الليلة الأولى
رثاء صديق
كنت منذ أيام قليلة جالسا على حجر من أحجار الهرم الأكبر، وأدرك غروب الشمس فغابت وراء الرمال المتراكمة على حدود الصحراء، وتركت وراءها خيوطا من الذهب تنم عن مخبئها، وامتدت تلك الخيوط إلى النيل الجاري في سفح الأهرام فصبغته بلون قرمزي، وكانت القاهرة بمآذنها وقبابها وقصورها وحدائقها وأهلها تبدو كصورة منقوشة في الوادي، وحولها جبل المقطم كأنه سور يحمي مدينة الخلفاء، وبرأسه حصن صلاح الدين العتيق كأنه أسد رابض على قمة الجبل يرنو إلى المدينة المحروسة، وكان بيني وبين القاهرة سبيل ممهد تحف به الأشجار يقربه النظر للرائي، أما منظر النيل وهو محيط بتلك الطريق فلم يكن أجمل منه شيء.
ولما أن أشبعت نفسي بهذا الجمال نظرت إلى ما ورائي، فإذا الصحراء الكبرى بمفاوزها ودروبها الخفية تصافح المدينة ويوفق بينهما النهر العظيم كما يوفق الحب بين البدوي والحضرية، فوقفت بين يدي الطبيعة خاشعا خاضعا أنظر إلى البر تارة وإلى النهر أخرى، وأرفع ببصري مرة إلى قمة الهرم فيغلي دمي في عروقي غيظا من رافع بنيانه وواضع جدرانه؛ لأن صخوره دموع متحجرة ذرفها شعب شقي إنجازا لشهوة ملك ظالم، ثم أخفض به إلى القاهرة وهي في السهل، ساكنة هادئة كأنها باقة من أزهار شتى في يد الوادي، يشمها أبو الهول بأنفه ويسقيها النهر بمائه؛ خوفا عليها أن تذبل أو تذوي.
أسدل الليل ستاره، ولبست الصحراء ثوبا من سواد بنفسجي، وسمعت نعيب طيور الظلام، وتجلت مدينة القاهرة في ثوب المساء المزركش بالذهب، ثم لحقتني هزة فاغرورقت عيناي بالدموع عندما نظرت وراء الجبل؛ لعلي أرى مدينة الأموات حيث يرقد أبناء الجيل الماضي وبعض أبناء هذا الجيل في بيوت ضيقة مظلمة، نظرت إلى حيث ظننت المقابر وقلت: هنا في حفرة من حفائر تلك البقعة ينام صديقي وحيدا منفردا عن المدينة وغوغائها! ولم يبق منه إلا عظام نخرة، لم يبق من رأسه الذي كان ممتلئا حزما، وعينيه المتقدتين عزما، وفمه الذي كان يتدفق منه الدر والجوهر، وصدره المملوء بالآمال والأماني، وقلبه الكبير، ويده الأبية، وقدمه التي لم تسع إلا إلى مكرمة؛ إلا جمجمة خاوية، ومحاجر غائرة، وفكان من العظم النخر، أما مكمن القلب ومسرح الآمال وموطن الأماني فقد أمسى قفصا من العظام خاليا، ويده تلك اليد كانت تجود بما تملك وتكتب ما تملي عليها النفس المشتعلة فقد خمدت قوتها وتبددت قبضتها وتلاشت أناملها! هذا كل ما بقي من صديقي مصطفى! ولكن كلا، إن ما بقي هو أثر ما كنا نراه ونلمسه، أما النار التي كنا نشعر بوجودها فيه ولا نلمسها، نرى لهيبها ولا نراها، نحس باشتعالها ولا نفهم معناها؛ فقد ذهبت إلى مكان غير هذا القبر، بل هي لا تزال مشتعلة في حيز لا أعرفه ولا أعرف أين هو! أيذهب صاحبي كمن جاء وذهب؟ ألا يسمع أبناء الأجيال القادمة آهته التي اخترقت نفسي ليحزنوا كما حزنت ويتألموا لتلك النفس الهائمة كما تألمت؟ إني أذكر اليوم الذي كنا به معا في سفينة في النيل، وكنا نقرأ حياة أحد العظماء كتبها صاحب له، فقال لي: عدني وأعدك. قلت: بماذا؟ قال: إذا مت قبلك أن تكتب عني كتابا يكون سلوى أمثالي الحزانى الذين لا يسمع صوتهم إلا من القبور، وإذا مت أنت قبلي أن أكتب عنك كتابا يبكي من يقرؤه. قلت: أعدك، ولكن ماذا جلب إليك تلك الأفكار السوداء؟ قال: لا تقل سوداء، إن أملي في الخلود عظيم، ولكن أريد أن أستعطف الإنسانية على إخواني الذين يسوء حظ نفوسهم بما تؤتاه من قوة واشتعال، فيذهبون فريسة النار الكامنة، ولعل في قصتي عبرة للمعتبرين. قلت: أعدك.
فلما أن جالت بنفسي تلك الذكرى سألتها: متى أفي بوعدي وأؤدي أمانتي؟ لا بد من الوفاء مهما كلفني! •••
نهضت في صباح الجمعة مبكرا، ونظرت من نافذة الغرفة، فإذا الشمس لا تزال متبرقعة بغمام الشروق، وكانت على مقربة من داري بقعة في الأرض بكر لم تفسد جمالها يد البناء، ولم يدنسها البشر بمساكنهم، وفيها نخيل لا تثمر إنما هي ملجأ البلابل والطيور المغردة في الفجر ومحط رحال الغربان عند الغروب، فنظرت إلى إحداها وأنا أسمع من خلال جريدها أصوات طيور الصباح المطربة، ولم أوشك أن أشعر بجمال الحياة حتى ذكرت ألم الموت، وصور لي منظر الليلة البارحة التي قضيت أوائلها في ظل الهرم، فقلت: أنى أقضي يومي؟ فقال لي صوت في نفسي: عليك بالمقابر، وزر قبر صديقك الذي لو كان حيا زارك.
ولما بلغت القبور حملت زهورا وتمرا، وهرولت بين الأجداث أمشي على عظام ألوف الألوف من بني الإنسان، رقدوا ولن ينهضوا من تلك القبور مهما غردت الطيور بصوتها المطرب، ومهما أشرقت الشموس وبزغت الأقمار، ومهما أسدل الليل ستوره أو طلع النهار. أجل، لن ينهضهم ندب النادبين ولا نوح النائحين ولا حزن الحزانى ولا جذل الفرحين، لقد رقدوا الرقاد الطويل، ولن يرثوا لمن يبكيهم مهما طال أمد العويل، سرت أشق عباب تلك الرفات، وكم رأس حازم، وصدر كاتم، وطرف كحيل، وخد أسيل؛ تحت قدمي، جست خلال المقابر، وما كنت أرى على كل قبر إلا كلمة من سطر أو آية من القرآن أو بيتا من الشعر أو مثلا من الأمثال، فقلت في نفسي : أهذا كل ما يبقى منك أيها الإنسان القوي القادر؟ يا من تذلل الماء والريح، وتقطع الصحراء، وتقهر الوحوش، وتشيد القصور، وترفع العروش، أهذا ما لك؟ أتلك الحفرة من الأرض هي كل نصيبك من الوجود؟! وكنت لا ترضى بالعالم نصيبا، وتتطلع إلى السماء تريد منها السماكين وتهبط بنفسك إلى المحيط تستخرج النفيسين! إيه لك أيتها الطبيعة القادرة! لقد أسرت من أسرك، وأذللت من أذلك وسخرك. وإيه لك أيتها المقابر، فأنت مرقد الأوائل والأواخر، وعبرة الماضي وموعظة الحاضر! سرت أخبط في الأرض حتى بلغت بقعة لا تزيد سعتها عن سعة غرفة من منزلي طولا وعرضا، حشر فيها الموت جمعا لو بعث لساعته لضاق به حي بأسره من أحياء القاهرة، وفي وسط هذه البقعة الأبدية قبر صغير عليه هيكل من الحجر خلو من النقش والكتابة، وقفت أمامه حاسر الرأس خاشعا؛ لأنه يضم رفات صديقي مصطفى.
ولم أكد أرفع بصري إلى السماء - عادة الإنسان إذا شعر بضعفه، وأحس بالقوة الكبرى التي تتلاشى حيالها قوته وتفنى أمامها صولته - حتى رأيت الشمس قد أشرقت على الأموات والأحياء، تبعث إلى العالم الأرضي بالحرارة والنور والحياة، وتبسط أشعتها على الأجداث كأنها تقول ناموا بسلام آمنين؛ فلما يأن أوان النهوض إن كنتم ناهضين. وأرسلت الشمس بشعاع من نورها على هيكل القبر، فهاجني ذلك المنظر المزعج، وجمد له دمي في عروقي.
تبا لك يا قصور الأماني ويا صروح الآمال! فقد خدعت الأحياء حتى أسكنتهم القبور، وسحقا لك أيها المجد الباطل، أغريت بطلابك حتى أغريتهم بالغرور، وتعسا لك أيها العيش الرخيم، فأنت الشقاء وأنت شر الشرور، كانوا يطلبونك وليتهم رضوا بالعيش اليسير، إن الحكماء يبحثون عن الحقيقة ويقضون أعمارهم في النظر والتنقيب، ولو دروا لوجدوها في هذا اللحد الحقير، هنا الحقيقة وما وراءها، هذا هو الغرض الذي نسعى إليه، هذا مآل البشر! أي جمال لم تذبل زهرته؟! وأي حسن لم تذهب نضرته؟! وأي ملك لم يحن حينه؟! وأي عظيم لم يلحقه أجله وتدركه ساعته؟! ألم تستو الحفرة الضيقة بالجدث الفخيم الجسيم ؟! أي فرق بين قبرك يا مصطفى وقبر نابليون؟ بل أي بون بين هيكلك وهيكله؟ ألم يقد ألوف الألوف؟! ألم تطع إشارته الحتوف؟! ألم تدمر بأمره المدائن؟! فهل عاقه المجد عندما دعاه الموت؟ هل خفف ألم النزع عنه حزن الأرض والبحر؟
অজানা পৃষ্ঠা