وانظر الآن في قولهم: «اتق شر من أحسنت إليه»، أفلا ترى القول قد ازداد وضوحا وبيانا؟ كم من مرة سألت نفسي حائرا: كيف يمكن أن يكون لمن أحسنت إليه شر أتقيه؟ لكنني أرى الآن كيف يثير فيه شعوره بنقصه وعجزه شعورا بالمرارة نحو من أعطى، خصوصا إذا اختلط العطاء بالمن، فعندئذ يستحيل على الآخذ ألا يحس نحو من أحسن إليه بالكراهية والمقت، فلا يزول الشر ممن أحسنت إليه إلا إذا أعطيته الإحسان في عطف خالص، لا تكبر فيه ولا شموخ.
ولولا أن سرعة نسيان الحسنة من طبيعة الإنسان، لما كان بالقائل حاجة أن يقول للناس: «اذكروا حسنات موتاكم.» وإذا فلم يخطئ شكسبير كما ظننت، حين لاحظ أن الحسنات كثيرا ما تدفن مع رفات المحسنين. •••
والحق أني ما قصدت إلى الكتابة في الحسنات التي تذهب مع الموتى في قبورهم، وإنما أردت الكتابة في السيئات التي يقترفها الناس فتبقى بعد موتهم على وجه الأرض حية تسعى ينوء بحملها الأحياء بعد ذهاب أصحابها، وأعجب العجب أن ترى هذه السيئات الباقيات على وجه الزمن، قد اكتسبت جلالا من جلال الزمن، فإذا هي في الأعين مقدسات مصونات تجريحها بغي ومسها حرام.
كان لأسلافنا ظروف تحيط بهم، وكان لهم سلوك يستجيبون به لتلك الظروف، فوفقوا في حياتهم أو أخفقوا بمقدار ما جاءت استجابتهم ملائمة لظروفهم. وقد مضى الأسلاف وجئنا، فأية قوة في الأرض هذه التي تشدنا إلى سلوك أسلافنا، نستجيب لظروفنا بمثل ما استجابوا لظروفهم، تغيرت الظروف أو لم تتغير، ووفق هؤلاء الأسلاف أو أخفقوا؟
كانت لأسلافنا حرية الاختيار فاختاروا لأنفسهم وجهة النظر التي تسعدها وترضيها، وليست هنالك قوة لا في الأرض ولا في السماء، تلزمنا باصطناع وجهة نظرهم إلا بمقدار ما تتفق ظروفنا مع ظروفهم ... لكننا مشدودون إلى منظارهم شدا، لا نرى الأمور إلا بأعينهم، كأنما هم وحدهم الرجال يشرعون ونحن الأطفال نعمل وفق ما شرعوا. لقد قام علماء النفس المعاصرون بتجارب على الأطفال في لعبهم، فانتهوا إلى نتائج علمية في نفسية الطفل من حيث وجهة نظره إلى القواعد الموضوعة للسلوك؛ فأما الصغار فيما دون العاشرة، فلو سئلوا: من الذي وضع لكم قواعد الألعاب التي تلعبونها معا؟ أجابوا بأنهم وجدوها كذلك، ولا يجوز لهم أن يتناولوها بتحوير أو تبديل. فإذا ما ضيق القائم بالتجربة عليهم سبل الفرار، وحاول أن يظفر منهم بجواب محدد عن واضع القواعد التي يتبعونها في ألعابهم، قال بعضهم إنه الله، وقال آخرون إنها الحكومة، وقال فريق ثالث إنهم آباؤهم أو أجدادهم ... حتى إذا ما تقدم هؤلاء الأطفال في أعمارهم قليلا، وجاوزوا العاشرة إلى الثالثة عشرة أو نحوها، وأعيد عليهم نفس السؤال: من الذي وضع لكم قواعد الألعاب التي تلعبونها معا؟ أجابوا عندئذ بأن واضعيها هم أطفال مثلهم، وأن في مقدورهم أن يغيروها إذا شاءوا وكيف شاءوا.
وأظننا نستطيع أن نستخدم هذا المقياس نفسه في التمييز بين المجتمع في طفولته وفي نضجه: فأبناء المجتمع الطفل ينظرون إلى أنواع السلوك التي يسلكونها في مواقف حياتهم المختلفة نظرتهم إلى التراث المقدس الذي لا ينبغي بل لا يجوز أن يتناوله أحد بتغيير، وأما أبناء المجتمع الناضج فيدركون أن الأمر لا قدسية فيه، وأن التغيير مرهون بمشيئتهم؛ لأن الحياة حياتهم هم ولا بد أن يعيشوها على أكمل وجه مستطاع، فإن كان السلوك الموروث عن الآباء صالحا لهم فأنعم به، وإلا فمن حقهم بل من واجبهم أن يغيروا منه ما شاءوا وما شاءت لهم ظروفهم. وأظنك تستطيع أن ترى في وضوح، أن روح الاستبداد والطغيان أقرب إلى الشيوع في المجتمع الأول، وأن روح الحرية والديمقراطية أقرب إلى السيادة في المجتمع الثاني؛ ذلك لأن حرية التصرف حرام هناك حلال هنا.
إن احترام التقاليد الموروثة في ذاته أمر لا عيب فيه ولا غبار عليه، ما دمت آخذها أخذ السيد المسيطر لا أخذ التابع المطيع، فها هي ذي أرقى الأمم تحافظ على بعض تقاليدها على شرط ألا تعرقل لهم شيئا من سياسة أو تجارة أو صناعة أو تعليم أو غير ذلك من شئون الحياة، وكثيرا ما تراهم - إذا وجدوا التقليد عائقا في سبيلهم - يبقون على صورته ويفرغون مضمونه وفحواه، كأنما هم ينتزعون من الأفعى سمومها ليبقى لهم جمال ظهرها الأرقط.
ولست أول من يتكلم في جناية أسلافنا بما فرضوه علينا فرضا من وجهات نظرهم وأنواع سلوكهم، فقد سبق إلى ذلك منذ زمن طويل أستاذنا الجليل أحمد أمين، حين فصل القول تفصيلا في جناية الشعر الجاهلي على الأدب العربي ... لكنك تستطيع أن توسع من نطاق هذه الجناية حتى تشمل كثيرا جدا من تفصيلات حياتنا، فعنهم أخذنا حب الظهور بكل ما له من ذيول، وعنهم أخذنا الوضع الاجتماعي للمرأة بكل ما يستتبع من نتائج، وعنهم أخذنا غير ذلك وغير هذا.
لكني أريد أن أترك تفصيلات ما جنوا به علينا؛ لأغوص إلى ما تحت السطح من أعماق، فهنالك في العمق البعيد أم تفرعت عنها هذه التفصيلات كلها، وهي وجهة نظر معينة تصبغ كل شيء بلونها، فورثناها عنهم كما هي وجعلنا ننظر، وإنما أقصد بذلك نظرة وصفها الشهرستاني في عبارة نقلها عنه المغفور عنه الأستاذ مصطفى عبد الرازق في كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» (ص32) إذ قال: «من الناس من قسم أهل العالم ... بحسب الأمم فقال: كبار الأمم أربعة: العرب، والعجم، والروم، والهند، ثم زاوج بين أمة وأمة، فذكر أن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات والحقائق واستعمال الأمور الروحانية، والروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء، والحكم بأحكام الكيفيات والكميات، واستعمال الأمور الجسمانية.»
ولو فهمنا عبارة الشهرستاني على أن العرب والهند من ناحية يمثلون ما يسمى بالشرق، وأن العجم والروم من ناحية أخرى يمثلون وجهة النظر الغربية، كان مؤدى كلامه بلغة يألفها قارئنا، هو أن أهل الشرق يميلون إلى الأحكام الكلية التي تطمس الفروق التفصيلية بين الأجزاء، وأن أهل الغرب يميلون إلى الأحكام الجزئية التي تلحظ ما بين تلك الأجزاء من فروق، والأولون روحانيون لا يستشهدون في أحكامهم بمشاهدات الحواس، والآخرون جسمانيون يحتكمون في معارفهم إلى ما تدلهم عليه الحواس من مشاهدات.
অজানা পৃষ্ঠা