السياسة الضعيفة العنيفة
يستغرب القراء أن نجمع بين هذين الوصفين لموصوف واحد؛ لما يظهر من أن العنف يكون مع القوة، وهي لا توجد مع الضعف في شيء غير متعدد ولو بالاعتبار.
أما نحن فنقول: إن العنف قد يكون مظهرا كبيرا من مظاهر الضعف، وخصوصا في سياسة الأمم وحكمها؛ كصفة الكبرياء للتكبر، فإنها لا تكون في الشخص إلا حيثما يذهب شيء من فضائله ومزاياه، فيحل الكبر بهذا الفرع؛ ليكمل صاحبه علاء في زعمه.
وخذ الشراسة مثلا في بعض الناس، فإنها توجد حينما يعوز المرء شيء من مزايا حسن النظر، وضبط النفس، وسعة الصدر، فتحل الشراسة محله؛ ولذلك تجد أضيق الناس صدورا من يسب غيره، وأقلهم مقدرة على الإقناع الخطابي من يصيح في وجه محدثه ليحمله على قبول رأيه.
كذلك العنف وقوة البطش في حكم الأمم يحل محل حسن السياسة، وقدر المسئولية قدرها في كل عمل. وقلما ترى سياسيا محنكا قادرا على تصريف الحوادث بالحسنى، والاستنتاج منها بقدر ما تعطيه مقدماتها، إلا كان عادلا حليما بعيدا عن فعال الظالمين. •••
لا نذهب بالقارئ بعيدا بضرب الأمثال عن الموضوع الذي نحن بصدده، فهذه مصر يدير دفة سياستها وإدارتها المحتلون من الإنجليز منذ ربع قرن، وهم يقلبونها على كل وجه من وجوه النظام محوا وإثباتا، وتبديلا وتعديلا، ورفعا ووضعا، فلم تكن أمة ألين عريكة، وأطوع في يد العامل منها؛ تشكر حسن الصنيع، وتصبر على الإساءة. ولو كان اللورد كرومر في غير مصر لمج السياسة، ومل أن يقيم في قطر واحد مثل هذا الزمن الطويل، حتى قيل إنه فضل مرارا أن يكون قنصلا جنرالا في مصر عن أن يكون سفيرا لدولته في أعظم العواصم الأوروبية، بل فضل هذه الوظيفة على أن يكون عضوا في وزارة الأحرار، ولو شاء ذلك لحفظ له مركزه في الوزارة الحاضرة.
وما ذلك إلا لأنه في مصر يعمل كالملك المطلق الإرادة، لا يشوش عليه مشوش من المراقبات الشديدة، ولا ينغص عليه منغص من الحوادث المزعجة. قضى كل هذا الزمن طيب الخاطر، هادئ البال، قرير العين بهذا السلطان القوي الذي يدير به دولاب الحكومة المصرية، وقد لقي من الأمة مهادا طريا، ومن أمير البلاد مسالمة مرضية، ومن الوزارة استسلاما ليست العبودية أوفى منها في العبد لسيده.
ولكن اللورد في حكومته كان ككل حاكم مطلق يحتاج إلى الأعوان الذين يساعدونه. ومن عادة الملوك أن يختاروا في كل دور من أدوار حياتهم الأعوان الذين يوافقون الظروف؛ ففي دور كان مع اللورد كرومر أعوان مثل الجنرال جرنفيل في الحربية، والكولونيل منكريف في الأشغال، والسير سكوت في الحقانية، والسير إدجار فنسنت أو بالمر وملنر أو غورست في المالية، ثم الداخلية.
وفي دور كان معه المستر ماتشل في الداخلية، والمستر كوربيت في المالية، والمستر دانلوب في المعارف، وهلم جرا.
ولا خلاف في أن هؤلاء يختلفون كفاءة، كما أنهم يختلفون استقلالا في الرأي مع اللورد، بل مما لا خلاف فيه أن أعوان جنابه في هذا العهد كانوا في وظائف مصرية صغيرة أو صغيرة جدا، ثم ترقوا بحسن عناية اللورد وعظيم رعايته، فله عليهم يد الفضل أكثر مما لهم عليه من يد المعونة الكبرى.
অজানা পৃষ্ঠা