واختلس النوم سعيد مهران وحلم بعض الوقت ولم يدرك أنه كان يحلم إلا عند يقظته، عند وعيه لوجوده في الظلام والوحدة بشقة نور، بشارع نجم الدين، وتأكده من أن عليش سدرة لم يفاجئه في مخبئه، ولم يطلق عليه الرصاص تباعا، ولم يدر عن الوقت شيئا، سرعان ما سمع همس المفتاح في القفل، وصفقة الباب وهو يغلق، وشراعة باب الحجرة وهي تنضح بضوء المدخل، وظهرت نور باسمة حاملة لفة كبيرة، فأقبلت عليه تقبله وهي تقول: وليمة! معي العجاتي وتسباس ومانولي!
فقبلها متسائلا: شاربة؟ - لزوم العمل، سأستحم ثم أرجع، إليك الجرائد!
وتابعها بعينيه حتى ذهبت، ثم انهمك في مراجعة الجرائد الصباحية والمسائية على السواء، لم يكن فيها جديد بالنسبة إليه، ولكن ثمة اهتمام بالجريمة والمجرم فاق ما كان يتوقعه، وبخاصة ما نشر في جريدة الزهرة، جريدة رءوف علوان، كتبت الجريدة في إسهاب مثير عن تاريخه في اللصوصية، وسلسلة المغامرات التي كشفت عنها محاكمته، وقصور الأغنياء التي سطا عليها، وعن شخصيته، وجنونه الخفي، وجرأته الإجرامية التي انتهت إلى سفك الدماء، يا للعناوين الكبيرة السوداء! آلاف وآلاف يناقشون الساعة جرائمه، ويتندرون بخيانة نبوية له، ويتراهنون على مصيره، إنه محور الأخبار، ورجل الساعة، وقلبه ينقبض لذلك خوفا وزهوا، الانفعال يكاد يمزق عروقه، وعشرات الأفكار تتزاحم في رأسه في اللحظة الواحدة، وتيار مثل تيار الخمر يغمر خياله، فيؤمن بأنه سيتمخض عن أمر خطير لا يقل شأنا عن الخلق أو النصر، فيود لو يتصل بالناس ليعرب لهم عما يهز صدره في الصمت والوحدة، وليؤكد لهم بأنه سينتصر، ولو بعد الموت.
إنه وحيد حيال الجميع، ولكنهم لا يعلمون، لم يفقهوا بعد حديث الصمت والوحدة، ولا يفطنون إلى أنهم أيضا لهم حديث صمت ووحدة، والمرآة التي تعكس صورهم باهتة مضللة، فيتوهمون أنهم يرون قوما غرباء، وثبتت عيناه على صورة سناء في دهشة وتأثر، وجرى بصره على الصور جميعا، صورته الوحشية وصورة نبوية التي بدت كامرأة ساقطة، ثم عاد إلى سناء المبتسمة، أجل إنها تبتسم؛ لأنها لا تراه ولأنها لا تدري شيئا، وتفحصها بكل قوة ورغبة، فدهمه شعور بأنه عبث، وأن الليل خارج النافذة يتنفس حزنا أصيلا، وتمنى في يأسه لو يستطيع الهرب بها إلى مكان لا يعرفه أحد، وأن يراها ولو كآخر طلب له في الدنيا قبل الشنق، وقام إلى الكنبة الأخرى ليلتقط المقص من بين قصاصات القماش المكومة، ثم عاد ليقتطع الصورة بعناية من الجريدة، ولما خرجت نور من الحمام كانت نفسه قد هدأت نوعا ما، ونادته من حجرة النوم، فمضى إليها وهو يعجب كيف أنها حملت إليه جميع الأنباء وهي لا تدري عنها شيئا. وتجلى كرمها في المائدة التي أعدتها؛ فسال لعابه شوقا إلى الطعام والشراب، وجلس إلى جانبها على كنبة مواجهة للفراش أمام الخوان الحافل، ولرضاه ربت شعرها المبتل وهو يقول على سبيل التحية: أنت امرأة ولا كل النساء!
وعصبت شعرها بمنديل أحمر، وراحت تملأ الأكواب، مبتسمة طوال الوقت لقوله، مبدية عن لونها الأسمر الباهت بلا زواق، منتعشة بالحمام كطعام متواضع لكنه طازج، مطمئنة في جلستها، معتزة بامتلاكه ولو إلى حين، فارتاح إلى ذلك كله دون حماس، وحدجته بنظرة ارتياب وقالت: أنت تقول هذا؟! أكاد أصدق أحيانا أن الرحمة قد تعرف قلوب رجال البوليس قبل أن تعرف قلبك! - صدقيني أنا سعيد بك. - حقا؟ - نعم، رقة قلبك لا يمكن أن تقاوم. - ألم أكن كذلك في الزمان الأول؟
هيهات أن ينسينا انتصار سهل هزيمة دامية، وقال: كنت وقتذاك بلا قلب! - والآن؟
فتناول كوبه قائلا: لنشرب ولنبتهج!
وأقبلا على الطعام والشراب بشهوة صادقة، حتى سألته: كيف قضيت وقتك؟
فأجاب وهو يغمس ريشة في الطحينة: بين الظلمة والقبور، أليس لك أموات هنا؟ - أمواتي في قبور البلينا، رحمة الله على الجميع!
وصمتا، فوضحت أصوات التمطق، واحتكاك الأكواب، وطقطقة الصينية، وعاد سعيد يقول: سأطلب منك أن تشتري لي قماشا يصلح لبدلة ضابط! - ضابط؟! - ألا تدرين أنني تعلمت الخياطة في السجن؟
অজানা পৃষ্ঠা