كانت إيفون سمراء سمرة خفيفة. وكان شعرها أسود داكنا منسابا في سيولة وانسكاب. وكانت عيناها أجمل ما في وجهها؛ عينان كبيرتان يتعلق بهما سؤال عن مجهول من الأمر، فما كانت إيفون تدري ماذا تريد أن تعرف، وإنما يحس الناظر إلى عينيها أنها تسأل عن شيء لا تدريه ولا يدريه أحد. سؤال حائر يبحث عن شيء دون أن يعرف كنه هذا الشيء الذي يبحث عنه. وكانت إيفون دقيقة الجسم، رقيقة الأطراف، سريعة الحركات والأفكار معا، رشيقة في حركاتها، حائرة في فكرتها.
وقد أحبت عباس وإن حبها له ليطغى في كل يوم؛ فهو أول من أسمعها هذه اللفظة الساحرة «أحبك»، ولم تفكر يوما فيما سيؤدي إليه هذا الحب، كل ما تدريه أنها تحبه وأنه يحبها، ولا شأن لها بأعقاب هذا الحب أو نتائجه، إنما هي تهفو إلى هذا اللقاء المختلس في العربة، وإلى هذه الكلمات الهامسة التي تحاول أن تتخفى عن أذن عم جبر المتسمعة. وهي تفرح بهذا اللقاء وتضيق بانتهائه. وهي تفكر كيف يمكنها أن تطيل منه؟ لقد طالما سألها عباس وألح في السؤال كيف يستطيع أن يلقاها بغير حذر من جبر، وبغير خوف من شارع المدرسة الذي يتحتم عليه أن يتركها قبل أن تبلغ بهما العربة أوله؟ وطالما فكرت فكانت تعود من أفكارها بالفشل؛ فكرت أن يلتقيا في الحدائق، ولكن كيف تخرج؟ وفكرت أن يلتقيا فوق سطح المنزل، ولكن سطح المنزل مكان عام تقصد إليه ساكنات العمارة جميعا، ولا تنتهي الخادمات عن الذهاب إليه. وفكرت وفكرت ولكن لم يعد عليها التفكير بمكان واحد موفق يخفيها عن العيون. ولقد كانت تفكر أيضا وهي تمشط شعرها ولكن هيهات، وفجأة فتح باب حجرتها المؤدي إلى الشقة، وطالعتها أمها صائحة: ألم تلبسي بعد؟! والمسيح الحي إنك لن تفلحي عمرك، ماذا بك؟!
وكانت إيفون قد انتفضت في وقفتها فقد عادت بها أمها والباب الذي فتح فجأة إلى ما كانت غائبة عنه من موعد المدرسة، بل من موعد عباس نفسه. وأفاقت إيفون وهي تقول: حالا ... حالا يا ماما.
وقالت أمها وهي تخرج وتغلق الباب من خلفها: أسرعي.
وسارعت إيفون إلى ملابسها فارتدتها، واختطفت حقيبتها، ومدت يدها إلى أكرة الباب المؤدي إلى السلم تفتحه، وقبل أن ترفع يدها عن الأكرة أومضت في ذهنها فكرة: لماذا لا يأتي عباس إلى حجرتي هذه؟! لا! لا يصح! لماذا لا؟ لقد جعلوا لي هذه الحجرة بعد أن كانت حجرة الاستقبال لأتلقى فيها درس اللغة العربية من الشيخ عبد الوهاب؛ فقد كان أبي لا يريد الشيخ أن يخترق البيت إلى حجرتي القديمة. كان أبي لا يريد أمي أن تتحرج كلما جاء الشيخ، وتقوم من مكانها لتخلي له الطريق، فاقترح أن تكون حجرتي هي حجرة الجلوس هذه الواقعة على السلم. فما البأس أن أستقبل فيها عباس في الليل بعد أن ينام أبي وتنام أمي؟ ما البأس؟! في حجرة نومي؟ وهل هناك سبيل آخر؟ وما دمت ألقاه فما الفارق بين حجرة نومي والعربة أو أي مكان آخر؟ ماذا يقول عباس؟! وماذا تراه يقول؟ أليس هو من يلح علي في أن أهيئ مكانا ألقاه فيه؟ ماذا تراه يقول؟ لا بد أنه ...
وكانت إيفون قد استقرت في العربة، وكان عباس بداخلها، وما أسرع ما قال: صباح الخير. لكم اشتقت لك. - صحيح؟! - ألم تشتاقي لي؟ - جايز. - إذن فأنت لم تشتاقي لي. - من قال لك؟ - أنت. - أنا؟! - ما معنى جايز؟ - وماذا تريدني أن أقول؟ - مثلما أقول أنا. لكم اشتقت لك يا عباس. إنك لم تقولي هذا أبدا. - وهل لا بد أن أقول حتى تعرف؟ - وكيف أعرف إن لم تقولي؟ - وهل أدري؟ - فكيف أدري أنا؟ - أنا أعرف أنك مشتاق لي دون أن تقول. - فأنت أذكى مني. - لا ... ولكن ... - ولكن ماذا؟ - ولكني أراك بقلبي. - فكيف أراك أنا؟ - بعينيك. - الله يعلم كم أحبك، والله يعلم كيف أراك. إني أراك بعيني وبقلبي وبكل جارحة مني. - فلماذا تريدني أن أقول؟ ألم يخبرك قلبي؟ - أريد لأذني أن تستمتع بما يستمتع به قلبي وعيني. قولي، قولي ولو مرة واحدة، اشتقت لك، أو قولي أحبك، أو قولي أي شيء تطرب له أذني مثلما يطرب قلبي عند لقائك. - كأنك سمعت.
ووقفت العربة وارتفع صوت عم جبر: اتفضل يا سي عباس أفندي.
وهمس عباس: ألم تجدي مكانا؟
واصطنعت إيفون الجهل بالسؤال: مكان؟! - نعم لنلتقي. - ها نحن نلتقي. - إيفون! أرجوك.
وضاق الأسطى جبر بالهمس الذي لا يسمع منه شيئا فصاح: سي عباس!
অজানা পৃষ্ঠা