ومن رأى أن هذه الأمة لا تنهض إلا بتعليم مجموعها، وتهذيب أفرادها؛ فقد أخطأ مواقع الرأي؛ فكم نهضت أمة بفرد، وأسست دعائم دولة على عزائم آحاد وفوا قسطهم من العلم الصحيح، وأخذوا نصيبهم من الإقدام!
وقد انصرف إلى الصياح بطلب انتشار العلم، ونسوا أن ذلك لا يغني عنهم شيئا إذا أعوزتهم تربية القادة، وعزهم بناء الزعماء، فاعلم أن بناءة الرجال لا تكون إلا في بناء الجامعة.
قال الأديب: وهل يكفي العلم وحده لصلاحنا، ونحن على ما ترى من الخلق والدين؛ فسوق عن أمر الكتاب، وطاعة للهوى، فلا وازع من الدين، ولا زاجر من الخلق، فإذا تزعزعت العقيدة ولم يطمئن الطبع، قل أن ينجع في الناس علاج العلماء، أو تأخذهم صيحة الخطباء.
قال صاحبي: صدقت، ولكن ما تراه أنت خطبا كبيرا لم يكن في نظر الحكمة إلا أمرا يسيرا، وإني ذاكر لك دواء هذا الداء، وهو أيسر مما في نفسك، فلا تنزل أمري معك على المزاح، ولا يصغرن في عينيك مأتى ما ألقي عليك، فرب مؤرب من العقد ضلت حله الحكماء، واهتدت إليه خطرة من الفكر يرمي بها أحد العامة، وتغفل عنها عقول الحامة (الخاصة). ولعلك إذا سمعت أن الدواء الناجع، والعلاج النافع، لا يحتاج إلى مقدمات طويلة، أو فلسفة جليلة، أصغرت ما كنت تكبر، واستنزرت ما كنت تستغزر، فاعلم أنه إذا أقفلت أبواب المنتديات، وأطفئت أنوار الحانات قبل منصف من الليل، انحرف عنكم جارف هذا السيل.
هذه لندرة لا تكاد ترى في حوانيتها ساهرا ، ولا تجد في طرقاتها عابرا إذا انقضى الثلث الأول من دولة الظلام، وتلك (فينا) يجمع فيها الليل بين الجفون والكرى، ويحول الظلام بين الأرجل والسرى، فإذا شب الليل أو كاد، سكنت حركة العباد، فما لكم لا تأخذون نفسكم بتقاليد تلك الخلائق، وقد ائتمروا بأوامر الخالق.
وما لكم لا ترجعون إلى الفطرة البشرية، أو تخضعون لنواميس السنة الكونية، فتجمعوا في ذلك بين الدنيا والدين، ولا تعقوا أوامر الكتاب المبين. يا ويلكم، أحييتم ليالي العمر بالآثام، وأمتم أيامه بالمنام، فعكستم الفطرة ولا بدع إذا عكست آمالكم، وخابت أعمالكم، خذوا مضاجعكم إذا طر شارب الظلام، واهجروها إذا تنفس الصباح؛ ففي ذلك صحة لأبدانكم، وسلامة لأديانكم.
إذا شئت أن تعرف ما وراء ذلك من المنافع، فإني أعد لك منها ولا أعددها، منها الرجوع إلى المعيشة المنزلية التي انحلت بزوالها روابط الأهل والأقارب، ويبس ما بين البيوتات فتناكر الأخوان، وتدابر الجاران، وأقفرت المنازل من أنس السمر، وألف الناس الجلوس في المنتديات حتى إنهم ليوحشون ديارهم لقلة زوارهم، وأصبح المرء في داره حاضرا كالغائب، مقيما كالنازح، يعلم من حال البعيد عنه من حال القريب منه.
ومنها اجتياز العقبات التي أقامتها المنتديات والحانات في سبيل الاجتماعات - كان المصريون في العهد الذي نسميه اليوم بعهد الظلام يجتمعون في الدور، ويتزاورون في القصور، وكان سراتهم وذوو اليسار منهم يجلسون في بيوتهم للسمر، فيغشاها العالم، ويؤمها الكاتب، ويقصدها التاجر، وينتجعها الأديب، فتجري بينهم الأحاديث، وتقوم سوق المناقشات. يحدث الحادث فيخوضون في ذكره، وتنزل النازلة فيجمعهم الألم على العمل على إزالتها، وتطل رءوس المشروعات فلا يفتئون يتبينون معارفها، حتى يقتلوا شئونها بحثا، ويقفوا على وقائعها
عثرته. عقدت بينهم الزيارات عرى المودات، فتراهم وهم كأنهم أهل بيت واحد يألم الجار للجار، ويأخذ الناهض بيد ذي العثار. بربك هل نهضت أمة بغير إدمان المجتمعات؟ وهل أخصبت مودة إذا هي لم يتعهدها أهلها بالزيارات؟ لقد جار في حكمه من قضى على
يتفقوا إذا هم لم يجتمعوا؟!
অজানা পৃষ্ঠা