وتوقفت عن الضحك فجأة، ونظرت إليه ثم أطرقت إلى الأرض، ولم يدر ما الذي فعلته تلك الإطراقة، لم يكن رآها من قبل وهي تطرق برأسها، وظن أنها بدأت تضعف؛ فاقترب منها وحاول أن يضمها ويقبلها، ولكنها تخلصت منه، ونظرت إليه في جرأة وقالت له: هل تحبني؟ فأطرقت إلى الأرض مرة أخرى في صمت، فأمسك رأسها وحاول أن يقبلها، واستطاع أن يضع شفتيه على شفتيها وقبلها قبلة طويلة. ثم ترك شفتيها لحظة ونظر في عينيها قائلا: هل تحبينني؟ فابتسمت وهي تقول: لا، ليس بعد. وشدها من شعرها الطويل وأخذها بين ذراعيه وقاومته، لكنه استطاع أن يضمها إلى صدره بقوة وعنف، ولم يترك لها مجالا حتى لتتنفس، وسمعها تقول في عناد وهي تتملص منه: هل تحبني؟ وكان شعوره في تلك اللحظة قد تغلب على تفكيره وعناده؛ فخرجت من بين شفتيه كلمة أحبك مع أنفاسه الساخنة اللاهثة؛ فابتسمت. وهمس لها قائلا: هل تحبينني؟ فقالت: لا، ليس بعد. ولم يكن لديه ثمة قوة أو تفكير، فاستسلم لها استسلاما كاملا وأفاق بعد قليل؛ كيف شعر أنه هو الذي استسلم لها وليست هي التي استسلمت له؟ كيف يمكن لرجل أن يحس في مثل هذه اللحظة أنه هو الذي يعطي نفسه للمرأة وليست هي التي تعطيه؟ وأحس بمرارة في حلقه، هي نفس المرارة التي تشعر بها المرأة حين تدرك أنها استسلمت لرجل، ولرجل لا يحبها.
وأشعل سيجارة وجلس يدخن في صمت، وجلست أمامه صامتة. لماذا لا تتكلم هذه المرأة؟ لماذا لا تثرثر ككل النساء في مثل هذا الموقف؟
عيناها فقط تنظران إليه ... في قوة وكبرياء وعناد، كأنها لم تكن بين ذراعيه من لحظة، كأن شيئا لم يحدث بينهما على الإطلاق، بل لعل نظرتها ازدادت قوة وكبرياء وعنادا، وشعر برغبة في أن يصفعها ويقول لها: أنت لست امرأة، أنت رجل، أنت تحتقرين أنوثتك. ولكن كيف ينطق بهذه الكذبة الهائلة وبهذه السرعة الكبيرة؟ ولا شك أنها تفهم أن الرجل لا يتهم المرأة هذا الاتهام وفي هذا الموقف بالذات، إلا حين يشعر أمامها بالعجز، أو حين يحس أنها تحتقر رجولته.
وانتهى من تدخين السيجارة، ووقف ومد لها يده مصافحا، وصافحته، وخرج مسرعا كأنما يطارده شبح.
ولم ينم ليلته بالرغم من الأقراص المنومة الشديدة، ظل مؤرقا حتى الصباح؛ أيمكن له بعد هذا العمر الطويل، وتلك الصولات والجولات في عالم النساء، وذلك الانتصار الساحق مع امرأة وأخرى؛ أيمكن له بعد كل هذا أن يشك في رجولته؟ أن يشك في سحره؟ أن يشك في قوته؟
وانتشر نور الصباح في حجرته وهو يبحلق في السقف، يحاول أن يرد على علامات الاستفهام الكثيرة التي بدأت تمزق خلايا مخه، وتحفر لنفسها مكانا عميقا في ذهنه.
ونهض من فراشه يجر جسده الثقيل جرا، ولمح التليفون، وشعر برغبة قوية في أن يطلبها، إنه يريد أن يسمع صوتها مرة أخرى، أن يحس فيه شيئا من اللهفة، شيئا من الاهتمام يسري عنه ويخفف من تلك اللوعة التي في نفسه، وأدار قرص التليفون عدة مرات، وجاءه صوتها الكسول الناعس ليس فيه ذرة اهتمام؛ لكنه كذب أذنيه وحسه وذكرها بليلة الأمس، فتمتمت بكلمات لم يسمعها، وسألها في لهفة: هل تحبينني؟ فقالت وهي تتثاءب: لا، ليس بعد. وغاص قلبه في قدميه، وأحس أن الجرح الذي في قلبه يتسع، يتسع ويزيد، وأن اللوعة التي في نفسه تشتد وتستفحل، وأن علامات الاستفهام في مخه تغوص وتفور.
وارتدى ملابسه في إعياء وذهب إلى مكتبه، وبدا له كل شيء كئيبا مفرطا في الكآبة، ولم يعد يتحمس لشيء، وجلس إلى مكتبه لا يستطيع أن ينظر في ورقة من الأوراق، وأخذ يختلس إلى التليفون نظرات متلهفة حزينة، وشعر برغبة عارمة في أن يطلبها مرة أخرى، لا بد أنها استيقظت تماما الآن وسوف يعود إلى صوتها اللهفة والاهتمام. لقد أصبح لا يريد منها شيئا على الإطلاق سوى أن ترد إليه ثقته بنفسه؛ ثقته برجولته.
وأدار قرص التليفون، وجاء صوتها هذه المرة نشطا مليئا بالنشاط، لكنه أحس أن هذا النشاط لا يمت إليه بصلة، فقال لها في استجداء: أريد أن أراك الليلة. لكنها اعتذرت في أدب لانشغالها ببعض الأعمال، ووضع السماعة وقلبه يختنق من الألم؛ ما هذا الذي يحدث له؟ إنه هو الذي يستجديها ويستعطفها وهي التي تهرب منه، لقد التف خيط العذاب الحريري حول عنقه هو وليس عنقها.
ولم يعرف لماذا حدث ذلك، لم يتصور أبدا أن تكون هناك امرأة مثله، فقد كانت هي الأخرى لا تريده هو بالذات، ولكنها كانت تريد أن تخضع رجولته المغرورة، أن تشعر به وهو ذليل جريح يتعثر في استسلامه لها، ويبكي ضعفه وهزيمته، أن تلف حول عنقه خيطها الحريري وتشده وراءها، كانت مثله تنشد الانتصار بأي شكل وبأي ثمن.
অজানা পৃষ্ঠা