معنى البرهان الذي رآه يوسف ﵇
الوقفة الثانية: ما المقصود ببرهان ربه: ﴿لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [يوسف:٢٤]؟ ذكر المفسرون أقوالًا كثيرة منها: أنه رأى صورة يعقوب عاضًا على أنامله.
منها: أنه رأى كف يعقوب.
منها: أنه رأى آية: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى﴾ [الإسراء:٣٢]، ومنهم من قال: إنه رآها مكتوبة على جبهتها وقيل: رآها مكتوبة على الحائط وقيل: إنه خرجت له كف مكتوب فيها: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى) ثم لم يمتنع، ثم خرجت له كف مكتوب فيها: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ [البقرة:٢٨١] ولم يمتنع حتى جاء جبريل ودفعه، وهذا كما قلنا لا يليق أبدًا بحال يوسف ﵇.
منهم من قال: إن جبريل دفعه بيده حتى هرب بعد ذلك.
ومنهم من قال: إنه كان هناك صنم في الغرفة فجاءت تغطيه، فقال: لماذا؟ قالت: أستحي من إلهي، قال: وأنا أحق أن أستحي.
على كل حال: كل هذه الأقوال ليس عليها دليل صحيح، وكلها مرويات عن بني إسرائيل، وليس لنا حاجة أن نعرف ما هذا البرهان ولو كان فيه حاجة لأخبرنا الله ﷾، فالله ﷿ أبهمه: ﴿لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [يوسف:٢٤].
وإنما ذكرناها؛ لأني أعرف أن هناك من يتساءل عنه، وهي قضايا كثيرة أحيانًا يوقف عندها، ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ﴾ [يس:١٣] من هم أصحاب القرية؟ في قصة أصحاب الكهف مثلًا ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف:٢٢] ما لون الكلب وما اسمه ومن فلان؟ هذه أمور أبهمها الله ﷿ فلا حاجة ولا مصلحة إلى أن نفتش عنها، ومهما ذكرها المفسرون، بل يجب أن نتعامل مع مثل هذه الآيات ومع مثل هذه القصص كما ذكرها الله في كتابه، فنقول: رأى يوسف ﵇ برهان ربه، وهذا البرهان لا يعنينا بقليل ولا بكثير، المهم أن الله وفقه وأعانه فرأى هذا البرهان.
يقول ابن جرير ﵀: وجائز أن تكون تلك الآية صورة يعقوب، وجائز أن تكون صورة الملك، وجائز أن يكون الوعيد في الآيات التي ذكرها الله في القرآن على الزنا، ولا حجة للعذر قاطعة بأي ذلك، والصواب أن يقال في ذلك ما قاله الله ﵎ والإيمان به وترك ما عدا ذلك إلى عالمه.
يعني: الصواب أن نقول: إن يوسف رأى برهان ربه، أما ما يروى عن بني إسرائيل فالنبي ﷺ قال: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم).
قضية أخرى: قال الله ﷿: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ﴾ [يوسف:٢٦].
نفس الكلام نقوله في الشاهد، ومن هنا: فأرى أنه ليس هنا حاجة للاستطراد في قضية الشاهد، وما قاله المفسرون هنا حول الشاهد حتى نتربى ونتعود على هذا المنهج، فهذا أمر أبهمه الله، ولم يذكر: هل هو رضيع هل هو رجل كبير هل هو القميص والمهم: أن الله وفقه ومنَّ عليه فرأى برهان ربه فأعانه الله ﷾ وحفظه فرأى هذا الشاهد فحماه الله ﷾.
القضية الرابعة: ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ [يوسف:٢٣]، ما المقصود هنا بقوله: (إِنَّهُ رَبِّي)؟ الأظهر أن قوله: (إِنَّهُ رَبِّي) يعني: العزيز، يعني: سيده، وهذا أمر كان مستعملًا عندهم فقد قال: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ﴾ [يوسف:٥٠] ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا﴾ [يوسف:٤١] ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ [يوسف:٤٢] كل هذه مقصود بها: العزيز.
إذًا: فقوله: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ [يوسف:٢٣] أي: إن العزيز قد أحسن مثواي وأكرمني فلا يليق أن أخونه في أهله، لكن لماذا قال يوسف ﵇ لما دعته إلى نفسها: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ [يوسف:٢٣] فاعتذر بهذا العذر، فلماذا لم يخوفها بالله، والمانع الحقيقي الذي منع يوسف ﵇ هو الخوف من الله؟ قال شيخ الإسلام وغيره: إن المرأة هنا امرأة مستحكمة الشهوة لا تخاف الله ﷿، فلو خوفها بالله لم ترتدع لكنه هو يريد أن يصرفها عن نفسه بأي وسيلة، فأراد أن يخوفها بزوجها فقال: إن هذا الزوج هو ربي وسيدي وأحسن مثواي وأكرمني فلا يليق بي أن أخونه في أهله، كان يظن يوسف ﵇ أن زوجها يملك قدرًا من الغيرة أو عنده بقية من الغيرة فحينئذ المرأة قد لا تخاف من الله ﷿ لكن عندما يخوفها بزوجها حينما يعلم عنها قد ترتدع.
وهذا فيه درس أن الإنسان يصرف الفتنة عنه ولو بما دون ذلك، أي: قد يذكر فلانًا من الناس أو يحدثه أو ينصحه ويعظه بما هو دون ما ينبغي، فهو مثلًا قد لا يرتدع من خوفه من الل
2 / 5