Lectures on Christianity
محاضرات في النصرانية
প্রকাশক
دار الفكر العربي
সংস্করণের সংখ্যা
الثالثة ١٣٨١ هـ
প্রকাশনার বছর
١٩٦٦ م
প্রকাশনার স্থান
القاهرة
জনগুলি
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: محاضرات في النصرانية
(تبحث في الأدوار التي مرَّت عليها عقائد النصاري وفي كتبهم ومجامعهم المقدسة وفرقهم)
المؤلف: الإمام / محمد أبو زهرة ﵀
الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة
الطبعة الثالثة ١٣٨١ هـ - ١٩٦٦ م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ وَمَنْ تَحَمَّلَ نَفَقَةَ الْكِتَابَةِ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ.
1 / 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
افتتاحية الطبعة الثالثة
الحمد لله رب العالمين، الذي بعث رسله ليكونوا حجة على الناس يوم لا تجزى نفس عن نفس شيئًا، والصلاة والسلام على النبي الأمي محمد ﷺ نبي الرحمة الذي بعث على فترة من الرسل، بعد أن ضلت الأفهام، وحرفت الحقائق وسيطرت الأوهام، وعلى آله وأصحابه الذين كانوا كالنجوم بين العالمين.
أما بعد ... فهذه محاضراتي في النصرانية أعيد طبعها، بعد أن ألح الكثيرون في طلب الإعادة، إذ تعذر على مريدي قراءتها الحصول عليها، حتى أنها عندما قررت دراستها على طلبة معهد الدراسات الإسلامية لم يجد الدارسون ما يراجعون فيه، فلم يكن بد من أن يعيد المعهد طبعها ليعين الدارسين، ولينتشر تلك الحقائق، من غير تهجم على متدين، ولا مضايقة لغير مسلم، لأن البحث الذي يتبع فيه المنهاج العلمي السليم، لا يصح أن تضيق به الصدور، ولا أن تنزوي عنه العقول. وإذا كانت فيه ثغرات يرأبها النقد المنطقي المستقيم، ويعالجها البحث العلمي القويم من غير عوج في القول، ولا التواء في القصد.
لقد كتبنا تلك المحاضرات بروح المحقق الذي يجمع الحقائق، ويعرضها، وقد تماسك بعضها ببعض، ليتكون من ذلك مجموعة علمية تهدي ولا تضل. وما كنا نجهد التاريخ لنسيره، ولكنا خضعنا له، وهو الذي كان يسيرنا. . وكنا في ذلك كالقاضي العادل خضع للبيانات التي تكون بين يديه، وهي التي تحكم في الحكم الذي نسجله. لا نغير ولا نبدل، ولا ننحرف بها عن النتائج التي تؤدي إليها مقدماتها. فنسير حيث يسير بنا الدليل من غير انحراف ولا تجريف.
وما كانت البيانات التي بين أيدينا من مصادر إسلامية، أو من أعداء المسيحية. بل كانت من كتاب المسيحيين أنفسهم التي سجلوها في
1 / 3
تاريخها، كتبها المتقدمون، ورددها المتأخرون، فهي شهادات من أهلها استنطقناها، فنطقت، واستهديناها، فهدت، واسترشدنا بها فأرشدت، وما ضنت.
وإذا كان من إخواننا وعشرائنا من تململ من محاضراتنا. أو تبرم من مخالفتنا لما يؤمن به، فأنا - علم الله - ما قصدنا بكلامنا إحراجًا ولا إيلامًا، إنما أمانة العلم هي التي جعلتنا لا نقدم لتلاميذنا الذين نلقاهم، والذين لا نلقاهم بالخطاب، بل نلقاهم بالكتاب، إلا ما نعتقد أنه الحق الناصع، وقد وجه إلينا نقد من بعض المخلصين من إخواننا المسيحيين في مقالات متتابعة نشرتها إحدى المجلات المسيحية، فما ضاقت صدورنا، بل ذهبنا إلى الناقد في داره، وطلبنا إليه أن يطلعنا على كل الأعداد التي تشتمل على نقد لنا، لنصحح خطأ وقعنا فيه، أو لنبدل حكمًا ما أنصفنا فيه، عملًا بقوله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ .
ولنا لنحسب أنه ليس من بين إخواننا أقباط مصر من ظلموا، فما كان لنا إلا أن نتقبل النقد بقبول حسن، ونتبعه في كل ما وجه إلينا مستطيبين ذلك، حتى ما كان منه تهجم علينا. فإن المخلص يستمع، ولو كان في كلام مخالفه هجوم، أو تهجم بغير الحق.
وما وجدنا في النقد ما يغير حكمًا، ولقد أرسل إلينا بعض أبنائنًا المسحيين رسائل نقد قدرناها، فقراناها، وكان كتابها يخرجون عن حد النقد أو الدفاع إلى ما لا يحسن من قول، فما ضاقت صدورنا، وحاولنا أن ننتفع منها، ولكنا ما وجدنا فيها أيضًا ما يبرر لنا تغيير حكم حكمنا به، وإلى هؤلاء وأولئك نعتذر.
ولا يصح أن يتبرم أحد من إخواننا وأبنائنا من كلام نسوته لطلابنا، معتقدين أنه الحق الذي لا ريب فيه، فلو كان أهل كل دين تضيق صدورهم بالبحث والدرس، لكان حقًا علينا معشر المشتغلين بالدراسات الإسلامية أن تذهب نفوسنا حسرات مما يكتبه بعض علماء أوروبا عن الإسلام، يفترون على حقائقه ولا يدرسونه دراسة موضوعيه، بل يدرسونه دراسة
1 / 4
ذاتية محرفين الكلم عن مواضعه، ومع ذلك ندرس كلامهم، ونضع الصواب منه في موضعه، ونضع الباطل في مكان سحيق، نأخذهم إلى المنطق ولا ننحرف معهم عن قصد السبيل.
وأخيرًا نقول لإخواننا أننا نؤمن بالمسيح ﵇، ونؤمن بمحمد ﷺ وسائر النبيين ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ .
محمد أبو زهرة
٢٧ من ذي القعدة سنة ١٣٨١
١٩ من مارس سنة ١٩٦٦
1 / 5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
افتتاحية الطبعة الثانية
الحمد لله الذي خلق فقدر، وخلق آدم من طين، وعيسى ابن مريم من غير أب ليكون حجة على العالمين. فيثبت أن الخلق بالإرادة لا بالعلية، فتبارك الله أحسن الخالقين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وسائر النبيين، المبعوثين رحمة للناس أجمعين.
أما بعد، فقد جاء في صحيح البخاري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال:
ثلاثة لهم أجران: "رجل من أهل الكتب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه. ورجل كانت عنده أمه فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران".
ويقبس من هذا الروح السمح كتبنا كتاب محاضرات في النصرانية، نرجو به مع إحقاق الحق الهداية، لا نهاجم اعتقادًا، ولا نبطل عقيدة، بل ننير السبيل ونضع المصباح أمام الجادة فيسلكها من يريد الرشاد، ومن يرجو السداد، ولكننا في عصر فهم الناس فيه الدين منزعًا جنسيًا، ولم يفهموه حقًا اعتقاديًا، ولا تهذيبًا نفسيًا، ولا خلاصًا روحيًا، فكان ذلك حاجزا دون أن تصل الهداية إلى القلوب، ولن تشرق النفوس بنور الحق.
وقد كلن الناس في الماضي يوجد من بينهم من يقول ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ أما الآن بالناس جميعًا غلقوا على أنفسهم باب النور باعتبارهم الدين جنسا، والاستمساك به من القومية أو ما يشابهها، فيكون العار على من خالف، وإن كانوا يعلمون أن فيما يعتقدون ما ليس بمفهوم.
وبسبب هذه النزعة الجنسية في التدين ظهر نقد لكتابي هذا من بعض بني وطني غير المسلمين، وكنت (علم الله) مستريحًا لظهوره، فجمعت
1 / 6
النقد، وشكرت الناقد، وتغاضيت عن عبارات نالني بها، لأنها من فلتات القلم، ولقد أخذت أدرس ذلك النقد حرفًا حرفًا، لأصحح به خطأ جرى في الكتاب، أو سوء تفسير فسرناه، أو تخريجًا بعيدًا عن المعنى خرجناه.
ولكني وجدت النقد خاليًا من ذلك في جملته، بل هو مهاجمة لقصد الكتاب، يثير اعتبار الدين جنسا، ويدفعه التعصب الشديد، ويحاول توهين المكتوب، حتى أنه في سبيل ذلك يعتبر الكرم المقيد بوصف متناقضا، والمعلق على شرط متضاربا، لأن صدر الكلام غير الوصف، ومقدم القضية الشرطية غير تاليها، وإن كان في النقد ما يفيد أنه أثبت أن بعض أخواننا نألم من عبارات جاءت في كتابنا. فغيرناها إن لم يكن في التغيير ما يمس الجوهر، ويفسد المعنى.
وقد كنا بسبب التألم نحجم من إعادة طبع الكتاب، مع الإلحاف من الكثيرين وبعضهم من إخواننا المسيحيين، وأحجمنا عن ذلك نحو ست سنوات، ولكن اشتد الطلب من البلاد الشرقية والمصرية، وزكوا الطلب بأنه لا يليق أن تحول الاعتبارات النفسية دون ظهور ثمرات الفكر، وإن عند إخواننا من سعة الصدر ما يتسع لذلك. وخصوصًا أن الكتاب معروف في أمريكا وأوربا والهند، فقد ترجم إلى الإنجليزية. ولخصته بعض المجلات الأمريكية تلخيصًا كاملًا، وترجم إلى الفرنسية والأردية.
فماذا كانت هذه الأمم المسيحية تطوع بعض المسيحيين فيها بترجمته تسجيلًا للآثار العلمية. وإن خالفوها - فإنه من نقص الحرية الفكرية في مصر أن يضيق صدر بعض أبنائها حرجًا بإعادة طبع كتاب سجله المسيحيون في لغاتهم.
لهذا أقدمت على إعادة طبع الكتاب بعد طول الأحجام، راجيًا من المولى جلت قدرته الهداية والتوفيق والسداد، إنه نعم المولى ونعم النصير.
محمد أبو زهرة
٩ من رجب المحرم سنة ١٣٦٨
الموافق ٤ من مايو سنة ١٩٤٩
1 / 7
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
افتتاحية الطبعة الأولى
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم، أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى ابن مريم من النبيين الصديقين، ومن عباد الصالحين وأولى العزم من الرسل.
أما بعد. فقد عهد إلي تدريس تاريخ الديانات بقسم الدعوة والإرشاد من كلية أصول الدين فألقيت محاضرات في النصرانية، هذه خلاصتها، وتلك لبابها، ولقد عنيت ببيانها في أدوارها المختلفة متبعًا في بيان المسيحية الحاضرة سلسلة إسنادها المتصلة. فكان أول السلسلة مجمع نيتيه المنعقد سنة ٣٢٥، وتنتهي بعصرنا الحاضر، هذا مبدأ السند وهذا منتهاه، فالسند إذن ينقطع بين المسيح ﵇، والمجمع الأول من المجامع المقدسة، وأن انقطاع السند في هذه الفترة الطويلة سببه الاضطهاد الذي لحق النصارى فيها، حتى كانوا يستخفون ويتعبدون في السر. فلا يعلنون دينهم الذي ارتضوا، ويفرون به فرارًا إن كشف أمرهم، قد ينطقون بكلمة الكفر يتقون بها حد السيف أو نار العذاب، وقد اعترف بقطع السند مجادلوهم واختاروا ذلك السبب علة لهذا القطع.
وأنا إزاء العجز أو عدم توافر أسباب العلم ابتدأنا بحثنا في دينهم بكتبهم التي ألزم المسيحيون بها بعد قرار المجامع بالإلزام، ثم تتبعنا في البحث سير المجامع. نسير في مسارها، ونتجه في اتجاهاتها، ولكنا لا نكتفي بدراية قرارات مجمع من المجامع، بل ندرس البواعث التي بعثت إلى انعقاده ونفصل بعض التفصيل الخلاف الذي سبقه، والذي جاء المجمع لحسمه، ثم انتهى إلى تشعيبه وتوسيع زاويته.
وإن عنايتنا بتفصيل البواعث التي أدت إلى انعقاد المجمع الأول، وبيان قراراته، وكيف تأتي جمهور المسيحيين، وخاصة رجال الدين تلك القرارات، قد أزالت الستار عما أكفته غياهب التاريخ في الفترة التي
1 / 8
كانت بين المسيح وهذا المجمع، بل إن تلك العناية جعلتنا نخترق حجب الظلام التاريخي لنصل إلى ضوء نعشو إليه لنعرف حقيقة دعوة المسيح في عصر الاستخفاء أو عصر الاضطهاد، ولقد ساعدنا على الاستفادة بذلك الضوء موازنات تصدينا لها وازنا فيها بين المسيحية الحاضرة وفلسفة الرومان واليونان في تلك الفترة، وما حاولنا أن نفرض ما استنبطنا على القارئ أو نسبقه إلى الاستنباط، بل القينا إليه بالمقدمات، وتركنا له استخراج نتائجها، ليشاركنا فيما وصلنا إليه باقتناعه، ولكيلا نملأ عقله، وهو خال، فينقص تقديره للدليل ويضعف وزنه للبرهان.
ولقد كانت عنايتنا متجهة إلى بيان العقيدة، فجلينا أدوراها، وبينا ما قام حولها من مناقشات وخلافات. وبينا كل فرقة ومنبعثها، والمجمع الذي انبعثت من بعده. وما أحصينا فوقهم عدا، ولا فصلنا آراء كل فرقة تفصيلا، بل عنينا بالفرق الكبرى، وعنينا بتفصيل العقيدة دون سواها.
وعلم الله أني لبست رداء الباحث المنصف ونظرت بالنظر غير المتحيز، وتخليت عن كل شيء سواه، لأصل إلى الحق وصول المجتهد الحر، لا المقلد التابع المأسور بسابق فكره، والمأخوذ بسابق اعتقاده، ولكني انتهيت كما ابتدأت، مؤمنًا بالله الواحد الأحد، الذي ليس له والد ولا ولد.
وإني لأهدي كتابي هذا إلى كل مسيحي طالب للحقيقة يسير في مسالكها لا أبغي به غلبًا في جدال، ولا سبقًا في نزال، ولكن أبغي به الحق المجرد ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾
محمد أبو زهرة
1 / 9
تمهيد
١- عسير على المرء أن يكتب في رأي يخالف رأيه، ويتحرى مع هذه المخالفة أن يصور الرأي، كما يجول بخاطر صاحبه، وينبعث في نفسه، فيبين دوافعه وغاياته، وإذا كان ذلك واضحًا في رأي مخالف برئاي، فكيف تكون الحال إذا كانت المخالفة في عقدية تعتنق، وتتغلغل في أعماق النفس، وتستكن في اطوائها!! إن الطريق حينئذ يكون أو عث، ومسالكه أضيق، لذلك كان الطريق غير معبد أمام الباحث الذي يريد أن يكتب في النصرانية كمنا يعتقد النصارى، ويصورها أمام القارئ كما تجول بخاطر معتنقيها، ويفرض من نفسه ناظرًا غير متحيز، يبين العقيدة، كما عي في نفس أصحابها، لا كما ينبغي أن تكون، أو كما يعتقد هو، لأن الباحث خلع نفسه مما تعتنق وتؤمن به. ويجردها تجردًا تامًا مما قد صار منها بمنزلة الملكات، وخالط الإحساس والمشاعر، واستولى على كل مسالك الآراء إليها، وتصوير المسيحية كما يعتقد أصحابها ليس فقط عسيرًا على الكاتب غير المسحي، بل إنه عسير على الكتاب المسيحيين أنفسهم، يستوي في ذلك المختصون بالدراسات الدينية وغير المختصين، ولذلك يستعينون في تصويرها، وإدنائها إلى العقول بضرب الأمثال. والتشبيهات الكثيرة، لتأنيس غريبها بالقريب المألوف، والمشاهد المحسوس ولإدخالها في العقل من الباب الذي يألفه ويعرفه، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
٢- ولكن البحث العلمي يتقاضى الباحث الحر المنصف أن يدرس المسيحية إن أراد أن يعلنها كما يعتقد أهلها مجردًا من نزعاته السابقة على الدراسة، غير جاهل لعقيدته سلطانًا على حكمه، حتى لا تسيره في دراسته، وتتحكم في اتجاهاته، لأن ذلك قد يدفعه لأن يتزيد على القوم، والتزيد ليس من شيمة العلماء، أو يدفعه لأن يتناول كلامهم بغير ما يريدون، وذلك لا يجعل العقل يدرك الأمور كما هي في ذاتها، بل يدركها كما انعكست في نفسه، وكما رسمت على قلبه، وقد يباعد ذلك الأمر في ذاته.
1 / 10
ولذلك سنحاول داعين الله - مبتهلين إليه أن يلهمنا التوفيق - دراسة المسيحية، مجردين من أنفسنا ناظرًا غير متحيز عليها، لتصورها كما هي، وكما يعتقد أهلها، ولنتمكن من أن نكتبها بروح الإنصاف، ولقد نضطر في سبيل ذلك الإنصاف أن ننقل عبارات كتبهم المقدسة عندهم وغير المقدسة من غير أن نتصرف بأي تصرف، حتى ما يتعلق بالإعراب وأساليب البيان، لكيلا يدفعنا التصرف في التعبير إلى تغيير الفكرة، أو تحريف القول. عن مواضعه. وسنجتهد ما استطعنا في تصوير تفكيرهم الأمثال، إن لم نجد بدا من ذلك.
ولكن من عنايتنا الشديدة بتفهم ما عند القوم، وتعرف غاياته ومراميه لا نترك النقد العلمي النزيه، الذي يستمد قوانينه من بدائه العقول وأحكام المنطق، وخصوصًا ما يتعلق بكتبهم، لأنه إذا كان الإنصاف قد طالبنا بألا نتزيد على ما عندهم، أو نحرفه عن مراده ومرماه، فالإنصاف أيضًا يطالبنا بألا نهمل العقل، وألا خرج بحثنا عن معناه العلمي التاريخي، وصار بحثًا لاهوتيا صرفًا، وذلك ما لا نريد، فلا يصح أن يدفعنا حرصنا على أنصافهم إلى ظلم الحلم والحق والعقل.
1 / 11
المسيحية: كما جاء بها المسيح ﵇
المسيحية في القرآن:
٣- قبل أن نخوض في المسيحية كما هي عند المسيحيين نتكلم في المسيحية التي جاء بها المسيح ﵇، وإنا إذا تصدينا للمسيحية التي جاء بها المسيح نجد التاريخ لا يسعفنا بها، إذ بعد العهد، واضطربت روايات التاريخ بالأحداث التي نزلت بالمسيحيين، ويجوز أن تكون قد عملت بد المحو والإثبات عملها، حتى اختلط الحابل بالنابل. وصار من العسير أن نميز الطيب من الخبيث، والحق من الباطل، والصحيح من غير الصحيح، وأننا معشر المسلمين لا نعرف مصدرًا صحيحًا جديرًا بالاعتماد والثقة من المسلم غير القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، فهما المصدران المعتمدان للمسلم في هذا، وما نكتب هذا لنلزم به المسيحيين، ولا على أنه هو المعتبر عندهم، ولكن نكتبه، ليتسق البحث، ولنتم السلسلة.
ينص القرآن الكريم على أن عقيدة المسيح هي التوحيد الكامل، التوحيد بكل شعبه، التوحيد في العبادة، فلا يعبد إلا الله، والتوحيد في التكون، فخالق السماء والأرض وما بينهما هو الله وحده لا شريك له، والتوحيد في الذات والصفات فليست ذاته بمركبة، وهي منزهة عن مشابهة الحوادث ﷾. فالقرآن الكريم يثبت أن عيسى ما دعا إلا إلى التوحيد الكامل، وهذا ما يقوله اللع تعالى عما يكون من عيسى يوم القيامة من مجاوبة بينه وبين ربه: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ .
فهذا نص يفيد بصريحة أن عيسى ما دعا إلا إلى التوحيد، فغير التوحيد إذن دخل النصرانية من بعده، وما كان عيسى إلا رسول لله رب العالمين.
1 / 12
ولقد نزل على السيد المسيح ﵇ كتاب هو الإنجيل، وهو مصدق للتوراة، ومحيى لشريعتها، ومؤيد للصحيح من أحكامها، وهو مبشر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، وهو مشتمل على هدى ونور وهو عظة للمتقين، وإنه كان على أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل فيه، ولذلك قال الله تعالى: ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ .
دعوة المسيح:
٤- ولقد كانت دعوة المسيح ﵇ تقوم على أساس إنه لا توسط بين الخالق والمخلوق، ولا توسط بين العابد والمعبود، فالأخبار والرهبان لم تكن لهم الوساطة بين الله والناس، بل كل مسيحي يتصل بالله في عبادته بنفسه، من غير حاجة إلى توسط كاهن أو قسيس أو غيرهما، وليس شخص - مهما تكن منزلته أو قداسته أو تقواه - وسيطًا بين العبد والرب في عبادته، وتعرف أحكام شرعه مما أنزل الله على موسى من كتاب، وما أثر عنه من وصايا، وما اقترنت به بعثته من أقوال ومواعظ.
ودعوة عيسى ﵇ كما ورد في بعض الآثار، وكما تضافرت عليه أقوال المؤرخين - تقوم على الزهادة والأخذ من أسباب الحياة بأقل قسط يكفي لأن تقوم عليه الحياة، وكان يحث على الإيمان باليوم الآخر، واعتبار الحياة الآخرة الغاية السامية لبني الإنسان في الدنيا، إذ الدنيا ليست إلا طريقًا غايته الآخرة، وابتداء نهايته تلك الحياة الأبدية.
ولماذا كانت دعاية المسيح ﵇ إلى الزهادة في الدنيا، والابتعاد عن أسباب النزاع والعكوف على الحياة الروحية؟ الجواب عن ذلك أن اليهود الذين جاء المسيح مبشرًا بهذه الديانة بينهم كان من يغلب عليهم النزعات المادية، وكان منهم من يفهم أن الحياة الدنيا هي غاية بني الإنسان، بل أن التوراة التي بأيديهم اليوم خلت من ذكر اليوم الآخر، ونعيمه أو جحيمه، ومن فرقهم من كان يعتقد أن عقاب الله الذي أوعد به العاصين، وثوابه الذي وعد به المتقين، إنما زمانه في الدنيا لا في الآخرة، وقد قال رينان الفيلسوف الفرنسي في كتابه المسيح: "الفلسفة اليهودية كان من مقتضاها السلطة الفعلية في نفس هذا العالم، فإنه يؤخذ من أقوال
1 / 13
شيوخهم أن الصالحين يعيشون في ذاكرة الله والناس إلى الأبد، وهم يقضون حياتهم قريبين من عين الله، ويكونون معروفين عند الله، أما الأشرار فلا، هذا كان جزاء أولئك، وعقاب هؤلاء، ويزيد الفريسيون على ذلك أن الصالحين ينشرون في هذه الأرض يوم القيامة ليشتركوا في ملك المسيح الذي يأتي لينقذ الناس، ويصبحوا ملوك العالم وقضاته، وهكذا يتنعمون بانتصارهم، وانخذال الأشرار أعدائهم، وعلى ذلك تكون مملكتهم في هذا العالم نفسه"! أهـ فجاء المسيح ﵇ مبشرا بالحياة الآخرة، وإنها الغاية السامية لهذا العالم بين أولئك الذين أنكروها، ومن ثم ينكرها بقوله منهم أنكرها بفعله، فكانوا في ذلك الإنكار سواء.
مريم والمسيح في القرآن الكريم:
٥- وإذا كانت شخصية المسيح هب اللب في المسيحية الحاضرة، وأساس الاعتقاد فيها، وجب أن نبينها كما جاءت في القرآن، كما سنبينها كما جاءت في المسيحية، ليستطيع القارئ أن يوازن بين الشخصيتين، ويعرف أيهما أقرب إلى التصور، والعقل يتقبلها بقبول حسن، ولنبدأ بأمه.
يذكر القرآن الكريم مريم أم عيسى ﵇، فيقص خبر الحمل بها وولادتها وتربيتها في سورة آل عمران. فيقول تعالت كلماته: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ .
هذه هي الأحوال التي اكتنفت الحمل بالبتول مريم، وولادتها، وتربيتها، ويلاحظ القارئ أن العبادة والنسك أظلاها، وهي جنين في بطن أمها إلى أن بلغت مبلغ النساء، واصطفاها الله لأمر جليل خطير، فأمها وهي حامل بها نذرت أن يكون ما في بطنها محررًا خالصًا لخدمة بيت الله
1 / 14
وسدانته، والقيام بشئونه، واستمرت مصممة على الوفاء بنذرها، فلما وضعت، وكان نذرها على فرض الذكورة، كما يبدو من أشارات النصوص القرآنية، جددت العزم على الوفاء بالنذر، وقد وجدت مل تسوغه النفس للتحلل من النذر، فكان ذلك الإصرار عبادة أخرى، إذ وجدت في النفس داعيات التردد، والرجوع والتحلل من الوفاء فكان كفها هذه الداعيات والقضاء عليها عبادة أخرى، ثم انصرفت الفتاة الناشئة منذ طراوة الصبا إلى النسك والعبادة، وقام على تنشئتها وهدايتها وتعليمها نبي من أنبياء الله الصديقين الصالحين، فكلفها زكريا، ووجهها إلى العبادة الصحيحة، وتنزيه القلب من كل أدران الشر والإثم، وكان الله ﷾ يدر عليها أخلاق الرزق من حيث لا تقدر ور تحتسب، ومن غير جهد ولا عنت، حتى أثار ذلك عجب نبي الله كافلها فكان ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ .
٦- ولقد كانت تلك التنشئة الطاهرة التي تكونت في ظلها بريئة من دنس الرذيلة - لا يجد الشيطان سبيلًا أو منفذًا ينفذ إلى النفس منها - تمهيدًا لأمر جليل قد اصطفاها الله تعالى له دون العالمين، ولذا خاطبتها الملائكة وهي الأرواح الطاهرة باجتباء الله لها: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ . ولقد كان ذلك الاصطفاء هو اختيار الله لها لأن تكون أما لمن لم يولد من غير نطفة آدمية. وكان ذلك لكي تكون آية مشهورة، تحمل فيها حف بها من أحوال التراهن التي تقطع ريب المرتاب، وألسنة كل أفاك، وتغير السبيل أمام المؤمنين إذ أن ولادته من غير أب من أم كانت حياتها للنسك والعبادة. والعكوف على التقوى. وتحت ظل نبي من أنبياء الله تعالى لم تزن بريبة قط - يجعل المؤمن يؤمن بآية الله الكبرى في هذا الكون، ولا يجعل شيئًا يقف أمام مريد الهداية من تطنن بالأم أو ريبة فيها، فحياتها كلها من قبل ومن بعد تنفي هذه الريبة، وتبعدها عن موطن الشبهة.
1 / 15
الحمل بالمسيح وولادته:
٧- حملت العذراء البتول مريم بالسيد المسيح ﵇، وهو الأمر الذي اجتباها الله له، واختارها لأجله، ولقد فوجئت به، إذ لم تكن به عليمة، فبينما هي قد انتبذت من أهلها مكانًا شرقيًا، أرسل الله إليها ملكًا تمثل لها بشرًا سويًا ﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (١٩) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (٢٢) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾، حملت السيدة مريم البتول بعيسى من غير أب، ثم ولدته. ولم تبين الآثار النبوية مدة الحمل. فلم يرد في الصحاح آثار تبين تلك المدة، ولو كانت مدة الحمل غريبة لذكرت، فليس لنا إذن إلا أن نفرض أن مدة الحمل كانت المدة الغالبة الشائعة بين الناس. وهي مدة تسعة أشهر هلالية.
ولما ولدته وخرجت به على القوم كان ذلك مفاجأة لهم، سواء في ذلك من يعرف نسكها وعبادتها، ومن لا يعرف، لأنها فاجأتهم بأمر غريب، وهي المعروفة بينهم بأنها عذراء ليس لها بعل، فكانت المفاجأة داعية الاتهام، لأنه عند المفاجأة تذهب الروية، ولا يستطيع المرء أن يقابل بين الماضي والحاضر، وخصوصًا أن دليل الاتهام قائم، وقرينته أمر عادي لا مجال للريب فيه عادة، ولكن ﷾ رحمها من هذه المفاجأة، فجعل دليل البراءة من دليل الاتهام لينقض الاتهام من أصله، ويأتي على قواعده ويفاجئهم بالبراءة وبرهانها الذي لا يأتيه الريب، ليعيد إلى ذاكرتهم ما عرفوه في نسكها وعبادتها، ولذلك نطق الغلام، وهو قريب عهد بالولادة، أشارت إليه ﴿قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ .
٨- نطق السيد المسيح في المهد، ليكون كلامه إعلامًا صريحًا ببراءة أمه وإنه لم يكن إلا عبد الله، ولد من غير أب،
1 / 16
ويروي ابن كثير: "عن ابن عباس أن عيسى ابن مريم أمسك عن الكلام بعد أن كلمهم طفلًا، حتى بلغ ما يبلغ الغلمان ثم انطقه الله بعد ذلك بالحكمة والبيان، فأكثر اليهود فيه، وفي أمه من القول، وكانوا يسمونه ابن البغية، وذلك بقوله تعالى: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾، ولم يذكر في الآثار الصحاح عن النبي ﵊ حال عيسى ﵇ في مرباه ونشأته، وكيف كان منه مما يكون إرهاصًا بنبوته، فليس لنا إلا أن نقول إنه قد تربى بما كان يتربى به أمثاله الذين ينشئون على التقى والمعرفة في بني إسرائيل، ويغلب على الظن أن يدون في ظهر منه وهو غلام، ما يدل على روحانيته، وما يدعو إليه بعد ذلك من حياة روحية، وسط قوم سيطرت عليهم المادة، وغلبت عليهم نزعاتهم، والاتجاه إليها.
الحكمة في كون المسيح ولد من غير أب:
٩- لبد من أن نشير هنا أن ننتقل إلى بعثته ﵇ إلى السبب الذي من أجله ولد عيسى ﵇ من غير أب. فإنه لابد أن يكون ذلك لحكمه يعلمها الله جلت قدرته، وقد أشار إليها سبحانه في قوله تعالت كلماته: ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ .
وإنا نتلمس تلك الآية الدالة في ولادة عيسى ﵇ من غير أب، فنجد أنه يبدو أمام أنظارنا أمران جليان: أحدهما. أن ولادة عيسى ﵇ من غير أب تعلن قدرة الله ﷾، وإنه الفاعل المختار المريد، وإنه سبحانه لا يتقيد في تكوينه للأشياء بقانون الأسباب والمسببات التي نرى العالم يسير عليها في نظامه الذي أبدعه الله والذي خلقه، فالأسباب الجارية لا تقيد إرادة الله، لأنه خالقها، وهو مبدعها ومريدها، فإن الأشياء لم تصدر عن الله جلت قدرته، كما يصدر الشيء عن علته، والمسبب عن سببه، من غير أن يكون للعلة إرادة في معلولها، بل كانت بفعله سبحانه وبإرادته التي لا يقيدها شيء مهما يكن شأنه، وخلق عيسى من غير أب هو بلا ريب إعلان لهذه الإرادة الأزلية، بين قوم غلبت عليهم الأسباب المادية، وفي عصر ساده نوع من الفلسفة، أساسها أن خلق الكون كان مصدره الأول، كالعلة عن معلولها، فكان عيسى آية
1 / 17
الله على إنه سبحانه لا يتقيد بالأسباب الكونية، وأن العالم كله بإرادته، ولم يكن سبحانه بمنزلة العلة من المعلول: ﴿تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ .
الأمر الثاني: أن ولادة المسيح ﵇ من غير أب إعلان لعالم الروح بين قوم أنكروها، حتى لقد زعموا أن الإنسان جسم لا روح فيه، وإنه ليس إلا تلك الأعضاء والعناصر التي يتكون منها، فلقد قيل عن اليهود أنهم كانوا لا يعرفون الإنسان إلا جسمًا عضويًا، ولا يقرون إنه جسم وروح، فقد قال رينان في سبب الحقد الذي تغلغل في النفس اليهودية: "لو كان الشعب الإسرائيلي يعرف التعاليم اليونانية التي كان من مقتضاها اعتبار الإنسان عنصرين مستقلين: أحدهما الروح، والآخر الجسد، وإنه تعذبت الروح في هذه الحياة لأنها تستريح في الحياة الثانية، لسرى عنه شيء كثير من عذاب النفس، واضطراب الفكر، بسبب ذله وخضوعه، مع ما كان يراه في نفسه من الامتياز الأدبي والديني عن الشعوب التي كانت تذله".
يقرر رينان في هذا أن اليهود ما كانوا يقولون كاليونان أن الإنسان جسم وروح، ولقد يؤيد هذا ما جاء في التوراة التي بأيديهم في تفسير النفس بأنها دم، فقد جاء فيها: "لا تأكلوا دم جسم ما، لأن نفس كل جسد هي دمه"، إذن لم يكن اليهود يعرفون الروح على إنها شيء غير الجسم. فلما جاء عيسى من غير أب. وكان إيجاده بروح من خلق الله، كما قال تعالى ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ كان ذلك الإيجاد الذي لم يكن العامل فيه سوى ملك من الأرواح نفخ في جيب مريم، فكان الإنسان من غير بذرة الإنسان وجرثومته. كان ذلك إعلانًا لعالم الروح بين قوم أنكروها، ولم يعرفوها، فكان هذا قارعة قرعت حسهم ليدركوا الروح، وكان آية معلمة لمن لم يعرف الإنسان إلا إنه جسم لا روح فيه، وهذه آية الله في عيسى وأمه ﵉.
بعثة عيسى ﵇ ومعجزاته:
١٠- بعث عيسى ﵇، ولم يرد في القرآن الكريم، ولا في الآثار الصحاح بيان السن التي بعث عند بلوغها ﵇. ولكن ورد في بعض الآثار إنه بعث في سن الثلاثين، وهي السن التي تذكر الأناجيل
1 / 18
المعتبرة عند النصارى إنه بعث على رأسها، ويصح لنا أن نفرض أنه بعث في هذه السن على هذا الأساس.
بعث عيسى ﵇ يبشر بالروح. وعجز الملاذ التي استغرقت النفوس في تلك الأيام، واستولت عليها، ويبشر بعالم الآخرة، ولقد أيده الله بمعجزات، وأن ولادته نفسها معجزة، كما جاء في الملل والنحل للشهرستاني، فقد قال ﵀ في ذلك: "كانت له آيات ظاهرة. وبينات زاهرة، مثل أحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص، ونفس وجوده وفطرته آية كاملة على صدقه، وذلك حصوله من غير نطفة سابقة، ونعلقه من غير تعليم سابق".
ومعجزاته التي ذكرها القرآن الكريم تتلخص فيلا خمسة أمور، جاء ذكر أربعة منها في سورة المائدة في قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي﴾ ... إلى قوله تعالت كلماته: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ .
ويستبين من هذه الآيات الكريمة أربع معجزات:
الأولى: إنه يصور من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرًا بإذن الله، أي أن الله ﷾ خلق على يديه طيرًا من الطين، فالخالق هو الله ﷾، ولكن جرى الخلق على يد عيسى، وينفخ من روحه ﵇ بإذن الله تعالى.
1 / 19
الثانية: إحياؤه ﵇ الموتى بإذن الله جلت قدرته، والمحيي في الحقيقة هو الله العلي القدير، ولكن أجرى الأحياء على يد المسيح ﵇، ليكون ذلك برهان نبوته، ودليل رسالته.
الثالثة: إبراؤه ﵇ الأكمه والأبرص، وهما مرضان تعذر على العالم قديمه وحديثه العثور على دواء لهما، والتمكن من أسباب الشفاء منهما، ولكن عيسى بقدرة الله شفاهما، وبرئ المريضان برقيته، فكان ذلك دليلًا قائمًا على رسالته ﵇.
الرابعة: إنزال المائدة من السماء بطلب الحواريين، لتطمئن قلوبهم، وليعلموا أن قد صدقهم.
وهناك خمسة ذكرت في سورة آل عمران، وهي أنباؤه ﵇ بأمور غائبة عن حسه، ولم يعاينها، فقد كان ينبئ صحابته وتلاميذه بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم. وقد ذكر الله تعالى في قوله في قوله تعالى حاكيًا عنه ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ .
الحكمة من كون معجزاته ﵇ من ذلك النوع:
١١- هذه معجزات عيسى ﵇، وهنا يتساءل القارئ: لماذا كانت معجزاته ﵇ من ذلك النوع؟ يجيب عن ذلك ابن كثير في كتابه البداية والنهاية بقوله: "كانت معجزة كل نبي في زمانه بما يناسب أهل ذلك الزمان فذكروا أن موسى ﵇ كانت معجزاته مما يناسب أهل زمانه، وكانوا سحرة أذكياء، فبعث بآيات بهرت الأبصار، وخضعت لها الرقاب، ولما كان السحرة خبيرين بفنون السحر وما ينتهي إليه. وعاينوا ما عاينوا من الأمر الباهر الهائل الذي لا يمكن صدوره إلا ممن أيده الله، وأجرى الخارق على يديه تصديقًا له أسلموا سراعا، ولم يتلعثموا: وهكذا عيسى ابن مريم بعث في زمن طبائعية الحكماء، فأرسل بمعجزات لا يستطيعونها ولا يهتدون إليها، وإني لحكيم إبراء الأكمه الذي هو أسوا حالًا من الأعمى والأبرص والمجذوم ومن به مرض مزمن، وكيف يتوصل أحد من الخلق إلى أن قيم الميت من قبره، وغير هذا مما يعلم كل أحد إنه معجزة دالة على صدق من قامت به، وعلى قدرة من أرسله،
1 / 20
وهكذا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعليهم أجمعين بعث في زمن الفصحاء البلغاء، فأنزل الله عليه القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. فلفظه معجزة تحدى به الأنس والجن أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة، وقطع عليهم بأنهم لا يقدمون لا في الحال، ولا في الاستقبال، فلم يفعلوا، ولن يفعلوا، وما ذلك إلا لأنه كلام الخالق ﷿، والله لا يشبهه شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
ما نراه حكمة صحيحة:
١٢- من هذا الكلام يستفاد أن معجزة المسيح كانت من نوع إبراء المرضى الذين يتعذر شفاؤهم وإحياء الموتى، لأن القوم كانوا على علم بالطب الطبيعي وكانوا فلاسفة في ذلك، فجاءت المعجزة من جنس ما يعرفون، ليكون عجزهم حجة عليهم، وعلى غيرهم ممن هم دونهم في الطب، ولكن رينان الفيلسوف المؤرخ الفرنسي يقرر أن اليهود ما كانوا على علم بالطب الطبيعي فيقول: "كانت صناعة الطب في المشرق في ذلك الزمان كما هي اليوم، فإن اليهود في فلسطين كانوا يجهلون هذه الصناعة التي وضعها اليونان منذ خمسة قرون قبل ذلك التاريخ، وكان قد ظهر قبل ذلك بأربعة قرون ونصف كتاب لأبقراط أبي الطب موضوعه العلة المقدسة يعني الهستريا، وفيه وصف هذه العلة، وذكر دوائها، إلا أن اليهود في فلسطين كانا يجهلون صدور هذا الكتاب، وكان في اليهودية في ذلك الزمان كثيرون من المجانين، وربما كان ذلك ناشئًا من شدة الحماسة الدينية.
فاليهود الذين بعث المسيح بين ظهرانيهم لم يكونوا على علم إذن بالطب، أو الطب الطبيعي على رأي ذلك الفيلسوف المؤرخ.
وفي الحق أن الذي نراه تعليلًا مستقيمًا لكون معجزات السيد المسيح ﵇ جاءت على ذلك النحو هو مناسبة ذلك النوع لأهل زمانه، لا لأنهم أطباء، فناسبهم لن يكون المعجزة مما يتصل بالشفاء والأدواء، بل لأن أهل زمانه كان قد سادهم إنكار الروح في أقوال بعضهم، وأفعال جميعهم، فجاء ﵇ بمعجزة هي في ذاتها أمر خارق للعادة،
1 / 21