6

X

بكونه داعيا لجواز أن يكون غير داع ويكون المخصص له هو الداعي دونه، ويلزم من انتفاء كونه داعيا انتفاء ما دعاه أن يدعو. واعلم أن الشرائع ألطاف في العقليات، فيلزم أن لا تتغير أحكامها لكونها ألطاف فيما لا يصح بغيره من العقليات، وإذا ثبت ذلك فمن المحال بطلان شرع يقضي بطلانه ببطلان الأحكام العقلية، فتأمل هذا الكلام، فهو قوي جدا. وأما الأدلة الشرعية على ذلك، فالذي ورد من ألفاظ التأبيد مع امتناع استعمالها فيما يجوز انقطاعه لأنها إذا استعملت في غير ذلك لم تحصل الفائدة التي وضعت هذه الألفاظ لها. ولا يجوز أن يدل على خلاف ما قصد به الواضعون لها من أهل اللغة إلا ويستصحب ذلك بيان في الخطاب. وما لم يبين، كان [...] بين أمرين، إما أن يكون أراد بخطابه شيئا أو لم يرد به شيئا، فإن أراد يعرف بشيء ولم يعرفه، دل ذلك PageBegV00P057a أنها ألطاف في العقليات استحال خروجها عن كونها ألطافا [في العقليات] المتعلقة بها والدواعي إلى الواجبات والصوارف عن [القبائح قد تكون أوامر ونواهي]. فإذا حصلت كان غير ممكن [خروجه] عما هي عليه، لأن الداعي لا بطلان له بعد كونه [سب]با إلى ما دعا إليه. وكذلك الصارف، لأن حكم ما دعا عقلا وشرعا وحكم ما [صرف] حكما واحدا وإن اختلفت طرق معرفة الدواعي والصوارف، فلا يلزم [منه] اختلاف أحكامهم، لأنا نعلم اختلافها في الطرق ولم يلزم منه اختلافها في الدعاء ولا فيما يقابل الدعاء من دوام [كونها دواعي وكانت أشياء دائمة] لم يتغير ويفسر بأنه اقتضت أن [... ...]ما إذ لا يعقل حصوله على صفة غير ثابتة [اقتضته ... ...] لأنه إن دعا وكان من الواحب [كونه ... ... ...] حكمه وإن كان دعا مع ال[... ... ...]

XI

عليه فمساوق لشرفها، وذلك من نسبها في أبوتها إلى الأنبياء والعظماء، ثم [صيا]نتهم عن الابتذال مع أهل الأرض، ثم قلة ما يوجد فيهم، لا بل أنه مرتفع منهم مما يوجد في غيرهم من قطع الطريق وإخافة السبل، ثم كونهم مختصين من دون أهل العالم بالنبوات وكثرة حصولها فيهم على الحد الذي ليس غيرهم حاصل عليه. فأما ما تضمنته النصوص من تفخيم ذكرهم وتعظيم قدرهم وعلو محلهم عند القديم تعالى فكثير لا يحصى عدده، وببعض ذلك ثبت الشرف فكيف لمجموعه؟

باب في النقل وما يتبعه

النقل هو أن يكون مع الأمة شرائع ينتهون في إسنادها إلى زمان الرسول عليه السلام معلومة عنه وينقسم هذا المنقول إلى ما يكون إيضاحا للشريعة، تعاليل كذلك، ولم يثبت لهذا كتاب تضمنه. ومن زعم من الجماعة PageBegV00P009b أن بيده كتاب مضمن هذا النقل المذكور، فلا دليل يعضده. بيان ذلك أن هذه الجماعة إما أن تكون جماعة بني إسرائيل قاطبة أو قاطبة منهم دون قاطبة والجماعة قاطبة لا تعترف بذلك، لأن فيها جمع عظيم تنكره جملة وتفصيلا، وإذا كانت لا معلومة لها جملة ولا تفصيلا بطل تكليفها به، لأن في ثبوت جهلها به تفصيلا وجوب ثبوت جهلها به جملة، لأن في ثبوت العلم به جملة ثبوت العلم به تفصيلا لأن المنقول، متى حصل العلم به جملة، كان هو العلم به تفصيلا لتعلق التكليف بأعيان الأفعال. ولا يفيد الاعتلال هنا بكون هذا أمر تنفرد به العلماء والعظماء إلى ما يجري هذا المجرى، إذ كان هذا تكليف يتساوى فيه الخواص والعوام. فيجب أن يكون كل مكلف عالما بحقيقة ما كلف ليتمكن من القيام به على الصحيح من الوضع، وهذا لا يتم إلا مع حصول العلم بذلك. وهذه الطريق PageBegV00P010a يجب تساوي الخواص والعوام فيه، ثم إن الطريق الذي يتوصل بها المتخصصون هي بعينها طريق العوام إلى الوصول، فإن تعذر ذلك على العامي فللطريق، ويلزم مثل ذلك في الخاصي. فإن رجع في ذلك إلى اجتهادهم وجودة قرائحهم، وتطلبهم للمعارف، ولهذا حصلوا هؤلاء ولم يحصلوا أولئك. أمكن ذلك ودل على أن الطريق مشروعة للساعي، فقلنا: إن هؤلاء المذكورين بالفصل والبحث والنظر هم أيضا مختلفون في ما ذهبوا إليه في النقل واختلافهم حاصل في المذهب وفي دليله، لا بل إن اختلافهم في دليل المذهب يدل على اختلافهم في المذهب، وبحثهم في الفقه مستنده النصوص الشرعية. فإن كانوا أصحاب نظر فمن شرط كل ناظر صحة أن يشك فيما نظر فيه، والناقل لا تعتوره هذه الطريقة لامتناع أن يستصحبه ما صحب النظار من الشك، وفي ذلك ارتفاع علمهم بذلك. ولا يجوز أن يكونوا ظانين لما يلزم من اتباع PageBegV00P010b الظن للأمارة وأمارة هنا على النقل ليست موجودة، فيقال بها. ويلزم اتفاق الداعي في نقل التوراة لنقل ذلك، وإلا حصل التخصيص، وفي التخصيص نقض الغرض بنقل البعض، ولا غرض إلا الفعل، والفعل فلا يكفي في العلم به التوراة وحدها دون استصحاب تبيانها على ما يدعي. فتبيانها غير حاصل، كما ترى. وفي ذلك أيضا عدم إزاحة علة المكلف بارتفاع تمكينه، وفي ذلك ارتفاع التكليف بذلك. ومما يدل على ارتفاع التكليف بذلك أيضا ما ورد في الشرع مكتوبا من الجرحة المتعلقة بما هو مكتوب في هذا الكتاب المعروف بالتوراة دون شيء آخر سواه من نحو قوله: (وأخذ سفر العهد وقرأه بمحضر الجمع)، وقوله: (اكتب هذه الخطب)، وقوله: (إن لم تحفظ لفعل خطب هذه التوراة المكتوبة في هذا الديوان). فلو كان مع هذا الكتاب المنقول كتاب آخر لقطع العهد على الكل لامتناع قيام الغرض بالتكليف PageBegV00P011a بأحدهما دون الآخر. هذا الذي كتبه عليه السلام في حياته بيده ووصى به من لسانه، ولم يكتب بيده ولا سمع من لسانه عليه السلام ما يدل على قصده لشيء آخر غير هذا الكتاب. ولما مات عليه السلام وأخلفه يوشع بن نون، قرأ جميع التوراة، يقال: لم يكن شيء مما وصى به موسى إلا وقرأه يوشع حذاء كل قاطبة بني إسرائيل. ولا خلاف بيننا وبين القائل بكتاب آخر أن يوشع قرأ هذا الكتاب الذي الوفاق عليه حاصل منا ومنهم، ولم يكن لهم قول يتهيأ به إضافة كتاب آخر إليه، فالقول بالأول إيجاب والثاني سلب. واعلم أن موسى عليه السلام كتب هذا الكتاب الذي هو هذه التوراة بيده، فقال: (وانتهى موسى في كتابة هذا الكتاب إلى غايةتمامه)، فقد بين تناول هذا الكتاب لجميع التوراة، والتوراة اسم موضوع لهذه الشريعة. واعلم أن هؤلاء الحكماء الذينيجعلون مطية فضلهم كونهم PageBegV00P011b نقلة. فليت شعري ما الفضيلة في هذا، لا سيما وهم يتباهون إلي بفضل هؤلاء الحكماء على الأنبياء مع مساواتهم لهم في النقل؟ وإذا حرر القول وكان الفضيلة في النقل فالنبي ينقل عن الله تعالى والحكماء غايتهم أن ينقلوا عن النبي لا بل ينقلوا عن من نقل عن من نقل عنه بعد وسائط كثيرة، فأين تساوي المراتب هنا؟ فكونهم موصوفين بالحكمة والفضل ليس إلا لأن القوم نظارون بعد أن يكونوا ناقلين، إذ لا حكمة في النقل، ثم قد عرف رجوع هذه الأمة عن تعديها على هذه الشريعة إليها وعملها بما هو مسطور فيها، وذلك يكون عند ثبوتها إذا انتهت مدة جلوتها، فتعريفه إذا بالرجوع إلى المكتوب دليل على أن الخروج إنما هو عن ما هو مكتوب، وليس شريعة مكتوبة بأيديهم سواها، والتوراة تكون بالرجوع إلى المكتوب، وهذا دليل على أن النقل الذي يدعى أنه ليس مكتوبا PageBegV00P012a ليس الرجوع عند التوبة إليه. واعلم أن الأمة اطرحت شرائعها وحادت عن أصول عباداتها وأهملت الميل إليها وهامت في الميل عنها، فكيف يكون اطراحها لفروع تلك الأصول؟ وهذا يقضي بكره التفريط الحاصل في هذا المنقول واستيلاء النسيان له، إذ لا يصح ضبطه مع اطراحهم لأصوله، وذلك يقضي بفساد التكليف وانتقاص الغرض بالمصالح، وفي هذا من الفساد ما يتسع تعديده. فأما ما يقولونه من رجوع أمر الأعياد، فترتبها إلى هؤلاء الحكماء، فذلك أيضا ظاهر الفساد لما دللنا عليه من كون الشرائع مصالح، والمصالح لا تقع إلا مع العلم بأنها هي المصلحة، لا بطريق الاتفاق، وعلمهم بمصالح المكلف محال، وليس العلم بالطريق إلى المصالح هو علم بأن الفعل مصلحة في نفسه، والمصلحة يجب كونها في ذاتها مصلحة. وأيضا، من علم معلوما PageBegV00P012b عن طريق ليجوزن غلطه في الطريق. وإذا جاز غلطهم، قبح اتباعهم في ذلك.

باب الكلام في الكلام

الكلام ما انتظم من حروف معلومة، متواضع عليها، فيها نظام مخصوص، أعني بالحروف ما يدعى حروف المعجم. وأعني بالنظام المخصوص ليخرج صوت الطائر وصرير الباب وما يجري مجراهما من ذلك. ومن المعلوم افتقاره إلى النظام المخصوص، وذلك أن لو قدرنا عاقلا متكلما بكلام بغير النظام المعلوم بأن يتكلم بحرف من كلمة أو يتكلم بحرف في وقت وحرف آخر في وقت آخر من الكلمة نفسها، لم يحصل عنه بما تكلم فائدة ولا وصف بأنه متكلم ولكان حكمه في هذا الفعل حكم الطائر فيما يورده من سقوط الفائدة. وقال قوم: الكلام ما حصل به الفائدة ليخرجوا ما لا يفيد من كونه كلاما، وهذا PageBegV00P013a مضطرب ، إذ كان الكلام الذي على هذه الصورة الموضوعة من الإفادة ليس راجعا إلا إلى قصد واضعه كذا. فلو حصلت المواضعة على ما هو الآن مهمل لعاد في المرتبة على ما عليه المفيد الآن ولبطلت الفائدة بالمستعمل وعاد مهملا. ويلزمهم أن يسموا العقد على الأصابع كلاما لحصول الفائدة عنه والإشارة حتى من الأخرس لحصول الفائدة عند إشاراته، وهذا يدل على صحة ما قلناه أن الكلام هو الأصوات المقطعة المنظومة ضرب من النظام. فإن قيل: إن علماء النحو قسموا الكلام إلى ثلاثة أقسام، اسم وفعل وحرف، فقد جعلوا الحرف من أقسام الكلام. فالجواب أن الفائدة قد حصلت لمجموع الكل لأنهم قسموا الكلام، فوجدوه لا يصير كلاما إلا بمجموع هؤلاء، والكلام كله لا ينفك من هذه الثلاثة، لا أن الحرف كلام يدل على ذلك. إن قولنا: سماء، أو قولنا: أرض، لو حصل به PageBegV00P013b النطق، حروف ممررة، عادية الانتظام المعلوم، لم يكن كلاما، ألا ترى إلى الحروف التي هي خوادم لو نطق بها وحدها، لما استقلت بفائدة دون أن تدخل في جملة سواها بأن نقول: حملت كذا إلى كذا، فتركت من كذا. فإن قيل: إن الكلام هو معنى قائم بالنفس، قلنا: لا يخلو قائله من قسمين، إما أن يدعي حصول ذلك ضروريا أو بدليل استدل به، فإن كان يجد من نفسه كونه يعقل معنى مستقل بنفسه غير العلم بمعنى هذا الكلام، فيعلم أنه ليس هو العزم على إيقاع الكلام ولا ترتيبه، بل يعقل أنه كلام محقق. فهذا لم يشاركه فيه فيعلم صحته، فقد ادعى عندنا وجوده نفسه على صورة لا دليل على صحتها غير دعواه، إذ كنا لسنا في هذه الصفة شركاءه، وكفى في نفيها أنا لم نعقلها. وإن كان له دليل فليذكره ولن يجده. ولا يلزم على ذلك ما يقال من أن العبادة إنما هي إظهار ما في القلب من الكلام، PageBegV00P014a لأن ذلك إن كان غير الفكر في الكلام والإرادة له، فيذكره. واعلم أن القائل يقول: في نفسي كلام، وفي نفسي حديث، وفي قلبي عمارة دار، وفي قلبي تخريب مكان، وليس القصد به إلا أن قلوبهم مريدة لذلك وعزمهم عليه. ويسمى المتكلم متكلما في حال ما هو ساكت، كما يسمى صائغا في وقت لا يصوغ فيه وبناء في وقت لا يبني فيه، فثبت إذا أن الذي يعقل من الكلام هو ما عقلناه، لا ما سواه. وأما حقيقة المتكلم، فهو من فعل الكلام. يدل على ذلك أن متى عقل أهل اللغة من شخص صدور الكلام عنه سموه متكلما، كما سموه كاتبا وصائغا عند حصول ذلك منه. فإن قيل: فهل له صفة بكونه متكلما كقادر ومريد وكاره؟ قلنا: لو كانت له حال توجب له، إذا كان متكلما، صفة غير كونه فاعلا، لعقلها العاقل من نفسه، كما عقل كونه مريدا ومشتهيا ونافرا، وإن كان من الصفات ما لا يعقلها العاقل PageBegV00P014b من نفسه لصفة قادر وحي. وإنما قلنا ذلك لقرب مماثلة صفة متكلم لصفة مريد المعقولة من النفس، وهذا الدليل إقناعي. ولا يجوز كونه متكلما بحلول الكلام في جملته أو في بعضها، لأن ذلك يقتضي استحالة أن يكون متكلما وحلوله في بعضه يجب معه أن يكون المتكلم ذلك البعض، ولا بعض يختص بذلك أحق من اللسان، فيجب كون اللسان هو المتكلم وهو المحسن والمسيء والممدوح والمذموم من دون الجملة. فإن قيل: فلو قدر فعله تعالى في لسان أحد من الناس كلاما، من كان المتكلم به؟ قلنا: الفاعل له وهو القديم تعالى كما إذا فعله في شجرة. والقول بأنه تعالى موصوف بأنه متكلم بأن له كلام وإن لم يفعله، فذلك كلام لا يفهم، والكلام فهو الصوت، وليس كل صوت كلاما. والذي يدل على أن الكلام هو صوت مخصوص أنهما لو كانا شيئين لصح وجود أحدهما من دون الآخر. PageBegV00P015a وفي علمنا بأن الصوت، متى وقع على وجه مخصوص مقطعا تقطيعا مخصوصا منتظما نظما مخصوصا، حصلت به الإفادة، دليل على أن الكلام هو الصوت. وقولنا: وليس كل صوت كلاما ليخرج صوت الدواب والدولاب، ولا يصح عليه البقاء. ودليل ذلك أن عدم إدراكنا له دليل على انتفائه، ولو دام ما انتظم على حد، يحصل به الفائدة عنده، لأنه يفيد بحيث ترتيبه منتظما بتقديم بعض الحروف وتأخير بعض. وإذا كان ذلك كذلك، [فكيف] يعقل به الفائدة مع بقائه. يدل على ذلك أنا لو قدرنا شخصين تكلما بحضرتنا بحروف مفردة، [الواحد] يقول: س، والآخر يقول: م، والآخر يقول: [أ، لم] يمكن فهم ما قصداه لجواز أن يكونا قصدا بقولهما أمس أو قصدا بقولهما سماء. وهذا قاض بتشويش الكلام [وا]لفائدة معا أو الكلام، فلا نحتاج إلى بنية في محله، بل حاله كحال سائر الأعراض المدركة PageBegV00P015b التي لا تفتقر إلى أزيد من المحل، وإنما افتقر فينا إلى بنية لكوننا أحياء بحياة، كافتقارنا فيما نراه إلى جارحة مخصوصة. وكذلك ما نسمعه ونشمه. وهذا الرأي خلافا للشيخ أبي علي لأن الكلام عنده لا بد له من بنية وحركة متولدة عن اعتماد. فإن يكن دليله الشاهد فيجب أن يثبت عنده أن لا فاعلا غنيا عن آلة في الفعل قياسا على امتناعه في الشاهد، وإن كان دليله غير ذلك، فيذكره. فأما قوله: إن المتكلم لا بد له من اعتماد يفعله، يتولد عنه حركة ومصاكة، يحصل منها الكلام، واستوى في ذلك الشاهد والغائب. فالحق في هذا الموضع هو أن لا حاجة إلى هذا التكلف في الغائب، فلم لا يقول أن القديم يصح منه فعل الصوت متولدا، كما فعل الألم من دون سبب، ويصح أن يفعله متولدا لتحريك البحار والأشجار بالرياح. فأما أنه تعالى متكلم بمثل هذا الكلام، فذلك لأنه قد ثبت أنه تعالى متكلم بمثل هذا الكلام. ولا يجوز في المحل كونه متكلما، لأن الموصوف PageBegV00P016a بمتكلم هو الجملة، لا البعض، وذلك يجري مجرى صانع وبحار وكانت في رجوعه إلى جملة الحي دون الآلة التي فعل بها تلك الصناعة. ولا يجوز كونه متكلما لنفسه، إذ لو كان متكلما لنفسه وجب أن يكون متكلما بسائر ضروب الكلام من كذب وصدق. يدل على ذلك أن لا أحد ممن يصح منه الكلام إلا ويصح منه أن يتكلم بكل ضروب الكلام، لا ضرب أولى من ضرب كما أنه لا معلوم إلا ويصح أن يعلمه كل عالم. ولا يجوز كونه متكلما لذاته لصحة كونه مكلما لذاته كصحة ذلك فينا بكون أحدنا مكلما لنفسه، وذلك يوضح كونه متكلما من صفات الأفعال. يدل على ذلك قوله: ﴿وكلم الله موسى تكليما﴾، والتكليم عند أهل اللغة مصدر يصدر عنه صيغة الماضي والمضارع واسم الفاعل والمفعول، فقد نص أهل اللغة على أن المصدر اسم يقع على الحادث الذي يصدر عنه هذه الأمثلة، فيجب كون كلامه تعالى محدثا. ويدل على PageBegV00P016b ذلك أيضا أن المتكلم إنما يكون متكلما بالقصد، والقصد لا يؤثر في صفات الذات ولا في المعنى القديم فوجب حدوث الكلام والتكلم. فإن قيل: إنه تعالى حي لا يلزم كونه محييا لنفسه، فقادر وليس مقدرا لنفسه، ويكون أيضا متكلما وليس مكلما لنفسه، والجواب أن أحدنا مكلما لغيره بما به يكون متكلما، لأنه إنما يكلم غيره بفعله الكلام، ثم يقصد بذلك الكلام من يختار، فيكون متكلما بأن يفعل الكلام، وهذا ظاهر. فإن قيل: يلزمكم أن يكون أخرسا أو ساكتا لكون ذلك فينا، قلنا: حقيقة المتكلم من كان فاعلا للكلام، والأخرس من فسدت آلته للكلام، والساكت من لم يستعمل آلته للكلام. وهذه الصفات تعاقبها على الآلات، والقديم بريء من ذلك. ومن العجب كيف لا يقال: وما لم يكن له ولد، فهو عقيم. وما لم يكن فاعلا، لم يزل يكون تاركا وعاجزا. واعلم أن الدال على أن المتكلم من فعل الكلام، هو أن المتكلم لا يخلو في كونه متكلما من أن [يكون] لأنه فعل PageBegV00P052a فعل الكلام أو لأن الكلام حله أو حل بعضه أو متكلما لأجل أن الكلام يوجب له صفة. فقد دللنا على امتناع أن يحله الكلام أو يحل بعضه لما يجب من كون اللسان هو المتكلم دون الجملة. ولا يجوز إيجابه صفة للمتكلم لأن من لا يعلم الغير فاعلا للكلام لا يعلمه متكلما. ولهذا اعتقد في المصروع أنه ليس فاعلا للكلام، فلم يبق إلا أن المتكلم من حيث هو متكلم، لا صفة له سوى صفة فعلية. واعلم أن من جهة العقل لا دليل لنا على كونه تعالى متكلما، إذ لا صفة له بذلك تعود إلى الذات، فيتطرق بها كما يتطرق بأفعاله إلى إثبات صفاته النفسية بواسطة أو بغيرها. ولو قدرنا له صفة بكونه متكلما لما دل عليها إلا الكلام. وإذا كان ذلك كذلك، لم يصح سوى أنه فعل الكلام، فعلم حصوله من قبله تعالى على طريقة الأفعال، وذلك بخطابه [....]ن المحدثين ويفعل له معجزا [يدل] به على أن هذا الخطاب [من جهته] أو نعلمه بخطاب PageBegV00P052b النبي لنا بمعجز يدل على صدقه في قوله، وذلك قد ثبت حصوله فثبت كونه متكلما. ولا دليل من جهة العقل يستدل به على أن هذا الكلام فعله تعالى في حال ما أنزله على رسوله أو كان متقدما، وذلك أنا لا نعلم بالمعقول سوى كون نزوله للمكلفين متابع لوقت المصلحة، فإن اقتضى الصلاح تقدمه كان أولا. ولا يصح في الكلام أن يبقى، فيقال بحصول تقدمه قبل، وإنما القصد في ذلك كتابة ذلك الكلام المجوز تقدمه إلى وقت اقتضى الصلاح إيراده. فإن قال سائل: هل يكون مع الكتابة كلاما، كما قد قال أبو علي أم لا؟ كان من جوابه أن الناس تواضعوا على الكتابة علامة لما ينطقوا به من الحروف، فالعارف بالكتابة يستدل بها إذا قرأها على الغرض المقصود بها، ويخالف حاله حال من لا يعرف الكتابة. فالقائل: إن معها كلاما لا معنى له. والحفظ، فهو العلم بترتيب الكلام وانتظامه على الوجه المعلوم، وهو من فعله تعالى فينا في قلب الحافظ، ولا يوصف تعالى بالحفظ كوصفنا. فإذا PageBegV00P053a كانت الآية سالمة عبر [قبلا] ولا يعلم احتياج[ه] إلى أمر خارج عن ذلك. فأما ما يقولوه في أن الكلام [لا] يقبل التجزئة والتبعيض، فوجوده أشكال مختلفة بحسب اللغات مانعا من صحة ما قالوه، وذلك أنا نعلم اختلاف الأشكال على الحرف الواحد والشكل الواحد بحروف مختلفة، ومن المحال مقارنة ذلك لذلك وامتناع القسمة. فأما وصف كلام الله بالخلق فالناس فيه منقسمون، فمنهم من أثبت قدم كلامه تعالى وامتنع لذلك من القول بخلقه، [ومن]هم من امتنع من القول بخلقه مع الإقرار بحدوثه، قال لما في وصفه بذلك من النقص، وهذا كلام يدل على جهل قائله بامتناعه من وصف كلامه أنه مخلوق ويشرك كلامه معه في القدم، ثم امتناع من يقول بحدوث كلامه تعالى مع القول بخلقه لا معنى له، لأن لا معنى للقول بخلقه إلا حدوثه مقدرا. فإن كان قائل ذلك لا يسلم هذه الفائدة في الخلق أو يسلم.

فإن لم يسلم، أدريناه أن أهل اللغة قالوا ما يدل على خلاف ما قال، إذ كان عندهم حقيقة الخلق هو التقدير، ولأجل هذا قالوا: في مفصل الأدم الخالق وخياط الثوب أيضا ومقدره [كذلك]. وإن سلم فلا فرق بين قوله محدث وبين قوله مخلوق. وصحة تسميتنا خالقين قد ظهر وإنما الشرع نقل ذلك في القديم تعالى دون غيره من الفاعلين. وقولنا: مقدرا، لنفرق بين الفاعل الساهي والفاعل المختار، إذ كان الفاعل الساهي لا يتأتى منه التقدير، والأحكام لأفعاله كتأتيها في فعل القاصد، وأبي هاشم يرى أن التقدير هو الإرادة فيقول: إن أفعال القديم جميعها مقدرة أي مرادة. وأبو عبد الله يرى أن الغرض بالتقدير الفكر في الفعل والروية فيه، ولا يجوز ذلك عنده في حق القديم، فيقول: إذا كان الشرع قد وصفه تعالى بأنه خالق لم يبق إلا القول بأنه تعالى يفعل مثل الفعل الحاصل منا بعد الروية والفكر، والله أعلم.

XII

অজানা পৃষ্ঠা