فإلى كل من ذاق حلاوة الصدق مع نفسه لحظة، وإلى كل من حرم حلاوة الصدق مع نفسه لحظة؛ أهدي هذه المجموعة من اللحظات.
نوال السعداوي
حينما ينهزم الرجل
جلس إلى مكتبه الذي تكدست عليه الأوراق الهامة وغير الهامة قلقا حائرا؛ شيء في أعماقه يدفعه إلى أن يترك مكتبه ويذهب إلى بيته ويأخذ حماما ساخنا ويبدل ملابسه، ويرتدي ملابس جديدة قبل أن يذهب إليها؛ فالليلة موعده معها، موعده الفاصل الذي جاء بعد مواعيد كثيرة، والذي سوف يحدث فيه شيء؛ شيء آخر غير ما كان يحدث كل مرة.
ونظر إلى ساعته، كانت السابعة، وموعده معها في التاسعة، أمامه ساعتان كاملتان، يمكن له أن يستعد لهذا اللقاء الحاسم.
وأغلق درج مكتبه بسرعة، وقال لمساعده الشاب إنه ذاهب لإنجاز بعض الأعمال الهامة، واستقل سيارته، وانطلق إلى بيته، ووضع المفتاح في شق الباب الصغير المظلم ولفه مرتين، ثم دفع الباب، فلفحت وجهه ريح باردة رطبة تسكن شقته دائما أبدا، صيفا وشتاء، لا تتغير كثافتها ولا رائحتها.
بالرغم من دورات الشمس والقمر والأرض، لكنها تظل دائما رطبة باردة قابعة في تلك الشقة الضيقة الواسعة، من دماء البشر أجيالا وقرونا، وواسعة بتلك الحجرات الخاوية العارية إلا من أثاث ضئيل صغير يستند متهالكا إلى زوايا الجدران، كأنه قطع أثرية تركت منسية في كهف من الكهوف.
ولم يكن يفكر من قبل في منظر شقته وأثاثها ورطوبتها، وكان يستضيف فيها فريساته من النساء، ويقضي معهن الليل على سريره المعدني البارد، لكنه لم يستطع أن يفعل ذلك معها، كان حريصا على ألا يدعوها إلى شقته، وقال لها إنه هو الذي يجب أن يذهب إليها لا أن تأتي هي إليه كباقي النساء.
وجرى إلى الحمام وأشعل السخان، وخلع ملابسه ولبس ملابس البيت، وأحضر أدوات الحلاقة ووقف أمام المرآة يتحسس ذقنه بأصابعه، لقد حلقها صباح اليوم، ولكن لا بد له أن يحلقها مرة أخرى حتى تكون ناعمة كالحرير؛ إن موعده معها الليلة ليس كأي موعد سابق، سوف يقبلها حتما، وسوف يلامس وجهه وجهها، ولا بد لبشرته أن تكون ملساء.
ونظر إلى وجهه في المرآة وتحسس شعرات رأسه البيض، وأخذ يعدها شعرة شعرة كعادته كل ليلة، ولما وجد أن عددها ست وعشرون شعرة كليلة الأمس، انبسطت أسارير وجهه، لكن قلبه لم يلبث أن انقبض حين لمح خطين رفيعين تحت عينيه؛ هذان الخطان لم يكونا بالأمس، وفتح درجا في أسفل المرآة وأخرج علبة الكريم الطبي الذي يغذي البشرة، ووضع بأصبعه قطعة صغيرة تحت عينيه، وأخذ يدلك بشرته بأطراف أصابعه تدليكا خفيفا، حتى خيل إليه أن الخطين الرفيعين قد ذابا تماما بفعل الكريم الساحر.
অজানা পৃষ্ঠা