I
كتاب لذات الذات في إثبات الوحدة والصفات تصنيف الفضل بن مفرج أحسن الله خاتمته
بسم الله الرحمن الرحيم أفضل ما صدر عن القرائح، فنطقت به الجوانح الحمد لله ذي العز الشامخ والملك الراسخ والسلطان الباذخ، خالق الخلق بإتقان ومدبر الأمور بإحكام، الذي ليس بمكيف فيوصف، ولا بصفة يستدل عليه فيعرف، بل بآثار صنعته المخبرة بأنها ضد مؤثرها الشاهدة بالقدم لمحدثها، سمى عن مسمى الأوهام وعلا عن أن يحيط بمعرفة حقيقته دائرة الأفهام، انحصرت الخواطر من حيث فطرها إلى عجائب قدره وغرائب فطره، الدائم الملك، إذا زالت الملوك والممالك، الباقي وجهه وكل شيء هالك، لا تحويه الأمكنة ولا تبلغ كنهه الأزمنة ولا توفي مدحته الألسنة ولا يأخذه نوم ولا سنة، علا فارتفع، وعز فامتنع فملك، فبخع كل شيء له وخضع، أمدحه دائما وأحمده ملازما. وبعد، فإني لما رأيت أن هذا العلم أجل علما، سمت إليه الهمة، فتزينت به هذه الأمة لأنه مطلق للعقل من العقال PageBegV00P002a ومنطق للسان بصواب المقال والمآل به خير مآل، ورأيت أنه قد تقلص برده الضافي، فتلبد قدره الصافي، وزهد في اقتناء المعارف، ومالت الهمم نحو الزخارف وأضحى العلم، وقد دجت مطالعه وانخفض طالعه، فأنقذت فكري من شكوك الأوهام، وسمقت بهمتي إلى نيل أوفر الأقسام، فقادني الطبع الشريف إلى محل الأنس وصفو العقل على معرفة فاعل النفس، وتعلق الأمل بما يقرب إلى الله عز وجل من صالح القول والعمل، فتخيرت حين أشعلت مني الخاطر فيما لا أملك، واستخرت الله في أي الطرق إلى معرفته أسلك، وغدوت في طلب الدليل، وسألته أن يهديني سواء السبيل، ففتح تعالى علي أقفال المبهمات، وسهل لدي المستصعبات، وأحيا مني ما كان رفات، ونقحت هذه الكلمات، وحررت هذه الدلالات، ورجوت بها إحياء عقول صارت موات، واكتساب لثواب رب السماوات، ووسمتها PageBegV00P002b بلذات الذات في إثبات الوحدة والصفات، وتجنبت الإسهاب الداعي إلى الإملال، والاختصار القاضي بالإخلال، ولأجل ما استولى على النفوس من الكسل، وصحبها لهذا العلم من الملل، ورجوت من الله تعالى أن ينفع به الطلاب ، ولا يخلي السعي فيه من الأجر والثواب، ورجوت أيضا أن أشفعه برسالة في صناعة الاستدلال على طريق الإجمال، إن أمكنت المقادير وارتفعت المعاذير.
باب في الكلام في وجوب إثباته تعالى
اعلم أن غرضنا في وضع هذا الكتاب هو إثبات الله سبحانه وإثبات أوصافه، ورأينا أن نقدم على الكلام في إثباته إثبات وجوب إثباته، فنقول: إن استحقاق الذم عند العقلاء على أفعال مخصوصة واستحقاق المدح على أفعال مخصوصة معلوم ضرورة وخلو أفعال من شيء من ذلك، وذلك دليل على انقسامها وامتناع تساويها.
وليس ذلك إلا لاختلاف أحكامها، وهذا فلا يقوم في العقل إلا أن يكون من قبل فاعل، فقد وجب من حيث هذا الأمر احتياط المكلف على نفسه باستعمال النظر ليعلم كيف الحال في ذلك ليتميز له موضع النجاة من موضع الهلك، فيتجنب ما يضره ويجتذب ما ينفعه، فإن الأفعال التي يتبعها الدرك الشهوة لها عظيمة، والنفس عليها مواظبة، والأفعال التي فيها النجاة من الدرك النفار منها شديد، والمشقة في فعلها عظيم. ولا يكاد يزدجر العاقل عن فعل ما تقتضيه شهوته، ويجذبه إليه طبعه ويفعل ما يشق عليه. ولا يميل بطبعه إليه إلا بحيث يتصور أن له في فعل ما جذبه إليه طبعه من عظيم المضار أضعاف ما له في فعله من الملاذ والمسار. وله في فعل الشاق من المنافع ما يستغرق ما فيه من المضار، فهنالك يكون إلى متابعة المشاق أقرب وعن متابعة الشهوات أبعد، فقد وجب إذا عند العقل من حيث يعين حصول الدرك في بعض الأفعال أن يشرع المكلف PageBegV00P003b فيما هو عنده مظنون من أجل مشاهدته أمارات حدث هذا الوجود واختلاف الأحوال الجارية فيه الداعية لمن رآها إلى كشف باطنها وتحقيق أثر فاعلها فيها وقصده بها، ليعلم عند ذاك أنها صدرت عن غيرها وأنه الله الذي لا إله إلا هو كلف بإحكام هذه الأفعال، فحصل إذا عند ذلك على النجاة من درك المهالك. فإن قيل: ولم جعلتم النظر واجبا ولم لا كان جائزا حصوله باضطرار من دون كلفة ؟ قيل له: ما يعلم ضرورة ينقسم إلى قسمين، أحدهما عن طريق والآخر لا عن طريق، فما هو عن طريق فالإدراك والإخبار والمماسة والممارسة والمعاناة، وما ليس عن طريق فما يعلم بكمال العقل فقط كالعلم بأن اثنين واثنين أربعة وأن الظلم قبيح والعدل حسن والأقسام الأولة، والاتفاق حاصل بين العقلاء أن ليس شيئا منها هو طريق إلى معرفته تعالى. والقسم الثاني فليس حاصلا، ولو كان حاصلا لكان يكون من كمالات العقل. وإذا كان من كمالات العقل لزم تساوي PageBegV00P004a ذوي العقول فيه كتساويهم فيما سواه مما هو من كمالات العقول، واختلافهم فيه تعالى دليل على امتناع حصول هذا العلم لهم، لا بل إنا نعلم ضرورة امتناع العلم به ضرورة. ولا يجوز أن يعلم من قول الأنبياء لأن قول النبي دعوى فبرهانها هو المعجز، والمعجز يتوقف ثبوته على ثبوت أشياء، منها أن لا حيلة فيه ولا تلبيس، ولا من قبله ولا من قبل حادث، بل من قبل الله وحده، قصد به تصديقه وإلا فلا يدل، فلزم من ذلك توقف معرفة الله على معرفة المعجز، ومعرفة صحة المعجز على معرفة الله، فودى ذلك إلى الدور، وما ودى إلى الدور فهو محال. ثم إذا تأملت، وجدت أن المشاهد من تصوير النطفة وإنبات النبات وحركات الشمس والقمر وسيلان الأمطار وجريان الأنهار وغرائب ما تنبت الأرض من الثمار وعجائب ما يحدث في الليل والنهار ليس بدون فيالمرتبة عما تأتي به الأنبياء من المعجزات بل أعظم، ولم يكن فيه ما يؤدي إلى معرفة صانعه إلا باستصحاب النظر والاستدلال، PageBegV00P004b فثبت إذا بما ذكرناه وجوب النظر ليأمن المكلف الخطر.
وجه آخر
إن الحي منا لا يكاد يخلو في وقت من أوقات حياته من منافع جملة وتفصيلا واصلة إليه يعقلها ضرورة، وقد يقدر في عقله وجوب شكر المنعم وأن لا يمكن شكره إلا بعد معرفته، فيميزه من غيره، وإنه قصده بإحسانه ليقصده أيضا بشكره، ولا خلاف بأن القصد إليه يتوقف على معرفته، إذ مع الشك فيه لا يصح القصد إليه، فقد وجبت معرفته على من وصل إحسانه إليه فتعين شكره عليه، وذلك طريقه النظر فقد وجب. فإن قيل: هل هو أول واجب يجب على العاقل أم لا؟ قلنا: هو أول الواجبات لسبوق إحسانه لكل إحسان فيجب تقدم شكره لكل واجب، وأول كمال عقله أول وجوب شكره لأن كمال عقله حس استبداعه واستدانته، ولا يحسن ذلك مع الإخلال بكمال العقل. ألا ترى أنه قبل كمال عقله لا يجب عليه الرد لأن ذلك إنما يجب عليه PageBegV00P005a تبعا لالتزامه، فأما فبماذا ينظر ففي الحوادث، إذ لا شيء سواها يدل على فاعلها، وما دل على إثباته دل على أوصافه بما يختصه من الوسائط.
باب في إثبات فاعل تنتهي إليه الحوادث
وذلك يترتب على معرفة حوادث وأنها لأمر اقتضى حدوثها واستحالة وقوف كل محدث على محدث إلى غير غاية، فعند ذاك يظهر وجوب انتهاء الحوادث إلى ما ليس بحادث، فنقول: إن العلم بتجدد متجددات منحيوان ونبات من العلوم الضروريات، ثم العلم بأن كل متجدد لا بد له من مجدد ضروري، كان المتجدد ذاتا أو صفة لذات. وبالبديهة يعلم أن لا يجب أمر في حال دون حال قبله إلا لأمر يميز به ذلك الحال عن الحال قبله. وانقسموا، فقوم قالوا بالفاعل المختار، وقوم بالطبائع وأوجبوا أن لا يتجدد أمر بالطبع في حال بعده سواه إلا لوجه، وإنما تأثير الطبائع يقف على PageBegV00P005b تحديد شروط. وهذا المذهب، فلن يضر فيما نحن بصدده، لأن مع تسليم ذلك لا بد من الاعتراف بأن التولد يقف على شروط، والنبات أيضا تقف على شروط، والنموكمثل. فقد وجب حاجة كل شيء إلى شيء قبله في الشاهد، فإن كان كل فاعل مفتقرا إلى فاعل قبله ويتعذر تجدد وجوده من دونه حكم بمرور ذلك إلى ما لا نهاية، فكان يرتفع صحة حصول فعل وفاعل، وقد وجدا، فيجب أن تكون المتجددات تنتهى إلى فاعل لا فاعل له، إذ كان الغنى لا يصح ترتبه على تعلق المحتاج بالمحتاج، كما لا يصح تولد الصحيح من تعلق الفاسد بالفاسد. فلو كانت العلة مفتقرة إلى ما افتقر إليه معلولها لزم الدور وبطل وجود العلة والمعلول، وفي وجود وجودهما دليل على انتفاء هذه الطريقة وإثبات فاعل لا فاعل له، علة كان أو غير علة.
অজানা পৃষ্ঠা