وخرجت أثناء ذلك بحصيلة وافرة من المعلومات ، ملأت عدة كراسات. حقا إن جانبا منها لم يكن وثيق الصلة بأمر «الدكتور»؛ فقد اتسعت دائرة اهتمامي بالتدريج دون وعي مني، وامتدت إلى بعض الأمور العامة. وبدا وكأن الأنباء التي سبق أن قرأتها في حينها تصافح عيني الآن للمرة الأولى، والظاهر أنها اكتسبت عمقا جديدا بفضل المنظور الزمني، الذي أتاح لي رؤيتها في ارتباطاتها المتشعبة.
وكنت أعود إلى منزلي في نهاية كل يوم مرهقا، أشكو الدوار وصعوبة التنفس، فأرتقي طوابقه السبعة في إعياء إلى مسكني في الطابق الأخير، وبعد أن أغتسل وأتناول طعامي أغفو قليلا، ثم أنهض لأعمل من جديد، فأنقل ما دونته في الصباح إلى بطاقات صغيرة من الورق المقوى، زودني بها صديق عزيز دون أن يخفي إشفاقه علي، مسجلا في أعلاها تاريخ نشر المادة، ومصدرها، ورأس الموضوع، توطئة لعمل تصنيف ما يساعدني على الانتقال إلى المرحلة الثانية من البحث. ولا أنتهي من ذلك قبل ساعة متأخرة من الليل، فأنام نوما قلقا تتخلله أحلام مزعجة يتألف معظمها من عناوين الصحف. والقليل النادر من هذه الأحلام كان مصدر متعة، خاصة إذا ما تصدرته الصور شبه العارية لجميلات العالم وفاتنات السينما، التي كانت تصادفني بين الحين والآخر.
وفي الصباح أغادر فراشي في صعوبة؛ إذ أجدني فريسة لحالة من الهبوط، يضاعف منها تمثلي للمصاعب التي سأعانيها في الطريق قبل أن أصل إلى مبنى الصحيفة، والأخطار المبهمة التي تحف بعملي. ولا أستعيد حيويتي إلا عندما أستعرض في ذهني ما وصلت إليه من نتائج، والعالم العجيب الذي فتحته أمامي.
والواقع أن تغييرا ما طرأ علي في الشهور الأخيرة؛ فقد كنت في السابق سئمت كل شيء، ولم يكن مثولي أمام اللجنة، وتمسكي بالفرصة السانحة لتطوير مواهبي، سوى محاولة من جانبي لتجديد الاهتمام بالحياة. ولم يلبث البحث في أمر «الدكتور» أن أخذ بمجامعي، حتى إني بدأت أخشى الموت، وأدعو الله أن يجنبني حوادث المواصلات والأزمات القلبية، إلى أن أفرغ منه.
واضطررت في أحد الأيام إلى الانقطاع عن الخروج عندما شعرت بالإرهاق، فجلست أراجع البطاقات التي دونتها ووضعتها بنظام في صندوق أحذية من الكرتون؛ ليسهل علي العودة إليها، واستخراج ما أريده منها.
اكتشفت أنه صار لدي كم من المادة لا بأس به، يغطي الخطوط الرئيسية للبحث، لكني كنت ما أزال جاهلا بكثير من خلفيات بعض النقاط الهامة. وهي أمور لا جدوى من التماسها في الصحف المصرية أو العربية، التي تحول الأوضاع السياسية والتقاليد الاجتماعية بينها والخوض في أعماق الظواهر وحقائق الأمور. عندئذ خطر لي أن أستعين بالمجلات الأجنبية، لكن أين يتأتى لي أن أجد مجموعات من الأعداد القديمة لإحداها؟
كان الصديق الذي أمدني بالبطاقات هو الذي اقترح علي أن ألتمس ضالتي في مكتبة السفارة الأمريكية. فذهبت إلى مقرها الجديد الذي انتقلت إليه بعد أن أحرقت الجماهير الثائرة المقر القديم سنة 1965م، احتجاجا على مساندة الولايات المتحدة لموبوتو، رئيس زائير التي كانت تعرف وقتها بالكنغو كينشاسا، ودورها قبل ذلك في اغتيال الزعيم الوطني لومومبا.
وجدت بالمكتبة مجموعة من الأعداد المتفرقة لأشهر المجلات الأمريكية مثل «تايم» و«نيوز ويك»، فقلبت بين صفحاتها مركزا اهتمامي على تلك المخصصة لأمور الشرق الأوسط، دون أن أعبأ بمطالعة الصفحات الأخرى أو النظر إلى الأغلفة؛ ولهذا لم أنتبه إلى أن أحد الأعداد الذي أمسكته في يدي يحمل صورة ملونة ل «الدكتور» على غلافه، إلا بعد أن ألفيتني أرتجف من الانفعال وأنا أقرأ موضوعا ضافيا عنه غطى عددا من الصفحات، وامتلأ بقدر وافر من المعلومات المثيرة.
كان تاريخ العدد يعود إلى عام مضى. أما الموضوع فكان بمناسبة زواج ابنته من رئيس عربي. وكان هذا نبأ جديدا علي؛ لأن صحفنا لم تنشر الأمر في حينه. ويبدو أن الزواج أثار عاصفة من التعليقات وقتها، لا بسبب فارق السن وحده الذي يربو على ثلاثين من الأعوام، وإنما أساسا بسبب المدلولات السياسية والاقتصادية له.
وانتهزت المجلة هذه الفرصة فقامت بعرض سريع لسيرته، وكيف نشأ في أسرة فقيرة، ثم ابتسم له الحظ عندما قامت الثورة بحكم قرابته لأحد الذين آلت إليهم الأمور، وهي الصلة التي مكنته من وضع أول لبنة في صرح مجده؛ فبفضلها استطاع أن يحصل لأحد المنتجين السينمائيين على تصريح بتصوير ثلاثة أفلام كوميدية عن الجيش والطيران والأسطول، مقابل المشاركة في عائدها.
অজানা পৃষ্ঠা