنى بذكرها أهل المغرب والشام والحجاز واليمن والعراق.
أتحسبون أن من القليل أن يكون في الخارج مكاتب خاصة بالثقافة المصرية؟
إن من مجد فرنسا وإنجلترا أن يرى الإنسان في مثل القاهرة مكاتب فرنسية وإنجليزية، وتلك من أظهر علائم السيطرة الأدبية، عند من يتمتعون بنعمة الاستقلال.
إن اللغة العربية من أكبر لغات الشرق، ومصر في هذا الزمان على رأس الحركة العلمية في الشرق، ولا ينقصها إلا أن تجعل العربية لغة التعليم في جميع المعاهد، فتقهر الأساتذة على الترجمة والتأليف، وتسوقهم سوقا إلى اجتذاب الأمم الشرقية باسم الأدب الحق، أدب الفكرة والمنطق والفن الجميل.
كيف ندعي شرف الاستقلال، وليس عندنا معجم واحد يسجل تطور اللغة في العصر الحديث؟
كيف ندعي شرف الاستقلال، وليس عندنا مكتبة طبية أو علمية باللغة العربية؟
كيف ندعي شرف الاستقلال، وآثار مصر نفسها لم ينشر عنها كتاب واف باللغة العربية؟
كيف ندعي شرف الاستقلال، وليس عندنا كتاب في القانون خلت صفحة من صفحاته من سطرين، أو ثلاثة بلغة أجنبية؟
كيف ندعي شرف الاستقلال، ولا يستطيع رجل من علمائنا أن يكتفي في أي بحث بالمصادر العربية؟
كيف ندعي شرف الاستقلال، وليس عندنا وزير واحد خلت بطاقته من الكلمات الأجنبية؟
كيف ندعي شرف الاستقلال، والمطبوعات الأجنبية هي أكبر محصول في دار الكتب ومكتبة الجامعة المصرية؟
كيف ندعي شرف الاستقلال، وفي القاهرة والإسكندرية مناطق لا تباع فيها غير الجرائد الأجنبية؟
كيف ندعي شرف الاستقلال، وفي الدواوين أقلام لا تدون ملفاتها بغير الإنجليزية؟
كيف ندعي شرف الاستقلال، ولغتنا منسية في معاهدنا ومدارسنا ومكاتبنا؟ وأخشى أن أقول إنها منسية في دور الوزراء والأمراء وأكثر المتحذلقين من أبناء الزمان؟
إن مدير الجامعة مسئول أمام الوطن، وأمام التاريخ عن هذا البلاء، وفي يده أن يكشف هذه الغمة، وأن يجعل لغة البلاد لغة الدرس والتأليف في جميع الكليات. نعم، يستطيع الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد باشا، أن يجمع أبناءه المخلصين، من أساتذة الجامعة المصرية، ويفرض عليهم اصطناع اللغة العربية في جميع المواد، وعلى الضعيف أو المتخلف أن يستقيل، فإن مصر تعاني أزمة تقض المضاجع؛ لأنها مستقلة رسميا، ولكنها محرومة من أشرف مظاهر الاستقلال.
أريد أن أعرف ما الذي يقهرنا على هذه التبعية العلمية للإنجليز والفرنسيس؟
إن اللغة الفرنسية ليس لها إلا سلطان ضئيل في كلية الحقوق وكلية الآداب، أما اللغة الإنجليزية فتطغى، وتستطيل في كليات الطب والهندسة والعلوم، وما أذكر أن هذا الطغيان كان من التحفظات المشهورة في التاريخ.
لنا عذر واحد: هو الكسل المعسول، الذي ينعم به الخامدون.
ولكن هل يعجز مدير الجامعة عن استئصال هذا الداء؟
إن الوطن ينتظر منه هذه اللفتة؛ لفتة الوالد الحازم الذي يخشى على بنيه من انهزام العزائم وانحلال الطباع.
8 «إن اللغة من مقومات الاستقلال.»
كذلك يقول دولة رئيس الوزراء.
وهذا والله صحيح، ألم تروا كيف يحرص الغاصبون على نشر لغاتهم؟ إن فرنسا في مستعمراتها تنشر اللغة الفرنسية، وإنجلترا في مستعمراتها تنشر اللغة الإنجليزية، وإيطاليا في مستعمراتها تنشر اللغة الإيطالية.
فإذا كان الغاصبون يرون نشر لغاتهم من مؤيدات الاحتلال، أفلا يرى الوطنيون نشر لغتهم من مؤيدات الاستقلال؟
رحمة الله على ألفونس دوديه، فما تذكرت كلمته عن «الدرس الأخير» في «الألزاس» إلا ثارت نفسي، وتجدد إيماني بأن حفظ اللغة هو الأساس في حفظ الاستقلال، ونحن خليقون بأن نأخذ الدرس من غاصبينا؛ لأنهم أساتذة في علم النفس، وإليهم المرجع في تصريف الشعوب.
اللغة - كما قلت لكم - شخصية استقلالية، وهي وحدها من أهم مظاهر الاستقلال، فعضوا عليها بالنواجذ، إن كنتم تعقلون.
9
وما أحب أن تضيع هذه الفرصة بدون أن أذكر سعادة مدير الجامعة المصرية بمسألة خطيرة، تمس الاستقلال، وتلك هي مسألة الرسائل التي تقدم لنيل الدرجات الجامعية.
إن الرسائل التي تقدم لامتحان الدبلوم والدكتوراه يجب دائما أن تكون باللغة القومية، ففي جامعة باريس مثلا، لا تقبل الرسالة الأساسية بغير اللغة الفرنسية، ولو كانت في موضوع يتصل بإحدى اللغات الأجنبية.
أما في مصر، فالأمر بالعكس، تقدم الرسالة إلى الجامعة المصرية بأي لغة أجنبية بدون اعتراض، ولو كانت في صميم الآداب العربية، أو الشريعة الإسلامية، وهي حين تقدم بالعربية يجب أن تكون مصحوبة بخلاصة فرنسية أو إنجليزية، ولو كان أعضاء الامتحان جميعا مصريين.
وقد قاومت هذه البدعة مرات كثيرة في جريدة البلاغ؛ لأن كلية الحقوق جرت في تقاليد الامتحانات العالية على إيثار تقديم الرسائل بلغة أجنبية، واتفق لها مرة أن قبلت رسالة كتبت باللغة الفرنسية عن الدية في الشريعة الإسلامية.
تذكروا أنكم دعوتمونا إلى تقديم ما نشاء من الآراء والمقترحات، فإن كنتم جادين فيما دعوتم، فنحن جادون فيما نقترح، ونحن نرى تقديم الرسائل إلى الجامعة بلغات أجنبية ينافي الحرص على مقومات الاستقلال.
قد تقولون: إنكم تريدون التعرف إلى الجامعات الأجنبية. ونحن نقول: إن لهذا التعرف وسائل كثيرة ، فاختاروا منها ما شئتم، إلا هذه الوسيلة التي تعلن تبعيتكم لثقافة الإنجليز أو الفرنسيس.
أنا أدعو إلى تعديل هذه الفقرة من لوائح الجامعة المصرية، وأوصي بجعل اللغة العربية لغة الرسائل العلمية والأدبية والتشريعية التي تقدم لنيل الدرجات الجامعية.
أترون في هذا الاقتراح شيئا من الشطط؟!
إن سعادة مدير الجامعة يعرف أني على حق، وإلى رأيه الموفق أكل تحقيق هذا الاقتراح النبيل.
10
ولكن ما هي اللغة التي تعد من مقومات الاستقلال؟
أهي اللغة المخدرة التي لا ترى الشمس، ولا يعرفها غير عشاقها المعدودين من كبار الكتاب؟ أهي تلك اللغة الهيوب التي تتعثر في كل حرف، وتسقط في كل فقرة، ويختلف من حولها العلماء في الصباح والمساء!
إننا نريد «لغة من لغات المدنية» نريد لغة يفهمها الفلاح والملاح والنجار والبناء، نريد لغة سخية تسعد أبناءها جميعا بغير حساب، نريد لغة تجمع بين التواضع والجبروت، يرى فيها العوام ما يشاءون من البساطة والجمال، ويرى فيها الخواص ما يريدون من السمو والتحليق، نريد لغة مبذولة على نحو ما يبذل الضوء والهواء، يأخذ منها كل إنسان ما يناسب عينيه ورئتيه، وأنا بهذا أدعو إلى الديموقراطية اللغوية، أدعو إلى تيسير اللغة تيسيرا يقربها من جميع القارئين والسامعين، أدعو إلى القصد في احترام الألفاظ القاموسية، وأشير باحترام ما اصطلح عليه الناس من الألفاظ في مختلف الفنون.
ولن تكون اللغة العربية «لغة مدنية» إلا يوم تصبح أداة التفاهم بين جميع الطبقات، ويوم تحترم جميع الألفاظ الاصطلاحية، فترفع تلك الهيبة السخيفة التي يعانيها كل تلميذ يكلف موضوع إنشاء.
وأنا أقترح أن يتصل المؤلفون بالقراء، على نحو ما يتصل الأساتذة بالطلاب، فإن ذلك ينفع أجزل النفع، في تعريف المؤلفين بما يأخذون، وما يدعون، فقد رأيت العجب في حياة التدريس، وعلمت علم اليقين، أن التلاميذ يتهيبون اللغة، ويذهبون ضحية الحذلقة التي يلمسون آثارها فيما يقرءون وما يسمعون.
لقد كنت أجد من بين تلاميذي من يدنو مني في درس الإنشاء ويهمس: يا أستاذ، هل يصح أن أقول: «مشيت وحدي.» - نعم يا بني ، تستطيع أن تمشي وحدك بلا معين.
وكنت أجد من يقول: يا أستاذ، هل «خرجت» كلمة فصيحة؟
نريد أن يقبل الأساتذة والمؤلفون على التلاميذ والقراء، فيفهموهم أن الإفصاح أيسر مما يظنون، نريد أن يفهم الجمهور أن الإفصاح ليس وقفا على المتحذلقين من أساتذة الأزهر ودار العلوم وكلية الآداب.
وأنا مع هذا أومن بأن في كل لغة نوعا من الأرستقراطية الأدبية، ولكني أنكر أن تكون لغتنا في كل مناحيها لغة أرستقراطية، لا يفهمها حق الفهم غير الخواص.
اذهبوا إن شئتم إلى مدينة مثل باريس، وانظروا كيف تنشر على الجماهير بعض الفقرات من خطب الوزراء؛ رحمة الله على تلك الليالي حين كنت أنظر أقوال هريو ودلادييه منشورة بأحرف من نور في أكثر الميادين، وهي في بساطة تذكر بتعابير الأطفال.
اقرءوا إن شئتم مؤلفات أناتول فرانس؛ ذلك الكاتب الفحل الذي حول الفرنسية إلى أحاديث حلوة عذبة لا يدق معناها على أحد من سواد الناس.
إن «البيان» الذي سمعتم عنه لا يعرفه إلا الأقلون من كتاب هذا الزمان، وإلا فأين الكاتب الذي استطاع أن يصل بقلمه اللعوب إلى أفئدة الجماهير من أهل الريف؟
وعلى من يقع وزر هذه النكبة الوطنية؟
يقع وزرها على الأساتذة والمؤلفين، فهم الذين ملئوا أذهان الناس بالوسوسة اللغوية، وحرموهم نعمة الفهم الصحيح.
نحن نريد لغة تشبه لغة القوانين والمعاهدات، نريد لغة محددة الألفاظ، واضحة المعاني، نريد لغة موحدة يخاطب بها جميع الناس بلا تردد ولا تهيب، وهذه اللغة المنتظرة يجهد في خلقها كتاب الصحف اليومية الذين عرفوا بالتجربة أن لهم «زبائن» في جميع البيئات.
11
ويتصل بهذا الغرض إصلاح الرسم، وأنا أدعو إلى التفكير في اختراع حروف جديدة مشكولة، فإن الرسم الذي نكتب به ناقص أبشع النقص، ولن نصل إلى تحرير اللغة من اللبس إلا يوم نطمئن إلى أن الجماهير المختلفة تنطق الكلمات على نمط واحد، فقد اتفق لي مرات كثيرة أن أعدل عن كلمة إلى أخرى خوفا من اللبس الذي يوجبه فقد الشكل، ولو كنت أجد حروفا مشكولة في مثل مطبعة البلاغ لوصلت في الإفصاح إلى ما أريد.
والذي أعانيه من هذا الجهد يعانيه جميع الكتاب، والمهم في هذه المسألة هو إيجاد حروف مشكولة مع القصد في صناديق الحروف، فإن الشكل ليس بمستحيل، ولكنه غير مستطاع في الجرائد بسبب تعدد الصناديق وازدياد نفقات الجمع، وتستطيع الحكومة أن تقيم «مباراة خطية» عسانا نجد من يخترع لنا حروفا مشكولة لا يزداد بها عدد الصناديق.
ولتوضيح هذه المسألة أقول:
إن لحرف الفاء مثلا أربع صور هي: ف، ف، ف، ف.
ولو وضعنا لكل صورة ثلاث حركات لاحتجنا إلى اثنتي عشرة صورة لكل حرف، وبذلك تتعدد الصناديق، وتحتاج كل مطبعة إلى مضاعفة عدد الصفافين، وذلك عبء ثقيل.
وأنا بكل جرأة أدعوكم إلى توحيد الحروف، أدعو إلى الاكتفاء بصورة واحدة لكل حرف، فيكون له وضع واحد في أول الكلمة وفي الوسط وفي الطرف، ثم يصب من كل حرف ثلاثة أشكال فيها الكسر والضم والفتح، مع الاستغناء مؤقتا عن حركات الإعراب.
وهذا الاقتراح يبدو غريبا لأول وهلة، لأنه يذهب بشيء من جمال الخط العربي، ولكن جمال الخط القديم لن يساوي ما نظفر به من الدقة والتحديد في الخط الجديد.
قد تقولون: إن هذا الاقتراح سيوجب أيضا زيادة الصناديق، وأجيب بأنها زيادة قليلة بالقياس إلى الزيادة المخوفة، التي يرهقنا بها اصطناع الشكل الكامل في الخط القديم.
على أنه لا مفر من التفكير في إصلاح الرسم؛ لأن البدعة التركية في اصطناع الحروف اللاتينية، ستلاحقنا بلا ريب، فإن لم نتدارك الأمر منذ اليوم، فسيكون لشبان الجيل المقبل آراء في استحسان ما صنع الأتراك.
فإن لم تفعلوا - وأرجو أن تفعلوا - فإني أخشى أن يكون مصير الخط العربي مصير أتعس السمكات الثلاث!
12
ولكن كيف السبيل إلى تقريب اللغة العربية من قلوب الناس؟
إن اللغة العربية لا يعرفها أهلها؛ لأن المؤلفات الحديثة خالية من الجاذبية في أكثر الأحوال، والمؤلفات القديمة مهجورة، لا أنصار لها، ولا أشياع، وآية ذلك أن مكتبة الأزهر يندر أن يفد إليها أحد من المطالعين، ومكتبة زكي باشا لم تجد من يقرؤها في قبة الغوري غير جماعة الفيران!
والناشرون في القاهرة لا تعيش مكتباتهم إلا بفضل زبائنهم في مختلف الأقطار العربية، أما الإسكندرية فأمرها عجب، ومن كان يظن أن تلك المدينة العظيمة ليس فيها مكتبة واحدة مصرية تضارع بعض ما فيها من المكتبات الأجنبية؟
وكذلك يقال في بور سعيد وأسيوط وأسوان.
وخلاصة القول: إن اللغة العربية - لغة التأليف - ليس لها في مصر قراء، وهذا عيب يمس كرامة الاستقلال.
إن الشاب الفرنسي يقرأ في كل سنة نحو ستين كتابا، فكم كتابا يقرأ الشاب المصري؟ اسألوا أنفسكم عما تذكرون من المؤلفات الحديثة، أو القديمة التي توصون بقراءتها من يستفتيكم من الشبان، لقد قضيت في مهنة التعليم نحو عشرين سنة، واختبرت ألوفا من التلاميذ في المدارس المصرية والأمريكية والفرنسية، وكنت أحض الطلبة على القراءة والاطلاع، وكان الطلبة يسألون: ماذا نقرأ؟ وأقسم صادقا إني لم أوفق مرة واحدة إلى الجواب؛ لأني لا أجد ما أوصي بقراءته غير عدد يسير جدا من المصنفات، لا يفتن ولا يشوق.
إن التأليف في مصر مشلول بالرغم من طنطنة المؤلفين، والأمة التي تعجز عن تثقيف أبنائها لا تعرف مقومات الاستقلال.
ينبغي أن يكون في مصر مؤلفات لكل جمهور، وفي مصر نحو عشرة جماهير مختلفة المشارب والأذواق، فما الذي صنع كبار المؤلفين لتغذية تلك المشارب والأذواق؟
على أن من التعسف أن نلقي اللوم كله على المؤلفين، فهذه الجماهير مسئولة أيضا عن كساد التأليف، إن هذه الجماهير لا تعرف المكتبات العمومية أو الخصوصية، وأنت في الأغلب تقول في سبيل التعريف: إن المكان الفلاني قريب من المحافظة، قبل أن تقول: إنه قريب من دار الكتب المصرية.
فما السبيل إلى تشجيع التأليف، وخلق ذوق القراءة والاطلاع؟
لنبدأ بالموظفين الذين ننفق عليهم نصف الإيراد.
إن جمهور الموظفين لا يقرأ، ولا يهمه أن يقرأ، مع أنهم يمثلون الجمهور النظيف، فإن كنتم في ريب من هذا الحكم الصارم، فانظروا مصير أهم المؤلفات، فإن أعظم كتاب في مصر لا يطبع في كل مائة سنة أكثر من مرتين ، أكان يصح ذلك لو كان الموظفون من عشاق القراءة والاطلاع وهم يعدون بالألوف؟
قد تقولون: إنهم يعوضون ما ينقصهم بالاطلاع على الجرائد والمجلات، وهذا أيضا غير صحيح، فالموظفون - في الأغلب - منقطعون عن الحياة الأدبية، وقد يلقاني الرجل منهم فيوجه إلي أسئلة عن ناس لا يعرف أن صلتي بهم انقطعت منذ سنين، وقد اتفق منذ أيام أن أرسل إلي أحد كبار الموظفين خطابا على كلية الآداب، مع أني فارقت تلك الكلية منذ أشهر طوال، ونشرت عن بعض خصومي فيها أكثر من عشر مقالات، وكنت أظن أن مثل هذا الحادث يصل صداه إلى جميع الآذان.
هذا عيب من عيوبنا، فلندمغه غير هائبين.
13
ولكن ما هو العلاج؟
أنا أقترح أن تؤلف في وزارة المعارف لجنة خاصة بتشجيع التأليف، تكون مهمتها فحص ما يصدر من المؤلفات لتختار ما يجب أن يقتنيه الموظفون، وفي هذه الحال أقترح أن تخصم الحكومة عشرة قروش في كل شهر من كل موظف، وتقدم إليه في كل سنة خمسة كتب أو ستة من جيد المصنفات.
ولو تحقق هذا الحلم لخلقنا في الجماهير المصرية ذوق القراءة والاطلاع؛ لأن الموظفين في مصر لهم إخوان وأبناء، وهم سيعدون بهذا المرض الجميل من يتصل بهم من سواد الناس.
قد تقولون: وبأي حق نقطع في كل شهر عشرة قروش من مرتب كل موظف؟
وأنا أعترف بأن في هذا حجرا على الحرية الشخصية!
ولكن مصر في هذه السنين تحتاج إلى مثل هذه التدابير، فنحن قوم حديثو عهد بالاستقلال، وللاستقلال مقومات على رأسها اللغة كما تعلمون.
إن اللغة لا تراد لذاتها، وإنما يقصد بها التعليم والتثقيف، ونحن في مصر نحتاج أشد الاحتياج إلى المصلح المستبد الذي يسوقنا سوقا إلى موارد العلوم والآداب والفنون.
أتذكرون ما صنع مصطفى كمال حين حرم لبس الطرابيش؟
لقد عطل نحو عشرة ملايين من الطرابيش كانت تقوم بألوف الجنيهات؛ لأنها لم تعوض إلا بمقادير عظيمة من القبعات.
وأنا لا أدعوكم إلى تبديد قروش الموظفين، وإنما أدعوكم إلى تجميل بيوتهم بنفائس المؤلفات ... أقدموا على هذه المحاولة الشعرية، فإن فعلتم، فستذكرونني ما عشتم بالخير الجزيل.
14
وبجانب هذا الاهتمام بالتكوين الأدبي لجمهور الموظفين، يجب أن نهتم بالتكوين الأدبي لجمهور الشبان، ولا سيما تلاميذ المدارس الثانوية.
وأنا أقترح إلغاء دروس تاريخ الأدب في تلك المدارس؛ لأن تاريخ الأدب لا يفهم إلا بعد درس الأدب، وأكاد أوقن بأن دراسة تاريخ الأدب في المدارس الثانوية ليست إلا ضربا من تضييع الوقت، وإجهاد العقول بلا غناء، وهذا الحكم الصارم لا يؤمن بعدالته إلا من عانى تدريس تاريخ الأدب في المدارس الثانوية، وأنا عانيته نحو عشر سنين، وعرفت ما فيه من البلاء الذي يصب على رءوس الطلاب بغير حساب.
ومن البلية ألا تقدم وزارة المعارف لطلبة المدارس إلا كتابا ألفه جماعة لم يعرف أكثرهم عقلية التلاميذ في المدارس الابتدائية ولا الثانوية، ولا دروا كيف يكون الرفق في مهمة التدريس، وإن كانوا من أعلام الزمان، وكان من العجب أن يفرض على طلبة السنة الثالثة أن يدرسوا تاريخ الأدب كله من عهد امرئ القيس إلى عصر حافظ إبراهيم، وهي دراسة سينمائية، لا يرضى عنها رجل يعرف مهنة التعليم.
وقد خفف البرنامج أخيرا بعض التخفيف، ولكنه لا يزال غير صالح، وإلا فكيف تنتظر من تلاميذ السنة الأولى في المدارس الثانوية أن يدركوا الفرق بين كاتب يغرم بالبديع، وآخر لا يتكلف البديع، وقد عرضت لي هذه المشكلة مع طلبة الليسيه فشرحتها مرات بالعربية ومرات بالفرنسية، ثم صدفت عنها صدوف اليائسين.
إن درس تاريخ الأدب بدعة نقلناها نقلا عن أوروبا، وهي مقبولة هناك؛ لأن الأدب الأوروبي يكثر فيه القصص والتمثيل، وهي موضوعات ألفها التلاميذ؛ لأنهم منذ الطفولة عرفوا القصص وعرفوا التمثيل، فلا يصعب عليهم أن يفهموا الفرق بين فن وفن، وعصر وعصر، وأسلوب وأسلوب.
أما في مصر، فالأدب في جملته يتحدث عن شئون جدية لم يعرفها الشبان من قبل، فمن العسير أن يدركوا كيف تطور واستحال من جيل إلى جيل.
إن تاريخ الأدب لا ينبغي أن يدرس إلا في المعاهد العالية، أما المدارس الثانوية فيدرس فيها الأدب الصرف، مع العناية بشرح النصوص، والبحث عن مواطن الجمال في النثر الجيد والشعر البليغ.
15
درس تاريخ الأدب في المدارس الثانوية جهد ضائع، وسنصبر عليه إلى أن تسوق المقادير إلى وزارة المعارف رجلا حاذقا من بين الذين عرفوا عقلية التلاميذ، وما أظن أننا سنصبر طويلا؛ لأن العناية بإصلاح التعليم تزداد من يوم إلى يوم.
وإلى أن تحذف تلك المادة الفضولية نوصي أساتذة اللغة العربية بأن يتخيروا للمطالعة، والمحفوظات نصوصا لا تخرج عن العصر الحديث؛ لأنه أقرب العصور إلى أذهان التلاميذ، وقربه من أذهانهم يساعد المعلمين على بيان ما يتصل به من الملابسات الخلقية والاجتماعية، ويمكن التلاميذ من فهم ما فيه من أسرار البيان.
قلتم إن اللغة من مقومات الاستقلال.
فما الذي يمنع من تعريف التلاميذ بالمصاولات الأدبية، التي تتصل بالحياة السياسية؟
ما الذي يمنع من دراسة ما وقع بين رجال الأحزاب؟
ما الذي يمنع من دراسة المناوشات الحزبية التي عرفتها مصر في الثلاثين عاما الماضية؟
ما الذي يمنع من درس ما وقع بين كبار الكتاب من صنوف الجدل وضروب النضال؟
ما الذي يمنع من درس السخرية التي عاناها محمد عبده من معاصريه؟
ما الذي يمنع من درس رسائل عبد العزيز شاويش في نقد سعد زغلول؟
ما الذي يمنع من تقليب الصحف الفكاهية، ودرس ما فيها من النكت اللواذع التي صوبت إلى رجال الأحزاب؟
ما الذي يمنع من درس وطنيات حافظ؟
بل ما الذي يمنع من درس المنشورات التي طبعت في سنة 1919؟
إنني أوصي بخلق الفرص لتشويق التلاميذ إلى درس الأدب الذي يحيي النزعة القومية، ويبعث فيهم روح الشوق إلى حياة الاستقلال.
أقول هذا، وأنا أعلم أن ما أوصي به آت لا ريب فيه، ولكن من الخير أن يعلم أبناؤنا أننا نفكر بعقول المستقلين، وأننا لا نمزح حين نتكلم عن مقومات الاستقلال.
16
ذلك ما نوصي به في التعليم الثانوي، فإذا انتقلنا إلى التعليم العالي، فرضنا على أبنائنا أن يتعمقوا في درس تاريخ الأدب العربي، ورضناهم على تذوق النصوص المختلفة، وانتظرنا منهم أن يكونوا من أعلم الناس بالأدب والتاريخ.
وفي هذه الحال لا يرضيني أن يكتفي أستاذ الأدب بالطواف حول حياة الكاتب أو الشاعر أو الخطيب؛ بل يجب أن يهتم بدرس الصلات بين الأدب والاجتماع، وأن يغري تلاميذه بخوض الحياة - حياة الجد والاقتحام - فتكون لهم مواقف يسجلها التاريخ، على نحو ما اتفق لأقطاب الأدب في العصر القديم.
والأستاذية في مثل هذه الأحوال توجب أن يكون رجال الأدب رجال أعمال، فقد شبعنا من تلك الشخصيات المصقولة، التي تحسن الأسمار والأحاديث، نريد أساتذة مقتحمين مغامرين يشتركون في الحياة النيابية، ويتصلون بأمتهم وتلاميذهم اتصالا قويا له أسباب وأوتاد من حياة المجتمع اللاجب الصخاب.
17
فإذا انتقلنا من الأدب، وتاريخ الأدب في المدارس الثانوية والعالية، تلفتنا نبحث عن الأديب المخلوق لدرس الحياة، ونحن نرجو أن يكون في أساتذة الأدب من يخرج على الذوق المتكلف والوقار المصنوع، نرجو أن يكون عندنا أساتذة يزورون تلاميذهم في بيوتهم، ويرافقونهم في الحفلات والسهرات، ويطوفون بهم على الأحياء الشعبية ليعلموهم كيف تكون الثورة على ما في حياة الشعب من بؤس وشقاء.
نريد أساتذة يربون تلاميذهم على مرافقة العمال والصناع والفلاحين؛ ليكونوا في المستقبل من حملة الأقلام النورانية التي تبدد غياهب الجهل والخمول.
نريد أدبا يبعث في الشعب روح التمرد على الفقر والمسكنة والذل، ويروضه على الطمع الشريف في الغنى والكسب والعزة والكبرياء.
نريد أدبا يطمعنا في استرجاع ما أضاع الزمان من مجد مصر والنيل.
نريد أدبا يرفعنا إلى صفوف الجوارح، نريد أدبا يعلمنا فضل المخلب والناب، نريد أدبا نسيطر به على الدنيا غير باغين ولا عادين.
18
ولن تكون اللغة من مقومات الاستقلال إلا حين تسود في وطنها سيادة قاهرة، فتسيطر على العقول والمشاعر والأذواق، ولا يتم لها ذلك إلا يوم يقوى أدبها ويستفحل، فيشغل الناس بدرس قلوبهم وأهوائهم وأخلاقهم، ويكون له شعراء وكتاب ومحدثون يغزون القصور والأكواخ، ومن الحزم أن نشير إلى وجوب العناية بتربية الشبان على حب وطنهم في ماضيه وحاضره، ولا يكون ذلك إلا بقهر الأدب على تصوير ما مر بمصر من نعماء وبأساء، وما شهدته من أنوار وظلمات، وما يساورها من مخاوف، أو يداعبها من آمال.
يجب أن يوجه الأدباء عنايتهم إلى خلق بيئة أدبية، يكون جدها وهزلها متصلا بحياة الوطن كل الاتصال، يجب أن تكون أحزاننا وأفراحنا، وإسفافنا وتحليقنا، وضلالنا وهدانا، وآلامنا وآمالنا مصورة فيما ننشئ من الرسائل، وما ننظم من القصائد، وما نكتب من المؤلفات، وما نتغنى به من الأناشيد.
إننا لا نحب وطننا أصدق الحب؛ لأن غرامنا به لم يشبه شيء من التصوف والروحانية، وكان ذلك لأن الشعراء لم يخلقوا في قلوبنا ذلك الحب، وكيف يخلقونه وقد غفلوا عن الإشادة بما انتثر من معالم الحب والمجد على ضفاف النيل؟
لقد جلست لحظة منذ أيام في ذهبية، ثم مرت سفينة فانتشيت، أتعرفون السبب؟ لقد طاف بالخاطر حراقات دجلة والفرات التي تغنى بها شعراء العراق.
أكنت أقاسي هذه الغربة الروحية لو أن شعراءنا شوقونا إلى سفائن النيل؟
أتذكرون قول الشاعر العراقي:
يا ليت ماء الفرات يخبرنا
أين استقلت بأهلها السفن
إن هذا البيت أمة من الشعر الجميل، وكان مما يحفظ جميع أهل العراق، فهل تذكرون شاعرا مصريا حبب إلينا النيل على نحو ما فعل ذلك الشاعر في تمجيد الفرات؟
أين مآسينا، أيها الشعراء؟!
أين القصائد التي تصور ما عانته مصر يوم حريق الفسطاط؟
أين الشعر الذي يمثل مذبحة المماليك؟
أين القصص التمثيلية التي ترينا أشباح الليالي السود حين انهزم الجيش المصري في الموقعة التي لم يجف دمها إلى اليوم؟
أين القصائد والرسائل التي تصور عيوبنا الأخلاقية، وقد عانينا صنوف البلايا والأرزاء من شيوع المحسوبية والتزلف والنفاق؟
وأين مواسمنا الغر أيها الأدباء؟
أين القصائد والرسائل والخطب والمؤلفات التي تفصح عن عبقريتنا في مقاومة الخطوب؟
إن صبر الجيش المصري على منازلة الجيش الإنجليزي في معركة فاصلة دامت ثلاث عشرة ساعة هو في ذاته نصر مبين، ولكن أين من يفهم دقائق المعاني في حياة الشعوب؟
دلوني على كاتب واحد استطاع أن يخلق في قومه الشعور بأنهم يعيشون في وطن نبيل؟
دلوني على كاتب واحد عمد إلى الجوانب القوية من زعمائنا وقادتنا في القديم والحديث، فأفصح عنها إفصاحا يجعلها مضرب الأمثال في المشرق والمغرب، على نحو ما صنع كتاب الإنجليز والفرنسيس والطليان والألمان؟
أيها الناس:
إن اللغة لا تكون من مقومات الاستقلال إلا يوم تشغلنا بمخاوفنا وأمانينا، ويوم تصبح من القوة بحيث يكون لها عشاق في المشرق والمغرب، ويوم تطغى في وطنها وتستطيل فلا يكون لها مزاحم ولا منافس ولا شريك.
وخلاصة القول: إن اللغة لا تكون من مقومات الاستقلال إلا يوم يشعر الناس جميعا بأن لها في وطنها سلطانا دونه كل سلطان، يوم يشعر من يدخل ميناء الإسكندرية أو بور سعيد أنه في حاجة إلى مترجم، وأن مصالحه تعطل إن جهلها كل الجهل، على نحو ما يقع لكل وافد يطأ الأرض الفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية.
وأول ما يجب لتحقيق ذلك هو إعزاز اللغة في أنفس أبنائها، وهي لا تعز في أنفسهم إلا حين تغنيهم أو تكاد تغنيهم عن جميع اللغات، حين تصبح لغة العلم والمدنية، فيجد فيها كل طالب ما يسعفه من المراجع في العلوم والفنون والآداب.
لا تكون اللغة من مقومات الاستقلال إلا حين تفي بأغراض الجد والهزل، وتربط أبناءها بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم أوثق رباط، وسيكون هذا مصير اللغة العربية في مصر إن صحت العزائم وسلمت النفوس.
وهذا أمل ليس بالبعيد، فلا تحسبوني من الحالمين.
19
والدين؟
أهو أيضا من مقومات الاستقلال؟
وكيف وفي الشرق والغرب ناس يتحللون من الدين ليعيشوا سعداء؟
هذه فرنسا تحارب رجال الدين، وتحول بينهم وبين مناصب التعليم، ثم تعيش مع ذلك في حرية واستقلال.
وتلك تركيا تقلم أظفار الأشياخ، وتقبل على الحياة المدنية، فلا يزيدها ذلك إلا قوة إلى قوة، واستقلالا إلى استقلال.
ولكن مهلا، فإن تلك الأمم القوية لم تحارب غير الدين المزيف، أما الدين الصحيح فهو بلا ريب من مقومات الاستقلال.
الدين المزيف بلاء يصبه التأخر على الأمم والشعوب؛ لأنه يمنح الكسالى والعاطلين سلطانا خطرا يشل حركة التقدم والنهوض، ورجال الدين المشعوذون لهم سوابق في قتل الحرية، واضطهاد الأحرار، وطمس معالم العلوم والفنون.
أما الدين الصحيح فهو ثروة قومية يجب أن يحرص على تنميتها ساسة الشعوب.
الدين الصحيح حجاز من الزيغ والإفك والبهتان، وهو حين يقوى يصبح من أدق الموازين في ضمائر الأفراد، ويغني الدولة غنى لا يعرف قيمته إلا من يعرف ما للخلق القويم من أثر حميد.
لو كان للدين سلطان على أرواح الناس لانعدمت النمائم والسعايات والوشايات، وانقطعت هذه المجازر البشرية التي يخلقها الدس والاغتياب.
لو كان للدين سلطان على أرواح الناس لما رأينا شهود الزور يضللون القضاء بلا حياء.
لو كان للدين سلطان على أرواح الناس لما استطال الأقوياء على الضعفاء، ولما رأينا ذلك الحقد الذي يبيته الفقراء للأغنياء.
لو كان للدين سلطان على أرواح الناس لقل البغي والعدوان، وعرف كل امرئ قدر نفسه، واطمأن إلى أن الله مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء.
الدين ثروة قومية، وهو عماد من عمد الاستقلال؛ لأنه يصحح ضمير الفرد، والفرد الصحيح الخلق ليس إلا حجرا سليما في بناء القومية.
حدثني بربك ما هذه الملايين التي تعمر وادي النيل؟ ما قيمة هذه الملايين وأنت لا تستطيع الأخذ والعطاء إلا بسند مكتوب؟
اذهب إلى أية محكمة، واحضر جلسة أو جلستين، فإن فعلت فسترى القاضي ينفق أربعة أخماس جهده في فحص المستندات واستجواب الشهود.
أكان يحتاج القاضي إلى ذلك كله لو كان للناس وازع من خلق ودين؟
الله أكبر!
لا يزال من تقاليد القضاة أن يقولوا للشاهد: قل: «والله العظيم أشهد بالحق».
وكم رأينا ناسا يحلفون بالله العظيم، ثم لا يشهدون بالحق!
ما قيمة هذه المخلوقات؟ وما الذي يفرحنا حين نعدهم كل خمس سنين، فنراهم زادوا مليونا أو مليونين؟
ما قيمة هذه المخلوقات وأنت لا تعادي من تعادي، ولا تصادق من تصادق إلا على حذر؟
ما فضل هذه الملايين، وليس فيهم من يعصمه الحياء من الزور، أو يصده الدين عن البهتان؟
خاصم رجلا واحدا، على سبيل التجربة، ثم انظر كيف يقع في عرضك، وكيف يلغ في دمك، وكيف ينسى أنه مسئول أمام الله عما يقترف لسانه النجس الخبيث!
إنك لا تستطيع اليوم أن تعادي أحدا في سبيل الحق؛ لأن الدنيا انقلبت إلى مطامع يترفع عنها الحيوان.
أترونني أظلم قومي؟ أنا لا أظلمهم، وإنما أشرح بلية اجتماعية يشكو منها أحرار الرجال.
تقولون: إن الدين من مقومات الاستقلال؛ فدعوني أشرح كيف يكون ذلك، وأنا أصرح بأن ما نعاني من البلايا الأخلاقية لم يقع إلا بسبب ضعف الدين، ولو كان الناس يؤمنون بأن الله يعلم ما يضمرون وما يعلنون لكف قوم عن إيذاء قوم، وتورع فريق عن الإضرار بفريق.
20
الدين من مقومات الاستقلال.
ولكن أي دين؟
أهو ذلك الدين الذي يتمثله ناس في الصلاة والصيام، واصطناع شمائل النساك؟
لا، لا.
الدين الذي يبني الأمم، هو الدين الذي يهتم أهله أولا وقبل كل شيء بالفضائل الإيجابية.
لا يكفي أيها الناس أن تصلوا وتصوموا، وترسلوا لحاكم، وتكثروا من التسبيح، فهذه فضائل، ولكنها في روحها فضائل فردية.
إن الدين الذي يسند الاستقلال هو الدين الذي صوره الرسول حين قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا.»
الدين الذي يصون الاستقلال، هو الدين الذي يوحي إليك بأن تكون عون أخيك في المغيب، هو الدين الذي يفرض عليك الإيمان بأن عرض أخيك هو عرضك، وماله مالك، وهواه هواك.
هو الدين المضمخ بالنفحات الشعرية الذي يوجب عليك أن تفرح لفرح أخيك، وأن تحزن لحزنه، وإن تقطعت بينك وبينه الأسباب.
هو الدين الذي صوره شوقي حين قال:
مقدونيا، والمسلمون عشيرة
كيف الخئولة فيك والأعمام
هو الدين الذي تتمثل به كل فرد من أمتك، وكأنه إنسان من أهلك.
هو الدين السمح الكريم الذي تغنى به الرسل والأنبياء.
وهذا الدين الذي نتحدث عنه هو الدين الذي يرفع قواعد الاستقلال، وبدونه لا يرفع لأمة بناء.
إن الدين الحق يوصي بدفن الضغائن والحقود، والناس لا يستطيعون التعاون على بناء الوطن إلا إن استطاعوا التعاون على بناء الإخاء.
فانظر أين أنت من إسعاد قومك، فإن كنت رجلا يفرح لفرح عدوه، ويشجى لشجاه، فأنت امرؤ فيك خلق ودين، وإن كنت لا تفكر إلا في نفسك وفي أشياعك، فأنت من العصبة الوحشية التي أطال في ذمها الحكماء.
21
الدين من مقومات الاستقلال.
ولكن أي دين؟
أهو ذلك الدين الذي يقوم على قواعد الرياء؟
رباه، ماذا قاسينا من عنف المرائين!
إن الرياء في الدين باب إلى الخراب؛ لأنه يروض الناس على التكلف والافتعال فيما يأخذون وما يدعون، ويوحي إليهم أن المراوغة لباقة وذكاء.
أنا أشتهي أن أومن، ولكن الشوق يخمد في قلبي كلما تذكرت أعمال المرائين.
أليس من الحق، أيها الناس، أن الصراحة في زماننا خلق بغيض، وأن النفاق يسمو بصاحبه أحيانا إلى أرفع الدرجات، وأن المداهنة أصبحت أمضى سلاح؟
تلك بلية خلقية نشير إليها كارهين؛ لأنها تهدم قواعد الاستقلال، ونحن لا نذكر الاستقلال لاهين ولا عابثين، وإنما نغرم بالاستقلال؛ لأن فيه شرف الشعوب، ولن تشرف أمة تتغاضى عن أعمال المرائين.
ولست أوصي بإعلان الحرب على أهل النفاق، وإنما أوصي بالحذر منهم؛ لأنهم سوس الخراب في هيكل الاستقلال.
ومن واجب القائمين بالأمر أن يحذروا المنافقين؛ لأن النفاق خليق بأن يأتي على بناء الوطن من القواعد والعياذ بالله، وإنما أعني الرؤساء الذين يصغون إلى كل مرجف، ويصيخون إلى كل مشاء بنميم، أوصي بالحذر من مرضى الحذلقة والمراءاة وافتعال النزاهة والإخلاص، أوصي بالفرار من كل مخلوق لا يضحك إلا حين يبكي الناس، ولا يفرح إلا يوم يحزنون.
وإلى من أتوجه بهذا النصح؟
لست أدري والله إلى من أتوجه، فقد ساء ظني بأبناء الزمان، ولكن لا بأس من توجيه القول إلى من تفضلوا بدعوتنا إلى الكلام عن فضل الدين في بناء الاستقلال، ولا بأس من توجيهه إلى أعضاء لجنة التحكيم في المباراة الأدبية، فقد أغناهم الله من فضله، ورفعهم عن مذاهب الضعفاء، وكل رجل منهم يقدر بلا مشقة على حرب هذا الخلق الذي ينافي الدين الصحيح، ويهدم الاستقلال.
وليس من الفضول أن أتوجه إليهم بذلك، فقد دعونا إلى إبداء ما عندنا من آراء ومقترحات، ومن الفضل أن يصغى الآباء إلى الأبناء، وليس أمام الحق فاضل ومفضول.
22
أحب أن أعرف كيف يكون الدين سياجا لبناء القومية، وأنا أتمثله قوة معنوية وروحية تضمن سلامة الوطن من الوجهة الداخلية، فإذا تحاب الناس وتصافوا وتآلفوا كانوا قوة هائلة شبيهة بالأعضاء القوية في الجسم السليم.
إن الأخلاق الدينية في بناء الأمة تذكرنا بالجراثيم النافعة التي يقوم عليها جسم الإنسان، ألم تسمعوا أن هناك جراثيم في داخل الجسم تثب دفعة واحدة في وجه الجراثيم الضارة التي تفد مع الطعام أو الشراب؟
كذلك تفعل الأخلاق الدينية، فإن الأمة حين تصح في دينها تظل قوية متينة، لا يفد عليها واغل إلا دفعته عنها بقوة وجبروت.
وهذا هو التفسير الحق لكلمة من قال: إن الدين من مقومات الاستقلال.
23
ثم ماذا؟
إن الدين الحق يعصم من الشقاق، ولن يكون الدين من مقومات الاستقلال إلا حين يصون الوحدة القومية من التفكك والانحلال، ولعل السر في كره البدع أنها تقسم الناس إلى شيع وأحزاب، وتغريهم بالتعادي والعناد، وترميهم بأسباب الفتون.
والأمة السعيدة بدينها هي الأمة الموحدة المذهب، أما الأمة المشتتة في نوازعها الدينية فهي أمة ضعيفة الرأي، منحلة العزم، لا يرجى لها سلام.
ولكم أن تستفتوا التاريخ.
أتذكرون كيف سقطت بغداد في أيدي التتار؟ إن ذلك لم يقع إلا بسبب انقسام الأمة العراقية إلى عصبتين مختلفتين في الدين.
وما لنا نستشهد بالتاريخ؟ إن في الحاضر عبرة، فقد جدت في مصر نفسها فتن دينية يعرفها من يخالط السواد في الأحياء الشعبية، ويكفي أن يعرف القارئ أن في القاهرة مساجد يدخلها ناس ويطرد منها ناس، وأن في بعض القرى عائلات تتقاطع أبشع التقاطع بفضل الانقسام في مذاهب الدين.
ولست بهذا أوجب أن يقفل باب الاجتهاد، وإنما أوصي بأن تحصر الأبحاث الدينية على البيئات العلمية، وأنصح بأن يحرس العامة حراسة شديدة من المشاركة في الخلافات المذهبية والدينية.
إن العوام هم ذخيرة الأمة، ومنهم يتكون الجيش، وبفضلهم تقوم المتاجر والمزارع والمصانع، فمن الحزم أن يعيشوا على عقيدة واحدة ومذهب واحد، ومن البلاء أن تتكرر المأساة التي وقعت في شبين الكوم منذ عام، والتي تقع أشباهها في كل يوم، وإن لم تدون أخبارها في محاضر البوليس.
ومن الحزم أن تسارع الحكومة إلى حراسة الأهلين من انقسامات الصوفية، فإن التصوف أصبح في أكثر البلاد من أسباب الشقاق، مع أنه في الأصل من أسباب الألفة والصفاء.
ولا يمكن تحقيق هذا الغرض إلا بتخير من يقومون بالدعايات الصوفية، ويجب أن يكونوا من أهل النزاهة، والإخلاص، أما جعل الديار المصرية مسرحا للمفاضلة بين الخلوتية والشاذلية فهو باب من الشر لا يعرف أخطاره إلا من عرف عقول العوام، ورأى كيف يختصمون ويقتتلون لأتفه الأسباب.
24
يظهر أنكم ترتابون في خطر الشقاق.
تفضلوا بتأمل هذه الصورة:
يذهب المصلون إلى المسجد الجامع يوم الجمعة، فيسمعون سورة الكهف بقلوب لا تخلو من قلق؛ لأن فيهم من يراها سنة، وفيهم من يراها بدعة، فإذا أذن المؤذن انقسموا إلى فرقتين؛ فرقة تبيح السلام على النبي بعد الآذان، وفرقة تأباه، فإذا قامت الصلاة رأينا من يسر القراءة، ورأينا من يكتفي بقراءة الإمام، فإذا انتهت الصلاة رأيناهم جماعتين؛ جماعة تصلي الظهر، وجماعة تنصرف.
وهذه الصورة لا يعرف خطرها المثقفون من أهل الحواضر؛ لأنهم لا يقيمون وزنا لأمثال هذه الشئون، إذ كانت عقولهم أرفع من أن تختصم في غير مختصم، ولكنها تبدد قوى الأهالي في الريف، وتهد من بناء الاستقلال.
وأنا أقترح أن يطب أهل الرأي هذا الجرح، وأتمنى أن تعيش الأمة كلها على مذهب واحد في الأصول والفروع، على نحو ما كانت تركيا في العهد القديم، فقد كانت في مسائل التوحيد على رأي واحد، وكانت في التشريع على مذهب واحد، ومن المحقق أن وحدة تركيا في نوازعها الدينية كانت من أهم الأسباب في سلامة وحدتها القومية.
أقول هذا وأنا أعرف أن خطر الانشقاقات المذهبية في مصر صائر إلى الزوال، ولكن لا بأس من التنبيه إلى ما بقي من أوزاره ليحذره المصلحون.
25
وتظهر بشاعة الانقسام إذا تذكرنا ما فقدنا بسببه من النعيم.
أتذكرون السر في تفضيل صلاة الجماعة؟ أتذكرون السر في الدعوة إلى اجتماع أهل البلد الواحد، في مسجد واحد، مرة في كل أسبوع؟ أتذكرون السر في التشويق إلى أداء صلاة العيد في ضاحية البلد ليتيسر للناس جميعا أن يتصافحوا بالأيدي والقلوب؟
تذكروا السر في ذلك لتعرفوا أننا حرمنا نعيما كثيرا منذ ابتلينا في ديننا بالخلاف.
وليس هذا كل ما حرمناه، فقد انعدمت صلاة الجماعة أو كادت، ومضت صلاة العيد إلى اللحاق بذكريات التاريخ، ولم يبق لنا نصيب من أسباب الصفاء.
ليت من يختصمون ويقتتلون بسبب المنازعات الأدبية والسياسية يعرفون السبيل إلى المساجد! إنهم لو فعلوا لكان من اليسير أن تذهب أحقادهم حين يتصافحون عقب الصلاة.
ليت من يتعادون يلتقي بعضهم ببعض في صلاة العيد! إنهم لو فعلوا لدفنوا أحقاد العام الماضي، وقلدوا العام الجديد وساما من ود جديد.
أليس الصفاء الذي نشير إليه من بعض ما يصنع الدين في بناء الاستقلال؟
لقد حاول سمو الأمير عمر طوسون منذ سنين أن يجمع أهل الإسكندرية في مكان واحد في أيام الأعياد، وكانت فكرة سامية، ولكنها لم تنجح مع الأسف الشديد.
فما الذي يمنع من إمضاء هذا الرأي مرة ثانية باسم الدين؟ ما الذي يمنع من جعل الأزهر ملتقى لأقطاب البلاد، في أيام الأعياد؟
بل ما الذي يمنع من خلق صورة جديدة للتشريفات الملكية، بحيث تكون موسما أغر تلتقي فيه القلوب والأهواء، ويتنادى فيه الناس باسم الحق والدين؟
إن أكبر ما يعاب به أهل مصر هو موقفهم موقف المتفرجين في أيام الشقاق، ولو عرفوا أن دينهم يوصيهم بإصلاح ذات البين لوقوا مصر كثيرا من أسباب الفتون.
إن الدين من أهم القوى في خلق التماسك الاجتماعي، والتماسك الاجتماعي أهم ما يحفظ به بناء الاستقلال.
26
وليس هذا كل ما يصنع الدين في بناء الممالك والشعوب، فهناك مزية أساسية هي خلق الشجاعة في نفوس الناس.
الشجاعة؟
أي شجاعة؟
نعم، الدين يخلق الشجاعة في النفوس، ولولا الإيمان بعدل الله ورحمته لتهدمت عزائم، وتحطمت قلوب، وانطفأت أرواح.
إن الرجل المؤمن يلقى المكاره باسما ، ويوقن في كل لحظة بأن الشر لا يطارده إلا لحكمة سامية، وبذلك يظل سليم القلب والوجدان، فيحيا حجرا سليما في بناء الاستقلال.
الرجل المؤمن لا يتهيب العيش؛ لأنه يعرف أن الرزق بيد الله، وتهيب العيش محنة خلقية ابتلي بها شبان هذا العصر، فانصرفوا عن الزواج فرارا من الذرية التي تعرضهم - فيما يزعمون - للفقر والإملاق.
نريد لمصر جيلا مؤمنا يغامر وهو متوكل على الله، فينتصر وهو شاكر، أو ينهزم وهو صابر.
نريد جيلا يؤمن بأنه مسئول أمام الله قبل أن يكون مسئولا أمام الناس.
نريد جيلا يبحث أولا عن الحق، ثم يقدم إقدام الشجعان، واثقا بأن النصر نصيب المؤمنين، وأن العاقبة للصابرين.
نريد جيلا يستهين بطغيان الطاغين، وكيد المفسدين، ولؤم الحاقدين؛ لأنه يؤمن بأن الله أكبر، ويوقن بأنه سيمن على الذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين.
والشجاعة التي يخلقها الدين في القلوب هي أساس كل خير، فإن الرجل الذي لا يملك زمام نفسه في حياة البيت، لا يصلح جنديا في الجيش، ولا يمكن لمن عجزوا عن سياسة أنفسهم أن يصلحوا لسياسة أمتهم، ومن عجز عن الكفاح الشريف في سبيل الرغيف، لن يقوى أبدا على الجهاد المشروع في سبيل الوطن الغالي.
وكيف يصان الاستقلال إن لم تحطه عزائم بنيت على الإيمان الصحيح، الإيمان بأننا لم نخلق عبثا، وأن النضال في سبيل المجد الروحي والوطني من أشرف الغايات في الوجود؟
27
ومصر من أقدر الأمم على تقوية العقيدة الدينية، ففيها الأزهر الشريف، وعندها من رجال الدين ألوف وألوف.
أفأستطيع أن أقول كلمة عن واجب الأزهر الشريف؟
ما أحسبني أخرج عن الموضوع، فإن لجنة التحكيم دعت إلى إبداء ما عندنا من آراء ومقترحات، وأنا أعوذ بالله من الفضول.
الأزهر يستطيع أن يضاعف جهده في خدمة اللغة والدين.
يخدم اللغة لأن في إذاعة النصوص الإسلامية خدمة لغوية، وليس من الإسراف أن نحكم بأن حياة اللغة بين الأهلين ترجع إلى حفظ القرآن، وتلاوته في المآتم والأفراح، وللمدائح النبوية فضل في إذاعة النصوص الأدبية والألفاظ اللغوية ، فإن المنشدين الذين يتغنون بمدح الرسول تركوا في أذهان الناس مئات من الصور الشعرية، وعلموهم كثيرا من طرائق التعبير، وأمدوهم بكثير من المعارف في حوادث التاريخ.
فما الذي يمنع من إنشاء لجنة أزهرية للمطبوعات الدينية؟
ما الذي يمنع من نشر مجموعة لطيفة نذيع بها نحو ألف حديث من كلام الرسول، ونطبع منها ملايين توزع بثمن يقدر عليه جمهور الفقراء؟
ما الذي يمنع من نشر مجموعة تحوي أروع الأخبار، أخبار الصديقين والشهداء؟
وما الذي يمنع من اختيار طائفة من الأحاديث والآثار تكون مادة للمطالعة في المدارس الابتدائية والثانوية؟
28
وبهذه المناسبة أصارحكم بأن الصلة كادت تنقطع بين الأزهر ووزارة المعارف؛ بل هي انقطعت فعلا منذ أعوام طوال، وأخشى أن تكون هذه القطيعة بداية العداوة بين الحياة المدنية والحياة الدينية، وهي عداوة خطرة العواقب، ومن واجبنا أن نتقي شرها منذ اليوم.
وأنا أقترح أن يلحظ في التلميذ أنه سيكون عضوا في المجتمع الشعبي، قبل أن يكون عضوا في المجتمع المثقف، والمجتمع المثقف قد لا يضيره أن يجهل أصول الدين؛ لأن حياته في الأغلب موصولة بالمدنية الغربية التي تناست خطر الدين.
ولكن ما هو المجتمع المثقف الذي نعتمد عليه في بناء الاستقلال؟
أهو تلك الفئة القليلة الضئيلة التي تمضغ الأخبار في القهوات، ولا تصلح لإقامة مصنع أو متجر أو مزرع، ولا تقوى على مواجهة الخشونة في حياة الجندية؟
المجتمع الشعبي هو الأصل، فلنرض أبناءنا على فهم ما فيه من قواعد وأصول، وهو لا ينهض إلا على أساس الدين.
29
وهذا يفرض علينا أن نفكر جديا في مصير التربية الأزهرية، فإن الأزهريين لهذا العهد لم يعد يهمهم أن يتصلوا بالحياة الشعبية، فقد انتهبوا كلمة «المستقبل» من تلاميذ المدارس، وأخذوا يترقبون حظوظهم في المصالح والدواوين، وذلك من أهم المقاتل في حياة الاستقلال.
لقد آن للأزهر أن يعرف واجبه، آن للأزهر أن يفكر في استرجاع سلطانه الذي ضاع.
أين الأيام التي كان يحتفل فيها الأهالي بقدوم الأزهري الصالح الذي يحدثهم عن الله والرسول؟
أين الدروس التي كنت أشهدها ، وأنا طفل بعد صلاة العصر في رمضان؟
أين الآمال الحلوة التي كنا نسمعها من العلماء عن مصير الصالحين؟
أين، أين تلك الوسوسة الخلقية الظريفة التي كانت تنتاب من يخرج على بعض آداب الصلاة أو الصيام؟
أين الزواجر التي كان يرتعد من هولها من يقترفون إثم النميمة والاغتياب؟
أيها الناس!
أنا أشتهي أن أومن، فخذوا بيدي موفقين إلى رحاب الدين، الدين السليم من أوضار الشرك والرياء.
30
والعادات؟ أهي أيضا من مقومات الاستقلال؟
نعم، العادات من مقومات الحياة في الممالك والشعوب، ولكن كيف؟ إن ذلك يحتاج إلى تفصيل.
ولنبدأ، فنذكر أن العادات كلمة قديمة كان يسميها ابن خلدون عوائد، وهي اليوم تعرف باسم التقاليد، ويكاد العرف الحاضر يفرق بين اللفظتين؛ فالعادات للأفراد، والتقاليد للجماعات والهيئات، فالعادات شخصية، والتقاليد جماعية.
ويغلب على الظن أن الذين وضعوا العنوان تحاموا كلمة التقاليد عامدين لسبب طارئ لا يخفى على اللبيب.
ولكن نحن لا نرى بأسا من الحرص على كلمة «تقاليد» لأنها في العرف الحاضر تنفرد بمدلول خاص، وسيقول الناس «تقاليد جامعية» و«تقاليد دستورية» وإن تحاماها من فرضوا هذا العنوان.
31
والعادات تميز الأمم بعضها من بعض، وهي من أجل ذلك تعد سمة شخصية، والسمات الشخصية من أظهر الدلائل على حيوية الشعوب.
ولنداعب الموضوع قليلا، فنذكر أن لكل أمة أذواقا في الطعام والشراب، ففي مدينة باريس مثلا يرى المتطلع مطعما تركيا، ومطعما نمسويا، ومطعما صينيا، ولكنه لن يجد مطعما مصريا؛ لأن المصريين ليس لهم مذاهب في الطعام والشراب، وأكاد أجزم بأن مصر لا تنفرد في أطعمتها بغير البصارة والفول المدمس والفطائر - فطائر المواقد والأفران.
ويحار الشاب المصري حين يفكر في إنشاء مطعم بمدينة أوروبية؛ لأن مطعمنا اندمج في المطعم التركي منذ أجيال، ولم تبق لنا خصائص، حتى في أواني الطعام والشراب، ولنا في ذلك عذر مقبول، فإن موقع مصر الجغرافي جعلها ملتقى الوافدين من الشرق والغرب، وفرض عليها الأخذ من كل مدنية بنصيب.
وإنما خصصت هذا الجانب بهذه الفقرة لأدل القارئ على قيمة الخصائص الذاتية، ولأستطيع التحدث عما تعود الناس في هذه البلاد.
32
وما قلته عن الدين أقوله عن العادات، فالعادات لا تكون من مقومات الاستقلال إلا إذا كانت صوالح، أما العادات السيئة فهي من أسباب الانحلال.
والمهم في العادات الصوالح أن تصبح قوانين، وألا يخرج عليها إلا المفسدون، ومتى تأصلت العادات الصوالح وأصبحت رعايتها قانونا قوميا شعر الناس بقوة في حيويتهم الذاتية، وأصبحوا بفضلها كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، وكان حرصهم عليها من مقومات الاستقلال.
33
كان من عادات المصريين أن يبدأ بعضهم بعضا بالتحية على الطريقة الإسلامية.
أما اليوم فقد انقرض هذا التقليد الحميد، وأصبح المؤمن لا يحيي المؤمن إلا إذا سبق التعارف، وتلك عادة نقلناها عن الأوروبيين، وحملنا وزرها الثقيل.
وأنا أوصي بالرجعة إلى ذلك التقليد الجميل؛ لأن له مزايا في تقريب القلوب بعضها من بعض، ولأنه يشعر بالأخوة الروحية والوطنية، ويخلق للرجل ألوفا من الإخوان.
أنت في هذا الزمن لا تواسي غير من تعرف، فلو رأيت مأتما في طريقك لتحاميت الذهاب إليه، إلا أن يكون أهله من المعارف والأصدقاء.
ولم يكن الحال كذلك في العصر الخالي، فقد كان من الواجب على الرجل أن يمشي في كل جنازة، وأن يواسي كل محزون، وألا يخص ببره أصدقاءه وعارفيه، وكان من عادات الناس أن يصافحوا كل من يلقون في أيام الأعياد، وأن يتبادلوا التهاني وإن التقوا بلا معرفة على ظهر الطريق.
ولست في حاجة إلى توكيد القول بقيمة هذا التقليد في ربط الأواصر القومية، فهو أوضح من أن يحتاج إلى بيان.
34
وتظهر قيمة ذلك التقليد الحميد إذا تذكرنا تفاهة ما صرنا إليه في تحيات الأعياد، فعهدي بالمصري الحديث يركب سيارة ويطوف بأحياء المدينة، فيترك لكل صديق بطاقة ثم ينصرف من دون أن يرى أحدا، ونسي الناس قيمة المصافحة والتقاء الأعين والقلوب.
قد تعتذرون بأن الشواغل كثرت، وصار الوقت أضيق، ولكن ما رأيكم في أننا غلونا في ذلك غلوا صار بنا إلى السخف، والعياذ بالله من قلة الذوق!
ألا تعرفون أن ترك البطاقة عند البواب في أيام الأعياد صار أقوم من التحية بالتليفون؟
ألا تذكرون أن التحيات الموسمية لم يعد لها قيمة إلا في حساب مصلحة البريد؟
ألا تذكرون أن المجاملات الواجبة صارت في صميمها أعمالا آلية، لا تغني ولا تفيد؟
وما قيمة هذه المتاعب في وصل القلوب؟
ما قيمة البطاقة الصماء التي تمزق بعد نقل العنوان؟
ما قيمة الأعياد إن لم نتنسم بها أرواح الأنس بتجديد الصلات؟
لقد كان الناس يهتمون بالعيد، فينظمون القصائد، ويحتبرون الرسائل، حين يعز عليهم التلاقي، أما اليوم، فقد اكتفينا بالإشارات الدبلوماسية التي نقلناها عن أهل لندن وباريس، وفاتنا أن لكل بلد تقاليد، وأن ما يحسن هنا قد يقبح هناك.
35
وكان من عاداتنا أن نقيم السهرات في البيوت، أما اليوم، فقد انتقل السامر إلى القهوات.
وليتكم تعرفون أي أنس فقدنا منذ حرمنا المنازل بهجة الأسمار، والأحاديث؟
ليتكم تعرفون خطر ما نعاني من التبذل بالجلوس في المشارب والقهوات؟
ليتكم تعرفون كيف خفت موازين الناس منذ نفروا من هيبة العرين؟
لقد كانت ليالينا كلها مواسم تشبه ليالي رمضان، فصرنا لا نتلاقى إلا في أندية تثقلها الكلفة، ويعوزها الأنس، وينقصها الصفاء.
كانت بيوتنا منتديات روحية يعرف بها أطفالنا من نألف ومن نحب، فأصبحت مقفرة موحشة، وأصبح الصديق لا يلقى الصديق إلا سأل: أين تسهر، وكيف نراك؟
والويل كل الويل لمن يحدث أبناء الزمان بأنه لا يسهر إلا في البيت، وأنه يكره التبذل في المشارب والقهوات.
وازنوا بين الحالين، وانظروا أي المذهبين أفضل في بناء الاستقلال.
36
والحرص على التقاليد يعد بابا من الحرص على التراث القومي؛ لأن التقاليد الصوالح لم تكن إلا ثمرات لجهود الألوف من المصلحين في مختلف الأجيال، وما نراعيه من الآداب في غدواتنا وروحاتنا، وأفراحنا وأحزاننا، ليس إلا دروسا تعب في نشرها الأسلاف، والعاقل يحرص دائما على الأساس السليم الذي تركه الأجداد، ويبني عليه في اطمئنان، ولا يفكر في زعزعة التقاليد إلا من يجهل ما سيحتاج إليه من الجهد في تعويض الأدب المفقود.
فرعاية التقاليد تنفع من وجهين:
تنفع لأنها سناد حيوي في صيانة المجتمع.
وتنفع لأنها توفر علينا جهودا كثيرة حين نفكر في تعويضها بآداب جديدة.
وليتذكر القارئ دائما أنني أعني التقاليد الصوالح، أما التقاليد الفواسد فحربها من أهم ما يعنى به المصلحون.
37
ولا ينبغي أن ننسى الإشارة إلى مقام مصر الحديثة في عالم التقاليد، فهي اليوم تعاني أزمة لم تعرفها من قبل؛ لأن مصر ليس فيها جمهور واحد، وإنما هي جماهير كثيرة ينظر بعضها إلى بعض نظرات مختلفة لا تخلو من قلق وامتعاض.
واصطراع التقاليد في مصر يضيع على أهلها كثيرا من الجهد والوقت، وأكاد أجزم بأن في كل بيت جيلين يقتتلان، فالشاب الذي يشاهد الأشرطة السينمائية، ويرى فيها ما يرى من تقاليد أهل الغرب في حياة الاجتماع، هذا الشاب لا يتأتى له الانسجام مع أهله وذويه في أكثر الأحيان.
ولا يمكن الغض من قيمة هذه النظرة، ولا ادعاء أنها خيال كاتب يتوهم ما لا يكون، فقد أنفقنا من الورق والمداد ما يقدر بالألوف من الجنيهات في سبيل الجدل حول السفور والحجاب، وقضينا سنين نختصم حول ما يقدم إلى البنات من العلوم، وسنقضي أعواما كثيرة في نضال إلى أن نتفق على ما تجب مراعاته من محمود التقاليد.
ومعاذ العقل أن أنتظر أن تخلو الدنيا من الشغب حول المبادئ والآراء، ولكن لا مفر من التنبيه إلى أننا جاوزنا حد المعقول من الخلاف.
على أنه لم يكن بد من وقوع ما وقع، فقد أرسلنا إلى أوروبا بعثات علمية، واضطررنا اضطرارا إلى نقد ما كنا عليه من شتى التقاليد.
وأنا أطلب المستحيل حين أوصي بفض هذا الخلاف، فهو خلاف يوجبه ظرف الزمان والمكان، ولن تستريح مصر إلا يوم تنحاز انحيازا تاما إلى إحدى المدنيتين؛ الشرقية، أو الغربية، وأعتقد أن هذا أمل عزيز المنال، ففي مصر قوتان؛ قوة الجامعة المصرية، وقوة الأزهر الشريف، والجامعة المصرية لن تسكت أبدا عن الدعوة إلى المدنية الغربية؛ لأنها أنشئت لذلك، ولأن فيها قوى أدبية من الأساتذة الأجانب، وهم ينقلون إليها تقاليد الغرب بلا انقطاع، ويزيد في خطر الجامعة المصرية أنها أمنية قومية، وأن مصر تحتاج بالفعل إلى مدد من الحيوية الغربية.
ويزيد في هذا الخطر تشوف الشبان إلى أدب أهل الغرب، وشوقهم إلى الجري في ميادين جوت وبيرون ولامرتين، وقد جروا في ذلك أشواطا يعرفها كل من يتلمس أخبارهم في حياة المجتمع، وينظر ما درجوا عليه في مذاهب الفكر والمعاش.
والأزهر لن يسكت أبدا عن الدعوة إلى المدنية الشرقية، ولن يكف أهله عن التذكير بمجد الأسلاف.
ويزيد في خطر الأزهر قرب أهله من قلوب الجماهير الشعبية، وقدرته على بث الحبائل، والأشراك للمدنية الغربية.
وقد ظن ناس أن الأزهر انهزم، وأن مدنية الغرب لن تتركه يعيش، ثم تبينوا بعد لأي أنهم كانوا واهمين، وأن الأزهر نسج شبكة من الوعاظ سيطر بها على الناس في أرجاء البلاد.
38
إذن لن نصل إلى وحدة التقاليد ما دام في مصر جامعتان لا تلتقيان، وكيف تلتقيان، وقد فصل بينهما النيل؛ فقامت إحداهما على الضفة الشرقية، وقامت أخراهما على الضفة الغربية، واختلاف المواطن يؤذن باختلاف الأرواح!
لا تحسبوني أمزح، فأنا أوقن بأن هاتين الجامعتين ستعيشان متعاديتين، وستظلان من أسباب الفرقة في العادات والتقاليد، وسيظل الأزهري يشعر بالغربة حين يدخل الجامعة المصرية، والجامعي يشعر بالغربة حين يزور الأزهر الشريف.
فما الذي نصنع لصيانة الاستقلال من زوابع هذا الخلاف؟
أعتقد أن خير الوسائل لذلك هي الدعوة إلى سعة الصدر ومرونة العقل، ومن الممكن أن نروض الجيل الجديد على فضيلة التسامح، ونربيه على فهم الواقع، والاطمئنان إلى أن الله لم يخلق الناس أمة واحدة، وإنما لون فيهم وصنف لحكمة يدركها العاقلون.
يجب على أولي الرأي أن يحسموا الخلاف بين هذين الجيلين اللذين يعيشان في بلد واحد، ويصبغان العادات والتقاليد صبغات مختلفات الألوان، ويخلقان الشغب والقلق في كثير من الطبقات، ويردان الأمة إلى جيشين يصطرعان.
وكل خطوة في هذا السبيل تصون بناء الاستقلال من معاول الهادمين.
تذكروا هذا أيها المصلحون، واعلموا أن لا نجاة لهذا البلد إلا بمحو العصبية التي تشب نارها من حين إلى حين بسبب اختلاف التقاليد.
39
وأنا مع هذا أعترف بأن اختلاف الناس في العادات يخلق بينهم ضربا من المباراة في الحياة العقلية والخلقية، ويحض كل فريق على السبق، ويسوقه سوقا إلى ميادين النضال.
هذا حق.
ولكن احذروا خطر الفرقة والشقاق.
إن مهمة المصلح في هذا العصر هي التوفيق بين هاتين الطائفتين، ولعل التوفيق المنشود يمزج بين ما تنافر من التقاليد، فيصل بنا إلى تقاليد جديدة تجمع بين حدة الغرب ورفق الشرق، ويومئذ نشعر بأننا بنينا صرحا من حميد العادات نصون به الاستقلال.
ومن المؤكد أننا خطونا في هذا السبيل بعض الخطوات، فعندنا أساتذة يدرسون في الأزهر وفي الجامعة المصرية، وهؤلاء الأساتذة يوفقون بين العقليتين من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
ومن عجيب المصادفات أن أكثر الذين يؤثرون في طلبة الجامعة في الأصل أزهريون، وأن الأساتذة الذين يؤثرون في طلبة الأزهر أكثرهم جامعيون.
ومن هنا نعرف أن التوفيق بين العقليتين تسوقه الظروف بلا عناء، وأن الأمل في وحدة التقاليد ليس بعيدا إلى الحد الذي توهمناه منذ لحظات.
40
أقول هذا وأنا أعرف أن الأزهر ينفر نفرة شديدة من التقاليد الجديدة.
ولكن أي «أزهر»؟ هو الأزهر الذي يتمثله فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي، الذي يكره أن يقيم الأزهريون أندية رياضية، ويأبى عليهم أن يتبذلوا في ملابس اللاعبين، كما صرح في حديث نشرته جريدة البلاغ.
ولكن الأستاذ الأكبر يعرف جيدا حكم الزمن في تطور التقاليد؛ ولذلك رأيناه يعلن أنه لا يعارض في اشتراك الأزهريين في الأندية الرياضية، ما داموا بعيدين عن حرم الأزهر الشريف.
والحق أن الأزهريين يتحرقون شوقا إلى الاندماج في البيئات المدنية، وسيفضي بهم ذلك الشوق إلى إحدى اثنتين؛ الفناء في تلك البيئات، أو النفرة منها نفرة أبدية يعلنون بها حربا لا صلح بعدها ولا سلام، وفي التقاليد عداوات تشبه عداوات الأجناس.
وقد اتفق لطلبة الأزهر أن مثلوا رواية مجنون ليلى منذ شهرين ليتم لهم ما يريدون من التشبه بطلبة الجامعة المصرية، ولكنهم وقعوا في خطأ سخيف حين مثل أحدهم «ليلى» بلا تحرج ولا حياء.
وما أحب أن أستقري الشواهد على صحة ما أذهب إليه من سعي الطبقات المختلفة بعضها إلى بعض سعيا حثيثا سينتهي بالتلاقي أو الاقتراب.
وكل ما أرجوه أن نظفر من هذا كله بمزاج جديد من التقاليد نصون به الاستقلال، ونأمن به عدوان الفرقة وطغيان الشقاق.
41
ولكن كيف يرى فضيلة الأستاذ المراغي أن طلبة الأزهر يخرجون على الوقار حين يلبسون ملابس اللاعبين؟ وكيف يسكت سعادة لطفي السيد باشا عن ذلك، فلا يصون طلبة الجامعة من التبذل حين يخلعون ملابسهم، ويلبسون أقمصة الألعاب؟
ألا ترون في مذاهب هذين العاهلين شيئا من التنافر والتضاد؟
إن هذه الظاهرة في اختلاف الآراء ترشدنا إلى مسألة خطرة في حياة العادات، هي اختلاف الأزياء، ولا بد لنا من معركة فاصلة نصير بها إلى زي موحد، ونقضي بها على أصل الخلاف بين مذاهب التقاليد في الحياة المصرية.
إن أقمصة الألعاب لا تهتك وقار الأزهريين إلا لأن الناس لم يتعودوا رؤية رجال الدين في غير العمائم والجبب والقفاطين.
وليس هناك تعليل معقول غير اختلاف الأزياء، ولو صارت الأزياء إلى أنماط موحدة لما كان هناك ما يوجب الشعور بالوحشة من انضمام الأزهريين إلى صفوف اللاعبين.
وقد سمعت أن تركيا لا تبيح لرجال الدين أن يلبسوا الملابس الإفرنجية، أو هي لا تبيح الملابس الشرقية لغير رجال الدين.
وهذه فيما أعتقد تقاليد نصرانية؛ لأن النصرانية تعترف بهيئة الكهنوت، أما الإسلام فلا يعرف ما يسمى بالطائفة الدينية، كما بين سعادة الأستاذ لطفي السيد باشا في مقال نشره في «الجريدة» منذ أكثر من ربع قرن.
فما الذي يفرض علينا أن نعتبر الأزياء الشرقية أزياء دينية؟
وما الذي يوجب أن يظل الأزهريون محبوسين في ملابس يحاربها التمدن الحديث!
وما الذي يمنع من توحيد الأزياء في هذه البلاد ليكون ذلك تمهيدا لتوحيد التقاليد؟
لقد ظهرت طلائع الثورة على الأزياء الشرقية منذ عشرين سنة، فلبس الملابس الإفرنجية مشايخ مشهورون جدا، أذكر منهم طه حسين، وعلي عبد الرازق، وأحمد أمين، وأذكر منهم صديقنا الشيخ زكي مبارك الذي لا أتصور اليوم كيف كان يلبس الجبة والقفطان!
ومنذ عشر سنين قامت ثورة في دار العلوم حار في قهرها رجال المعارف، وانتهت باصطناع أساتذة اللغة العربية الملابس الإفرنجية.
ومنذ سنتين فكر معلمو المدارس الإلزامية في هجر الملابس الشرقية، فقاومهم وزير المعارف الأسبق معالي الأستاذ حلمي عيسى باشا.
ومنذ تسع سنين فكر طلبة الجامعة المصرية في لبس القبعات، فقاومهم سمو الأمير عمر طوسن، والمغفور له سعد باشا زغلول.
ومن كل ما سلف نعرف أننا نعاني أزمة من أزمات التقاليد، هي مسألة الأزياء.
فما أنتم صانعون يا رجال العصر الحديث؟
حدثوني ماذا تصنعون؟ أتحاربون توحيد الأزياء، فتنهزمون كما انهزمتم يوم ثورة دار العلوم؟ أم تصطنعون الرفق فتتركون التطور يأخذ مجراه وتنجون من الاصطدام بصخرة التمدن الحديث؟
أحب أن أعرف ما أنتم صانعون، فإن الحياة حركة، والويل كل الويل للواقفين!
42
ما لنا نبعد عن قصد السبيل؟ نحن نتكلم عن العادات باعتبارها من مقومات الاستقلال، فلنعترف أولا بخطر التطور، ثم لنجزم بأن المنفعة القومية تأبى مقاومة ما ليس منه بد، فلم يبق إلا أن نبذل ما نستطيع في رعاية التطور بحكمة وعقل، فلا نقاومه ولا نشجعه، ولا ننهي عنه ولا ندعو إليه، وإنما نترك الأمة تتقبل وحي العصر في رفق ولين، فتأخذ ما يزيدها حيوية، وتصدف عما يفل من قيمتها الذاتية ... وهل كانت العمائم التي يلبسها الأزهريون عربية؟ إنها قبطية، ولكنهم لا يعلمون!
ونحن بهذا الحياد نضمن للأمة سلامة تنفعها في المعاش، فلا نبدد قواها فيما لا يفيد.
واسمحوا لي أن أنص بصراحة على أن التمسك بالتقاليد القديمة من سمات الضعف، ولا يتغنى بالقديم ويحرص عليه بلا تعقل غير الضعفاء.
فأقبلوا على تقاليد العصر الحاضر بلا خوف، إلا أن يكون فيها ما ينافي الأدب الحق والدين الصحيح.
ولكن احذروا الوقوع فيما يقع فيه المتطرفون، فإنكم أضعف من أن تحتملوا ما وقع بالأمم العاتية التي ثارت ثورة عنيفة على مأثور التقاليد، وهل تحتملون ما احتملت الأمة الروسية والأمة التركية؟
والمهم أن تفهموا أن التقاليد لا تراد لذاتها، وإنما تراد لما فيها من نفع، فاجعلوا المنفعة القومية رائدكم فيما تأخذون وما تدعون، والله يهديكم سواء السبيل.
أما بعد
فقد آن للقلم أن يستريح بعد هذه الأشواط، وكنت رأيت أن أشترك في «المباراة الأدبية» لأجرب العدل في وطني مرة بعد أن جربته ألف مرة، وأنا لا أستبعد أن أفوز في المرة الأولى بعد الألف، فمثلي لا ييأس من العدل في وطنه وإن تغطرس الظلم واستطال.
أما الآن - وقد رأيت كيف هداني الله إلى رياضة هذا البحث الجموح - فإني أرد القلم إلى غمده مطمئنا بعد أن رأيت كيف جال بفضل الله جولة الجياد.
وحسبي من الفوز أن يعترف سعادة مدير الجامعة المصرية بأن فراسته لم تخب في تلميذه القديم.
অজানা পৃষ্ঠা