كنت أميل إلى أن أجعل من سيرته العمود الفقري لعملي، فأبدأ بالأسرة التي ولد فيها وظروف طفولته، ثم أنتقل إلى مرحلة التلمذة والمراهقة، ومنها إلى نشاطه الوطني، ثم مراحل صعوده التي يمكن حصرها بين ثلاث حروب متتابعة؛ هي العدوان الثلاثي عام 1956م، والعدوان الإسرائيلي عام 1967م، وأخيرا حرب أكتوبر عام 1973م، منتهيا بالذروة التي يحتلها الآن على نطاق العالم العربي.
لكني لم ألبث أن تبينت الثغرات التي يمتلئ بها هذا المنهج؛ فالمعلومات المتوفرة لدي عن المراحل الأولى من حياته قليلة للغاية، ولست أعرف حتى الآن ما إذا كان تلقيبه ب «الدكتور» يرجع إلى شهادة علمية حصل عليها بالفعل. كما أن التقسيم نفسه تقليدي ليس فيه شيء من ابتكار أو تفرد، وأهم من هذا كله أنه يضعني وجها لوجه أمام سؤال يتعين الإجابة عليه وهو: وماذا بعد الذروة؟ وواضح للجميع العلاقة الوثيقة بين السؤال وأحد المعاني التي أعطاها العرب لمصطلح اللمعان؛ وهو تحرك الجنين في الأحشاء، فضلا عن خطورة الإجابة ذاتها منذ كان التكهن بمصيره - بعد كل هذه المعايشة والدراسة - أمرا غير عسير.
وكنت غارقا في التفكير حتى إني لم أشعر بحلول الظلام. وعندما تنبهت إلى ذلك أضأت المصباح الكهربائي المثبت إلى مكتبي، وعندئذ دق جرس الباب.
وقد سبق أن ذكرت أني أقطن الطابق السابع، وأشرت إلى أن المنزل بلا مصعد. فرغم أن القانون يحتم على مالك المنزل الذي يزيد عدد طوابقه عن خمسة أن يزوده بمصعد، فإن مالك منزلي تمكن من التحايل على القانون بسهولة شديدة؛ إذ بنى الطابقين الأخيرين إلى الداخل قليلا، وعندما لم يعد من السهل رؤيتهما من الطريق، اطمأن القانون وسكت، رغم ما تقدمنا به نحن السكان من شكاوى عديدة إلى الجهات المختصة.
المهم أن هذا الوضع لم يكن يشجع أحدا على زيارتي، وهو أمر لم يكن يزعجني، بل على العكس كان مبعث راحة بالغة وخاصة في الآونة الأخيرة بحكم انشغالي الشديد. وإذا ما فعل أحدهم فإنه يضطر بالطبع إلى ارتقاء الدرج، وعندما يبلغ الطابق الأخير تكون خطواته قد أبطأت من التعب، وازداد وقع أقدامه ثقلا. وبسبب رقة الجدران - الناشئة عن محاولة أخرى من محاولات المالك للتحايل على قواعد البناء المحددة في القانون - أتمكن من سماع خطواته بوضوح وأنا جالس إلى مكتبي، من قبل أن يدق الجرس.
والحق أن أذني التقطتا وقع الأقدام من فترة، لكن الأمر لم ينتقل إلى وعيي لأني كنت غارقا في التفكير، فلم أنتبه إلى كثرة عددها؛ ولهذا السبب كانت دهشتي بالغة عندما فتحت الباب ووجدت ذلك العدد من الرجال والسيدات الذين احتشدوا فوق الفسحة الضيقة الواقعة أمام مسكني.
كان الدرج غارقا في الظلام؛ لأن المالك منع عنه النور الكهربائي، في محاولة للضغط على السكان كي يسحبوا شكاويهم؛ ولهذا السبب لم أتبين وجوه الزائرين من الوهلة الأولى. وما لبثت دهشتي أن تضاعفت بعد لحظات عندما تعرفت فيهم على أعضاء اللجنة التي مثلت أمامها منذ ما يقرب من عام.
دق قلبي في عنف وأنا أتنحى عن الباب قائلا في اضطراب: «تفضلوا ... تفضلوا ... لم أكن أتوقع ... لم أكن أطمع ...»
وهذا حقيقي؛ فلم أتصور أبدا أن اللجنة يمكن أن تزورني في منزلي، بل إني في الفترة الأخيرة، بسبب انغماسي في العمل، نسيت وجودها تقريبا، ونسيت حتى الغرض الأصلي من الدراسة التي انهمكت في إعدادها.
لم ينتظر أعضاء اللجنة دعوة ثانية، ودلفوا إلى مسكني الصغير، فانتشروا في أرجائه على الفور، يتأملون محتوياته، ويلقون بنظراتهم خلف قطع الأثاث وتحتها. واهتمت العانس وزميلتها العجوز بمحتويات المطبخ الذي يواجه المدخل، بينما أحاط اثنان من العسكريين الثلاثة ذوي الرتب الرفيعة بثلاجة كهربائية قوية لدي من إنتاج الصناعة المصرية في الستينيات ، وجعلا يقارنان بينها وبين الثلاجات الحديثة المستوردة.
অজানা পৃষ্ঠা