وأين وجه الشيخ عكاشة أفصح خطباء الوعظ والإرشاد من فتاة غيداء؟ بل أين أناقة الشيخ سلطان، وهي أناقة بالغة من فستان مهما يكن رخيصا؟ ... إنها حرب لا تكافؤ فيها ولا عدل. وماذا يمكن أن يصنعوا جميعهم إزاء نظرة حالمة، أو ابتسامة مستدعية، أو - والعياذ بالله - كلمة رقيقة؟ ألا إنها قسمة ضيزى، وإن نصيبهم لأبخس الأنصبة. وحسبه من الزمان أنه ذاهب كل يوم إلى مكتب الوعظ عائد منه. وحسبه أيضا أنه يؤدي الصلوات الخمس مع كل سنة، بل إنه لا يترك المأثور من شفع ووتر. وإنه ليطيل الركوع والسجود إطالة قد تضيق بها زوجته زكية في كثير من الأحايين، ولكنه لا يبالي ضيقها فهو يعلم أن إطالة السجود والركوع واجب في الصلاة لا سبيل إلى التغاضي عنه. وحسبه أنه يصلي الفجر في موقته؛ فلم يكن النوم عنده خيرا من الصلاة في يوم من الأيام. وإنه لحريص كل الحرص على أن يصلي ابنه عباس الصلوات جميعا، وكذلك تفعل ابنته وهيبة، لكن أين هذا جميعه مما هو مفروض عليه من وعظ وإرشاد؟
كان الشيخ قد أكمل ارتداء ملابسه ولم يبق إلا الحذاء، فجلس إلى الكنبة البلدية ذات الوسائد التي تعترض مقعدها وتذود ظهر الجالس إليها عن الحائط، وكانت المنضدة بجانب الكنبة لا تبتعد عنها أبدا، وكانت لبيسة الحذاء على المنضدة لا تبرح مكانها إلا إلى حذاء الشيخ ثم تعود. وهكذا مد الشيخ سلطان يده إلى اللبيسة دون أن يكلف نفسه عناء النظر إلى موضعها، وقد أصابت يده مرادها في غير تردد، ولبس الشيخ الحذاء وعادت اللبيسة، وصاح الشيخ كعادته: يا زكية!
وأصاب النداء الأذن التي أرسل إليها وصاحت زكية من البهو: هل انتهيت من اللبس يا شيخ سلطان؟
ويصيح الشيخ مرة أخرى: هل أعددت الإفطار؟ - دقيقة واحدة.
وتنحنح الشيخ وصمت هنيهة، ثم صاح: ألبس عباس؟
ولم يجبه أحد في هذه المرة ، فعاد إلى الصمت، ولكنه ما لبث أن ضاق به كما ضاق بنفسه داخل الحجرة لا يفعل شيئا، فقام مرة أخرى إلى الصوان وفتح ضلفته ذات المرآة وأخرج من الرف الأعلى زجاجة صغيرة الحجم يغشى الزيت ظاهرها ذات غطاء زجاجي دقيق، لا يقف عمله على تغطية الزجاجة، وإنما هو أيضا مرود يجعل من يتزود بعطرها حكيما غير جائر، فلا يصيب من العطر إلا قدرا قليلا ينم ولا يفضح. وتعطر الشيخ، ثم أعاد المرود إلى الزجاجة، والزجاجة إلى الصوان، ثم أقفل الضلفة وعاد ينظر إلى المرآة ... ويل للعطر! ... إنه لم يزد من أناقة الشيخ شيئا!
وقبل أن يمد الشيخ يده إلى شاربه الكث ليحاول أن يلم شعثه أو يهذب ثائره، تراءت له من تحت الجبة قطعة من القفطان تكوم تحتها الصدار، فراح يسوي ما تجمع ويعدل ما التوى، حتى عاد إلى ملبسه ما كان عليه من نظام قبل لبس الحذاء، ثم عاد هو ينظر إلى المرآة ... ما زال كما هو ... عينان واسعتان فيهما سطوة وفيهما قدرة على الخضوع، ووجه متردد بين الاستدارة والاستطالة يغشيه الشعر في غزارة وكرم؛ فاللحية كثة يكلفه حلقها كل يوم موسى جديدا ووقتا طويلا، والحاجبان كثيفان كقطعتين من ليلة في محاق، وإن كان الشعر الأبيض قد بدأ يرود طريقه فيهما فيبدو كالنجوم التي تسعى إلى السماء الداكنة خائفة تبحث عن الأنيس أو الرفيق، والشارب كث ضخم والشيخ دائما حائر فيه؛ فهو حينا يجور عليه بالمقص، حتى ليصبح غير جدير بوقار الشيخ ومكانته، وهو حينا يعفيه من التهذيب فترة طويلة فيبدو كالطفل المدلل دائم العربدة بادي الفوضى. وللشيخ بعد ذلك بقية من شعر في رأسه، ولكني أحسب أننا لن نرى هذه البقية أبدا؛ فالشيخ لا يترك العمامة إلا إذا لبس القلنسوة، فما هي إلا ومضة حتى تغطي واحدة منها رأس الشيخ، وما تكفي ومضة لندرك مقدار ما بقي له من شعره، إلا أن سالفيه غنيان بالشعر يكسبان العمامة والقلنسوة كلتيهما رواء، كما يكسبه هو طوله واتساع عارضيه مهابة وجلالا .
هذا هو الشيخ سلطان في مظهره العام، إلا أن في الشيخ خاصية يختلف بها عن سائر الناس اختلافا ما هو بالبعيد وما هو بالضئيل الذي تعبره العين ولا تلتقطه؛ كانت عينا الشيخ حمراوين دائما، سواء أكان الشيخ مريضا أم صحيحا، مصيبا من النوم حاجته أم قلق النوم غير هادئ. العينان حمراوان على أية حال، ولعل هذا الاحمرار هو الذي يضفي عليهما هذا البريق من السطوة، وهذا الاستعداد من الخضوع كأنهما عينا مخمور. ولن تجد محبا للسطوة مثل مخمور، أو مسارعا إلى الخضوع مثل مخمور أيضا، إلا أن الشيخ لم يكن مخمورا، بل أقسم غير حانث أنه لم يذق الخمر أبدا إلا ليلة واحدة تاب بعدها، وقد عذبه ضميره أي عذاب. إنها ليلة سحيقة الغور في أعماق تاريخ الشيخ، وما كان أحراني أن أكتبها على الشيخ فلا أفضحه وقد ألقى عليها الزمان أثوابا وأثوابا من الأيام.
ولكن ماذا أفعل وقد زل القلم كما يزل اللسان؟ وأصبحت الآن ولا بد لي أن أذكرها. وعلى أية حال فإنها حكاية صغيرة مرت بالجميع في هذه السن الباكرة التي كان عليها الشيخ.
عفا الله عنه الشيخ عبد التواب فلولاه ما سقط الشيخ سلطان، وقد كانا يومذاك مجاورين بالأزهر الشريف، وكانا قد تعودا أن يخرجا معا بعد الدرس فيرودا الشوارع في تؤدة ووقار، فهما ينقلان الخطوات بطيئة متعاظمة وكأنما أثقلهما العلم أن يطلقا لأقدامهما الحرية، وينفلتا إلى انطلاقة الشباب وبحبوحة الدماء الفائرة في عروقهما، وقد ضاقت بالوقار وبالجبة وبالعمامة جميعا. وكانت النزهة عندهما غاية النزهة أن يتنقلا بين مسجد الحسين والسيدة زينب والإمام الشافعي، أما الذهاب إلى الهرم فهو مغامرة يدبران لها التدابير، ويعدان العتاد، ويحكمان الخطط.
অজানা পৃষ্ঠা