أما بيروس فكان من الغرام ببنت عمه؛ بحيث لا يمكنه أن يملك هيلانة فؤاده، بعد ما وقف على لادياس وقفا لا شرط فيه، ولا حاكم غير الهوى ينفيه.
وكنت إذا التمست لكم بديلا
أعاتبكم به عز البديل
إلا أن الفتى لم يكن يبغض التي تحبه، كما أنه لم ير من الحكمة أن يأبى على هيلانة جمائلها وخدماتها المستقبلة، وهي أعظم القرينات منزلة في القصر، ولا سيما في فؤاد الأميرة، فبقاء المواصلة ولو سرية بينها وبينه في منفاه؛ أمر فيه نفع وليس فيه ضرر، وبالاقتصار فإن بيروس خدع هيلانة حتى نال بغيته، بحسن مهارتها، وجميل سفارتها.
حتى إذا مضت الأيام على وقوع لادياس في قبضة عدويها، بدون أن ينجح بيروس فيما حاول من استمالتها إليه، وجدت هيلانه مجال العمل ذا سعة، فعملت بكل دهائها ومكرها حتى أخرجت لادياس من قلبه بسحرها ودخلت هي ظافرة الغرام، تتخذ ذلك القلب آلة للانتقام.
فلما كان صبح اليوم الذي دهم الأشقياء فيه ما دهمهم، انتبه بيروس من منامه وقد صمم أن يقتص من بنت عمه أشنع قصاص، فجمع أصحابه وقال لهم: أيها الأصحاب إني خارج اليوم في بعض الشئون؛ فإذا طلع القمر ولم أعد فادخلوا على لادياس، فخذوا أنسكم منها بقوة أحدكم فيريق دمها الأثيم. قالوا: سمعا وطاعة، ثم خرج بيروس وسار، تاركا الفتاة على أعظم الأخطار، وهي تستجير بهيلانة فلا تجار، وتود لو وجدت سبيلا إلى الانتحار، فرارا من هول ذلك العار.
ثم ما كان مما ذكرناه، ولم يبق في الصخرة سوى كلكاس وهيلانة، وقد أبى أن ينزل إلى حماس بل تركه غضبان حائرا يصول كل مصال، ويطلب الطعن وحده والنزال، وانثنى إلى داخل الصخرة فقص على هيلانة الخبر، فأشفقت واضطربت وأوجست خيفة من سوء العقبى، وكان الليل قد أقبل أو كاد، فشرعت الخائنة تطلب من كلكاس بإلحاح أن يفعل ما أمره به بيروس، وأن ينوب عن سائر إخوانه في إمضاء إشارة الرئيس، وهو يتثاقل عن تلبية دعوتها السابقة الأوان، ويخبرها أنه ما دام القمر لم يطلع فإن يديه مغلولتان، ويدخل معها في أبحاث فلكية ما أنزل الله بها من سلطان، وكان القمر حقيقة قد طلع وبدا نوره والتمع؛ فحينئذ عيل صبر الفتاة فطفقت تتهدد كلكاس وتوعده، وتمثل له غضب بيروس وانتقامه في أفظع الصور، حتى تملكه الخوف فاستل خنجره، ودخل على بنت الملك حجرتها وهو لا يكاد يمسك قدميه، أو تمسكه قدماه إشفاقا من هول ما هو قادم عليه؛ لأن الرجل كان رحيم القلب سليم النية بقدر ما كان جريئا مهذارا، إلا أن هيلانه كانت خلفه تدفعه إلى الجريمة كأنها شيطان القاتل المسلط عليه، حتى صار أمام لادياس وكانت الفتاة قد سمعت الحديث، كما جرى بين بيروس وأصحابه في أول النهار، وبين كلكاس وهيلانه في آخره، فحين دهاها الرجل لم يزدها بقصده علما؛ بل ألفاها بهيئة قيام، وفي خشوع تام، لآلهتها وتسألهم حسن الختام.
حماس في الصخرة
كان حماس قد قضى بقية النهار بأسفل الصخرة لم يبرحها لحظة واحدة، حتى إذا جاء الليل توارى خلف حجر يعصمه من بغتات العدو في الظلام، ثم أقام يرقب فلم تمض ساعتان من الليل حتى طلع القمر يرسل أشعته على الصخور فتضيئها من كل جانب، فاستبشر الفتى لهذا الملاك الهادي والزائر المؤنس، ثم بدت منه التفاتة، فإذا هو بظل يقبل من بعد وكأنما يطير طيرانا من سرعة السير، فازداد حماس أنسا على أنسه، وهنأ النفس على حفيد جديد، ولكنه دخل في الحجر كل الدخول؛ بحيث صار منه بالمخبأ الأمين.
وما هي إلا دقائق قليلة، حتى تجسد ذلك الظل فصار إنسانا طويلا عريضا يتقدم نحو الصخرة وثبا، كأنه الليث النافر وهي عرينه، ثم إذا هو بأسفلها وقد صفر صفيرا دوى له الفضاء، فأخرج حماس عندئذ رأسه وخالس الرجل نظرة، فرأى له هيئة أصحابه الذين عرفهم في أول النهار، فهم بالخروج إليه ليلحقه بهم ولكنه رأى سلم حبل يدلى به من أعلى الصخرة ليصعد الرجل عليه، فخشي إذا هو تحرك أن يتنبه من في الصخرة فيرفع الحبل بعد ما أرسله، فأمهل حماس غريمه ريثما نزل الحبل تماما، ثم خرج إليه وهو لا يشعر به، كما يخرج الذئب إلى الشاة، وكان الرجل قد تعلق بالحبل أو كاد فتعلق حماس معه، وقد أمسك الحبل بيد وغرس بالأخرى خنجره المسلول في أم فؤاد اللص، فنزل يهوى جثة لا حراك بها، واستمر حماس صاعدا حتى بلغ مدخل الصخرة، وهناك استقبله كلكاس وهو يحسب أنه بيروس صاحب الإشارة، وحامل الصفارة، فانتصب حماس أمامه كأنه عزرائيل قد أتى بلا ميعاد، ثم قال له بصوت أنكر من صوت الرعد: من الرجل وما شأنك؟
অজানা পৃষ্ঠা