وتنظر إليها إيفون مليا، ثم تقول: ما لي؟ - ألا تعرفين؟ تفكرين وتطيلين التفكير، وتسكتين فتمر بك الساعات لا تنطقين. - يا سلام يا ماما! إنما يتهيأ لك. لا شيء بي.
وتسكت الأم، وقد تطمئن نفسها أن إيفون أصبحت في السن التي يجوز لها فيه أن تفكر وتسكت، ويصيب هذا النوع من التفكير مكانا في قلب الأم يحب أن يطمئن فتطمئن.
كان اليوم جمعة، وكانت إيفون جالسة إلى أمها في البهو تنتظر قدوم مرقص أفندي، وكانتا تعلمان أنه قادم مع الأذان بصلاة الجمعة؛ فقد كان أصدقاء القهوة يتركونه في هذا الموعد. وجاء مرقص أفندي وحياهما، ورأت مريم في وجه زوجها هذا الأسى الذي تعرفه فيه إذا صادف خارج البيت ما لا يرضيه. وعلى عادتها أخذت في حديث، وعلى عادتها صمتت. وتنهد مرقص أفندي وساد الصمت قليلا، ثم قال مرقص: مسكين أبو الأولاد. - خير يا مرقص؟ - الشيخ سلطان، الرجل الطيب على خلاف مع ابنه عباس. - خلاف؟! أي خلاف يمكن أن ينشأ بين أب وابنه؟ فليضربه فينتهي الخلاف. - لم يفد هذا العلاج في هذه المرة. - كيف؟ أنا أعرف الشيخ سلطان رجل شديد في بيته، وكلهم يرهبونه. - المسألة ليست مسألة إرهاب، عباس - طبعا - لم يقل لأبيه كلمة جافية، ولكن يبدو أن الخلاف أعمق من هذا. - وما الخلاف؟ - أنا ذاهب إليه بعد الظهر في القهوة وسأرى.
كانت إيفون صامتة لم تتكلم؛ فهي قد علمت من عباس أن هناك خلافا، ولكنه لم يبن لها عن أسبابه. وقد كانت تنتظر أن تعرف من عباس في زيارته القادمة ما لم تعرفه، ولكنها مع ذلك أبت أن تسكت فهي تقول لأبيها: لماذا لا تحاول أن تصلح ما بينهما؟
وقالت مريم: ونحن ما شأننا يا إيفون؟ لنكن في حالنا.
قال مرقص أفندي: كيف تقولين هذا يا مريم؟ الشيخ سلطان صديق العمر. طبعا سأفعل كل ما أستطيع أن أفعله.
وقالت إيفون في فرح: ربنا يبقيك يا بابا . - يا بنتي ربنا يحفظك ويبعد عنا السوء. يا إيفون يا بنتي، إن أعظم مصيبة يلاقيها الإنسان في حياته هي المصيبة التي تناله في أولاده.
وغامت عينا إيفون بالدمع وأوشكت أن تجهش لولا أنها قامت مسرعة إلى حجرتها، وتعلقت عين أبيها بها حتى اختفت عن ناظريه، ثم استرد هو الآخر دموعا أطلت فغاضت بين حب لابنته وإشفاق عليها مما أثاره في نفسها بحديثه.
وحين ألقت إيفون نفسها إلى السرير وأصبحت وحيدة لا أحد حولها، أطلقت الإجهاشة المكبوتة وهي تتساءل: ماذا هو فاعل حين يعلم؟ ماذا هو فاعل حين يعلم؟
وحين أتم الشيخ سلطان حديثه إلى مرقص أفندي قال: استكبرت يا مرقص أفندي أن أشكو همي لرضوان، وهو عديلي وزوج خالته. لم أرد أن يعلم أحد أن ابني يعصي أمري، ولكن المصيبة أكبر من أخفيها في نفسي. لم أجد بين أصدقائي من أروي له إلا أنت؟ ماذا أقول يا مرقص؟ ماذا أقول لهم؟ أأقول إن ابني ... ابني أنا مفتش الوعظ والإرشاد ملحد؟ كيف سينظر إلي زملائي؟ كيف أريهم وجهي؟ أيبلغ بي الفشل في عملي إلى درجة أنني لا أستطيع أن أجعل ... ابني ... ابني الوحيد مؤمنا؟! يجب أن أستقيل، وإذا استقلت ماذا نأكل وكيف نعيش؟ بل كيف يعيش حضرة الملحد الذي يضمه بيتي؟ لا رأيتها أبدا يا مرقص أفندي، لا رأيتها أبدا.
অজানা পৃষ্ঠা