52
ولما خلف الفاطميون بني الأغلب في شمالي أفريقيا أتموا إخضاع صقلية، وجعلوها ولاية إسلامية ظلت تحتفظ رغم ذلك بكثير من مظاهر الاستقلال؛ نظرا لطبيعة العرب الذين كانوا هاجروا إليها منذ البداية، واتخذوها وطنا لهم، وكانوا لا يرتاحون إلى تدخل الحكام المبعوثين من إفريقية في شئونهم الخاصة، أو في أمور البلد الذي كانوا يعتقدون بأحقيتهم في حكمه والسيطرة على شئونه. ولما رحل الفاطميون إلى مصر أخرجوا صقلية من دائرة اختصاص الأمراء الذين فوضوا إليهم حكم إفريقية، وتركوها تحت سيطرة أسرة عربية الأصل كان منها ولاتهم على الجزيرة في ذلك الوقت.
ولكن المنافسات بين العرب في صقلية والحروب الأهلية فيها، ثم ظهور النورمنديين، كل هذا قضى على سيادة المسلمين في غربي البحر الأبيض المتوسط، وانتهى الأمر باستيلاء النورمنديين على صقلية سنة (1089م)، ولكن المدنية الإسلامية كانت قد رسخت قدمها في البلاد،
53
وبقيت الأساليب الفنية الإسلامية غالبة فترة طويلة من الزمن، وانتشرت من صقلية إلى جنوبي إيطاليا وسائر أنحاء القارة الأوروبية؛ لأن النورمنديين اتبعوا سياسة تسامح ديني عظيم وعملوا على اتخاذ عادات البلاد والمساواة بين رعاياهم من العرب والبيزنطيين وسائر المسيحيين.
54
وقد جاء في رحلة ابن جبير كثير مما يؤيد ازدهار الثقافة الإسلامية في صقلية تحت حكم النورمنديين، فقد كتب هذا الرحالة المسلم الذي زار صقلية في الربع الأخير من القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي): «ملكها غليام ... وهو كثير الثقة بالمسلمين، وساكن إليهم في أحواله، والمهم من أشغاله حتى إن الناظر في مطبخه رجل من المسلمين ...
وهو يتشبه في الانغماس في نعيم الملك، وترتيب قوانينه، ووضع أساليبه، وتقسيم مراتب رجاله، وتفخيم أبهة الملك، وإظهار زينته بملوك المسلمين ... ومن عجيب شأنه المتحدث به أنه يقرأ ويكتب بالعربية، وعلامته على ما علمنا به أحد خدمته المختصين به: «الحمد لله حق حمده» وكانت علامة أبيه: «الحمد لله شكرا لأنعمه.»
55
وقال ابن جبير في وصفه عاصمة صقلية: «وللمسلمين بهذه المدينة رسم باق من الإيمان يعمرون أكثر مساجدهم، ويقيمون الصلاة بأذان مسموع، ولهم أرباض قد انفردوا فيها بسكناهم عن النصارى، والأسواق معمورة بهم وهم التجار فيها، ولا جمعة لهم بسبب الخطبة المحظورة عليهم، ويصلون الأعياد بخطبة، دعاؤهم فيها للعباسي، ولهم بها قاض يرتفعون إليه في أحكامهم، وجامع يجتمعون للصلاة فيه ... وأما المساجد فكثيرة وأكثرها محاضر لمعلمي القرآن.»
অজানা পৃষ্ঠা